الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد
  1. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    18

    ركبنا الحافلة من أرباض غرناطة ونواحيها البعيدة عن قصور الحمراء...سارت بنا الحافلة تطَّوف في المدينة...كنتُ جالسا على كرسي وبجانبي صاحبي المغربي أصلا الغرناطي دارا ومستقرا...أخذت في النظر إلى هذه المدينة التي شهدت آخر فصول تاريخ المسلمين الرسمي على أرض الفردوس المفقود...ما أكبرها وأرحبها ...وما أجملها وأنضرها...وما أبهجها وأخلبها للب الرجل الحازم...نظرت إلى جامعة غرناطة الحديثة التي مرت الحافلة بجانبها...قلت في نفسي أوَ يُعترف فيها بتاريخ المسلمين في هذه المدينة...أوَ تُدرس فيها علوم شرعية لطالما عرفتها هذه البقاع...وأذِنت لها تلك الساحات والردهات...أو يقال فيها إن التاريخ الثقافي لإسبانيا متصل بتاريخ المسلمين على أرضها...أو ليس يحتفى بابن حزم في قرطبة وثمتَ من يقول إنه مفكر إسباني !!! لنا فكرُه ونظراته ورأيه وشعره وأدبه وسيرته الذاتية الرائدة طوق الحمامة...وعليه إسلامُه وظاهريته فكل ذلك ليس يعنينا في شيء!!!!
    مرت لحظات وأنا مستغرق في مثل هذه الأفكار التي تأتيني من الماضي نفحاتٍ تلهب مشاعري...وتُبكي ناظري...وتجعلني ذا أسى ظاهر، وعَبرة تكاد تفر من مقلتيَّ...فَطِن صاحبي إليَّ وأنا على تلك الحال فقال لي بصوت مسموع ذي نبرة...لقد وصلنا إلى وسط المدينة استعد للقاء من تهوى...وأحضر منك السمعَ والبصرَ...وإياك أن تبكي على ذاك المجد الذاهب...واصبر واحتسب فالله معوضنا دارا بدار...ومجدا بمجد...وتاريخا بتاريخ...





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  2. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    19

    استوقفني منظر تمثال في وسط غرناطة ونحن نهمُّ بالصعود إلى الحافلة التي سوف تقلنا أنا وصاحبي المغربي إلى قصر الحمراء في أعلى الربوة المطلة على حي البيازين العربي المسلم...تجلس الملكة إيزابيلا النصرانية الحاقدة ويقف بين يديها جاثيا على رجليه فاسكو ديكاما ناشرا بين يديها خريطة العالم الذي تم استكشافه....تأملتُ التمثال متذكرا ما صنعته إزابيلا بالمسلمين الغرناطيين الذين استسلموا ...من تقتيل وفتك وتشريد وتفريق وتمثيل...مع الغدر والمكر...والخديعة والتهجير..كم قتلت وشردت وأزهقت، وأفسدت وأحرقت....وتذكرتُ رحلة الشباب الأندلسي المسلم الخارجين في البحر إلى عالم جديد لاستكشاف أرض قد ترفع فيها راية الإسلام...تذكَّرتُ ازدهار الملاحة العربية الإسلامية في شواطئ المرية وجزر شرق الأندلس...صعدنا الحافلة ...فجعلت تدور بنا بين أزقة ملتوية صعودا إلى قصر الحمراء...حبستُ فيَّ النَّفَسَ...أقول لنفسي سيكون اللقاء بعد قليل بأثر إسلامي جليل القدر، عظيم المنزلة..آخر معقل من معاقل الإسلام في أرض أندلس....نزلنا بعد مضي وقت قصير...فوقفنا صفوفا أمام الحمراء ننتظر دوْرنا لشراء تذاكر الدخول إلى القصر...سبحان الله قصر بناه الأجداد ورفعوا مناره وأعلْوا بنيانه...ندخل إليه بعد دهر طويل بمقابل....أوَ َيدخل صاحب الدار إلى داره بمال؟؟؟؟





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  3. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    20

