اقتضت حكمة الله - تعالى - بتعدد البلدان، وتنوع الأراضي، واختلاف الأجواء، وكان السفر هو الطريقة المثلى التي نتعرف من خلالها على حقيقة تلك الأحوال، ونشعر منه بذلك التنوع والاختلاف.
والسفر مع ما فيه من فراق الأوطان، وغربة الجسد، وابتعاد الأهل والأحبة؛ إلا أن فيه ما فيه من المنافع؛ إذ فيه "رؤية الآثار والعبر، وتسريح النظر في مسارح الفكر، ومطالعة أجزاء الأرض والجبال، ومواطئ أقدام الرجال، وفيه تجدد اليقظة، ويحصل الانتباه بتجديد العبر والآيات، وتتوفر بمطالعة المشاهد والمواقف الشواهد والدلالات {سنريهم آياتنا في الآفاق}"1، بل جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سافروا تصحوا، واغزوا تستغنوا))2.
ومع ذلك فلا يمنع أن تكون حقيقة هذا السفر كما قال - عليه الصلاة والسلام -: ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدَكم طعامَه وشرابَه ونومَه، فإذا قضى نهمته فليعجِّل إلى أهله))3.
فـ"قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((السفر قطعة من العذاب)) يريد - والله أعلم - تعبه ومشقته، والتألم فيه لشدة الحر والبرد والمطر قال الله - عز وجل -: {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ}4، ومنع ما يمنع من النوم والطعام والشراب على الوجه المعتاد"5، "ومكابدة الأضداد، والامتناع من الراحات واللذات"6.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن قضى أحدكم نهمته من وجهته)) قال ابن حجر - رحمه الله -: "أي من مقصده، وبيانه في حديث ابن عدي بلفظ: ((إذا قضى أحدكم وطره من سفره))، وفي رواية رواد بن الجراح: ((فإذا فرغ أحدكم من حاجته))7 قال الإمام البغوي - رحمه الله -: "أشار إلى السفر الذي له نهمة وأرب من تجارة أو تقلب؛ دون السفر الواجب كالحج والغزو"8.
فأما سفر الحُجاج والمعتمرين إلى بيت ربهم - جل وعلا - فإن لابن القيم كلاماً رائعاً نزفه إليهم إذ قال عند كلامه عن المحبة: "ومنها محبة دار المحبوب وبيته، حتى محبة الموضع الذي حلَّ به، وهذا هو السر الذي لأجله علقت القلوب على محبة الكعبة البيت الحرام، حتى استطاب المحبون في الوصول إليها هجر الأوطان والأحباب، ولذَّ لهم فيها السفر الذي هو قطعة من العذاب، فركبوا الأخطار، وجابوا المفاوز والقفار، واحتملوا في الوصول غاية المشاق، ولو أمكنهم لسعوا إليها على الجفون والأحداق.
نعم أسعى إليك على جفوني وإن بعدت لمسراك الطريق
وسر هذه المحبة هي إضافة الرب - سبحانه - له إلى نفسه بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}9.
قال الشاعر:
لما انتسبت إليك صرت معظماً وعلوت قدراً دون من لم ينسب
وكل ما نسب إلى المحبوب فهو محبوب"10.
ونخلص من هذا الحديث إلى ما قاله الإمام العيني - رحمه الله -: "مما يستفاد من الحديث كراهة التغرب عن الأهل بغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع، ولاسيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة؛ ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا؛ ولما فيها من تحصيل الجماعات والجمعات، والقوة على العبادات"11، وقد "جاءت هذه الشريعة بالأحكام الميسرة السمحة تحقيقاً لقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}12، وقوله: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}13، فلما كان السفر - غالباً - فيه مشقة وصعوبة، وأنه قطعة من العذاب؛ خفف فيه، ومن تلك التخفيفات: الرخصة في الفطر في نهار رمضان، وهي رخصة مستحبة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ))، وهى رخصة تعم الذي يناله بالسفر مشقة، وغيره ممن تكون أسفارهم راحة ومتعة، لأن الحكم للغالب.
وبمثل هذه الأحكام اللطيفة؛ نعلم مدى ما تراعيه هذه الشريعة الكريمة من تخفيف ورحمة، وملائمة للأوقات والظروف، بمطالبة الناس بقدر ما يستطيعون.
رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً"14، والحمد لله رب العالمين.

1 التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوى (2/98).

2رواه أحمد برقم (8932)، وانظر السلسلة الصحيحة برقم (3352).

3رواه البخاري برقم (1804)، ومسلم برقم (5070).

4 سورة النساء (102).

5 المنتقى شرح الموطأ (4/436).

6 المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/389).

7 فتح الباري تعليق ابن باز (3/623).

8 شرح السنة للإمام البغوى متناً وشرحاً (11/37).

9سورة الحج (26).

10 روضة المحبين (1/269).

11 عمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/447).

12سورة الحج (78).

13 سورة البقرة (185).

14تيسر العلام شرح عمدة الأحكام (1/292).





منقول ---