...د . عائض القرني


جولة مع بني إسرائيل

قال تعالى : (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثمّ عفونا عنكم من بعد ذلك لعلّكم تشكرون )[البقرة51ـ 52].
وقال سبحانه في سورة الأعراف : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)(لأعراف: من الآية 142).
كيف واعده سبحانه ؟
يقول الرازي وغيره : إما انه واعده قبل أن يلتقي ، سبحانه وتعالى ،بموسى في اللقاء التاريخي ليتلقى كلام الله .
وهذا أمر عجيب !
فقبل أن يكلمه الله واعده أن يأتي بعد أربعين.
وقيل بل مدة المكالمة أربعين ليلة ، أي : أن الوقت والزمن الذي تستغرقه المكالمة مع الله هو أربعون ليلة.
فلما نجى الله موسى ، عليه السلام ، قال لبني إسرائيل مكانكم اجلسوا ، وكانوا ستمائة ألف ، لكنهم خبثاء حقراء ، أهل تمرد على الله ، إلا من رحمه الله .
قالوا : أين تذهب
قال : اذهب آل الله ليكلمني.
قالوا : لا بد أن تأتي معك بشيء لنعلم هل كلمك أم لا .
فذهب ، عليه السلام .
وفي بعض السير انه مكث ثلاثين يوما صائما .
فلما كان في الطريق وجد ثار الصيام ( الخلوف ) في فمه .
فأخذ سواكا فتسوك.
فلما كله الله ، قال يا موسى ، وتستاك ؟
قال لأكلمك يا ربي ، وأنا طاهر الفم .
لأن في الحديث الصحيح : (( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ))[29].
قال : يا موسى ، إما تعلم أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك.
عد فصم عشرة أيام ثم تعال
فلما أتم الأيام عاد فكلمه ، وأوصى إليه ما أوصى .
فقال : ( ربّ أَرني أَنظر إليك)(لأعراف: من الآية 143)).
قال الله : (لن تراني )(لأعراف: من الآية 143)).
(فلمّا تجلّى ربّه للجبلِ جعله دكّا وخرّ موسى صعِقاً )(لأعراف: من الآية 143)
فاستفاق وقال : ( سُبحانك تبت إليك وأَنا أَوّل المؤمنين)(لأعراف: من الآية 143).
حينها عاد موسى ، وقد أعطاه الله الألواح ، وكب الله له التوراة بيده كما في ((الصحيح )).
أما بنو إسرائيل في تلك الفترة ، فقد جمعهم رجل مجرم ،اسمه : ( السامري ).
وكان رجلا داهية منافقا ، يزعم أن جبريل رباه بالوحي الذي ينزل به من عند الله .
وكان اسمه الحقيقي ( موسى ) أيضا .
فلذلك يقول الشاعر :
فموسى الذي رباه فرعون مؤمن وموسى الذي رباه جبريل كافر
أتى هذا السامري ، فقال لبني إسرائيل : عندي لكم نبأ عجيب.
قالوا ما هو النبأ العجيب ؟
قال : موسى ذهب يبحث عن إلهه ، وإلهه هنا .
قالوا : أين ؟
قالوا : هذا العجل .
وكان قد أخذ حلي النساء ، وذهب النساء ، وفضة النساء ، ثم سبكها ، ثم صور لهم عجلا ، فكان ينفخ فيه فإذا هو يصلصل .
قال : ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي)(طـه: من الآية 88) أي : نسي موسى الهه وتركه هنا .
سبحان الله !
عجل ، لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يرد لهم قولا ولا رشدا ولا حكمة .
ولكن العقول السخيفة .
فأتى موسى ، عليه السلام ، وإذا هم عاكفون على العجل ، فقال : ما هذا ؟
قالوا : هذا إلهنا .
فألقى الألواح من الغضب .
انظر إلى الغضب ماذا يفعل ؟
فكلام الله لا يلقى في الأرض .
وعمد إلى هارون أخيه ، وهو أكبر منه سنا ، فأخذه بلحيته أمام الناس ، وأراد أن يقتله .
فقال : لا تشمت بي الأعداء لقد استضعفوني ؛ لأن موسى كان يرهب بني إسرائيل إذا كان فيهم ، فلا يستطيعون المخالفة ، بخلاف هارون ،عليهما السلام جميعا .
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في عمر بأن فيه شبها من موسى.
ولذل فبعض المؤمنين يكون قويا في الحق ، وبعضهم يكون ضعيفا لا يستطيع قول الحق أو إنكار المنكر .
ذكروا في التاريخ أن الخليفة المعتضد كان من ابرز خلفاء بني العبا ، فأتى عالم من العلماء فوجد الخمر يباع في السوق .
فاخذ سكينا وعمد إلى جرار الخمر فقطع مائة قربة ، ثم أتى إلى الطبول فشقها .
فذهبوا إلى الخليفة ليخبروه فقال : افصلوا رأسه عن جسمه .
فدخل على الخليفة ، فقال له الخليفة : ما هبتني ؟
قال : والله ، ما أقدمت عليها إلا من بعد ما تصورتك اقل من الذباب .
قال : أما علمت إني المعتضد؟
قال : علمت .
قال : ماذا تصورت إني افعل بك ؟
قال : تصورت انك تفصل رأسي عن جسمي ، والمصير الجنة .
قال : لماذا شققت مائة قربة ، وتركت قربة واحدة ،وقطعت الطبول وتركت طبلة ؟
قال : لما بدأت أشق القرب والطبول أعجبتني نفسي ، فرفعت السكين خشية من الرياء في إنكار المنكر .
فسامحه الخليفة ، وقال :علمت انك صادق .
فقال هارون لأخيه موسى : ( ابن أُمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشْمت بي الأَعداء ولا تجعلني مع القوم الظّالمين)(لأعراف: من الآية 150).
فاستغفر له ولأخيه .
فقال موسى لهم : لقد كلمني ربي وهذه الالواح .
وسيأتي إكمال ذلك ، ولكن نعود إلى الآيات .
يقول ، سبحانه وتعالى (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) (البقرة:51)
الظلم ظلمات يوم القيامة .
والظلم على قسمين .
1- ظلمك لنفسك وهو أن تحرمها طريق السعادة .
فأظلم الناس من ظلم نفسه .
إذا رأيت الإنسان يشرك بالله فقد ظلم نفسه ظلما ما بعده ظلم ، وهكذا إذا كان يعطل الصلاة في المسجد ،ويعق والديه ، ويقطع رحمه ، ويرتكب المعاصي .
2- وظلم الناس هو النوع الثاني .
والظلم ظلمات يوم القيامة .
والله عز وجل لا يفصل في العرصات يوم العرض الأكبر ، حتى يفصل بين الناس في المظالم .
حتى أن الشاة القرناء يقتص منها للشاة الجلجاء الجماء التي لا قرون لها .
قوله : ( ثمّ عفونا عنكم من بعد ذلك لعلّكم تشكرون) (البقرة:52)
بعدما عبدوا العجل .
وقد ورد في القرآن العفو ، وورد الرضا ، وورد المغفرة . فما الفرق بينهما ؟
الرضا اعظم المنازل ، نسأل الله أن يرضى عنا وعنكم .
الرضا أن يعفو عنك ، ولا يعاتبك ، ولا يقررك بشيء ، بل يعفو عنك أبدا ، ويرضى عنك ، ولا يعاتبك في شيء .
وهذا مثل – ولله المثل الأعلى – إنسان أخطأت معه ، فأتيت عنده فرضي عنك رضاء تاما ، وقال : إنما رضيت عنك لأني احبك .
أما المغفرة فيقول : غفرت لك ،لكن قلبي يعلمه الله ، لكن ما أجازيك وأتعرض لك ، اذهب .
أما العفو فهو المسامحة مع العتب .
يعفو عنك فيقول : أنا عفوت عنك ، لكن لماذا فعلت هذا الفعل ؟ فيأخذ في معاتبتك .
قال سبحانه وتعالى : (ثمّ عفونا عنكم ) لماذا لم يقل : ثم رضينا عنكم .
كيف يرضى عن بني إسرائيل أهل ال في التاريخ ؟
لكن قيل : بان هؤلاء الذين عاشوا مع موسى عليه السلام ، رضي الله عنهم وعفا عنهم ، أما غيرهم فلا ، كما سيأتي .
(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.)
للشر أقسام : شكر بالقلب ، وشكر باللسان ، وشكر بالجوارح .
فتشكر الله ، سبحانه وتعالى ، بلسانك فتقول : لقد انعم الله علي ، فلله الحمد والشكر والمنة والفضل .
وهذا معروف عند العرب ، فإن العربي أو السلطان من العرب ، أو الملك من العرب إذا أعطى عطية فإنه يشكر عليها عندهم .
وهكذا غيره من الكرماء ومن الناس المشهورين .
كما فعل زهير بن أبي سلمى مع هرم بن سنان ؛ الذي مدحه بقصائد طويلة شكرا له على ما قدم ، وفدى بماله في الحرب التي وقعت .
فقال فيه زهير :
لمن الديار بقنة الحجر اقوين من حبي ومن هجري
دع ذا وهات القول في هرم خير البداة وسيد الحضر
لو لم يكن شخصا سوى رجل كان المنور ليلة البــدر

