مفاهيم جهادية.. بحاجة لتصحيح الجدل حول آية السيف
من قرأ القرآن مكيَّهُ ومدنيَّهُ ـ مائة وأربع عشرة سورة ـ لاح له بغير خفاء أن القرآن من أوله إلى آخره كتاب دعوة وحوار، خطاب للعقول، وإقامة للحجج، وتفنيد للشبهات، وبيان لحقائق الدين، ورد على أباطيل الخصوم، وإيضاح لآيات الله في الأنفس والآفاق. فهو كتاب هداية وبيان، كما قال تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" (الإسراء: 9) ولهذا سماه الله نورا "وأنزلنا إليكم نورا مبينا" (النساء: 174).
كما أنه يتعامل مع المخالفين له بسماحة منقطعة النظير، يدعو على بصيرة، ويجادل بالتي هي أحسن، ويدفع بالتي هي أحسن، ويأمر بالصبر على أذى الخصوم، والصفح عنهم، وترك أمرهم إلى الله يحكم بينهم يوم القيامة. كما يدعو إلى الدخول في السلم كافة، والإعراض عمن تولى عن الدخول في الإسلام، ولا يشرع القتال إلا لرد العدوان، وقتال من يقاتل المسلمين، أو يفتنهم عن دينهم، أو يعذب المستضعفين منهم ممن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وإذا اضطر المسلمون إلى القتال فعليهم أن يلتزموا بآداب وأخلاق تقفهم عند حدود الله، فلا يقاتلون إلا من يقاتلهم، ولا يقتلون امرأة ولا وليدا ولا شيخا ولا راهبا في صومعته ولا فلاحا يحرث أرضه ولا تاجرا في متجره، ولا يخربون عامرا، ولا يقطعون شجرا، ولا يفسدون في الأرض.
هذه التعاليم القرآنية الواضحة التي تدل عليها عشرات الآيات، بل مئاتها، ذهب بعض المفسرين القدامى إلى أنها فقدت فاعليتها، وأن كل هذه الآيات في المصحف! موجودة حسا، معدومة معنىً، أو باقية تلاوة منسوخة حكما، وبمعنى آخر، إن هذه الآيات ـ التي قدرها بعضهم بـ114 آية، وبعضهم بـ 140 آية، وبعضهم بـ200 آية ـ قد ألغتها وقضت عليها آية واحدة، أو جزء من آية، أطلقوا عليها (آية السيف).
فإذا استشهدت بقوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة: 256) قيل لك: نسختها آية السيف.
أو بقوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" (النحل: 125) قيل لك: نسختها آية السيف.
أو بقوله عز وجل: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله" (الأنفال: 61) قالوا لك: نسختها آية السيف.
أو بقوله تعالى: "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا" (النساء: 90) قيل: نسختها آية السيف.
أو بقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم" (الممتحنة: 8) قيل: نسختها آية السيف!! وهكذا الآيات الكثيرة الوفيرة.
كأنما أصبحت آية السيف نفسها سيفا يقطع رقاب الآيات، ويتركها جثة هامدة لا روح فيها ولا حياة، فهي متلوة لفظا ملغاة معنى. إذ حكم عليها بالإعدام!!
أي آية هي آية السيف؟
والعجب العجاب في هذا الأمر أنهم اختلفوا في تعيين هذه الآية -التي زعموها ناسخة لغيرها- أيّ آية هي من كتاب الله، وإن اتفقوا على أنها آية من سورة التوبة.
هل هي آية: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.." (التوبة: 5).
أو هي آية: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" (التوبة: 36).
أو هي آية: "انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" (التوبة: 41).
أو هي آية: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 29).