الموعظة الثانية عشرة
التَّـوْبَـةُ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أياماً مَّعدوداتٍ)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه, وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله, أما بعد:
ما أحوجنا إلى التوبة!
لو تأملنا في حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنّ هذا الموضوع -موضوع التوبة- كان جزءًا من حياته اليومية صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم, ولهذا جاء في الصحيح أنّ رسولنا عليه الصلاة والسلام قال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة", وفي رواية "سبعين مرة", ليس عشر ولا عشرين ولا ثلاثين, مائة مرة صلى الله عليه وسلم, ولو قلت لأحد الناس الآن: هل تبت إلى الله في هذا اليوم؟ لنظر إليك نظرة استغراب واستنكار وقال لك: هل تتهمني بسوء!؟ هل رأيتني أزني؟ أم هل رأيتني آكل الربا؟ أم هل رأيتني أترك الصلاة؟
وما علم هذا المسكين أنّ نبيه صلى الله عليه وسلم في اليوم الواحد يتوب إلى الله مائة مرة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
بل الأعجب من ذلك أنه في المجلس الواحد مثل مجلسنا هذا, مجلس واحد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة, في المجلس الواحد انتبه! ليس في اليوم.
جاء عند أبي داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما -انظر إلى الصحابة كيف كانوا يدقّقون حتّى في شفاه النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "كنّا نعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة ربّ اغفر لي وتب علي إنّك أنت التواب الرحيم", كل واحد منكم يسأل نفسه كم مرّة طبقت هذا الحديث في حياتي؟ أني أكون في مجلس من المجالس وأستغفر الله مائة مرة, سبحان الله!, ولهذا قال علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "ما ألهم الله عبدًا الاستغفار وهو يريد أن يعذّبه", يقول الله سبحانه وتعالى ما يعذّب هذا الإنسان, إذا دائمًا الاستغفار على لسانه, أخذه من قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ), إذا الله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين ما يخاطب الكافرين, يقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ), فالتوبة من أسباب الفلاح, من أسباب النجاة, من أسباب الفوز التوبة إلى الله سبحانه وتعالى.
والغريب والعجيب أنّ بعض الناس يلعب عليه الشيطان! فإذا فعل ذنبًا مثلاً وقلت له: لماذا لا تستغفر الله؟, قال: أمس فعلت ويمكن أفعله بعدين لا أدري الله أعلم فأنا ما يسير أفعل الذنب ثم أتوب ثم أستغفر ثم أتوب ثم أفعل ذنب ثم.. قال: جاء رجل إلى الإمام الحسن البصري فقال له: "ألا يستحي أحدنا من ربّه يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب؟", ماذا قال الإمام الحسن البصري؟ قال كلمة عجيبة, كلمة من ذهب, قال: "ودّ الشيطان لو ظفر منكم بهذا", يعني هذه أمنية الشيطان, هذا هدف الشيطان أن يجعلك تيأس من رحمة الله سبحانه وتعالى, أنّك خلاص والله كما يقول بعض الناس يقول لك: السالفة خربانة خربانة خلاص يا معوّد استمر على الذنب! لا, هذا ليس صحيحًا, بل أنت عندما تستغفر الله سبحانه وتعالى وتتوب إلى الله وترجع إلى الله هنا تقهر الشيطان, تدمّر الشيطان, تحرق الشيطان, الشيطان لا يريدك أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى, طيب تب إلى الله الآن واستغفر, قال لك: نعود على هذا الذنب بعد شهر يمكن ما أعرف, طيب أنت الآن تب إلى الله لعلك تموت في هذه الأيام تموت على توبة.
فلهذا جاء في بعض الأحاديث, حديث رواه أبو داود والترمذي وقال الحاكم: إنّه على شرط مسلم, والحديث حسن حسّنه بعض العلماء من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ذكره الإمام النووي في رياض الصالحين, هذه كلمة حلوة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غُفرت ذنوبه وإن كان قد تولّى من الزحف", أنتم تعرفون التولّي من الزحف من الكبائر.
فأكثروا من الاستغفار, وأكثر من التوبة, وكما قال بعض السلف: "أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين". لأن الإنسان قد يُحرم من طاعات ومن عبادات بسبب ذنوبه ومعاصيه, فلهذا ينبغي علينا أن يكون هذا الموضوع -موضوع التوبة- جزء من حياتنا, ولا نعتقد أنّ التوبة هي خاصة فقط بأهل الفسق وأهل الفجور وأهل السجون, لا, التوبة يحتاجها كل مسلم من أن تُصبح إلى أن تُمسي يحتاج أن تدرّب لسانك, كما قال لقمان الحكيم لابنه, قال: "يا بني عوّد لسانك اللهم اغفر لي فإنّ لله ساعات لا يردّ فيها سائل".
والإمام الحسن البصري أوصانا وصيّة ذهبية قال: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي أسواقكم وفي طرقكم", حتى وأنت في الطريق وأنت في السوق وأنت في العمل أكثر من الاستغفار, "فإنكم لا تدرون متى تنزل مغفرة الله".
فعوّد لسانك على الاستغفار وانظر لنفسك أنّك محتاج إلى التوبة أنّك مذنب أنّك مقصِّر, لا تنظر لنفسك نظرة الكمال؛ وأنا الحمد لله أفضل من غيري؛ والحمد لله أصلّي وأقرأ القرآن وأقيم الليل وأصوم وأفعل وأفعل وعندي صدقات! لا, بل نحن بحاجةٍ ماسةٍ كل يوم إلى أن نتوب إلى الله سبحانه وتعالى وأن نستغفر الله جلّ وعلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم, وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين