الســلام عليكم ورحمة الله وبركــاته
.........................................
لو كانَ تمنّي الموتِ سائغاً شرعاً لما وسعَ الأحرارُ إلاَّ أنْ يتمنّوا توسُّدَ الثرى حتى لا يبصروا ما جرى في غزَّةَ الصامدةِ المقاومةِ وللهِ المشتكى وحدَه، وحيثُ إنَّ مجرَّدَ الشكوى طبعٌ جبانٌ ما لمْ يُصحبْ بعملٍ وثابٍ وروحٍ متفائلةٍ حتى تخرجَ الأمَّةُ منْ سنواتِ تيهِها التي طالتْ وما ذلك على اللهِ بعزيز، ولأجلِ ذلكَ لا مفرَّ منْ النَّظرِ إلى هذهِ المعركةِ الجديدةِ في سياقِ التفاؤلِ والاعتبارِ والتخطيطِ للمستقبلِ متجاوزينَ العقبةَ الكوؤدَ المتمثلةَ بأسرِ الماضي المؤلمِ وتقييدِ الواقعِ الحزينِ منْ غيرِ إهمالٍ لهما والأمرُ للهِ وحدَه ليبتليَ عبادَه ويُمحصَّهم للغيبِ الذي لا يعلمه إلاّ هو سبحانه.
ولقدْ كانَ القطاعُ العزيزُ في محنتهِ كاشفاً لعدَّةِ أشياءَ منها:
أولاً: تزكيةُ المنهجِ الإسلامي الذي يأبى الضيمَ وينشدُ الحريةَ ولا يرضى بالهوان؛ ففرقٌ كبيرٌ بينَ تعاملِ الأعداءِ معْ "عباس" وتعاملهم معْ حماس المنحوتةِ منْ حركةِ المقاومةِ الإسلامية؛ ولا غرابةَ فقدْ يكونُ "عباس" منحوتاً منْ عميلِ البغي الإسرائيلي.
ثانياً: أنَّ الشارعَ الفلسطيني والإسلاميَّ مناصرٌ للتوجهاتِ الصادقةِ المنطلقةِ منْ الدِّينِ الصحيح، ولو أجريتْ انتخاباتٌ نزيهةٌ في بلدانِ المسلمين لفازَ في أكثرِها حملةُ الشريعةِ ودعاةُ الفضيلة، ولذا أحجمتْ أمريكا عنْ فرضِ "الديمقراطية" في الشرقِ الإسلامي حينَ رأتْ ثمارَ تطبيقاتِها اليسيرة.
ثالثا: لازالَ في المسلمينَ حياةٌ وبقيةٌ منْ حياةٍ لمْ تقضِ عليها الشبهُ والشهواتُ المبثوثةُ في كلِّ زاوية؛ وقدْ رأينا المظاهراتِ الغاضبةَ تعمُّ بلدانَ المسلمين حتى العراق المحتل، وهذا دليلٌ على وحدةِ شعورِ المسلمين ورغبتِهم في نفضِ غبارِ الذُّلِ المتراكمِ؛ إضافةً إلى الانفكاكِ عن المواقفِ السياسيةِ والخلافاتِ بين الأنظمةِ والأحزاب.
رابعاً: كشفَ لنا القطاعُ انقطاعَ عباسٍ وزمرتهِ عنْ همومِ أهلِ فلسطين وانفصالِهم عنْ الجسدِ الفلسطيني المثخنِ بالجراح؛ ولقدْ كانتْ تصريحاتُ عباس ورجالِه عاراً لا يُغسل إلاَّ بنزعِ أيِّ شرعيةٍ يتمتعونَ بها، وإلاّ فمَنْ يقبلُ اتهامَ المقاومةِ بالعبث؟ ومَنْ يرضى بالتشفي منْ القطاعِ وأهلِه وهم الجيرانُ وبنو العم؟ والواجبُ الشرعيُ على حماس أنْ تسارعَ بفضحِ هؤلاءِ المجرمينَ بالوثائقِ الثابتةِ غيرةً للهِ ثمَّ لحقِّ الشعوبِ الإسلاميةِ والتاريخ.
خامساً: وممَّا قطعَ القطاعُ الظنَّ منهُ باليقينِ موقفُ الحكوماتِ العربيةِ القبيحِ منْ الحدثِ برُّمته؛ فقد أمستْ القاهرةُ مقهورةً بتصريحِ اليهوديةِ وإعلانِها الحربَ منْ أرضِ الكنانةِ التي يمتازُ شعبُها بالغيرةِ والنَّجدةِ والحمية؛ وزادَ الطينَ بلِّة سكوتُ المسؤولينَ المصريينَ عنْ تصريحاتِها فلمْ ينبسوا ببنتِ شفه! ولو كانَ المسؤولُ يعقلُ لاستقالَ أو امتنعَ عنْ الخروجِ على النَّاسِ مكشوفَ الوجه أبدَ الدّهر! ولو أنَّ النِّظامَ المصري يستحي منْ شعبهِ المسلمِ لطردَ أولئكَ الساكتينَ عنْ الحقِّ الناطقينَ بالسوء، وما يُقالُ عنْ مصرَ ليس خاصاً بمصرٍ دونَ مصرٍ غيرَ أنَّ خطأ الكبيرِ موجع.