    انتظرت طويلا قبل أن يؤذن لي في الدخول إلى تراث الأجداد من أهل غرناطة ...إلى حدائق قصر الحمراء...كان الزحام شديدا على الباب...وقف عشرات السائحين والسائحات من الغرب...لم أر فيهم عربيا واحدا...أفواج من السائحين تراهم مفرقين في جنان الحمراء...ينظرون ويتأملون ماذا صنعت يد العربي المسلم في إسبانيا....إنا كنا إذا سدنا حكمنا بالعدل وأنصفنا الإنسان والحيوان والجماد....هذا الجماد من أرض وبناء...وتراب وجبال...شهد معنا على أرض أندلس أزهى العهود وأرقى الفصول...وأبهى الأزمان...هذه الأرض تزينت بالمسلمين وأخرجت من خيراتها وبركاتها ...وأزهرت بساتين وجنانا تفوح عطرا وشذى وطيبا...وهذا البنيان ..رُفع مناره في عهد المسلمين الذين كانوا في أندلس الأمس أحذق يدا وأمهر تخطيطا وهندسة...هذه مساجدهم الباقية في غرناطة الجريحة...تشهد على عظم ما قد أبدعت أيديهم في العمارة والبنيان...وهذه قصور حكامهم ممن تأنق في المسكن وأفرط فيه...فأعلى البنيان وأسرف في الزخرفة وعصى الرحمن...بيْد أنه لم ينس الديان فنقش الآيات الكريمات على الحيطان...وكتبَ عليها من الحِكم والأمثال ما يبقى على الدهر دررا مرصعة، وجواهر مضيئة..كنت وحيدا أدور في جنان الحمراء لا أعرف لي طريقا إلى القصور فلقد كُتبتْ إشارات التعريف بالمكان بالإسبانية...وفهمتُ منها أنه من طريق هناك ينتهي إلى القصر...أخذتِ السماء تمطر مطرا خفيفا سرعان ما اشتد وتتابع....قلت لنفسي..أهي السماء تبكي معي لفقدان هذا المُلك التليد...والتاريخ المجيد...والموروث الأثير...قلتُ ولم لا تبكي معي الأرض والسما...وقد كنا ههنا سادة فأصبحنا قد أديل منا...وتُنُقِّص من بلادنا وأرضنا وحضارتنا وهويتنا...أخذتُّ أجري هنا وهناك لإشتداد المطر...لا أدري لي وزرا ولا ملجأ...وكأني أعيد ما قد جرى هنا في ساحات هذا القصر وبين ردهاته...من فصول تلك المأساة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا...قتلٌ وتشريد وفتك ودماء واغتصاب وحرق لتراث أمة وسرقة لتاريخ حضارة....يا إلهي كم مات ههنا من مسلم معصوم الدم...وكم سفك دم امرأة مسلمة بعد أن انتهك منها العرض...وكم فُرِّق بين أب وأبنائه...فلمْ ولنْ يرهم أبدا إلى يوم القيامة...أسلمتني رجلي وقد أخذ مني التعبُ مأخذا عظيما لموضع الصَّوم والسفر وقلة النوم...والأسى الذي يعتصر مني الفؤاد مذ دخلتُ الأندلس متجولا...ولذكرياتها باعثاـ إلى حيث يكون الدخول إلى قصر الحمراء، كان المدخل مزدحما ازدحاما شديدا...هؤلاء من فرنسا وآخرون من ألمانيا...وفريق ثالث من اليابان والصين...يا إلهي أين العرب أين المسلمون؟؟؟ لم أر منهم من مكاني ذاك أحدا....وقفتُ في الصف الطويل الذي لا يكاد يتحرك إلا لماما....طويلا طويلا...كنت صائما فالشهر شهر الله رمضان...قدَّرتُ أني إنْ لبثت في الصف من أجل الدخول إلى القصر فلن أحضر دعوة على الفطور ـ وقد أوشك المؤذن أن يرفع الأذان ـ دعاني إليها أحد الإخوة من المغرب...وشددَّ علي في الحضور، فكرهتُ أن أحْرجه إذا أنا تخلفتُ...وقلت ُ لن أدرك اليوم الدخول إلى القصر حيث جنة العريف وساحة الأُسود...لكثرة من كان في الصف منتظرا...ربما قُدر لي أن أرجع قريبا لأحقق الرجاء....بيْد أنه لم يحن إلى الآن ذلك الموعد...





