الإجماع الخامس : اتفق العلماء على كفر من ظاهر الكفار على المسلمين وأعانهم عليهم.
وبفضل الله فإن هذه المسألة من أوضح المسائل في كتاب الله تعالى والأيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وقد أفاض علماء الدعوة النجدية خاصةً في حديثهم عنها، وذكر تفاصيلها، بل تخصيص الكتب والرسائل المتعلقة بها، ولم تزل كتبهم وأقوالهم تُدرَس وتنشر وتؤكَّد وتردَّد ويعدّها الناس من المسلّمات التي لا يجرؤ أحدٌ على مسِّها أو دسِّها أو الاقتراب منها حتى إذا وقعت حكومة في هذه الورطة وغرقت فيها من الأَخْمَصِ إلى النَّاصية وكان أمرها فيها مفضوحاً فُرطاً انتصبت الأقلام واندلعت الألسن فصالت وجالت من هنا وهناك للتشكيك في هذا الحكم، وسفّت عليه سوافي الشبهات، وقامت بإدخاله قسراً وقهراً دائرة الأخذ والرَّد وأقحمته في مجلبة الخلافات التي لم يكونوا يرتضون فيها مجرَّد التعريض بها، فعلمنا بعدها أن كثيراً من تلك التقريرات والتأصيلات لم تكن مبنية على التجرد في محاولة الوصول إلى الحق، وإنما سلكت مسلك الممارة لمجاراة أهواء الطغاة ومحاولة سدِّ أي بابٍ يمكن أن يثبت من خلاله كفرهم وردتهم حتى وإن كان ما يقترفون من الكفر أجلى من شمس الصائفة.
وعلى كل حالٍ فليسلِّم مَن شاء بالإجماع المحكي أو لا يسلِّم، وليعترف به أو يجادل، وليقر به أو يعترض، فإن التصريح بكفر مَن ظاهر الكفار على المسلمين ليس بدعاً من قول المجاهدين، ولا هو من تخرّصاتهم وابتكاراتهم، ولم تنتجه حماستهم ولا عواطفهم، فأقوال العلماء الثقات المؤتمنين واضحة جلية تنطق بالحق في ذلك وتصرِّح بهذا الحكم، والمجاهدون ليسوا ممن يقلِّبون أحكام الشرع وينقلبون عليها، ويشقِّقونها ويحوِّرونها كلما أزعجت الطغاة المتجبِّرين، كما أنهم لا يعتمدون في تقرير أحكام الشرع تبعاً لميولات الناس واستجابة لعواصف عواطفهم، فإن الحق يُتَّبع ولا يَتْبَع، فكلُّ من يسوِّد الصفحات ويستل بالمناقيش كوامن الشبهات لأجل خلخلة هذا الأمر فعليه أن يبدأ أولاً بما سطرته أنامل العلماء الأمناء الذين كتبوا ما كتبوا ولم يلتفتوا إلى رضا طاغية، ولم يدفعهم الجبن والخور (وحب الدنيا وكراهية الموت) إلى التلاعب بأحكام الشرع، وما دام المجاهدون لم يُحدِثوا هذا الحكم أو يبتكروه إذاً فما عليهم من سبيل : {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الشورى/42].
فمن المعلوم مدى شدة بغض عوام المسلمين لليهود، وكرههم لكل ما له علاقة بهم، ومجرّد إطلاق لفظ (يهودي) يعد عند المسلمين كافةً سبةً كفيلة بأن تستثير الكامِن وتغضب الحليم، فلذلك فلا تكاد تجد عالماً واحداً إلا وهو يشن عليهم الغارة –حتى هذه اللحظة – ويصرِّح بقبح التعامل معهم، كما حصل في البيان المتعلِّق بإغلاق ممر رفح إبَّان حرب غزة الأخيرة، والتي وقّع كثيرٌ من العلماء ومن سائر بقاع الأرض على كفر مَن يظاهر اليهود ويعينهم على ما يقومون به من جرائم، وأسهبوا في ذلك وأطنبوا، واستدلوا بأقوال العلماء ولم نسمع شيئاً من التخرّصات التي تولّدت في حق مسألة المظاهرة، والتي لو أراد المرء أن يطبّقها على ما فعل طاغية مصر من (مجرد) إغلاق ممر رفح لوجد له من الأعذار (المقنعة) أضعاف أضعاف ما يختلق ويُتكلّف في اصطناعه وإحداثه حينما يصل الأمر إلى مظاهرة الأمريكان الكفرة على المسلمين في أفغانستان أو العراق أو الصومال أو اليمن أو غيرها، حيث المظاهرة الجلية العلنية الفاضحة الواضحة التي لا تخفى على الأعمى وهي لا تتعلق بمجرد إغلاق ممر، فما لكم كيف تحكمون : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}[القمر/43]
قال الإمام أبو محمد بن حزمٍ : [فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها، من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه ومن إباحة ماله وانفساخ نكاحه وغير ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم...وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر، أو لقلة مال، أو لضعف جسم، أو لامتناع طريق فهو معذور، فإن كان هنالك محارباً للمسلمين معينا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر]( المحلى:11 / 200).
