د. محمد بن عبد الرحمن العريفي

لم تجر عادتي أن أكتب ذكرياتي، مع استمتاعي الكبير بقراءة ذكريات غيري، لكن بعض الأحداث تمضي أيامها وتبقى أخبارها، وتثبت أمام مجريات الزمان، ولا تستطيع حذفها في سلة المهملات! ولا يزال مرسوماً على جدار ذاكرتي صورة محمد!!

سافرت إلى دولة السويد قبل سنوات وبالتحديد في مدينة (مالمو) في جنوبها، في شهر رمضان، كان إقبال الناس على المسجد رائعاً تشعر أنهم – برغم بعدهم- جسد واحد، دخلت أحد المراكز الإسلامية للقاء بعض السويديين المسلمين، فرأيت غلاماً لم يتعد عمره خمس عشرة سنة، اسمه محمد، كان مجموعة من العجائب، هو من أصل صومالي وجنسيته سويدي، رأيته مقعداً مشلولاً على كرسي متحرك، وقد ربطت يداه في جانبي الكرسي لأنه مصاب بمرض في الأعصاب، فلا تزال تنتفض يداه بشكل دائم ولا يملك التحكم فيهما، يسمع، لكنه لا يتكلم، رأسه يهتز طوال الوقت.

أشفقت عليه لما رأيته، اقتربت منه، فهش في وجهي وبدأ يتبسم وينظر إلي ويود لو كان يستطيع أن يقوم، سلمت عليه فإذا هو لا يفهم العربية لكنه يفهم الإنجليزية والسويدية بطلاقة، إضافة إلى الصومالية، حدثته عن المرض وأجر المريض، وهو يهز رأساً موافقاً، كان أمامه لوح صغير عليه ورقة فيها مربعات صغيرة وفي كل مربع عبارة معينة مثل: (شكراً، أنا جائع، لا أستطيع، اتصل بصديقي...).

أخبرني أحدهم أنه إذا أراد شيئاً أشار بعينيه، فيضعون على رأسه حلقة دائرية تمتد منها عصا صغيرة فيحرك رأسه بين هذه المربعات حتى يضع طرف العصا على المربع المطلوب فيفهمون منه ما يريد!!

كان يتضح من عينيه أنه يتوقد ذكاء، طلب مني أن أساعده للسفر إلى أحد البلاد الإسلامية لطلب العلم! تحدثت مع أحد المقربين إليه، فأخبرني أن هذا الغلام داعية، قلت: كيف!! قال: وزارة الشؤون الاجتماعية خصصت له موظفين يخدمانه صباحاً واثنين يأتيانه مساء، فإذا جاءه رجل غير مسلم، طلب منه عن طريق الإشارة على هذه الورقة أن يتصل بصديقه فلان، فإذا اتصل الموظف بالصديق طلب منه أن يسأل صديقه: ما هو الإسلام؟ فيجيب الصديق على السؤال، فيحفظه الموظف ثم يشرحه لمحمد، ثم يطلب من الموظف أن يسأل الصديق عن الفرق بين الإسلام والنصرانية؟ فيجيب عن ذلك، حتى إذا فهم الموظف الكلام كله أشار له محمد إلى درج المكتب فيفتحه، فيجد كتباً عن الإسلام، فيأخذ منها ويقرأ، قد لا يستطيع محمد أن يأخذ بيد الرجل إلى آخر الطريق، لكنه على الأقل يوقفه على أوله.

شكرت محمداً على حرصه، وخرجت من المركز الإسلامي أجوب شوارع (مالمو) وأنا موقن أني لم أر إنساناً! بل رأيت جبلاً يربض على كرسي متحرك، جبل في همته، ورضاه بقدره، وصبره على مصيبته، وقدرته على التعايش مع واقعه، رأيت أقواماً- مسلمين- غيره في السويد، وغيرها، أكبر منه سناً، وأكثر منه مالاً، وأصح منه بدناً، ومع ذلك يعيشون عيش البهائم، يأكلون ويشربون وبتناكحون، وفي آخر الأسبوع يسكرون!!

وما أجمل قول ابن الجوزي: (من الناس من همه يناطح السحاب، ومنهم من همه ما يخرج من أسافله!) يعني الطعام والشراب فقط! كم يسافر الواحد منا ويلتقي بجموع من ملل شتى، ولعله ما فكر يوماً بدعوة من يلتقي به – مهما كان منصبه- إلى الإسلام، أو إهدائه كتباً يدعوه فيها إلى الإسلام، أو يوضح له حقيقة الإسلام وصورته الناصعة.

يقول أحد الباحثين الألمان: لو دخل إلى ألمانيا داعية إسلامي مفوه، ومُكّن من وسائل الإعلام، لأسلمت ألمانيا في شهر!!
فلماذا لا تكون هممنا عالية وحاجتنا غالية! وما ألطف اعتراض النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل الذي جاءه في حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم: ما حاجتك؟ قال: دابة أركبها، فأعطاه، ثم قال: وما حاجتك؟ قال: بيت أسكنه، فأعطاه، قال: وطعام آكله، فأعطاه، فسكت الرجل ورضي بهذه الحاجات! فقال صلى الله عليه وسلم أعجزت أن تكون كعجوز بني إسرائيل؟! قالوا: وما عجوز بني إسرائيل؟! قال: إن موسى لما أراد أن يرتحل ببني إسرائيل، قالوا له: إن يوسف عهد إلينا ألا نرتحل حتى نخرج جسده من قبره ونرتحل به معنا، فسألهم عن موضع قبره؟ فقالوا: لا يعرفه إلا عجوز منا، فسألها موسى عنه، فقالت: لا أدلك عليه حتى تعطيني حاجتي، قال: وما حاجتك؟ قالت: مرافقتك في الجنة، فأوحى الله تعالى إليه أن أعطها سؤلها، فأعطاها، فدلتهم على قبره، أفيعجز أحدنا أن تكون همته كهمة عجوز بني إسرائيل!

المصدر: مجلة حورية العدد الثامن
جمادى الأولى 1427هـ


منقول --