مدرسة الصبر..


تترع الحياة بكثير من المتناقضات وتحفل بعديد من الثنائيات تجعل هذه الحياة الدنيا لا تسير على نسق واحد ولا على نظام راتب، فهي مليئة بالفرح والحزن، والحب والكراهية، والغنى والفقر، والأمل واليأس، والراحة والتعب، والسعادة والشقاء، والضعف والقوة؛ فطبيعة الحياة بمثل هذه السعة وبحجم هذه المفارقات تستدعي من الإنسان المسلم أن يواجه الجوانب الصعبة من حزن وكراهية وفقر وتعب ومشقة ومشاكل ومكاره بجَلَد وإرادة حتى يجتازها بسلام، غير قانط من رحمة الله وفرجه، وذلك هو الصبر.
الصبر مدرسة الفلاح
يقول الله تعالى في محكم بيانه: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " ففي هذه الآية ربط رباني واضح بين الصبر والفلاح، والخطاب الموجه إلى المؤمنين قرن الأمر بالصبر بالأمر بالرباط وتقوى الله عز وجل، بل جاء الأمر بالصبر قبل الأمر بالرباط وتقوى الله تبيانا لأهمية الصبر وحيويته في حياة المؤمن.
والصبر ليس كلمة تقال لا تتجاوز حلقوم الإنسان، أو شعورا عابرا يطرق قلب المسلم فلا يستقر فيه، بل إن الصبر سلوك يربي المرء وينقله من مرتبة السخط إلى منزلة الرضا، السخط من البلاء إلى الرضا بالقضاء، ومن مرتبة الجزع إلى منزلة الاطمئنان والسلام الداخلي، فلا يتغير الباطن عن الظاهر. والصبر مكانه القلب وترجمانه اللسان ومرآته الجوارح، فالصبر الذي لا يقر في القلب ليس صبرا حقيقيا، والصبر الذي لا يترجمه اللسان بالحمد والشكر لله في جميع أحوال المؤمن ليس صبرا حقيقيا، والصبر الذي لا يظهر وجهه صافيا من خلال الجوارح كلها لا يعدو أن يكون صبرا مزيفا.
والصبر مدرسة لأنه يعلم الصابر متى وكيف يحبس نفسه على ما تكره، وكيف يؤدي الطاعات والقربات وقبلهما الفروض والواجبات، ويقف عند حدود الله ويبتعد عن المحرمات ولا يقترف المنكرات، راجيا رحمة الله _عز وجل_، راغبا في الجنة المحفوفة طريقها بالمكاره والصعاب والمشاق التي لا تنال إلا بالصبر عليها.
والصبر مدرسة أيضا لأنه في صفوفها يتم تدريس مادة غالية تفيد الإنسان في شتى مناحي حياته؛ فبدون صبر لن ينجح وهو مجرد طالب يدرس ويتلقى العلوم والمعارف والآداب: صبر على التعلم وعلى الجلوس الساعات الطوال أمام المعلم أو الشيخ وأمام الكتب للمراجعة والتحصيل، وبدون صبر ما حصل أحدنا على رزقه وسعى إليه سعيا، فالرزق يُنال عادة بالصبر على المثبطات والعراقيل، ولا يُنال هكذا اعتباطا فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، والصبر على الكد والتعب وعرق الجبين وسيلة للحصول على لقمة عيش في الحلال.
وبدون صبر لن يكون تقدم ولا نمو في أي مجال من المجالات الخاصة أو العامة، وما أثمر عمل الفرد وجهد الجماعة على خير البلاد والعباد، فلو لم يكن هناك صبر عند كل فرد من أفراد المجتمع وساد السخط وشاعت الشكوى، لانتهى كل عمل في بداياته غير كامل، فتصير الأعمال كلها ناقصة والمشاريع جميعها غير تامة، فتتوقف الحياة وتجمد دواليب المال والاقتصاد والتجارة والصناعة ومصالح الناس أيضا.