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  4. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    21

    خرجت من الصف الذي فيه ازدحام شديد متصدقا بمكاني للنصارى المتلهفين إلى زيارة قصر الحمراء، واشتد هطول المطر...فأخذت في التجوال فيما تهيأ لي من قلاع وحصون القصر المرتفع عن غرناطة ...وكأن القصر سيد مشرف على المدينة ينظرها من علٍ، ويرمقها من مرتَفع...يحرسها بعينه...ويكنفها برعايته...أشرفت من إحدى القلاع على غرناطة التي أحاطت بها سحابة غطت حي البيازين فتبدى لي الحي العربي المسلم بأزقته الضيقة ودوره العربية التي تحكي ألف حكاية ، وقصة...حكايات قوم قد درجوا...وقصص أناس قد درس ذكرهم ...أفناهم الموت...وأبادهم القهر...قلت وأنا أنظر في البيازين وبقية أحياء المدينة أين دور أهل العلم الغرناطيين ...أين بيت ابن عطية الغرناطي المفسر وبيت آله أهلِ العلم والتقى والسؤدد والفضل....بل أين كان موضع ومثوى المعتمد بن عباد لما دخل غرناطة منتصرا على بعض ملوكها الخوارين المستنجدين بالنصارى الحاقدين ...وأين كان موقف أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بعدُ لما دخل غرناطة مؤدبا بعض ملوك الطوائف لمااستنصر بالقشتاليين ضد بني جلدته من المسلمين...أخذت صورا في مطر لا ينفك عن الهطول...وأنا أجري بين تلك القلاع والحصون ...أدور مطَّوفا بين تلك الآثار الباقية والمعاهد الدارسة...متقهقرا إلى الخلف مغادرا القصر وجناته....مواصلا السير إلى مدخل القصر....وما إن وصلتُ بعد وقت من المسير حتى أذن مؤذن المغرب...ألفيتُ صاحبي جالسا ينتظرني ...قررنا الهبوط راجليْن إلى المدينة...سرنا في طريق هابط...مررنا على عيون جارية وماء منسكب رقراق...ينساب انسيابا...مرت نصف ساعة ونحن في الهبوط إلى المدينة حيث حي البيازين....وصلنا بعد ذلك إلى حيث أخذنا الحافلة إلى دار صاحبنا المغربي الذي دعانا إلى فطور مغربي تفنن فيه غاية الإفتنان...وتأنق فيه غاية التأنق...فأحسن إحسانا كبيرا، وأجاد إجادة رائعة....فسقى الله من ظمإ وروى من عطش...وأتم علينا صيامنا وتقبل منا قيامنا...وأقر عيوننا بزيارة غرناطة الإسلام ودار السلام...ومثوى العلم والعرفان...





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  5. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    22

