الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإنَّ مما يُقرِّب إلى الله تعالى ، ويرفع درجة العبد عنده ، ويوصل إلى مرضاته ، النصيحة لكتاب الله الكريم.
وهذا أصل عظيم وكبير تندرج تحته فروع كثيرة ، منها: تلاوة كتاب الله عزّ وجلّ حق تلاوته بالتجويد والترتيل وحسن الأداء على مقتضى القواعد التي قعّدها أهل العلم مستقاة من طريقة أداء النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقاها عن جبريل عليه السلام الذي سمعها من رب العزة جل جلاله وتقدست أسماؤه.
ثم إن من أهم ما ينبغي أن يُعنى به المجوِّد للقرآن ما يتعلق بصفات الحروف اللازمة والعارضة.
أما اللازمة فهي التي لا تنفك عن الحرف بحال.
وهي سبع عشرة صفة جمعها محقق الفن في المقدمة فيما يجب على قارئ القرآن أن يعلمه.
وأما الصفات العارضة فهي التي تعرض للحرف في أحوال وتنفك عنه في أخرى.
وعددها إحدى عشرة صفة وهي: الإظهار والإدغام والقلب والإخفاء والتفخيم والترقيق والمد والقصر والتحرك والسكون والسكت.
جمعها شيخ مشايخنا العلامة إبراهيم السَمَنُّوْدي ـ حفظه الله ـ فقال:
إظهارٌ ادغامٌ وقلبٌ وكــذا إخـفـا وتـــفـــخـيـمٌ ورقٌ اُخـِذا
والمدُّ والقصرُمع التحرّكِ وأيضاً السكونُ والسكتُ حكي
إذا عُلِم ما تقدم فيحسُن أن أشرع في الكلام على مقصود البحث وهو حرف الراء في كلمة {ونذر}حال الوقف عليها ، وأقدم بين يدي ذلك بكلام مختصر حول حرف الراء .
اعلم ـ رحمك الله ـ أن حرف الراء الأصل فيه التفخيم ، ولا يرقق إلا في أحوال معينة لا يتعداها إلى غيرها.
هذا الذي ترجح لدى الباحث من خلال النظر في أقوال الأئمة ، وممن نص على ذلك الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ حيث قال:
وفيما عدا هذا الذي قد وصفته على الأصل بالتفخيم كن متعمِّلا
وكذلك نص بعض شراح الشاطبية على هذا ، ومنهم الإمام الفاسي ـ رحمه الله ـ والإمام ابن القاصِح ـ رحمه الله ـ وغيرهما.
قال الفاسي: (وإنما كان التفخيم فيها هوالأصل لكونها أقرب حروف اللسان إلى الحنك فأشبهت لذلك حروف الاستعلاء فكانت مفخمة مثلها ، وجاز فيها الترقيق في بعض الأحوال إذ ليست من حروف الاستعلاء وإنما مشبَّهة بها)
وقال ابن القاصحوالأصل في الراءات التفخيم بدليل أنه لا يفتقر إلى سبب من الأسباب ، والترقيق ضرب من الإمالة فلا بد له من سبب).
ويُفهم من صنيع محقق الفن في مقدمته أنه يختار ذلك حيث قال:
وَرَقِّــقِ الراءَ إذا مــــا كُــسِــرَتْ كَـذَاكَ بَعْدَ الكسرِ حيث سَكَنَتْ
إنْ لَّمْ تَكُنْ مِنْ قَبْلِ حَرْفِ اسْتِعْلا أو كانتِ الكسرةُ ليسَتْ أصـلا
فذكر ـ رحمه الله ـ أحوال الترقيق فقط ولم يتعرض لذكر أحوال التفخيم لأنه الأصل.
