الإسلام اليوم/ أيمن بريك
د.العودة: الشجاعة الحقيقية هي شجاعة الأمل والتفاؤل وليس الهروب والانتحار
أكد فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة ـ المشرف العام على مؤسسة "الإسلام اليوم" ـ أن الشجاعة الحقيقية هي شجاعة الأمل والتفاؤل والانتماء للحياة، وليس الهروب والانتحار، مشيرًا إلى أنه لولا وجود قدر من الشجاعة عند بعض الأمم لما كان هناك طائرة تطير ولا سيارة تمشي ولا أي خدمة من الخدمات.
وقال الشيخ سلمان ـ في حلقة أمس الجمعة من برنامج "الحياة كلمة"، والذي يبث على فضائية mbc ، والتي جاءت تحت عنوان "شجاعة" ـ: إن كل هذه الأشياء بدأت بقدر من الشجاعة والمغامرة المحسوبة والمدروسة، لافتًا إلى أن هناك شعوبًا عندها حالة من الإقدام على أشياء، ربما يشاهدها الإنسان في البداية أمرًا مرعبًا ومثيرًا للاستغراب بالنسبة له، ولكنها سرعان ما تتحول إلى أمر عادي يتقبله جميع الناس، ويصبح هناك محاولة لاستكشاف ما هو أبعد من ذلك.
وأوضح الدكتور العودة أنه لابد أن يتحلى الإنسان بشجاعة العقل في الفهم، وشجاعة الابتكار، واقتناص الفرص، وعلى سبيل المثال، فإنه قد سئل معاوية -رضي الله عنه-: أأنت شجاع؟ قال:
شجاعٌ إذا ما أمْكَنَتْنيَ فُرْصَةٌ وإنْ لم تكنْ لي فُرْصَةٌ فجبانُ
وأوضح الدكتور العودة أن هذا يؤكد أنه بدون أن يكون عند الإنسان شجاعة، فإنه لن يستطيع أن يقتنص الفرص، أو أن يحقق الإبداع، سواء كان هذا الإبداع أدبيًّا أو شعريًّا أو تقنيًّا، أو اكتشافًا، مشيرًا إلى أن الغالب على الناس اليوم في معظم المجتمعات، وخاصة المجتمعات الإسلامية، كون الإنسان مرهونًا دائمًا بثقافة ومجاراة القطيع، والخضوع للمألوف، والاندماج مع الناس بما يصل ويفضي إلى أن يفقد الإنسان قيمته الذاتية ويصبح رقمًا غير معتبر ولا محسوب إلا ضمن إطار معين، وتختفي معه الشجاعة الشخصية، حيث إننا ربما نجد الإنسان يمارس الشجاعة جماعيًا من خلال المجموعة المتواصلة المتلاحمة التي تقوم بدور معين، سواء كان هذا الدور هو دور هجوم أو دفاع أو عمل معين، لكن بدون أن يكون عنده شجاعة ذاتية، أو اعتراف بقيمته الذاتية، أو إحساس بمسؤوليته الشخصية، فالشجاعة مثلما يقول المتنبي:
الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني
وكذلك:
وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ
فالشجاعة مرتبطة بالبصيرة، والحكمة، والعقل:
إِنَّ الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا
وتابع فضيلته أن الشجاعة فضيلة معروفة عند العرب، ولذلك فإن الكثير من العرب عندهم شجاعة ذاتية أو ما يسمونه هم شجاعة فيما يتعلق بالجانب المادي البحت، لكن الشجاعة بمفهومها الشامل المتمثل في الشجاعة مع النفس، والشجاعة مع الآخرين، حتى مع المنافس، مثل أن تهنئه بنجاح أو تفرح له أو تغتبطه بتفوقه ولا تشعر بالغيرة من ذلك، أو الشجاعة مع من هو فوقك، بأن تراجعه أو تصحح له أو تنتقده دون أن يفضي ذلك أيضًا إلى الإطاحة، فإنها من الأمور التي يجب أن تحظى باهتمام أكبر.
الهروب عن مسئوليات الحياة إلى الانتحار ليس شجاعةً
وفيما يتعلق بأن هناك من يعتبر أنه من الشجاعة الهروب من موقف معين بالانتحار أو غيره من القرارات المهلكة، قال الشيخ سلمان: إن الشباب أكثر شجاعة من الكبار، مع أنهم أكثر تطلعًا للحياة وانتماءً إليها، بينما الإنسان كلما كبر يكون تشبثه بالحياة أكثر، مشيرًا إلى أن هذا أمر مؤكد وملموس، ولذلك فإننا نجد أن الشباب هم الذين يقدمون على العمليات التي تتم في حالات حروب أو غيرها، بينما الإنسان إذا كبر يبدو أنه ـ لا أستطيع أن أقول أنه فقد شجاعته.. يمكن أن نصحح هذا المفهوم لكن ـ ربما أضاف إلى الشجاعة معنى آخر وهو معنى الرؤية والشمولية وتراكم الخبرات، فأصبح عنده إيمان بالحياة، ولذلك فإننا يجب ألا نعتقد أن الشجاعة فرار من الحياة، ولكنها في حقيقة الأمر انتماء للحياة، "اطلب الموت توهب لك الحياة"، والشجاعة الحقيقية هي شجاعة الأمل، والتفاؤل، والانتماء للحياة، وليس الفرار أو الهرب من الحياة، كما يقول:
تَأَخَّرتُ أَستَبقي الحَياةَ فَلَم أَجِد لِنَفسي حَياةً مِثلَ أَن أَتَقَدَّما
وقد كان العرب يُعيّرون الإنسان الذي يموت على فراشه -أحيانًا- ويقولون: "مات حتف أنفه"، وهذا قد يقال -أحيانًا- مثلما قال السموأل:
وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ
فـ "مات حتف أنفه" ليست مسبة أو نقصًا أو عيبًا، وربما مُنح الإنسان الشجاعة وهو يموت حتف أنفه كما يقولون.