    استيقظت في اليوم التالي من ضجعة في غرناطة مبكرا ...لكي أسافر متعجلا إلى قرطبة....كانت الطريق بين غرناطة وقرطبة تأخذ ساعات في حافلة مكيفة مرت على عدة قرى كأنها حواضر لا بوادي....شدني منها بيانة وهي من أعمال قرطبة ...وهي بلدة صغيرة بها بساتين وكروم وزيتون ...تركها العرب وخرجوا وخلفها المسلمون ودرجوا...تذكرت وأنا أمر على هذه البلدة الوادعة الساحرة قاسم بن أصبغ البياني محدث قرطبة ومؤلف الكتاب المستخرج على صحيح مسلم من أهل المائة الرابعة الهجرية ....كنت خلال الرحلة العربي المسلم الوحيد في الحافلة ...وأمارة ذلك إقبال كل من كان معي من ركاب الحافلة وهم قلة على الماء والطعام...فكنت صائما بين مفطرين...رجعت إلى نفسي وأنا أنظر إلى هذه السهول المترامية الأطراف في الطريق إلى قرطبة...كم مر من هذا الطريق من أندلسي راحلا بين غرناطة وقرطبة....لم تكن الحدود بين المدن والإمارات الإسلامية معترفا بها في عهد ملوك الطوائف...كانت سوق العلم يومئذ رائجة...والمنتسبون إليه قوما مختلفي الطبقات والصفات والنعوت فمنهم المفسر والمحدث والفقيه والأديب شاعرا كان أم غير ذلك..أفواج من أهل العلم ساروا في هذا الطريق..وحملتهم هذه الأرض...شادوا حضارة وبنوا مجدا...أو كانوا على وعي أنهم يفعلون ذلك؟؟؟أظن أنهم كانوا كذلك...لأنهم تعلموا وعلموا وكتبوا وأبدعوا ...وكانوا على يقين من أنهم تركوا ما قد يخلد لهم في العالمين ذكرا...ويرفع لهم بين الناس اسما...وكذلك كان فما زلنا إلى اليوم نقف على من خلده منهم العلم وأحياه الفهم ، فنُكبر الجهود ونحيي النفوس...ونفخر بتلك الهامات ...كنت أتحرق شوقا إلى قرطبة...دار العلم ومأوى الآداب ومثوى كبار المحدثين والمفسرين والفقهاء الأعلام...ودار الإمارة وسدة الحكم وعاصمة العواصم...ومدينة الكتب والمكتبات...وموضع المجالس العلمية...وموئل المسجد الجامع الذي بني على تقوى من الله...كنت أستحضر ههنا وصف المقري لقرطبة في نفح الطيب فلقد أبلغ في الوصف والنعت..وأحسن وأجاد ورفع من ذكر المدينة بما لامزيد عليه...فلم يرعني إلا والحافلة تقترب من قرطبة دار محمد بن وضاح القرطبي، وابن حزم القرطبي وابن رشد القرطبي....كانت المدينة تفتح لي ذراعيها وكأنها تعرفني فلطالما قرأت وكتبت عنها...وهاهي ذي أمامي تمتد في الأفق كدُرَّة تتلألأ تتهادى مختالة ....





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  6. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    حبست أنفاسي وأنا أتنسم نسائم قرطبة وقد تبدت لي طلائعها ...وبشائرها...وكان أول ما وقع عليه بصري منها جامعها الأنور، ومسجدها الأبهر، موئل القرآن والحديث ..ومعقد الحكم والألوية...ومأرز الآداب..ومصلى السلطان فمن دونه...وكرسي اهل العلم من فضلاء الأندلس وعدوة المغرب...والمشرق...توقفت الحافلة في المحطة...بادرت مسرعا سيارة أجرة كلمت صاحبه بإسبانية كأنها عربية قلت له:" ميزكيتا" يعني المسجد الجامع لقرطبة...ففهمني الرجل وقال اركب...كنت وحيدا في الطاكسي...أخذت أنظر إلى المدينة...فألفيتها مدينة عصرية فيها الشوارع والممرات والعمارات الشاهقة والمؤسسات ومرافق الحياة المعاصرة...قلت هل هذه هي قرطبة الناصر و الحكم المستنصر بالله الخليفة العالم، أم أن هذه هي قرطبة ابن حزم ، أم هذه هي قرطبة ابن وضاح وبقي بن مخلد الذي كان كما قال الذهبي جاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم...ام هذه هي قرطبة التي كانت فيها المكتبة الشهيرة في القصر الأموي التي جمعت فيها الكتب والأعلاق النفيسة التي جمعها الحكم المستنصر بالله...وذهبت شذر مدر لما خرب البربر قرطبة وأحرقوها...