الصبر بالله
حين جاء أبناء يعقوب عليه السلام إلى أبيهم عشاء يبكون، وقد زعموا أن الذئب قد أكل يوسف وجاءوا على قميصه بدم كذب خاطبهم بالقول: (فصبر جميل)، ولعل الصبر في مثل هذه الحالات هو الصبر عند الصدمة الأولى التي جاء في الحث عليها الدرجات العليا التي تقرب العبد من ربه زلفى.
وصبر يعقوب هذا هو صبر بالله لأنه استعان بخالقه في تحمل النبأ المدوي بفقد أعز أبنائه، وكذلك كل من يستعين بالله في شتى مناشط حياته ومفاصلها متغلبا على عراقيلها وحواجزها وأشواكها ومراراتها مخلصا النية لله _تعالى_ فهو صابر بالله. والأمر بالصبر بالله جاء أول ما جاء في مخاطبة الله تعالى لنبيه الكريم _عليه الصلاة والسلام_: "واصبر وما صبرك إلا بالله"،

ولعل هذه المرتبة من أرقى مراتب الصبر وأحسنها.
الصبر في الله
مثل الحب في الله، يكون الصبر في الله سلوكا خالصا يبتغي به المؤمن وجه الله تعالى، وهذا المبتغى يستدعي الاتصال القلبي المباشر والعميق بالخالق سبحانه، فحين يكون الاتصال مباشرا وواضحا لا لبس فيه ولا شوائب تكدر صفوه، يتحقق الصبر في الله في أبهى تجلياته، فتصير العواصف الهوجاء مجرد نسائم رقيقة لا تهز شعرة واحدة في جسد الصابر الذي يعد هذه المحن منحا ربانية، إن صبر كان خيرا له وإن شكر كان خيرا له. وقد جاء في الصابرين قول الله تعالى الذي يتلى إلى يوم القيامة: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم رحمة وأولئك هم المهتدون".
فالصبر في الله مرتبة سامقة لا تتأتى إلا بالاختيار الرباني لعباده المؤمنين من خلال ابتلائهم بشيء من الخوف وذلك عند الحروب والكوارث الطبيعية والأحداث الأليمة، وبشيء من الجوع من خلال سنوات الجفاف وندرة الأمطار وشح الموارد الطبيعية، وأيضا بنقص من الأموال حينما يبتلى الصابرون بالفقر والحاجة، وبنقص في الأنفس عبر حوادث الوفيات بمختلف الأسباب الطبيعية وغير الطبيعية من حوادث السير والاختناقات ..فتأتي البشرى العظيمة مباشرة بعد هذه الابتلاءات للصابرين الذين يتذكرون الله تعالى ويذكرونه فور وقوع المصيبة..

الصبر لله
هو أن يكون الصابر صابرا لوجه الله تعالى وحده محبة له ورجاء فيه وخشية منه. وتتجلى أرقى صور مرتبة الصبر لله عندما يصبر المؤمن عن اقتراف المعصية أو حتى الاقتراب منها وهو قادر على فعلها، لأنه يحب الله خالقه ويراقبه في حركاته وسكناته ويخشى عذابه . ولعل قصة يوسف عليه السلام مليئة بدروس تربوية تتلألأ ببريق صبره لله وعجائبه، بدءاً من حسد إخوته له وكيدهم ثم رميه في البئر ، وحادثة تعلق امرأة العزيز به ومراودته عن نفسه، ثم ما حدث له من سجن وتنكيل بعدما كان يعيشه من رغد وحياة سهلة في بلاط العزيز، فكانت نتيجة الصابر بالله ما بلغه يوسف_عليه السلام_ من مكانة رفيعة، فقد صار بعد محنة السجن مشرفا على خزائن الأرض وسيدا مطاعا وعزيز مكرما. وقصة يوسف تشبه مع وجود الفارق قصة نبينا العظيم محمد _صلى الله عليه وسلم_، فيوسف أصابه أذى إخوته، ونبينا عانى من هذا الأذى من قومه وعشيرته الأقربين، ويوسف هاجر إلى مصر وهناك أكرمه الله بعد محن عديدة، وكذلك الرسول هاجر من مكة إلى المدينة بعد صبر بطولي عجيب، وهناك أكرمه الله تعالى ببناء الدولة الإسلامية وبانتشار الدين الإسلامي الذي يدعو إليه.
صبر النبي _صلى الله عليه وسلم_
تحكي كتب السيرة النبوية العطرة أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان يصبر على الأذى في ما يتعلق بحق نفسه، وأما إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة مع الكفار والمنتهكين لحدود الله: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ" الفتح:29
ومن صبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه عندما اشتد الأذى به جاءه ملك الجبال يقول: يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، والأخشبان: جبلا مكة أبو قبيس وقعيقعان.
وقد صبر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ على اتهام كفار قريش له بالتكذيب: "وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ"، لكن الله تعالى يسري عن نبيه، ويثبت الله به قلبه: "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ" الأنعام:34.
ولقد صبر _عليه الصلاة والسلام_ أيضا على أذى المشركين في جسده صبراً عظيماً، روى البخاري _رحمه الله_ عن عروة بن الزبير قال: قلت لـعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله _صلى الله عليه وسلم_؟ قال: (بينا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه ودفع عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ثم قال: "أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ " غافر:28