وأوضح الدكتور العودة أن الإقدام على الانتحار ليس شجاعة، ولكنه هروب، فالذين يُقدمون على الانتحار هم أكثر الناس ضعفًا وربما عجزًا حتى عن مواجهة المشكلات أو تحملها أو الصبر عليها، مشيرًا إلى أن هناك تقريرًا يقول: إن نسبة الانتحار بين السعوديين تضاعفت، مما يشير إلى أن هناك مشكلات وصعوبات في الحياة، وأزمات نفسية، وقد يرجع ذلك إلى غياب المرشد والموجّه الذي يمكن أن يمنح الإنسان جرعة من الطمأنينة والأمل ولو بالكلمة الطيبة، وعلى سبيل المثال، فإن "هتلر" عندما فشلت مساعيه انتحر هو وعشيقته، وكذلك وزير الإعلام في حكومة هتلر انتحر هو وزوجته وبناته الست، حيث قام بتجريعهم السم حتى ماتوا جميعًا!، وهذا مشهد كثيرًا ما يحدث ويعتبره البعض شجاعة، لافتًا إلى أن هذا يمكن أن يكون شجاعة كما تقتضيها النفس وليست شجاعة كما يقتضيها الحق، فالشجاعة مرتبطة بالحق، والعدل مع النفس ومع الآخرين.
وأردف فضيلته: أما حكم النفس -أحيانًا- بسبب أزمة نفسية أو ظرف عابر أو فشل، فإن هذا لا يعد شجاعة بأي حال من الأحوال، مشيرًا إلى أن كون الإنسان يعاني من فشل أو من كلام الناس أو من ملاحقة الإعلام فيعجز فينتحر، فإن هذا ليس بشجاعة، وعلى سبيل المثال، فإن هذا الأسبوع انتحر ابن مدير البنك الذي حكم عليه في أكبر جريمة سرقة أمريكية، في حين أن الشجاعة هي القدرة على مواجهة القلق الذي يعتري الإنسان في داخله وهو يهم بممارسة قدر من حريته أو قدر من حياته -أحيانًا-، مؤكدًا أن الانتحار هو نوع من الفشل والجبن عن مواجهة الحياة؛ ولذلك فإن الإنسان الذي ينتحر بعدما يبدأ بهذا العمل يواجه صعوبة ضخمة في داخله وألمًا شديدًا وندمًا، ولكنه في حالات كثيرة لا يستطيع إيقاف نفسه عن القيام بذلك.
وتعقيبًا على مداخلة من مشاركة، تقول: إن الانتحار هو قمة الضعف، قال الشيخ سلمان: هذا أكيد، فالانتحار يكون نتيجة عدم القدرة على مواجهة الحياة، كما أنه ناتج عن ضعف في الإيمان؛ لأن المؤمن بالله -سبحانه وتعالى- يدري أن الحياة هي منحة وصدقة من الله -سبحانه وتعالى-، والله يوجب علينا أن نقبل صدقته، كما أن الحياة وظيفة الله تعالى عيننا فيها، وليس لأحد أن يستقيل من هذه الحياة بمحض إرادته وإنما على الإنسان أن يواصل ويصبر، وبدون أمل فإن الإنسان سيكون في مضيق، لكن علينا أن نقتبس الأمل من الإيمان بالله -سبحانه وتعالى-، ومن الدعاء والتضرع والثقة بالتغيير والثقة بأن الله تعالى يدّخر لنا ما هو خير وأفضل حتى لو طال البلاء، فعلى الإنسان أن يؤمن بأن ما عند الله خير وأبقى.
وتعقيبًا على مداخلة من مشاركة، تتحدث عن أن الانتحار منتشر في هولندا، وتتساءل: هل يجوز الترحّم على المنتحر؟، قال الشيخ سلمان: إنه من الشجاعة التسامح، والسلام مع النفس ومع الآخرين، فالشجاعة ليست هي الحرب، ولكن صناعة السلام -كما يقول عليّ عزت بيجوفتش- تتطلب شجاعة أكثر مما تتطلبه الحرب، وكثير من الناس ربما يكونون معك وأنت ذاهب إلى الحرب لكن حينما تكون ذاهبًا للسلام ربما لا يكونون معك، لأنهم قد يعتبرون هذا نوعًا من الخيانة -أحيانًا- أو عدم الوفاء للمبادئ، وهذه من الأشياء التي يجب أن تعالج، فالحرب ليست مطلوبة بذاتها وليست هدفًا ولا غاية بذاتها، وإنما هي ضرورة يفضي إليها الأمر.
وأضاف فضيلته أنه ليس هناك شيء في الترحم على المسلم حتى لو كان منتحرًا، فالانتحار ليس كفرًا، ولكنه معصية لله -سبحانه وتعالى-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- استغفر للمنتحر عندما رآه في المنام، وجاء أحدهم وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه رآه في الجنة، وأنه قد غطى يديه وأنه قطع يديه حتى شخبت أوداجه ومات فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ»، فدعا له بالمغفرة، وإن كان النبي -عليه الصلاة والسلام- قد يترك الصلاة على بعض هؤلاء من باب التأديب والزجر لئلا يُقدِم الناس على مثل أحوالهم، لكن هذا لا يعني أنه لا يجوز الدعاء له.
