سئل فضيلة الشيخ الدكتور صادق بن محمد البيضاني السؤال التالي :
(أحيانا قد يسمع بعضنا عن آخرين قد تكلموا في حقنا بغير حق ونعرف ذلك من خلال النقلة الثقات الذين نثق فيهم فما هو الواجب علينا نحو هؤلاء الذين نسمع عنهم بعض الإساءات في إخوانهم وجزاك الله خيرا؟ )
فأجاب فضيلته:
يجب على المسلم أن يكون فطنًا, حليمًا لا يستعجل في الأمور ولا يُصْدِرُ ردًا على من قيل إنه تحدث في حقه حتى يتبين صحة ذلك عملًا بقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ "([1]).
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ([2]) فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا "([3]).
قال ابن عباس – رضي الله عنهما - كما في الصحيحين([4]) فقوله تعالى: " وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا "([5]) قال كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته – ظنًا أنه خاف الموت فأسلم فاستعجلوا في قتله دون تثبت فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: " تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا "([6]), فالأصل في المسلم السلامة وإن قالوا لك قد أساء فلان وقال فيك ما قال, فينبغي للمسلم أن يتثبت وينظر إلى سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وكيف كانت معاملته مع الخصم ومع من أساء إليه حقيقة دونما مرية ومع من قيل إنه تكلم فيه, انظر كيف كانت معاملته وكيف كان يغض الطرف ويتحمل الأذى.
تقول عائشة كما في الصحيحين: " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه
وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها "([7]).
وفي الصحيحين أيضًا عن أنس- رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وعليه برد([8]) نجراني([9]) غليظ الحاشية([10]) فأدركه أعرابي فجبذه([11]) بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق النبي عليه الصلاة والسلام وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء([12]).
فانظروا كيف يتحمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما هو أشد من الكلام مما هو حقيقة وواقع ملموس فضلا عن كونه مما قيل وتناقله النقلة غفر الله لهم .
فيلزم المسلم أن يتثبت من أي قول يسمع أنه قيل فيه، فإن ثبت القول وصح فعليه أن يلتمس لأخيه العذر والتأويل كما جاء عن بعض السلف: "التمس لأخيك ولو سبعين عذرًا".
وقد ذكر ابن عثيمين _ رحمه الله_ في تفسيره قولًا جميلًا عن عبد الله بن زيد الجرمي أنه قال : " إذا بلغك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك, فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك لعل لأخي عذرًا لا أعلمه".
ثم إذا جاءك أخوك المسلم واعترف لك بذنبه وخطئه فينبغي لك قبول العذر والصفح عنه على جهة الاستجابة لقوله تعالى : " خُذِ الْعَفْوَ([13]) وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ([14]) وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ "([15]).
ولقوله تعالى : " وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ "([16]).
نزلت هذه الآية في حادثة اتهام عائشة رضي الله عنها بالإفك الذي أذاعه المنافق عبد الله بن أبي وكان يتكلم فيها مسطح وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكان أبو بكر ينفق على مسطح وكان رجلًا محتاجًا فلما برأها الله حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح فنزلت هذه الآية : " وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "([17]), فقال : أبو بكر : بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وأعاد له بما كان يصنع([18]).
ويحكى عن الحسن البصري أن رجلًا ذكره في مجلس بسوء فعلم الحسن وأرسل له بطبق فيه تمر هدية منه مقابل تلك الإساءة, فلما سئل الحسن لِمَ فعلت ذلك ؟ فقال : " لقد أخذ من سيئاتي وأعطاني من حسناته فأردت أن أجازيه فأرسلت له التمر".
وقد أحسن من قال :
سامِحْ أخاك إذا خَلَـطْ مِنْهُ الإصابةُ والغَلــَطْ
وتَجَافَ عــن تعنيفهِ إن زاغ يومًا أو قَسـَطْ
واعلمْ بأنك إِنْ طَلَبْـتَمُـهَذَّبًَا رُمْتَ الشَّطَطْ
مَنْ ذا الذي ما سَاء قَـطْ ومَنْ له الحسنى فَقَـطْ
فالصفح وغض الطرف وعدم رد الإساءة بمثلها أولى كما قال تعالى : " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "([19]).
وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - : أن رجلًا قال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال : "لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفهم([20]) المَلّ([21]) ولا يزال معك من الله تعالى ظهير([22]) عليهم مادمت على ذلك "([23]).
وعليه فإذا جاءك أخوك المسلم واعترف بذنبه وطلب العذر فاقبل منه فهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما جاءه من تخلف عن غزوة تبوك واعتذروا له قبِل عذرهم كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن كعب رضي الله عنهما([24]) فتثبتوا بارك الله فيكم وأحسنوا ردود الأفعال ؛ وبالله التوفيق .
المصدر ( السؤال الرابع في المنتقى من الفتاوى للشيخ الدكتور صادق بن محمد البيضاني)
([1]) سورة الحجرات, الآية (6).
([2]) سافرتم وذهبتم للغزو.
([3]) سورة النساء, الآية (94).
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب التفسير, باب تفسير سورة النساء(4/1677 رقم 4315)], ومسلم في صحيحه [كتاب التفسير(4/2319 رقم 3025)] من حديث ابن عباس موقوفًا.
([5]) سورة النساء, الآية (94).
(([6] الآية السابقة.
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب المناقب- باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم(3/1306رقم 3367)], ومسلم في صحيحه [كتاب الفضائل, باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته(4/1813رقم 2327)] كلاهما من حديث عائشة, واللفظ للبخاري.
([8]) نوع من الثياب معروف.
([9]) نسبة إلى نجران بلد معروف بين الحجاز واليمن.
([10]) طرف الثوب مما يلي طرته(عَلَمُهُ, وقيل: طُرَّةُ الثوب: موضع هُدْبِه, وهي حاشيته التي لا هُدْبَ فيها).
([11]) جذبه.
([12]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب الأدب, باب التبسم والضحك(5/2260رقم 5738)], ومسلم في صحيحه [كتاب الزكاة, باب إعطاء من يسأل بفحش وغلظة(2/730رقم 1057)] كلاهما من حديث أنس بن مالك.
([13]) خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم من العفو الذي هو ضد الجهد أو خذ العفو عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم.
([14]) المعروف المستحسن من الأفعال.
([15]) سورة الأعراف, الآية (199).
([16]) سورة النور, الآية (22).
([17]) سورة النور, الآية (22).
([18]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب التفسير, باب تفسير سورة النور(4/1780 رقم 4479)], ومسلم في صحيحه [كتاب التوبة, باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف(4/2129 رقم 2770)] كلاهما من حديث عائشة.
([19]) سورة المؤمنون, الآية (96).
([20]) تطعمهم(من سففت الدواء), وقيل تجعل.
([21]) أصل الملة: التربة المحماة تدفن فيها الخبزة, والمل: الجمر, ويقال للرماد الحار أيضاً, فالملة: موضع الخبزة وقيل: الجمر الذي تشوى فيه الخبزة ولا يقال له مل حتى يخالطه رماد, والمعنى: إذا لم يشكروك, فإن عطاءك إياهم حرام عليهم, ونار في بطونهم, وأنك منصور عليهم, فقد انقطع احتجاجهم عليك بحق القرابة كما ينقطع كلام من سف الملة, ومثل هذا قول العرب: بفيك الإثلب: أي الحجر الذي يسكت الناطق, ومع هذا فقد دخل عليهم الإثم في أديانهم بفعل ما لا يجوز في حقك كما يدخل على من يتناول الرماد الحار من الألم والتنغيص.
([22]) معاون.
([23]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب البر والصلة والآداب, باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها( 4/1982 رقم2558)] من حديث أبي هريرة .
([24]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب المغازي, باب حديث كعب بن مالك وقول الله عز وجل { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }(4/1603 رقم4156)], ومسلم في صحيحه [كتاب التوبة, باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه(4/2120 رقم2769)] كلاهما من حديث عبد الله بن كعب.