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  7. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    24
    وقفت سيارة الأجرة أمام المسجد الجامع لقرطبة العلم والحضارة..بلد تباهى بها الشعراء وتفاخروا، وأرض ملكها السادة النجباء وتباروا في كرسيها وحكمها...ومدينة ما شبهت إلا بأم المدائن بغداد العلم والعلماء...قرطبة التي كانت مرمى القلوب ومحط أنظار الرحالة من أنحاء الأرض...جاءها أبو علي القالي البغدادي صاحب الأمالي والنوادر فدخلها دخول الملوك والأمراء...إذ أرسل إليه الحكم المستنصر الأموي الأندلسي من يشيعه قادما من المشرق...وهناك بين مساجدها ودور علمها بث القالي علمه ونشر أدبه شعره ونثره...وقفت أمام المسجد الجامع بقرطبة متأملا أركانه وجدرانه من ظاهره...قلت رحم الله من رفع هذا البيت الذي ذكر فيه اسم الله...ورحم الله من وسعه وزاد فيه...ورحم الله من دخله آمنا مصليا...ورحم الله من عده مفخرة من مفاخر قرطبة الأربع...حيث قال القاضي أبو محمد ابن عطية:
    بأربع فاقت الأمصار قرطبة منهن: قنطرة الوادي، وجامعها
    هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة والعلم، أكبر شيء وهو رابعها
    يممت باب المسجد ظانا أني سأدخل إليه للصلاة فيه...والجلوس...وتلاوة القرآن فلقد كنت في شهر القرآن..بيد أنني سُقط في يدي...إذ على أبواب المسجد حراس وسدنة يرشدون السائحين إلى مكتب هناك صغير...تباع فيه تذاكر الدخول إلى المسجد...قلت في نفسي...يا إلهي أو يدخل المسلم إلى المسجد بمقابل...تذكرت حينئذ أن المسجد أسير يئن ...يبكي تاريخه التليد يقول: أين الناصر لدين الدين الأموي، أين الحكم المستنصر بالله...أين المنصور ابن أبي عامر...أين الخلفاء الذين عمَّروني...وأغدقوا من مال الدولة عليَّ...أين أهل العلم الذين ملأوا جنباتي وبلاطاتي علما قرآنا وحديثا وأصولا وفقها...وأدبا شعرا ونثرا...أين سعيد بن كرسلين من أهل بطليوس ت سنة 300هـ الذي كان يتحلق في المسجد بموضعه ويقرأ عليه، بل أين عبد الله بن أبا القرطبي الذي كان متقدما في الفتيا متحلقا في المسجد الجامع؟؟؟ يا إلهي :ذهب بهائي، وأبنائي ومجدي وإسلامي..وصرت متحفا يزورني الناس من كل حدب وصوب من مشرق الأرض ومغربها....





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  8. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    دلفتُ إلى المسجد الجامع في قرطبة قبة الإسلام ودار الآداب وموئل الفضلاء...وحيث كانت أفواج العلماء...دخلت إلى الجامعة الإسلامية الأولى في أوربا...حيث كان يأتيها البابوات يتعلمون يجثون بين يدي علمائنا يتلقون العلم ويحملونه إلى بلدانهم...رفعت بصري إلى سقف المسجد رأيت الزيادة الأولى في المسجد ...دوائر فوقها دوائر، وأعمدة فوقها أعمدة...بترتيب عجيب ونظام غريب ما رأيته بعدُ إلا في مسجد مركز الملك فهد بمدريد....أخذت أطوف بين بلاطات المسجد ...إنها مساحات واسعة...ومواضع للمصلي فيها متسع...وقفت أمام المحراب حيث جعل حوله سياج من حديد حتى لا يقربه أحد...زخرفة إسلامية رائعة لم يتسن لي قراءة ما دوّن على جانبي المحراب من كتابة، ميزت بعض حروفها التي تفيد تاريخ البناء والباني....وقف بحذائي أحد الزوار من أهل الغرب..يتكلم الفرنسية قال لي:" إن هذا لرائع" وأخذ يلتقط صورا لتلك التحفة الإسلامية الرائعة بنقوشها وبعبق تاريخها الذي يفوح علما وادبا وفنا إسلاميا رائعا...أخذت أتجول في المسجد...يارب أأدخل مسجدا لااصلي فيه تحية المسجد...وأين أصلي ..والصليب على رأسي ومن أمامي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي....المسجد حوّل إلى كنيسة والكنيسة إلى كنائس صغيرة بين كل ساريتين كنيسة صغيرة فيها صلبان وصور لقديسين وقساوسة...يا إلهي لقد مسخت معالم المسجد مسخا...حتى المئذنة حولت إلى معلم كنسي عليه جرس كبير يدق عند الحاجة...أخذت أتجول في المسجد عساي أجد من يذكرني بالعهد الزاهر لهذا الجامع...تعبت من التطواف ..جلست على دكة هناك مرتفعة...تنفست بهدوء سددت عيني ...تخيلت مجالس الفضلاء الذين كانوا نجوما في سماء قرطبة في الزمان الغابر...تذكرت أبا علي حسين بن محمد الغساني الجياني الحافظ المشهور والمسند الأندلسي المعروف الذي جلس في هذا المسجد متصدرا للرواية والتحديث.. ترى أين كان موضع جلوسه في هذا المسجد هنا أو هناك...أمْ بدلت الأرض غير الأرض...فليست هذه هي الأرض التي عرفت الجياني...تذكرت مكي بن أبي طالب القيسي المقرئ صاحب الرعاية والتبصرة والهداية وغير ذلك ـ الذي دخل قرطبة أيام المظفر بن ابي عامر ..وأُجلس في الجامع، فنشر علمه وعلا ذكره ورحل الناس إليه من كل قطر...إيه أين زمان هؤلاء في هذا المسجد ؟؟؟ انتبهت فزِعا ...فخرجت إلى ساحة المسجد حيث الأشجار وفراغٌ فُتح في الوسط يدخل منه الهواء والنور...