وتعقيبًا على مداخلة، تقول: إن شعر الشجاعة يكاد يكون هو الغالب على الشعر العربي، قال الشيخ سلمان: وشعر الفخر والرثاء أيضًا، ولكننا كثيرًا ما نعلِّم أطفالنا منذ الصغر الكثير من قصائد ودواوين الحماسة المتداولة، حيث إن محفوظاتنا الشعرية غالبها ينتمي إلى الحماسة والشجاعة، وكما يقولون فإن "الشجاعة صبر ساعة"، وعلى سبيل المثال، فإنه من محفوظاتنا المشهورة لقطري ابن الفجاءة:
أَقولُ لها وقَدْ طارَتْ شعَاعًا مِن الأَبْطال: وَيْحكِ لا تُرَاعِي
فإِنَّكِ لو سَأَلْتِ بقَاء يَوْمٍ على الأَجَلِ الذي لَكِ لَنْ تُطاعي
فَصَبْرًا في مَجالِ المَوْتِ صَبْرًا فَما نَيْلُ الخُلُودِ بِمُسْتَطاعِ
ومَنْ لا يُعْتَبَطْ يَسْأَمْ ويَهْرَمْ وتُسْلمْهُ المَنُونُ إِلى انْقِطاعِ
وما للْمرءِ خَيْرٌ في حَياة إذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المتاع
كما أننا كثيرًا ما نجد أنهم يقولون: إن أشجع بيت قالته العرب هو قول العباس ابن مرداس:
أَشُدّ عَلى الكَتيبَةِ لا أُبالي أَحتفي كانَ فيها أَم سِواها
وذلك على الرغم من أن المتأمل في هذا البيت لا يجد له معنى غريبًا أو جميلًا، لكن الشاعر ربما اختصر الشجاعة الحسية والشجاعة في مجال الحرب، وذلك لأنه ربما من المشكلات اليوم أن الشجاعة أصبحت مرتبطة عند الناس ذهنيًا وعقليًا بالحرب، وبل وأحيانًا بالحرب التقليدية على وجه الخصوص التي هي السيف، والتي فيها تتخيل أن الأشلاء تتطاير وتتقطع، أو الذي قطعت يده فأصبح يقاتل بها، وغيرها من الأمثلة.
شجاعة النبي عليه الصلاة والسلام
وفيما يتعلق بشجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الشيخ سلمان: لقد ورد في صحيح البخاري في "باب الشجاعة في الحرب والجبن"، حديث أنس -رضي الله عنه-: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَشْجَعَ النَّاسِ وَأَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ. قَالَ فُزِّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً. قَالَ َانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ سَبَقَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ «لَمْ تُرَاعُوا». قَالَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِى طَلْحَةَ عُرْىٍ فِى عُنُقِهِ السَّيْفُ فَجَعَلَ يَقُولُ لِلنَّاسِ «لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا» وَقَالَ «إِنَّا وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ»، أي: يُثني على الفرس أنه سريع وكذلك أنه ليس هناك خوف، وكذلك في حنين، يقول تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)(التوبة: من الآية25)، حيث هرب الناس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ثابت في مكانه لا يتحرك ويقول: «أَىْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ» حتى فاؤوا ورجعوا إليه وقاتلوا وانتصروا من جديد بشجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وثباته.
وأضاف فضيلته أن شجاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليست فقط في الحرب، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُكثر من القتل والإثخان في الحروب، بل ربما لا يكاد أن يكون قتل أو باشر قتل أحد، اللهم إلا أنهم اختلفوا في واحد أو اثنين، بينما الشجاعة الحقيقية للنبي -صلى الله عليه وسلم- تتمثل في كونه يُقدم ولذلك فإنهم -أحيانًا- يقولون في تعريف الشجاعة: إنها "القدرة على التغلب على القلق الذي يداخلك حينما تهمّ بممارسة ذاتك أو بالتعبير عن نفسك أو بممارسة حريتك الحقيقية، فالقدرة على التغلب على هذا القلق الداخلي هي الشجاعة الحقيقية، والتي هي عبارة عن الكلمة التي تقولها لأول مرة أو هي الموقف الذي تتخذه لأول مرة أو الخطوة التي تتخذها لأول مرة وتكون مثقلًا أنت بتردد وبتخوّف.
وأوضح الدكتور العودة أن أعظم شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي شجاعته في الإعلان بالتوحيد في وسط مجتمع وثني مشرك، يقول تعالى: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(الأعراف: من الآية59)، فقد كان يوجد الكثير من الموحدين والحنفاء في مكة والذين لا يقرون الأساطير والوثنيات والخرافات التي كانت موجودة عند العرب أو عند غيرهم، ولكنهم لم يكونوا يجرؤون على مواجهة الناس بذلك، لأن المواجهة في هذه الحالة تسبب للإنسان نوعًا من العزلة الاجتماعية، والإنسان بطبيعته كائن اجتماعي لا يريد أن يتجافى عمن حوله وأن يخسر الناس من حوله، وكان هذا في كثير من الأحيان هو الذي يحمل الإنسان على أن يطأطئ رأسه وأن يُسلّم، فكون النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا بأمر من الله -سبحانه وتعالى- يجهر بالدعوة فهذا هو أعظم الشجاعة، ولهذا قال: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94)، وأمره بالصبر وبالمواصلة، فالشجاعة من معانيها الصبر والإيمان، والصبر على الدعوة.