وهذا هو الذي فهمه شُرَّاح مقدمته ومنهم عبد الدائم الأزهري ـ رحمه الله ـ في شرحه (الطِّرازاتُ المُعْلِمة) و القَسْطَلاّني ـ رحمه الله ـ في شرحه(اللآلئ السَّنِيَّة) وطاش كبرى زاده ـ رحمه الله ـ في شرحه وابن يالوشة التونسي ـ رحمه الله ـ في شرحه(الفوائد المُفهِمة)والملا علي القاري ـ رحمه الله ـ في شرحه(المِنَح الفِكْرِيَّة) في آخَرين.
ومواضع ترقيق الراء محصورة فيما يلي:
1) إذا كانت مكسورة ، نحو:{رِجال}.
2) إذا كانت ساكنة بعد كسر أصلي متصل بها في كلمة ، نحو:{فِرْعَوْن}.
3) إذا كانت ساكنة لأجل الوقف بعد ياء ساكنة ، نحو:{خَبِيْر}{الطَيْر}.
4) إذا كانت ساكنة في آخر الكلمة ، وكان قبلها كسر سواء كان سكونها عارضا للوقف عليها ، نحو:{قُدِر} ـ ولو فصل بينهما سكون ، نحو:{سِحْر} ـ أو كان سكونا أصليا ، نحوفاصبر صبرا).
5) الراء المكسورة وصلا الموقوف عليها بالرَّوم ، نحو:{والعَصْرِ)
6) الراء الممالة ، نحو:{مجراها}في قراءة من يميل .
وقد نصّ الأئمة المتقدمون على ثلاث كلمات يجوز فيها التفخيم والترقيق وهي كما يلي:
1) {فِرْق} في سورة الشعراء ، والترقيق هو المقدم في الأداء وصلا ووقفا ، وقد أفادني شيخي العلامة عبد الرافع رضوان ـ حفظه الله ـ أن التفريق بين حال الوصل وحال الوقف ـ في هذه الكلمة ـ غير صحيح.
2) {القِطْر} في سورة سبأ ، والترقيق هو المقدم وقفا ، أما وصلا فالترقيق قولا واحدا.
3) {مصر} غير المُنَوَّن في يونس ويوسف والزخرف.والتفخيم هو المقدم وقفا ، أما وصلا فالتفخيم قولا واحدا.
ومن الكلمات التي تنازع فيها المتأخرون دون المتقدمين كلمة {ونذر} في المواضع الستة بسورة القمر حال الوقف عليها.
وأول من قال بترقيقها ـ فيما أعلم ـ الإمام المحقق (ابن الجزري الصغير) محمد بن أحمد الشهير بالمتولي ـ رحمه الله ـ .
قال في كتابه(فتح المعطي وغنية المقري في رواية ورش المصري) في باب الراءات: خاتمة في الوقف على الراء لكلهم:
قال في فتح المجيد: (( لا تخلوـ يعني الراء ـ من أن تكون مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة .
فإن انضمت أو انفتحت وكان ما قبلها مضموما أو مفتوحا وقف عليها بالتفخيم . مثال المضموم في الوقف{هو الأبتر} ، ومثال المفتوح في الوقف{الكوثر}.
وإن كانت الراء مضمومة أو مفتوحة وكان قبلها كسرة رققت نحو{مستقر}{قدر}.
وإن كانت مكسورة وما قبلها مكسور وقف عليها بالترقيق نحو{بقادر}{ساحر}.
وإن ضم ما قبلها أو فتح أو سكن وهي مكسورة فخمت على الراجح كما في النشر ، مثال المضموم ما قبلها {بالنذر}{العمر} ، ومثال المفتوح ما قبلها {البشر}{القمر} ، ومثال الساكن ما قبلها {الفجر}{القدر}{والعصر}{بالصبر}.)) ا.هـ
ثم قال ـ رحمه الله ـ ((وليس{نذر} من قبيل المضموم ، و{يسر} من قبيل الساكن ، إذ الراء متوسطة فيهما لأن أصلهما نذري ويسري بالياء وحكمها الترقيق على ما اختاره ابن الجزري ـ رحمه الله تعالى ـ .
