الحلقه الرابعه
فلما طلعتِ الشمسُ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضبٍّ على يمين طريق النَّاس اليوم، وكان مِن أصحابه الملبِّى، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، وهى قرية شرقى عرفات، وهى خرابٌ اليوم، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادى من أرض عُرَنَةَ.
فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التي اتفقت المِللُ على تحريمها، وهى الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وذكر الحقَّ الذي لهن والذي عليهن، وأن الواجبَ لهن الرزقُ والكِسوةُ بالمعروف، ولم يُقدِّر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربَهن إذا أَدْخَلْن إلى بيوتهن مَنْ يكرهه أزواجُهن، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب اللَّه، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بَلَّغَت وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد اللَّهَ عليهم ثلاثَ مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم.
ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها، أمَرَ بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يومَ الجمعة، فدل على أن المسافِر لا يُصلِّى جمعة، ثم أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة، وصلُّوْا بصَلاتِه قصراً وجمعاً بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع،
فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف في ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: (وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ).
وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: (الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه).
وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ
وهناك أُنزِلَتْ عليه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3].
وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرِم فمات، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُكفَّنَ في ثَوْبَيْهِ، ولا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وأن يُغَسَّل بمَاءٍ وَسِدْرٍ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا وَجْهُهُ، وأَخْبَرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّى.
فلما غربت الشمسُ، واستحكم غروبُها بحيثُ ذهبت الصُّفرة، أفاض من عرفة، وأردف أُسامةَ بنَ زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمَّ إليه زِمام ناقتِه، حتى إن رأسَها ليُصِيبُ طَرَفَ رَحْلِهِ وهُو يقول: (أَيُّهَا النَّاسُ ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَةَ، فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاع). أى: ليس بالإسراع. وأفاض من طريق المَأزِمَيْنِ، ودخل عَرَفة من طريق ضَبّ، وهكذا كانت عادته صلواتُ اللَّه عليه وسلامُه في الأعيادِ، أن يُخالف الطريق، وقد تقدَّم حكمةُ ذلك عند الكلام على هَدْيه في العيد.
ثم جعل يسيرُ العَنَقَ، وهو ضربٌ من السَّير ليس بالسَّريعِ، ولا البَطئ. فإذا وجد فَجْوةً وهو المتَّسعُ، نَصَّ سيره، أى: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوةً من تلك الرُّبى، أرخى للناقة زِمامها قليلاً حتى تصعد.
وكان يُلبِّى في مسيره ذلك، لم يقطع التلبيةَ. فلما كان في أثناء الطريق، نزل صلواتُ اللَّهِ وسلامه عليه، فبال، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة: الصلاة يا رَسول اللَّه، فقال: (الصلاة - أو المُصَلَّى - أَمَامَك).
ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصَّلاة، ثم أمر بالأذان، فأذَّن المؤذِّنُ، ثم أقام، فَصَلَّى المغربَ قبل حطِّ الرِّحَال، وتبريكِ الجمال، فلما حطُّوا رِحالهم، أمر فأقيمتِ الصَّلاةُ، ثم صلَّى عِشاء الآخِرة بإقامة بلا أذان، ولم يُصلِّ بينهما شيئاً. وقد رُوى: أنه صلاَّهما بأذانين وإقامتين، ورُوى بإقامتين بلا أذان، والصحيح: أنه صلاهما بأذان وإقامتين، كما فعل بعرفة.
ثم نام حتى أصبح، ولم يُحْى تلك الليلة، ولا صحَّ عنه في إحياء لَيْلتَى العيدين شئ.
(وأَذِنَ في تلك الليلة لِضعفةِ أهلِه أن يتقدَّمُوا إلى مِنَى قَبْلَ طُلوعِ الفجر، وكانَ ذلك عِند غيبوبةِ القَمَرِ، وأمرهم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تطلُعَ الشَّمسُ) حديث صحيح صححه الترمذى وغيره.