وأردف فضيلته: كما أنه من معاني الشجاعة الإحجام -أحيانًا- عن الموقف الذي لا يكون مدروسًا أو لا يكون صحيحًا، ولذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجّل أشياء كثيرة لأنها ليست من صلب الموضوع؛ مثلما أجّل قضية بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، وهذه من الشجاعة، فلا تقول إنه لم يكن شجاعًا في مواجهة ما سيقوله الناس؛ فقد قال: «وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافَ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ»، ولكن كان ذلك رحمة بالناس أنفسهم، وليس خوفًا على نفسه، وإلا فإنهم اتهموه بأنه "ساحر، وشاعر، وكاهن، وكذاب.." إلى آخره، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يشفق عليهم أن تنكر قلوبهم فيستأني بهم ويُقدّم الأمور الأساسية والجوهرية.
وأوضح الدكتور العودة أننا حينما ننظر إلى الصحابة -رضي الله عنهم-، سنجد أن عليَّ بن أبي طالب من أشجع الصحابة، وأشعاره مشهورة في الشجاعة، والتي منها:
لِمَنْ رايةٌ سَوْداءُ يَخْفق ظِلُها إذا قيل قَدِّمْها حُصَيْنُ تقدَّما
فقدّمها بالموت حتى يزيرها حياض المنايا تقطُر السمّ والدَّما
فعليّ -رضي الله عنه- كان، كما يعبرون، قطعة من الموت، حيث كان يطلق ذلك على الرجل الذي هو في غاية الشجاعة، كما أخذ الحسين -رضي الله عنه- هذا المعنى عن والده، لافتًا إلى أن بعض الناس يظن أن الانتماء للسُّنة كأنه مجافاة للحسين أو كأنه ميل إلى يزيد، في حين أن السنة يحبون الحسين ولا يحبون يزيدَ، كما سئل الإمام أحمد: أتحب يزيد؟ قال: لا ولا كرامة. قيل: لماذا لا تسبّه؟ قال: وهل سمعت أباك يسبّ أحدًا؟!، بينما الحسين -رضي الله عنه- هو سيد شباب أهل الجنة، وعندهم له قدر ومكانة وفضل.
وتابع فضيلته: لقد كانوا يسألون عليًّا -رضي الله عنه-: أين نجدك في الحرب؟ قال: حيث كنت!، أي في المكان الذي كنت فيه أول مرة، مما يشير إلى أنه لا يتزحزح أو يذهب ويجيء، وإنما هو ثابت في مكانه؛ ولذلك يقول الشاعر العربي على سبيل المدح، وهو معنى لطيف:
وَكَأَنَّ الإِلَهَ قَد قالَ في ال حَربِ كونوا حِجارَةً أَو حَديدًا
أي: كأنه حجارة أو حديد يجلس في مكانه حتى يَقتل أو يُقتل، وكذلك فإنه عندما سئل علي -رضي الله عنه-: كيف تنتصر على خصمك؟ قال: إذا واجهت خصمي أشعر بأنني سأقتله، وهو أيضًا يشعر بأنني سأقتله، فأكون أنا وهو عونًا على نفسه، مشيرًا إلى أن هذا قد يعبر عن أن الشجاعة -أحيانًا- تكون مرتبطة بالهيبة والتاريخ، وخاصة تاريخ الإنسان، وبالجرأة المتراكمة الموروثة لهذا الإنسان والتي ربما تعطي رعبًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»، وقال -سبحانه وتعالى-: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)(آل عمران: من الآية151)، وبالمقابل فإن معاوية -رضي الله عنه- أيضًا كان يتمثّل في الشجاعة بأبيات كثيرة:
أبَتْ لي عفَّتي وأبَى بلائي وأخْذِي الحمدَ بالثمن الرَّبيحِ
وإعطائي على المكروه مالِي وإقدامي على البطلِ المُشيحِ
وقولي كلَّما جشَأتْ وجاشتْ مكانكِ تُحمَدي أو تَسْتَريحي
فكان العرب يعتمدون على مبدأ الشجاعة ويحفظون معانيها ومراميها ومقاصدها، كما أن الشعر ربما يجرئ على الشجاعة، حتى إن بعضهم يقول: إنني أهمّ أن أهرب في الحرب فأتذكر قول فلان أو فلان في الشعر وفي الهروب وفي الانسحاب فأُقدم وأثبت وأحجم عن الهرب.
وتعقيبًا على مداخلة تقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمنا أن نتعوذ من الجبن، كما أن أكثر ما كانت العرب تمقته في الرجل هو الجبن، قال الشيخ سلمان: إن الجبن والبخل هما أكثر داءين يعيبان الرجل عند العرب وعند غيرهم، فالجبن له فلسفة معينة، كما قال أحدهم: "لو كان عندي أكثر من روح يمكن أن أضحي بواحدة وأحتفظ بالأخرى ربما رأيتموني أكثر الناس إقدامًا"، ولكنه يدري أنها روح واحدة، وإذا فاتت فلا سبيل إلى عودتها، كما أن الجبن هو نوع من الخوف الذي يراود الإنسان، وعلى ذلك فإن الجبن لا يكون في المعركة فقط، ولكنه يكون أيضًا في مواجهة النفس، وفي مواجهة المرض، كما أنه يجعل الإنسان عنده حالات من القلق أو التردد أو التوجس، فالجبن عبارة عن ضعف يلحق النفس الإنسانية، وإلا فإنه حتى الناس الذين قد يظنون أنفسهم جبناء إذا لحمت الأمور وجدتهم من الشجعان وأقدموا، وهذا كثيرًا ما يتحدث الناس عنه، فربما يظن الإنسان أنه لا يتحمل لكن إذا وجدته في الموقف رأيته يُقدِم وينسى ما هنالك.
