محمد شلال الحناحنة



كان حسنَ الوجه، وسيم الطلعة، عذب المنطق، حلو الحديث، ليس بالطويل البائن، ولا القصير الذي تنبو عنه العيون، وهو إلى ذلك لبّاسٌ أنيق الثياب، كثير التعطّر إذا طلع على الناس، عرفوه من طِيبه قبل أن يَروه!



ذلك هو النعمان بن ثابت المكنّى بأبي حنيفة أوّل من فتّق أكمام الفقه، واستخرج أروع ما فيها من طيوب! أدرك أبو حنيفة طرفاً من آخر عصر بني أميّة، وآخر من أوّل عصر بني العبّاس.



وعاش في زمن أغدق فيه الخلفاء والولاة على أصحاب المواهب إغداقاً حتى صار رزقهم يأتيهم رغدا من كلّ مكان وهم لا يشعرون. بيدَ أنّ أبا حنيفة أكرم علمه ونفسه عن ذلك، وحزم أمره على أن يأكل من كسْب يمينه، وأن تكون يدُه هي العليا. ولا عجب فقد أيقن أبو حنيفة أنّه ما أكل امرؤُ أزكى ولا أعزّ من لقمة ينالها من كسب يده. وقد خصّص شطراً من وقته للتجارة، فتاجر بالخزّ وأثوابه بين عدن والعراق، وكان له متجر معروف يقصده النّاس، فيجدون فيه الأمانة والصدق في المعاملة، والذوق الرفيع، وكانت تجارته تدُرّ عليه خيراً وفيراً.



وقد عرف عنه أنّه كلّما حال عليه الحول أحصى أرباحه من تجارته، واستبقى منها ما يكفيه لنفقته، ثمّ يشتري بالباقي حوائج القرّاء والمحدّثين والفقهاء وطلاّب العلم من أقوات وكسوة وأدوات وكتب، ويخصّص لكل منهم مبلغاً من النقد العَيْن، ويدفع ذلك كلْه إليهم ويقول: هذه أرباح بضاعتكم أجراها الله لكم على يدي. والله ما أعطيكم من مالي شيئاً وانّما هو فضل الله عليّ فيكم.



ودخل أبوحنيفة النعمان على الإمام مالك وعنده ثلّة من أصحابه، فلمّا خرج من عنده التفت مالك إلى جلسائه وقال: أتدرون من هذا؟ فقالوا: لا، فقال: هذا النعمان بن ثابت، هذا الذي لو قال عن هذه السارية: إنّها ذهب لاحتج لما قال، ولخرجت كذلك.



ولم يكن الإمام مالك مبالغاً فيما وصف به أبا حنيفة من قوّة الحجّة، وسرعة البديهة، وتوقّد الذهن، وحدّة الخاطر.

فقد طفحت كتب التاريخ والسير بأخبار مواقفه مع خصومه في الرأي، ومناوئيه في العقيدة، وكلّها شواهد على صحة ما نعته به الإمام مالك.



ومن ذلك أنّ أبا حنيفة لقي طائفة من الملحدين الذين ينكرون وجود الخالق عزّ وجلّ فقال لهم: ما تقولون في سفينة مشحونة بالأثقال، مملوءة بالأمتعة والأحمال؛ قد أحاطت بها في لجّة البحر أمواج متلاطمة، وعصفت بها رياح عاتية، غير أنّها ظلّت تجري هادئة في طريقها المرسومة، وتمضي مطمئنة إلى غايتها المعلومة من غير اضطراب ولا خلل ولا انحراف، وليس على ظهرها ملّاح يحكم سيرها، أو موجّه ينظّم خطوَها.



أفيصحُّ ذلك في الفكر؟! فقالوا: لا، إنّ هذا شيء لا يقبله العقل، ولا يجيزه الوهم.. أيّها الشيخ... فقال: يا سبحان الله!! تنكرون أن تجري سفينة في البحر جرياً محكماً من غير أن يكون لها ربّان يتعهّدها، وتقرّون قيام هذا الكون ببحاره الزاخرة، وأفلاكه السائرة، وطيره السابح السارح من غير صانع يحكم صنعته، ومدبّر يحسنُ تدبيره؟ تباً لكم ولما تأفكون!!



وكان أبو حنيفة قبل ذلك كلّه، وفوق ذلك كلّه، صوّام نهار، قوّام ليل، مولعاً بالقرآن الكريم، مستغفراً بالأسحار، فكان إذا أرخى الظلام سدوله على الكون، وأسلمت الجُنوبُ إلى المضاجع، قام فلبس أحسنَ ثيابه، وسرّح لحيته، وتطيّب وتزيّن، ثم يصفّ في محرابه، ويقطع ليله قانتاً أو منحنياً بصلبه على أجزاء القرآن الكريم، أو رافعاً يديه بالضّراعة، فقد رُوي أنّه قام الليل كلّه بآية واحدة مردّداً قوله تعالى: (بل الساعة موعدُهُم، والساعة أدهى وأمرّ) وهو يبكي من خشية الله، بكاءً يقطّع القلوب، ولقد عُرف عنه أنّه صلّى الفجر بوضوء العشاء نحواً من أربعين عاماً، ما ترك ذلك خلالها مرّة واحدة، وأنّه ختم القرآن الكريم في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرّة، وكان إذا قرأ سورة "الزلزلة" اقشعَرّ جلده ووجل فؤاده، وطفق يقول: يا من يجزي بمثقال ذرّة خيراً، ويا من يجزي بمثقال ذرّة شراً، أجر عبدك النعمان من النار، وأدخله في رحمتك يا أرحم الراحمين!!

منقول