وأما الراء في {مصر}و{القطر} فإنها مفخمة في الأول مرققة في الثاني بلا خلاف في الوصل ، وأما في الوقف فاختار ابن الجزري في (النشر) ((التفخيم في الأول والترقيق في الثاني كما في الوصل)) انتهت عبارته.
هذا إذا كان الوقف بغي الروم أما إذا وقف به فالحكم كالوصل تفخيما وترقيقا.
وقد قلت:
والراجِحُ التفخيمُ في للبَشَــرِ والفَـجِــرِ أيضاً وكـذا بالنُـذر
وفي إذا يَسْرِاختيارُالجزري ترقــيــقـــــه وهـكـذا ونــذر
ومِصْرَ فيه اختارَ أن يفخما وعكسه في القطرعنه فاعلما
وذاك كـلـه بـحال وقـفـنــــا والرَّوم كالوصل على ما بُيِّنا)) ا.هـ كلام المتولي رحمه الله.
والشيخ المتولي ـ رحمه الله ـ توفي عام1313هـ .
وقد تبعه على قوله هذا كثير من أعلام هذا الفن ، منهم: الشيخ نور الدين علي بن محمد الضَبَّاع ـ رحمه الله ـ كما في كتابيه(إرشاد المريد إلى مقصود القصيد) و(منحة ذي الجلال في شرح تحفة الأطفال) ، والشيخ إبراهيم بن علي السَمَنُّودي ـ حفظه الله ـ كما في منظوماته (لآلئ البيان في تجويد القرآن) و(التحفة السمنُّودية في تجويد الكلمات القرآنية) ، ومن نظمه في ذلك :
ورِقُّ را يـَسْرِ وأَسْرِ أحْرى كالقِطْرِ مَعْ نُذرِ عَكْسُ مِصْرَ
والشيخ عبد الفتاح بن السيد عَجَمي المَرْصَفي ـ رحمه الله ـ كما في كتابه (هداية القاري في تجويد كلام الباري)
والشيخ محمود خليل الحُصَري ـ رحمه الله ـ كما في كتابه(أحكام قراءة القرآن الكريم).
والشيخ عَطِيَّة قابل نصر ـ حفظه الله ـ كما في كتابه (غاية المريد في علم التجويد).
وغيرهم كثير.
والذين قالوا بالترقيق ثلاثة أصناف:
فمنهم عالم محقق أداه اجتهاده لهذا القول ، ومنهم مقلّد سلّم عقله إلى غيره ، ومنهم من ليس من أهل هذا الفن الشريف.
والحق ـ والله أعلم ـ أن السلف لم يعرفوا الترقيق في هذه الكلمة ، لأن الترقيق فيها مخالفة للأصل ، ولو كان لهذه الكلمة حكم خاص لوجب أن يُذكر ، لكنها لما كانت جارية على أصول التفخيم لم ينبهوا عليها ـ رحمة الله عليهم ـ .
ثم إن الشيخ المتولي ـ تولاه الله برحمته ـ زعم أن الترقيق اختيار الإمام الجزري ـ رحمه الله ـ ، وليس ذلك كذلك بل الذي ظهر أن الإمام الجزري ـ رحمه الله ـ يختار التفخيم ، فإنه قال في النشر: (( فاعلم أنك متى وقفت على الراء بالسكون أو الإشمام نظرتَ إلى ما قبلها ، فإن كان ما قبلها كسرة أو ساكن بعد كسرة ، أو ياء ساكنة ، أو فتحة ممالة ، أو مرققة ، نحو: {بُعْثِر}{الشِّعْر}{والخنازير}{لاضَيْر}{نذير}{نكير }{والعِيْر}{الخَيْر}
{البِر}{القناطِير}{الطَّيْر}{الدار}{الأبرار} عند من أمال الألف ، و{بِشَرَر} عند من رقق الراء رققتَ الراء ، وإن كان قبلها غير ذلك فخمتَها
هذا هو القول المشهور المنصور))
ثم إن التسوية في الحكم بين {يسر}و{نذر} ، وقياس هذه على تلك لا يصح لأن بينهما تباينا من أوجه:
أولها: أن الياء في {يسر} أصلية لأنها لام الكلمة ، أما الياء في {نذر} فزائدة لأنها ياء المتكلم.
