وكان عثمان بن مظعون ممن حرم الخمر في الجاهلية على نفسه وقال : لا أشرب شرابا يذهب بعقلي ويضحك بي من هو أدنى مني وأزوج كريمتي من لا أريد، فبينما هو بالعوالي إذ أتاه آت فقال : أشعرت أن الخمر حرمت وتلا عليه الآية في سورة المائدة، فقال : ( تبا لها, لقد كان بصري فيها نافذا أو ثاقبا )
وممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضا بعد أن كان بها مغوي، لما رأى فيها من ضرر وإسفاف يلحق بشاربها، عبد الله بن جدعان التيمي، وكان جواداً من سادات قريش وأشرافها وهو أقرى من حاسي الذهب، قال فيه أبو الصلت الثقفي :
له داع بمكة مشمعل (()) وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشزى ملاء (()) لباب البر يلبك بالشهاد
وسمي حاسي الذهب لأنه كان يشرب في إناء من ذهب, وكانت قريش تتمثل بهذا القول لكثرة جوده وسخائه, وسبب تركه لها أنه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فأصبحت عين أمية مخضرة فخاف عليها الذهاب، فسأله عبد الله : ما بال عينك ؟ فقال : أنت صاحبها أصبتها البارحة، قال : وبلغ مني الشراب ما أبلغ معه من
جليسي هذا المبلغ، فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال : الخمر علي حرام، لا أذوقها أبداً، وذكر أيضاً انه سكر فجعل يساور القمر، فلما اصبح أخبر بذلك، فحرمها
وقال :
شربت الخمر حتى قال صحبي (()) ألست عن السفاه بمستفيق
وحتى ما أوسد في مبيت (()) أنام به سوى الترب السحيق
وحتى أغلق الحانوت رهني (()) وآنست الهوان من الصديق
قال الزّبير وحدّثني عمّي مصعب عن مصعب بن عثمان قال : كان أميّة بن أبي الصَّلْت الثَّقفِيّ قد نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبّداً، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفيّة وحرّم الخمر وشكّ في الأوثان، وكان محقّقاً، والتمس الدّين وطمع في النبوّة؛ لأنه قرأ في الكتب أنّ نبيًّا يبعث من العرب، فكان يرجو أن يكونه،
قال : فلمّا بُعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قيل له : هذا الذي كنت تستريث وتقول فيه؛ فحسده عدوّ الله وقال : إنّما كنت أرجو أن أكونه؛ فأنزل الله فيه عزّ وجلّ : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغاوين ) .
وحرمها على نفسه عباس بن مرداس السلمي وأرضاه، وقد قيل له في الجاهلية لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك، فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي وأصبح سيد قومي وأمسي سفيههم .
وقيل له أيضا بعد ما آمن وأسلم : قد كبرت سنك، ودق عظمك، فلو أخذت هذا النبيذ شيئا يقويك، فقال : أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم، وآليت أن لا يدخل رأسي ما يحول بيني وبين عقلي .
وحرمها على أنفسهم جماعة في الجاهلية، وهم شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وسعيد بن ربيعة بن عبد شمس، وورقة بن نوفل بن أسد، وأمية بن المغيرة والد الوليد، والحارث بن عبيد المخزومى، وعامر ابن جذيم الجمحي، ويزيد بن جعونة الليثي، وأبو واقد الحارث بن عوف الكناني، وعمرو بن عَبسة، وقسّ بن ساعدة الإيادي، وزهير بن أبي سُلمى المزني، والنابغتان الذبياني والجعدي، وقبيصة بن اياس الطائي، واياس بن قبيصة بن أبي غفر، وحاتم الطائي، و زيد بن عمرو بن نفيل
العدوي، و كان على الحنيفية ملة إبراهيم الخليل عليه السلام و أبو ذَرّ الغِفَاريّ صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الأنصاري، وقيس ابن زهير العبسي، والاسلوم ابن اليامي الهمذاني، وقيس بن عاصم المنقري ويقال بأنه أول من حرمها على نفسه في الجاهلية، وقد أعطى لله عهداً
ألا يشربها أبداً وهو القائل :
فوالله لا أحسو يد الدهر خمرةً (()) ولا شربةً تزري بذي اللب والفخر
فكيف أذوق الخمر والخمر لم تزل (()) بصاحبها حتى تكسع في الغدر
وصارت به الأمثال تضرب بعدما (()) يكون عميد القوم في السر والجهر
ويبدرهم في كل أمرٍ ينوبهم (()) ويعصمهم ما نابهم حادث الدهر
فيا شارب الصهباء دعها لأهلها ال (()) غواة وسلم للحسيم من الأمر
وبعض هؤلاء، كانوا من الأحناف، وبعضهم من السادة الأشراف، الذين لم يتذوقوها، أو أنهم تعاطوها ثم رأوا من ضرَرها وفعلها الوخيم، فتركوها وحرموها على أنفسهم، ويظهر أن بعضهم قد حرمها على نفسه وعلى آله أيضاً، كالوليد بن المغيرة فقد ضرب فيها ابنه هشاماً على شربها، ولعلّ منهم من حد فيها، وهو الجزاء الذي
قرره الإسلام على شاربي الخمر.