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- وهو يعدد نواقض الإسلام : [الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى : {ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .]اهـ
وقال العلامة أحمد شاكر –رحمه الله- في رسالته المطوّلة والمفصلة للأمة المصرية خاصة والإسلامية عامة : [أما التعاون مع الإنجليز, بأي نوع من أنواع التعاون, قلّ أو كثر, فهو الردّة الجامحة, والكفر الصّراح, لا يقبل فيه اعتذار, ولا ينفع معه تأول, ولا ينجي من حكمه عصبية حمقاء, ولا سياسة خرقاء, ولا مجاملة هي النفاق, سواء أكان ذلك من أفراد أو حكومات أو زعماء. كلهم في الكفر والردة سواء, إلا من جهل وأخطأ, ثم استدرك أمره فتاب وأخذ سبيل المؤمنين, فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم, إن أخلصوا من قلوبهم لله لا للسياسة ولا للناس .
وأظنني قد استطعت الإبانة عن حكم قتال الإنجليز وعن حكم التعاون معهم بأي لون من ألوان التعاون أو المعاملة, حتى يستطيع أن يفقهه كل مسلم يقرأ العربية, من أي طبقات الناس كان, وفي أي بقعة من الأرض يكون .
وأظن أن كل قارئ لا يشك الآن, في أنه من البديهي الذي لا يحتاج إلى بيان أو دليل: أن شأن الفرنسيين في هذا المعنى شأن الإنجليز, بالنسبة لكل مسلم على وجه الأرض, فإن عداء الفرنسيين للمسلمين, وعصبيتهم الجامحة في العمل على محو الإسلام, وعلى حرب الإسلام, أضعاف عصبية الإنجليز وعدائهم, بل هم حمقى في العصبية والعداء, وهم يقتلون إخواننا المسلمين في كل بلد إسلامي لهم فيه حكم أو نفوذ, ويرتكبون من الجرائم والفظائع ما تصغر معه جرائم الإنجليز ووحشيتهم وتتضاءل, فهم والإنجليز في الحكم سواء, دماؤهم وأموالهم حلال في كل مكان, ولا يجوز لمسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أن يتعاون معهم بأي نوع من أنواع التعاون, وإن التعاون معهم حكمه حكم التعاون مع الإنجليز: الردة والخروج من الإسلام جملة, أيا كان لون المتعاون معهم أو نوعه أو جنسه .]اهـ.
وكلام هذا الإمام في هذه الرسالة في غاية القوة والوضوح والصراحة والتفصيل وقد دوّنه بأسلوبٍ سهلٍ وطريقةٍ ميسرة يستوعبها العامي أحرى العالم، وقد نفى عن نفسه أن يكون أثناء كتابته هذه الفتوى المحكمة قد مسه شيء من الغبش أو الالتباس، فليس ما يدونه هنا سبق قلم، ولا عبارات تهييج عاطفية ولا ردة فعل حماسية بل كتب تلك الأحكام وهو في (كامل قواه العقلية والعلمية)، حيث يقول : [وقد قلنا : (يجب على كل مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أن يحاربهم وأن يقتلهم حيثما وجدوا، مدنيين أو عسكريين)، ونحن نقصد إلى كل حرف من معنى هذه الجملة]اهـ.
وهي فتوى ذاعت وشاعت من لدُن إصدارها وإلى يومنا فدواعي انتشارها كفلية بأن توصلها إلى أقصى المشرق وأقصى المغرب، وقد قرأها العلماء وأخرجتها المطابع وأفردت وألحقت فما رأينا منها امتعاضاً ولا عليها اعتراضاً يذكر، بل والله إنه لذكر فيها ما هو أشد من مجرد المظاهرة التي هي الإعانة، فأعطى الحكم عينه لِمَن سالمهم فلم يحاربهم!، وحقيقةً أنا لم أستوعب وجه هذه الفقرة استيعاباً تاماً حيث يقول –رحمه الله- : (ألا فليعلم كل مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أنه إذا تعاون مع أعداء الإسلام مستعبدي المسلمين, من الإنجيليز والفرنسيين وأحلافهم وأشباههم, بأي نوع من أنواع التعاون, أو سالمهم فلم يحاربهم بما استطاع, فضلا عن أن ينصرهم بالقول أو العمل على إخوانهم في الدين, إنه إن فعل شيئا من ذلك ثم صلى فصلاته باطلة...إلخ)اهـ.
