قال الامام ابن القيم رحمه الله :
وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به بل ما شممنا له رائحة
ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم
ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة :

• منها أن لا يزال المتخلف المسكين مزريًا على نفسه ذامًا لها .

• ومنها أن لا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى ذليلًا له حقيرًا يشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرومين .

• ومنها أنه عساه أن تنهض همته يومًا إلى التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد .

• ومنها أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجاء إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه لأعمالهم فيصادف ساعة إجابة لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه .

• ومنها أن هذا العلم هو من أشرف علوم العباد وليس بعد علم التوحيد أشرف منه وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم وتشتاق إليه وتحبه وتأنس بأقله فليبشر بالخير فقد أُهِّلَ له فليقل لنفسه يا نفس فقد حصل لك شطر السعادة فاحرصي على الشطر الآخر فإن السعادة في العلم بهذا الشأن والعمل به فقد قطعت نصف المسافة فهلا تقطعين باقيها فتفوزين فوزًا عظيمًا ..

• ومنها أن العلم بكل حال خير من الجهل فإذا كان اثنان أحدهما عالم بهذا الشأن غير موصوف به ولا قائم به وآخر جاهل به غير متصف به فهو خلو من الأمرين فلا ريب أن العالم به خير من الجاهل وإن كان العالم المتصف به خيرا منهما فينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه وينزل في مرتبته

• ومنها أنه إذا كان العلم بهذا الشأن همه ومطلوبه فلا بد أن ينال منه بحسب استعداده ولو لحظة ولو بارقة ولو أنه يحدث نفسه بالنهضة إليه .

• ومنها أنه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفع به غيره بقصده أو بغير قصده والله لا يضيع مثقال ذرة فعسى أن يرحم بذلك العامل.
وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر
فلا ينبغي أن تصغي إلى من يثبطك عنه وتقول إنه لا ينفع بل احذره واستعن الله ولا تعجز ولكن لا تغتر وفرق بين العلم والحال وإياك أن تظن أن بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله هيهات ما أظهر الفرق بين العلم بوجوه الغنى وهو فقير وبين الغني بالفعل وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبين الصحيح بالفعل.
فاسمع الآن وصف القوم وأحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخبرهم الجليل فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح

إذا أعجبتك خصال امرىء .. فكنه تكن مثل ما يعجبك
فليس على الجود والمكرما .. ت إذا جئتها حاجب يحجبك


فنبأ القوم عجيب وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك
وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فليها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب
قد أنساهم حبه ذكر غيره وأوحشهم أنسهم به ممن سواه قد فنا بحبه عن حب من سواه وبذكره عن ذكر من سواه وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه متذكرًا صفاته العلى وأسماءه الحسنى ومشاهدًا له في أسمائه وصفاته قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه وأسجده بين يديه خاضعا خاشعا ذليلا منكسرا من كل جهة من جهاته
فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء
وقيل لبعض العارفين أيسجد القلب بين يدي ربه قال أي والله بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة. * اهـ .

وقفة لأحد المتأملين لكلام ابن القيم ,,
[ رحم الله ابن القيم وانظر إلى تواضع العلماء ومعرفتهم لقدر أنفسهم وبعدهم عن العجب والغرور بالنفس وذلك واضح من قوله :

((وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به بل ما شممنا له رائحة)) ]

* مدارج السالكين
لابن القيم - رحمه الله -
منقول ---