وذكر جمهرة من أهل الأخبار أن أول من حرمها على نفسه وامتنع منها في الجاهلية، الوليد بن المغيرة، وهو أحدِ زعماء قريش الكبار، وكان من أكبر أثرياء قريش ورؤسائها، ويُقال له : (العَدْل) هذا لأنه كان عَدْلَ قريشٍ كلّها، إذ كانت قريش تكسو البيتَ، والوليد يكسوه وحدَه، وكان ممن حرَّم الخمرَ في الجاهلية، فأقرها رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، في الإسلام وأول من خلع نعليه لدخول الكعبة في الجاهلية، فخلع الناس نعالهم في الإسلام، وأول من حكم بالقسامة في الجاهلية فأقرها الإسلام، وأول من قطع في السرقة في الجاهلية، فأقرّها الإسلام، وكانت قريش تقول : لا وثوبي الوليد الخلق منهما والجديد، وكانوا عملوا له تاجاً ليتوجوه به، فجاء الإسلام فانتقض أمره وكان من قبل يسمى ريحانة قريش .
و ذكر أبو علي القالي في كتابه الأمالي وهو أحد أركان الأدب العربي الأربعة الأولى "مطلب من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية تكرماً وصيانة لنفسه" ( بتصرف يسير)
حدّثنا أبو بكر بن دريد قال أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد والعباس بن هشام قالا : حرّم رجالٌ الخمر في الجاهلية تكرّماً وصيانة لأنفسهم، منهم عامر بن الظّرب العدواني، - قال الزمخشري في ربيع الأبرار بأنه أول من حرمها على نفسه في الجاهلية- وقال في ذلك :
سآّلة للفتى ما ليس في يده (()) ذهّابة بعقول القوم والمال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها (()) حتّى يفرّق ترب القبر أوصالي
مورثة القوم أضغاناً بلا إجن (()) مزرية بالفتى ذي النّجدة الحالي
وحرَّم صفوان بن أمية بن محرث الكناني، الخمر في الجاهلية، وقال :
رأيت الخمر صالحةً وفيها (()) مناقب تفسد الرجل الكريما
فلا والله أشربَها حياتي (()) ولا أشفي بها أبداً سقيما
إذا دبَّتْ حمَّياها تبدَّت (()) ظوالِعُ تفضحُ الرجلَ الحليما
ولا أُعطي بها ثمناً حياتي (()) ولا أدعو لها أبداً نديما
قال الإمام أبو فرج الأصبهاني رحمه الله : ( أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال: كان النابغة الجعدي ممن فكر في الجاهلية وأنكر الخمر والسكر وما يفعل بالعقل، وهجر الأزلام والأوثان، وقال في الجاهلية كلمته التي أولها :
الحمد لله لا شريك له(()) من لم يقلها فنفسه ظلما
وكان يذكر دين إبراهيم والحنيفية، ويصوم ويستغفر، ويتوقى أشياء لعواقبها ) الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني 3031
و قال رحمه الله أيضا : ( أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال حدثنا أبو سعيد السكري، قال أخبرني أبو عبد الرحمن الغلابي عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال : ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر استحياء مما فيها من الدنس )
الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني 5460