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  9. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    26

    في فناء المسجد حيث فُتح للمصلين بالمسجد الجامع فراغٌ تُرى منه السماء..والمئذنة الغريبة الشكل والهيئة...هذه المئذنة التي مرت عليها أحداث جسام...كانت في أول عهدها يُرفع فيها الأذان خمس مرات في اليوم...وأصبحت اليوم وقد بُح َّ صوت المؤذن فيها، فلا أذان ولا إقامة....يا إلهي لماذا يبلغ الحقد بالإنسان إلى أن يمنعه من ممارسة العبادة في مكان كان يعبد الله فيه مذْ قرون؟؟؟ لماذا لا يصلى في المسجد الجامع لقرطبة؟؟؟ أفي الصلاة إيذانٌ بعودة الإسلام إلى إسبانيا؟؟؟ أم هو التعصب النصراني...والكراهية الكنسية الحاقدة؟؟؟
    عدت إلى داخل المسجد كرة أخرى لم أكن أنتوي الخروج منه سريعا... ...كلما هممت بذلك شدني إليه الحنين إلى تاريخه الرائع الجميل...قلت لنفسي لا عليك أن تحلمي بذاك الماضي الحسن الجميل من تاريخ هذا المسجد الكبير...جعلت أدور بين سواري المسجد ..أقول مستلهما التاريخ ...أين كان مجلس بقي بن مخلد القرطبي في هذا المسجد ناشرا علما كثيرا من حديث وغيره مما قد حمله أثناء الرحلة..بل أين كان مجلس محمد بن وضاح القرطبي باثا ما قد أفاء الله عليه من رواية وحديث...قال الذهبي في السير في ترجمة بقي:" وبه وبمحمد بن وضاح صارت تلك الناحية دار حديث".. يا إلهي أين ما بُثَّ من حديث في هذه النواحي...ياالله كمْ سُمع في هذا المسجد من ختمات للقرآن الكريم كان قطب دائرتها القارئ مكي بن ابي طالب القيسي الذي دخل الأندلس مرارا..وكم سمُع بهذا المسجد من ختمات لكتب الحديث: البخاري فمن هو دونه...كان نجمَ تلك المجالس أبُو محمد الأصيلي الرحالة المغربي الأندلسي...ههنا موضعٌ ليس كبقية المواضع...ومسجدٌ ليس كبقية المساجد...ومجلسُ علمٍ ليس كبقية المجالس...هنا قرطبة وهذا مسجدها الجامع...إن كل لبنة في هذا المسجد تحكي تاريخ عالم أو حافظ أو فقيه لامسها جسمه..وإنَّ كلَّ ذرة من أرض هذا المسجد تقصُّ خبر فاضل أو سيد أو مقدَّم في علمٍ مشى عليها...بهذا المسجد الجامع صارت الأندلس كلها دار علم وحديث...وبه غدت قرطبة مهوى قلوب العاشقين للكلمة المقروءة أو المسموعة أو المدبجة المنمقة....كنت في المسجد وحيدا إلا من كتاب في تاريخ الإسلام في أندلس أحفظه في صدري...وغريبا إلا من ذكرى جميلة أعيش لحظاتها وأنا أتجول بين فصول تاريخ هذا المسجد لوحدي...هممتُ بالخروج من المسجد مرارا فلم أفلح...شيءٌ بجذبني إلى البقاء في أروقة هذا المسجد...ثم إلى أين أخرج؟؟ أأخرج حيث أُصدم بواقع حال قرطبة الحديثة...التي ليس فيها أهل قرطبة الذين أعرفهم من تاريخ ابن الفرضي ولا من جذوة الحميدي، ولا في بغية الملتمس للضبي، ولا في الصلة لابن بشكوال، ولا في صلة الصلة لابن الزبير، ولا في الذيل والتكملة للمراكشي، ولا في نفح الطيب للمقري...أو يكون هؤلاء قد قصوا علينا تاريخ قوم لم يكونوا أبدا في قرطبة ولا في الأندلس كلها؟؟؟ وإذا كان هؤلاء قد برُّوا وصدقوا...فأين هذا الطراز الرفيع من الذين نقرأ تراجمهم من أهل قرطبة في هذه الدواوين؟؟؟؟ لست أدري كيف خرجتُ من المسجد الجامع فلقد كنت مستغرقا في مثل هذه الأحلام أو قُلِ الذكريات...لكنني خرجت..والأسى يعتصرني...والحزن يكاد يفلق قلبي...أقول لنفسي باكيا مجد الآباء والأجداد كيف ضاع هذا الأثر الإسلامي...والمعلم الحضاري...إنا لله وإنا إليه راجعون...