وفيما يتعلق بما قاله الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين: إن "الشجاعة هي إتقان الخوف وليست غياب الخوف"، قال الشيخ سلمان: إن هذه المقولة تحتمل أمرين، فإنه إما أن يكون صاحب المقولة عنده فلسفة تشير إلى أن الجبن هو الشجاعة الحقيقية، ولكن الوجه الآخر هو أن يكون المقصود بإتقان الخوف وضع الخوف في موضعه ومكانه، بحيث أنه لا يطغى على الإنسان ولا يغيب الخوف، ولذلك فإنه عندما سئل بعض الشجعان: لماذا تُقدِم وأنت تعرف أن الموت أمامك؟ قال: أنا أُقدم لأني أعرف أن الموت أمامي ولذلك كراهية له أنا أهجم عليه!، كما أن بعضهم يعرف أن الموت لا يتقدم ولا يتأخر، إضافة إلى ذلك فإن المؤمن يدري أنه: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)(المنافقون: من الآية11)، فيكون إقدامه ليس طلبًا للموت ولكن هو نوع من الهرب من الموت، وقد كان أبو بكر -رضي الله عنه- يقول لخالد بن الوليد: "اطلب الموت توهب لك الحياة".
وفيما يتعلق بأن هناك من يرى أن الشجاعة هي أن تعرف نفسك وأن تكون شجاعًا معها، قال الشيخ سلمان: إنني أعتقد أن هذا هو أساس الشجاعة، بل وأهم صورها هي شجاعة الإنسان مع نفسه قبل أن يكون شجاعًا مع الآخرين، مشيرًا إلى أنه من الشجاعة مع النفس: القدرة على الاعتذار والذي يعد نوعًا من الشجاعة الضخمة مع النفس، وألا يكون الاعتذار الذي يقدمه الإنسان ليقول للناس "أنا شجاع"، فهذا مزلق آخر، حيث نجد أن بعض الناس قد يعتذر ليقول لهم إنني جريء على الاعتذار وإنني شجاع، فليس هذا هو المقصود، ولكن لابد أن يكون الإنسان قد اعتذر إلى نفسه، أي أنه في داخله اعتراف بأنه أخطأ ولكن شجاعته تكون بإعلان هذا الاعتراف الداخلي، وبذلك يكون شجاعًا مع نفسه أولًا، ثم شجاعًا مع الآخرين.
وأضاف فضيلته أنه إذا أخطأ الإنسان، ونبهه الآخرون إلى خطئه، وأنه قد وقع في الخطأ فعلًا، ولكنه يرى أنه على صواب، فإن هذا يعد ظلمًا للنفس، لكن إذا اعترفت النفس لك بالخطأ، فإن الشجاعة تكون هي القدرة على التعبير عن هذا الاعتراف، متسائلًا: متى رأينا مسؤولًا كبيرًا يعترف بخطئه شخصيًا أو خطأ مؤسسته وفريقه؟، مشيرًا إلى أن المسئول ربما يعتقد أن اعترافه بالخطأ يُسقط قيمته أو ينزلها، بينما الواقع يشير إلى أن هذا ربما يكون مدعاة لآلاف المقالات التي تشيد بهذا الموقف، فضلًا عن أنه سيكون قدوة لكثير من الناس، سواء للزوج بأن يعترف بالخطأ مع زوجته أو العكس، أو للابن بأن يعترف بالخطأ مع أبيه أو العكس، أو للموظف بأن يعترف بالخطأ مع رئيسه أو العكس، بحيث تصبح ثقافة معرفة الخطأ جوهرية وتؤثر في ضبط علاقتنا مع الآخرين.
وذكر الدكتور العودة أن الشجاعة لا تكون مرتبطة فقط بحرب أو بظروف خاصة ولكن هناك الشجاعة اليومية؛ فالشجاعة خلق نبيل، مثل الكرم والوفاء والعفة، مشيرًا إلى أن الشجاعة لا تطلق على معنى مذموم؛ ولذلك فإن صفات مثل: التردد والتهور والاندفاع المفرط ليست بشجاعة ولا يوصف صاحبها أو من تنطبق عليه بأنه شجاع، فالشجاعة هي وسط بين رذيلتين كما يقال، لافتًا إلى أن كون الإنسان يكون عنده هذه القدرة على التصحيح، والاعتذار، فإن هذا تراكم لا أقول يومي بل لحظي، فالشجاعة ليست شيئًا نحصل عليه دفعة واحدة وإنما هو شيء نبنيه نحن لبنة لبنة.
وتعقيبًا على مداخلة، تقول: هناك أمور معينة يمكن أن يقوم بها الإنسان فتخذله الشجاعة الأدبية مع الآخرين، قال الشيخ سلمان: إنه على الإنسان أن يتحلى بالشجاعة، وعلى سبيل المثال، فإذا كان هناك طالب يريد أن يسأل أستاذًا أو شيخًا أو محاضرًا، تجد أنه يتردد، وخاصة إذا كانت الأسئلة مباشرة، لكن إذا كان السؤال مكتوبًا، فإنه يمكن أن يكتب وقد يكتب بلغة مختلفة، وذلك بخلاف ما إذا كان الإنسان يواجه الآخرين وجهًا لوجه، فربما يكون عنده تردد في القدرة على التعبير أو القدرة على السؤال، ولذلك فإنه لابد أن يتحلى الإنسان بشجاعة السؤال.