ثانيها: أن كسرة الراء في {يسر} كسرة بنية لا يمكن تغييرها ، أما كسرة الراء في {نذر} فكسرة مناسبة وإعراب.
وبيان ذلك: أن كلمة {نذر} مرفوعة في قوله تعالى ﭽ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼ القمر: ١٦ لأنها معطوفة على كلمة {عذابي} التي هي اسم (كان)مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره ومنع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة.
وهي منصوبة في قوله تعالىﭽ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭼ القمر: ٣٧ لأنها معطوفة على كلمة{عذابي} التي هي مفعول به منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة.
ثالثها: أن الراء في {يسر} مسبوقة بساكن وقبل الساكن مفتوح ، أما راء {نذر} فسبقت بحرفين مضمومين.
وقبل أن أختم هذه العجالة أنقل للقارئ الكريم نصين عن إمامين من أئمة هذا الفن الذين أتوا بعد ابن الجزري ولم يفهموا ما فهم المتولي إمام المرققين.
قال الإمام شمس الدين محمد بن قاسم البقري(تـ1111هـ) ـ رحمه الله ـ في كتابه(غنية الطالبين ومنية الراغبين) في كلامه عن أحكام الراء:
(( فإن وقفت عليها فلا تخلو من أن تكون مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة فإن انفتحت أو ضُمت وقفت عليها بالتفخيم ، نحو قوله تعالى ﭽ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ الكوثر: ١ ﭽ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ الكوثر: ٣ ، وإن انكسرت فقف عليها بالترقيق ، نحو:{قادِر}،{ساحِر} ، فإن سَكَنَ ما قبلها فلك فيها وجهان التفخيم والترقيق ، والأول أصح وعليه المعوَّل ، فإن وقع قبلها حرف استعلاء فخمت اتفاقا ، وإن انضم ما قبلها فخمت قولا واحدا.
مثال ما إذا سكن ما قبلها وهي مكسورة:{القَدْرِ}،{الفجرِ}.
ومثال ما إذا انضم ما قبلها ، نحو: {نُذُر}و{سعر})).
وقال الإمام أبو الحسن الصَّفاقُسي (تـ 1118هـ) ـ رحمه الله ـ في كتابه( تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين): (( إذا وقفتَ على الراء بالسكون نظرت إلى ما قبله ، فإن كان ما قبله كسرة نحو: {مُنْذِر} ، أو ساكن بعد كسرة نحو: {الشِعْر} ، أو ياء ساكنة نحو: {العِيْر}،{لاضَيْر} ، أو ألف ممالة نحو: {الدار}،{الأبرار} عند من أمال ، أو راء مرققة نحو: {بِشَرَر} رقّـَقَّـتَه.
وإن كان قبله غير ذلك فخمتَه ، ولو كان في الأصل مكسورا ، هذا هو المعول عليه عند جميع الحُذَّّاق ، وبه قرأنا على جميع شيوخنا).
وبهذا يتبين للقارئ الكريم أن الصواب في هذه الكلمة التفخيم ، وأن ترجيح الترقيق اجتهاد من بعض المتأخرين لم يحالفهم فيه الصواب ، وهم مأجورون ـ إن شاء الله ـ على اجتهادهم ، لكن لا يُتابعون على خطئهم.
وأنبه إخواني إلى أن هذا البحث مختصر ، ذكر فيه الباحث خلاصة ما توصل إليه في هذا الموضوع ، وإلا فالأمر عنده يحتمل أكثر من ذلك.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم ، وأن يوفقني وإخواني ـ من أهل القراءات ـ لتدبر كتابه العظيم ، والعمل بما فيه ، وأن يجعلنا من أهل الله وخاصته ، إن ربي قريب مجيب.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه:
ضيف الله بن محمد الشمراني
يوم الخميس 23/4/1428هـ