صبر نموذجي
يضرب المثل بنبي الله أيوب في الصبر، عندما تعرض لبلاء شديد، فأعطى درسا عظيما في الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله تعالى، ليصفه المولى _عز وجل_ بقوله: "إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب" (ص: 44).
وذكر القرآن الكريم سيدنا أيوب مرتين: الأولى في سورة الأنبياء في قوله تعالى: "وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين"، والثانية في سورة ص في قوله تعالى: "واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب. اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب. وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب" (ص: 41 - 44).
وجاءت بداية الابتلاء بأن سلب منه كل أهله، وابتلي في جسده بأنواع عدة من الأمراض، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما المولى _عز وجل_، وهو في ذلك كله صابر محتسب، ثم طال مرضه وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته التي ضعف حالها وقل مالها، حتى باتت تخدم في البيوت بالأجر لتطعم زوجها المريض، تفعل ذلك وهي الزوجة الصابرة المحتسبة، وكلما زاد الألم بأيوب زاد صبره وحمد الله وشكره على قضائه.
ورغم هذا المرض الشديد والابتلاء القاسي الذي تعرض له نبي الله أيوب عليه السلام، إلا أنه كان ذا قلب راض وصابر، ولم يسخط لحظة واحدة، ولذلك وصفه المولى عز وجل بقوله: (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) (ص: 44). أي تواب رجاع مطيع، وسئل سفيان الثوري عن عبدين اُبتلي أحدهما فصبر وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء لأن الله تعالى أثنى على عبدين أحدهما صابر والآخر شاكر ثناء واحدا، فقال في وصف أيوب: "نعم العبد إنه أواب"، وقال في وصف سليمان "نعم العبد إنه أواب".

الطريق إلى مدرسة الصبر
مدرسة الصبر بناية غير بعيدة عنا، وليست عسيرة الولوج، فقط تشترط هذه المدرسة من والجيها أن يكونوا مخلصين لله _عز وجل_، واثقين في حكمته وعدله وقضائه، والذي يجعل المنتسب إلى المدرسة صابرا حقا أن يعلم أن هناك تفاوتا في المصائب في الدنيا، ومن حدث أن أصيب بمصيبة في الدنيا عليه أن يتسلى بمصيبة أكبر وأعظم، وليس هناك مصيبة أخطر من المصيبة في الدين التي توجب لصاحبها الهلاك في الآخرة.. قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في دعاء كان يدعو به:" ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ". ومن الناس من إذا أصابته مصيبة في دنياه في صحته أو ماله أو بدنه بدل أن يرضى ويشكر الله مبتليه تجده يتسخط بل قد يصاب في دينه بأن يترك العبادة بدعوى مصيبته تمنعه..!! ألم يقرأ قول الله تعالى : " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب من السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ "
الصبر إذن يكفي الوصول إليه تدريبات عملية بأن يوطن الإنسان نفسه على حبس نفسه على الطاعات وترك المنكرات، مع الاقتداء بخير الصابرين رسولنا الكريم، متيقنا أن الصابر أمره كله خير إن شكر أو صبر، فهو في الحالتين فائز.

منقول