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----
     
  10. الصورة الرمزية ام حفصه

    ام حفصه تقول:

    افتراضي رد: السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود ---

    27
    وجدتني وأنا خارج المسجد في جهة الوادي الكبير.تأملتُ المسجد ومئذنته الشامخة التي صمدت رغم التنصير والتدنيس والتدجين...ما أجمل هذا الجمال...وأحسن هذا الحسن ...وأبهى هذا البهاء..وأنْور هذا النور...كأن المئذنة تستمد صمودها من عبق ما كانت تشهده من دخول وخروج أهل العلم للمسجد، من مفسرين ومقرئين ورفعاء سادة مبدعين...سِرْت بضع خطوات متجها إلى الوادي الكبير...كان الجو صحوا...شديد الحر...قررت أن اقف على قنطرة الوادي الكبير التي فاخرت بها قرطبة ُالمدائن...سرت قليلا...لأجد نفسي على الوادي الكبير...كانت المياه تجري ...من تحت القنطرة التي لولاها ما اتصل بعض قرطبة ببعض...وقفت على القنطرة أرى المسجد من بعيد...قلت هذا الذي يمثل مجد قرطبة العلمي...وتاريخها
    الأدبي، وماضيها الفكري...هذا ضمير الأندلس الغابرة...ومستودع علمها وديوان شعرها وكتاب دهرها...يا الله...قلًَّبت نظري بعدُ في الوادي الذي يجري...قلت له مخاطبا:كم جريت يا وادي بدماء زكية ...وذهبت فيك أنفس بريئة...وكم عبرك من طالب علم...وراغب أدب...وشادي ظرف وخبر....كم من جيوش سلم عبرتك...وطبول حرب جاوزتك....كم من سلطان وخليفة مر عليك...وبموكبه الأميري ترنح فوقك....كانت قنطرة الوادي فارغة إلا مني...كنت كأني في زمان غير زماني...وعهد غير عهدي....يغمرني فرح وسرور...وحزن وأسى وإحباط...سرعان ما امتلأت جنبات القنطرة بالناس...لعلهم رأوا مكاني...ورمقوا شخصي...الغريب معروف...والأجنبي حاله مكشوف...أوشكت أن أوقفهم ..أن أصرخ فيهم...أن أنادي بأعلى صوتي...هذه قرطبة التي عرفت عدل المسلمين...وحضارة العرب...وعلم أهل الشرق والمغرب...هذه قرطبة منا نحن معاشر أهل الإسلام...إنها صنعة آبائنا وأجدادنا...فنحن منها وهي منا...ولن ننساها أبدا ..كيف ينسى الوالد صغيره...أم كيف تنسى الأم وليدها...قرطبة حاضرة فينا معاشر المسلمين ما بقينا: في علوم قرآننا وحديثنا، في فقهنا وأصولنا، في أدبنا ونحونا وشعرنا ونثرنا...لن يزول منا ذكرها ما حيينا...





    الدمعه- طيف- رضى رزقتم الجنه بلا حساب ----والجميع----