والشكر بالقلب : أن تعتقد أن هذه النعمة من الله .
قال داود : يا رب كيف أشكرك ؟ وقد أنعمت علينا بالنبوة .
قال : يا داود أتعرف أن ذاك مني ؟
قال : نعم يا رب .
قال : فقد شكرتني ، (وما بكم من نعمة فمن اللّه)(النحل: من الآية 53)
وهذا شكر القلب
وشكر الجوارح أن تستعملها في مرضات الله عز وجل .
انعم الله عليك بالشباب ، فانك تستخدمه في طاعته سبحانه ، إما إن استخدمته في معصيته فما شكرته .
ا ( لعلّكم تشكرونَ)(المائدة: من الآية 6)لكن ما شكروا الله .
ثم قال سبحانه وتعالى : ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقَان لعلّكم تهتدون) (البقرة:53)
هل هناك فرق بين الكتاب والفرقان ؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم :
قيل : الفرقان هو جزء من التوراة .
وقيل : هو كتاب مستقل .
وقيل : هو التوراة ، أي : من باب الترادف.
والصحيح : انه يدخل في التوراة ، وانه من باب الخاص بعد العام ، أي : أن الفرقان جزء من التوراة .
والفرقان على قسمين :
فرقان ظاهر ، وفرقان باطن .
فالفرقان الظاهر ، هو القرآن ، وهو السنة ، وهو العلم النافع .
وفرقاننا ، يا مسلمون ، هو الكتاب والسنة ؛ نفرق به بين الحق والباطل .
وأما الفرقان الباطل ، فهو فرقان في القلب يأتي من التقوى (يا أيها الّذين آمنوا إن تتّقُوا اللّه يجعل لكم فرقَانا ويكفّر عنكم سيّئاتكم ويغفر لكم واللّه ذو الفضل العظيم) (لأنفال:29)

هامش :


[29] صحيح ، أخرجه البخاري معلقا في كتاب الصوم ، باب سواك الرطب ، ووصله احمد (23683) ، والنسائي (5) ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، وانظر : الإرواء (66)، وهو صحيح .