وتعقيبًا على مداخلة تقول: إن الكثير من المواقف تحتاج شجاعة من رجل ما ليقوم ويصدح بكلمة معينة، حتى وإن كانت الجماهير كلها تخالفه، إلا أن التاريخ يذكر له ذلك، قال الشيخ سلمان: لقد كنت أفكر: من الأكثر حاجة إلى الشجاعة، وأيهما أدعى أن يخاف منها: الجماهير أم الحكومات؟، فوجدت أن هذا ربما يختلف من مجتمع لآخر، وذلك لأن بعض المجتمعات تحكمها حكومات شمولية أو مستبدة، وعلى سبيل المثال، فإن كلمة ربما تقول لصاحبها دعني أو تكون سببًا في مصادرة حريته أو غيابه أو قتله -أحيانًا- وهذا يحدث -أحيانًا- بعيدًا عن المحاكم، وبعيدًا عن القانون والإعلام، حيث هناك حالات كثيرة ينطبق عليها هذا، خاصة في عالمنا العربي، لافتًا إلى أن مواجهة مثل هذه الأمور تتطلب قدرًا من الشجاعة غير عادي، لكن العادة أن الشعوب لا تواجه مثل ذلك، فالذي يحدث في الغالب أن الناس يخرجون من تلك المجتمعات ويذهبون إلى مجتمعات تمنحهم حرية ثم يتكلمون بطريقة لا تعدّ شجاعة، لأنهم بعيدون عن موضع الخطر، وربما هذا الإنسان الذي ابتعد ونأى لم يكن شجاعًا مع نفسه، فأصبح عنده حالة غضب أو ثأر أو انفعال أبعدته عن أن يكون عادلًا أو صادقًا، لأن الصدق قرين الشجاعة.
وضرب فضيلته مثالًا لذلك، بقصة كعب بن مالك -رضي الله عنه- في اعتذاره عندما تأخر عن الغزو، مما يدل على أنه من دون صدق فإنه ليس هناك شجاعة حقيقية، ولكن عندما تمنح الحكومات شعوبها قدرًا معتدلًا أو هامشًا من الحرية فإن الإنسان يبدأ يفكر بأن صول العامة -أحيانًا- أشد من صول السلطان، لأنه يكون هناك حالات من الأذى بشكل آخر، فقد تجد أن أحدًا مقربًا منك لا يتفق مع هذا التوجه فيقع منه الأذى، ولذلك فإن الجاحظ يقول: "تأملت الذين يُقدمون على القتل فوجدتهم ثلاثة: إما متدين، أو غيران – ونحن نعرف أن العشق والعاشقين لهم حالات كثيرة جدًا من الاندفاع- أو رجل يريد أن يدفع ضيمًا عن نفسه لشعوره بضيم أو قهر داخلي، فتقع منه الشجاعة".
وأكد الشيخ سلمان على أهمية أن يكون عند الإنسان القدرة على الصبر، مشيرًا إلى أن الإنسان ليس مطلوبًا منه أن يتعرّض كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُ»، هذا مؤكد، ولكن أحيانًا الإنسان يسأل نفسه أيضًا: لو أن الإنسان رضي عنه الخلق كلهم، فماذا يكون أضاف إلى نفسه؟، فربما يكون قد حقق شيئًا بسيطًا، لكن لم يقدم أو يضف للحياة معنًى جميلًا، وهذا يؤكد أن مجرد الرضا ليس مطلبًا بذاته، كما أن أشخاص الناس لا يجب أن تكون مطلبًا لذاتها، ولكن المقصود هو التأثير على الآخرين وإيصال الخير لهم وزرع الأمل في نفوسهم، أو أعطاء أفكار جديدة لهم، وأحيانًا ربما لا يتقبلونها، موضحًا أنه على الإنسان أن يكون عنده توازن ما بين الحق الذي يؤمن به وما بين القدْر الذي يتحمله، وعلى سبيل المثال، فإن هناك كلمة تقول: "ليست الشجاعة أن تقول كل ما تعتقد ولكن الشجاعة هي أن تعتقد كل ما تقوله".
سلمان العودة.. وقناعة داخلية
وردًّا على سؤال يقول: كم مرة تعتقد أن سلمان العودة كان شجاعًا في مواجهة أي من التيارين هنا وهناك، قال الشيخ سلمان: إنني لا أسميها شجاعة، ولكن ربما عدم تقدير -أحيانًا- للعواقب، فلو توقع الإنسان ماذا سيحدث ربما يقول لم يكن هناك داعٍ.