سادساً: أنَّ زعماءَ اليهودِ يلبونَ رغباتِ شعوبِهم، فقدْ أوضحتْ استطلاعاتُ الرأي تقدُّمَ "كاديما" الذي تقوده ليفني على الليكودِ لأولِّ مرَّة، وقدْ كانَ للوزيرةِ اليهوديةِ "ليفني" موقفٌ صلبٌ خدمةً لمعتقدِها وبلدِها، وهو ما يعجَزُ عنه بعضُ رجالِ أمتنِا ولو كانَ في سبيلِ المعتقد الصوابِ والمصلحةِ الراجحة.
سابعاً: يُسوِّغُ اليهودُ جرائمَهم كلَّ كرَّةٍ؛ ولا يرونَ بأساً في عدوانهم ولا حاجةً للاعتذارِ خلافاً للمسلمينَ الذي يعتذرونَ ممَّا لم يفعلوه أوْ لمْ يأمروا به، وعلى أيِّ حالٍ فالتسويغُ اليهوديُ للاعتداءِ أمرٌ طبعيٌ حتى معْ رفضِنا له؛ فهذهِ عادةُ المجرمينَ الصغار والكبار، ولكنْ كيفَ نُفسِّرُ التسويغاتِ العربيةَ للعدوان؟
ثامناً: ما أكذبَ الشعاراتِ البراقةِ المناديةِ بالحقوقِ والحريةِ والإخاءِ والحوارِ والتعايش؛ فها هيَ دولةُ إسرائيلَ تنسفُ بالحربِ كلَّ كلماتِنا الهزيلة؛ وتكتفي دولُ العالمِ بالصمتِ باستثناءِ أمريكا - ذاتِ الحذاءِ - التي تتفهمُ البشاعةَ اليهوديةَ ولا تُراعي أيَّ حقٍّ للزعاماتِ العربيةِ الصديقةِ ودولِ المنطقةِ "الحليفة". ويفضحُ الدعاوي العريضةَ تزامنُ الاعتداءاتِ معْ الاحتفالاتِ النَّصرانيةِ بميلادِ المسيحِ - عليه السلام - ورأسِ السنةِ الميلاديةِ وهيَ احتفالاتٌ عالميةٌ تبلغُ أوجها في أرضِ فلسطين فأيُّ نفوسٍ قبيحةٍ تلكَ التي تخلطُ الدِّماءَ والأشلاءَ معْ مقتضياتِ الاحتفالِ والبهجة؟
تاسعاً: ضرورةُ إحياءِ روحِ المقاومةِ والجهادِ ودفعِ العدوانِ في نفوسِ النّاشئةِ منْ شبَّانِ المسلمين وفتياتِهم؛ وتوسيعُ النَّظرةِ إلى مشروعِ حماسِ على أنَّه يتجاوزُ تحريرَ القطاعِ إلى تحريرِ بيتِ المقدسِ ولا يقفُ عندَه بلْ يمضي قُدماً لتحريرِ الإنسانِ المسلمِ والعربي منْ الضعفِ والاستكانةِ وانتزاعِ الأجيالِ منْ براثنِ المغرياتِ والملهياتِ إلى معالي المطالبِ لتكونَ غزَّةُ بوابةَ العزَّة.
وإنَّ لأهلِنا وشهدائِنا في غزَّةَ أسوة حسنة وقدوة مباركة في النَّبي الكريمِ - صلى الله عليه وسلم - وفي صحابتهِ البررة وسلفِنا الصالح؛ فمنْ جهادهم نستفيدُ لنقتديَ بصبرهم ومصابرتِهم ومرابطتهم، وندعُ الأمانيَ والملامةَ؛ فالحديثُ الآنَ للدِّماءِ الزَّكيةِ والأرواحِ الطاهرةِ والبلادِ الصامدةِ والسواعدِ المقاومةِ والأموالِ المبذولةِ والعقولِ المفكرةِ؛ حتى يستقيمَ الأمرُ وتزولَ الغمَّةَ ويأتيَ النَّصرُ فيشفي الله صدورَ قومٍ مؤمنين بتحقيقِ موعودهِ القريبِ لمنْ صبرَ واتقى وآمنَ وأحسن.
كتبه: أحمد العساف
منقول