فليشرق بذلك دعاة التطبيع والتمييع، فما هي من جعبتنا وإنما من كنوز الإمام المحقق المحدث الفقيه القاضي المفتي الأديب العلامة أحمد شاكر، أليس كذلك؟ شكر الله له صدعه بالحق، وأبقى كلامه شوكةً في حلوق المتميعين المتلاعبين بالشرع.
ومن المعلوم أن الشيخ كان يتحدث عن واقع شبيه بما يعيشه المسلمون اليوم في كثير من بقاع الأرض، وما عليك إلا أن تضع كلمة (الأمريكان) بدل قوله (الإنجليز) أو (الفرنسيين) لتجد محلّ الكلام متطابقاً ووصف الحال متوافقاً، وتأمل كلامه مثلا على الفرنسيين وقوله : (وهم يقتلون إخواننا المسلمين في كل بلد إسلامي لهم فيه حكم أو نفوذ, ويرتكبون من الجرائم والفظائع ما تصغر معه جرائم الإنجليز ووحشيتهم وتتضاءل, فهم والإنجليز في الحكم سواء, دماؤهم وأموالهم حلال في كل مكان)اهـ.
أليس هو حقيقة ما فعله ويفعله الأمريكان والإنجليز وأحلافهم في أفغانستان والعراق، واليهود في فلسطين وهلمَّ جرا، وما معنى كلامه –رحمه الله- دماؤهم وأموالهم حلال في كل مكان؟!!!، وليرجع كل منصف إلى ما كتبه هذا الإمام وليرَ هل تجاوز المجاهدون في هذه المسألة مما قاله شيئاً، أم أن هذا الكلام الجريء القوي كان خاصاً بحقبة الاجتياح الغربي لبلدان المسلمين (الاستعمار) حينما كان القتل همجياً عشوائياً وحشياً، أما الاستعمار الحالي الذي يستظل بقرارت مجلس الأمن، ويتدثر بدثار الأمم المتحدة، ويلتحف لحاف (حفظ السلام)، فلا تثريب عليه لأن قتله للمسلمين إنما يقع (بالصورايخ الذكية)، مع أن ما يرتكبه من الجرائم والعظائم يساوي أو يفوق ما تحدث عنه العلامة أحمد شاكر رحمه الله.
وقال الشيخ سليمان العلوان – فك الله أسره- : [وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على أن مظاهرة الكفار على المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال والذب عنهم بالسنان والبيان كفر وردة عن الإسلام قال تعالى "ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" . وأي تولٍ أعظم من مناصرة أعداء الله ومعاونتهم وتهيئة الوسائل والإمكانيات لضرب الديار الإسلامية وقتل القادة المخلصين]اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- : [وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم](مجموع الفتاوى والمقالات: 1/274).
وهي من أكثر المسائل طرقاً في هذه الحرب الصليبية، إلا أنها تتعرض اليوم لهجمة تطويعية تمييعية شعواء شنعاء يراد بها إدخالها في سراديب الشبهات والمناقشات، ليسلم بعد ذلك الطغاة المظاهرون للكفار على المسلمين، فأبشر بطول سلامة يا مربع!
فهذه إجماعات خمسةٌ متعلقة بالواقع الشرعي الذي ينطلق منه المجاهدون، والأحكام الشرعية التي تنص عليها تلك الإجماعات يدعمها الكثير من أدلة الكتاب والسنة، وهي مشهورة ومتداولة، ولكن لم نرد الإطالة بذكرها، فليس شيء من هذه الأحكام مستخرجاً من (كيس) المجاهدين، ولا نحتته أفكارهم أو أنتجته فتاوى ساحاتهم، ولا ولدتها ردود أفعالهم وحماسهم وانفعالاتهم.!!!
بل كثيرٌ من العلماء كانوا أصرح الناس ذكراً لتلك الأحكام وبياناً لها ورداً على من يعرِّض بها فضلا عن الاعتراض عليها، فإذا بهم اليوم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً يتخذون عين الشبهات التي كانوا يفندونها دخلاً بين تلك الأدلة والإجماعات محاولين ما استطاعوا نقضها وتحريفها عن وجهتها، وما أسهل أن تردّ عليهم بأقوالهم التي لم تزل شاهدةً بما كانوا عليه مما يناقض من كل وجهٍ ما صاروا إليه، إذاً فما الذنب ذنب المجاهدين الذين بقوا مستمسكين بالأصل سائرين عليه وإنما اللوم على مَن بدَّل وغيَّر، وتعلَّق بما كان يُميته من التهويش، وليس عليهم أن يكونوا إمعات إن أحسن الناس أحسنوا وإن أساءوا أساءوا كما يروى : (لا تكونوا إمعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنا و إن أساءوا أسأنا و لكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا و إن أساءوا أن لا تظلموا).