وتعقيبًا على مداخلة، تقول: إن السعودية بالذات يوجد بها احتدام يصل إلى القلق أو على الأقل شيء من حراك غير إيجابي يحتاج أحيانًا شجاعة، قال الشيخ سلمان: إنه لا يوجد أحد الآن في هذا الجانب يمتدح بالشجاعة، وذلك لأن هناك قدرًا من الحراك والحرية التي تسمح للإنسان أن يكتب أو يتكلم، كما أن الناس اليوم منقسمون، وعلى سبيل المثال، فإنك عندما تقدم رأيًا تجد الذين يؤيدونه أضعاف الذين يعترضون عليه، مشيرًا إلى أن بعض الذين يعترضون بسبب طريقتهم في الاعتراض، وخاصةً في توظيف المعنى الشرعي، تكون هناك مدعاة للإنسان أن يتألم، ولكنني وجدت أن الصلة بالله حتى لو كانت في ركعة أو سجدة قليلة تمنح الإنسان هذا القدر من الشجاعة، لأن الإنسان الذي يزايد على صلتك بالله أو يهددك بالآخرة أو بالوعيد هو ليس منفردًا بالصلة بالله سبحانه وتعالى.
ولكنك تملك ذلك أيضًا وتستطيع أن تأخذه مباشرة، بأن تتجه إلى الله تعالى مباشرة بدون واسطة من فلان أو علان، وهذا يمنح الإنسان سكينة داخلية، وخاصةً عندما يكون الإنسان عنده قناعة داخلية ليس فقط بما يقول، ولكنه مؤمن بما يقوله، وكذلك عنده قناعة داخلية بأن القدر الذي قاله هو معقول ليس فيه نوع من الإطاحة بالمجتمع أو التسرع أو خطأ الحسابات، ومع ذلك الإنسان بشر، يخطئ ويصيب.
وتعقيبًا على مداخلة من مشاركة في الموقع الإلكتروني تقول: إن المرأة العربية جُبلت على الخنوع والخضوع والطاعة والسير بجوار الحائط حتى لو كانت على حق، في حين أن الأمر يجب أن يكون عكس ذلك، قال الشيخ سلمان: إن الأخت الكريمة صاحبة المداخلة تستحق أن توصف بالشجاعة، وليس أدل على شجاعتها من هذا البوح الذي باحت به، مشيرًا إلى أن الشجاعة في النساء مثلها في الرجال، في مجالها ونمطها وسياقها الحياتي، كما أن الكثير من النساء تملك الشجاعة داخل بيتها، ومع زوجها، وأهلها، أما مع المجتمع فإن المرأة ربما أضعف من أن تواجه أحيانًا المجتمع بأشياء غير مألوفة حتى لو كانت صحيحة، ولذلك فإن الأمر ليس فصلًا بين الرجل والمرأة، فالله -سبحانه وتعالى- جعل المسئولية مشتركة، يقول تعالى: (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(آل عمران: من الآية195).
وأضاف فضيلته: كما أن المدافعة عن الحقوق، سواء كانت حقوق المرأة أو الرجل، هي معنى مشترك، يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(التوبة: من الآية71)، مشيرًا إلى أنه ليس مطلوبًا أن يكون المجتمع منشطرًا إلى قسم أنثوي وقسم ذكوري، وكل طرف يهاجم الطرف الآخر، ولكن ينبغي أن نبتكر نحن نوعًا من التعاون بين هؤلاء الناس جميعًا؛ رجالهم ونسائهم، يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(التوبة: من الآية71).
وتعقيبًا على تقرير الحلقة، والذي تحدث بأن الغش التجاري في العالم العربي تسبب في خسائر تقدر بـ"خمسين مليار دولار"، قال الشيخ سلمان: إن الغش التجاري أو الفساد الإداري أو المالي، هو بمثابة نماذج تظهر فيها الشجاعة، حيث يجب على الإنسان أن يكون عنده شجاعة أن يواجه رئيسه بوجود حالة غش أو فساد، وكذلك فإنه من الشجاعة أن يكون عند الإنسان القدرة على الحديث عن أصحاب القضايا الذين يتعرضون لنهب أو سلب أو حالات غش، والقدرة على مواصلة القضية، ليس من باب نفع الذات؛ ولكن من باب الرقي بالمجتمع وصناعة الوعي عند الناس.
وأضاف فضيلته أننا بحاجة إلى تأكيد معنى الشجاعة التي هي العدالة والصدق مع النفس، والحكمة والاعتدال في مواجهة عيوب وسلبيات داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، أو مواجهة ممارسات لا تتفق مع الشريعة، ولا مع الواقع أو المصلحة، ولكن ربما تحولت إلى عادة عند الناس، وأصبحت عرفًا جاريًا بينهم، وعلى سبيل المثال، فإن كثيرًا من الناس عندما تعاتبه يقول لك: "هذا شيء طبيعي.. كل الناس يعملونه"، أو يقول: "ليس هناك ضرر على أحد"، مؤكدًا أننا بحاجة إلى تراكم شجاعة معتدلة في هذا الخصوص، وليس فقط من جهات رسمية، ولكن شجاعة الإعلام، والنقد، وشجاعة الفرد العادي في التوجيه، وكذلك شجاعة الإنسان في الاعتذار من الخطأ.
وفيما يتعلق بأن البعض يرى أن من صور الشجاعة ما يقوم به البعض من نشر الذعر في المجتمع ويعتبرونها (مرجلة) وانتزاع الحق باليد، وهو ما يمكن أن نسميه بـ"شجاعة الإجرام" وأخذ الأشياء كلها عنوة، قال الشيخ سلمان: وذلك مثل الفتوّات في روايات نجيب محفوظ وغيرها، حيث كثيرًا ما يتحدث عن مثل هذه النماذج، والتي تمثل أحيانًا حالة من الإجرام، لافتًا إلى أن الإنسان في هذه الحالة لا يوصف بالشجاعة، كما أنه من الخطأ أن تعتبر هذه شجاعة، فبعضهم يقول: "هذه جرأة"، ولكن هناك فرق بين الجرأة وبين الشجاعة، فالشجاعة أكثر أخلاقية كما أن فيها نوعًا من العقلانية، بينما الجرأة هي اندفاع قد لا يكون مدروسًا، وقد لا يكون في مكانه الصحيح، وتكون شجاعة الإنسان كما تريد النفس وليس شجاعة كما يريد الحق وكما يقتضي العدل والصواب، كما أن الشجاعة ممارسة ذاتيه، وعلى سبيل المثال، فقد كان هناك رسّام كان يرسم وأمه لا يعجبها أن يرسم وهو مصرّ على الرسم، وكانت الأم في كل مرة توبخه وتعاتبه، وفي مرة من المرات وبخته بشدة فرسم ونام وهو متردد بين ممارسة هواية ذاتيه مباحة وبين طاعة أمه، فرأى في النوم أنه ينتحر.
وعندما صحا من النوم سأل أحد المعبرين قال له: إن ذلك يرجع إلى أنك خلال ممارستك لشيء مرفوض أسريًا أو عائليًا، فإنك في هذه الحالة كأنك تنفصل عن مجتمعك، وهذا الانفصال هو نوع من العزلة والموت، بينما الحياة في التواصل مع الناس من حولك، سواء مع والدتك أو أسرتك، وهذا لا يتم إلا بترك أمر أنت تريده وتختاره، وكأن الإنسان في هذه الحالة يكون في خيار ما بين ممارسة ما يحب ويهوى وما بين طاعة من حوله، وهذا بالطبع يحتاج إلى قدر من الوعي.
وردًّا على سؤال يقول: كيف يمكن للإيمان أن يغرس الشجاعة في نفوسنا؟، قال الشيخ سلمان: إن الأمر هو عبارة عن محاولة وتراكم، ومع الوقت عندما يتحوّل الإيمان إلى إجراءات عملية ومواقف يومية، فإن الإنسان في موقفه الآني وفي اللحظة التي يعيشها يحاول أن يستدعي الإيمان ليكون عاصمًا من اليأس، فلا يقدِم على ما لا يجمُل ولا يليق، كما يستدعي الإيمان ليكون معززًا للصبر والثقة فيُقدم الإنسان ويثبّت قدميه ويمضي في شيء، وكما يقول الشاعر:
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا صحّ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُراب
وفي هذا تقدير لقيمة الإنسان، وذلك بدلًا من أن يكون الإنسان فقط ترسًا في آلة، أو رقمًا في عديد، يحاول الإنسان أن يعطي لنفسه قيمة ذاتيه من خلال إيمانه بالله، مشيرًا إلى أن الإيمان يعزز قيمة الإنسان الذاتية حتى ضمن المجتمع، فهو لن ينفصل عن مجتمعه ولن يتمرد، فالشجاعة ليست حالة تمرد على المجتمع، كما أنها ليست حالة ثورة مطلقة ورفض لكل شيء أو تحطيم لقيم ومعانٍ سامية باقية، ولكن الشجاعة هي أيضًا إعطاء النفس قدرًا من الاستقلال والمسئولية.
وتعقيبًا على مداخلة من مشارك، يتحدث عن الشجاعة بوصفها الوقوف مع النفس، وعن المحاسبة، وكيف كنا مُغرقين في الدنيا، قال الشيخ سلمان: إن هذا له علاقة ببداية العام الهجري الجديد، فالوقوف مع النفس وإن كنت أرى أنه ليس شيئًا سنويًّا يتردد، إلا أن الوقوف مع النفس شجاعة، والشجاعة هي موقف يومي بل لحظي، ولذلك فإنه على الإنسان باستمرار أن يكون يقظًا مع نفسه، مشيرًا إلى أنه ليس هناك من شيء يضر بالآخرين مثلما تكون الغفلة عن النفس، فالإنسان ربما يكون مشغولًا بدنيا أو بخير أو بعلم أو بدعوة، ولكنه مشغول حتى عن نفسه، فلا يراقب نفسه، ولا يعرف حقيقة الدوافع؛ ولذلك فإن عمر -رضي الله عنه- كان يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزينوها قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر، يقول تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة:18)".
وأوضح الدكتور العودة أنه لا بأس أن يبني الإنسان عمارة أو دولة.. ليكن ذلك، أو يجمع المال، وليكن مليارديرًا، فلا حرج في ذلك "فنعم المال الصالح للرجل الصالح"، ولكن هذا يجب أن لا ينسيه الصلة بالله -سبحانه وتعالى-، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ)(الحج:من الآية 77)، وأن لا ينسيه فعل الخير، يقول تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج:من الآية 77) )، ويقول أيضًا: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (القصص:17)، حيث يجب محاسبة النفس قبل الموت وقبل حياة البرزخ، وهي حياة الناس في قبورهم قبل الآخرة، يقول تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة:18)، والبناء للدنيا والآخرة، فهما ليسا شيئًا منفصلًا؛ فالدنيا مزرعة الآخرة، والإنسان يمكن أن يعمل للدنيا بجهده، ومع ذلك يكون هذا العمل مقدرًا للآخرة، والله -سبحانه وتعالى- يأجرنا ويثيبنا على العمل المصحوب بالنية الطيبة، وأن يستغني عن الناس، وأن يغني أولاده: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
الكاتب: الإسلام اليوم/ أيمن بريك الاحد 13 محرم 1432الموافق 19 ديسمبر 2010