1) منها "الصلاة"، إذا قام إليها الإنسان عن حب وتعظيم لله، ورغبة فيما عنده، وتشرف واعتزاز بمقابلته جل وعلا، فوقف أمام ربه مالك الملك وقفة أخشع وأخضع من وقفته أمام حاكم من حكام الدنيا فصلاها وهو حاضر القلب متلذذٌ بالحظوة والوقوف بين يدي الله الملك العلام متشرفٌ بذلك أعظم مما يتشرف ويفرح لو حظي بمقابلة حاكم عظيم.
فهذا ينطبع بحب الله وتعظيمه في تكرر هذه الوقفات الجليلة أعظم مما ينطبع حاشية السلطان المكثرون من الاتصال به، فتندفع جوارحه إلى طاعة الله ويرهب من معصيته ويقوم بتنفيذ أحكامه وتطبيق حدوده في كتابه والانتصار لدينه وقمع المفتري عليه وبغض المنحرف عنه.
فلهذا كانت الصلاة من أعظم الأدوية للقلوب والمروحات لها وللأبدان فشأنها في تفريح القلب وتقويته وابتهاجه أكبر شأن، وفيها من اتصال القلب والروح بالله وقربه والتنعم بذكره والابتهاج بمناجاته والوقوف بين يديه واستعمال جميع بدنه وقواه وآلاته في عبوديته، وإعطاء كل عضو حقه منها واشتغاله عن التعلق بالمخلوق وملابسته ومجاورته وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وحصول راحته من أعدائه الشياطين حالة الصلاة، مما تكون به من أكبر الأدوية والمفرحات وأجلّ الأغذية الملائمة للقلوب الصحيحة فقط.
وأما القلوب المريضة المعتلة فهي كالأبدان المريضة لا تناسبها الأغذية الفاضلة ولا تستطيب الحلو كما قال الشاعر:
ومن يك ذا فم مريض
يجد مراً به العذب الفرات
فالصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ودفع مفاسدهما، وهي منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلوب وطاردة للداء عن الجسد ومنورة للقلب ومبيضة للوجه ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق ودافعة للظلم وناصرة للمظلوم وقامعة لإخلاط الشهوات، حافظة للنعمة دافعة للنقمة ومنزلة للرحمة وكاشفة للغمة، ونافعة من كثير من أوجاع البطن، لأنها رياضة للنفس والبدن جميعاً تشتمل على حركات وأوضاع مختلفة تتحرك معها أغلب المفاصل وينغمز معها أكثر الأعضاء الباطنة كالمعدة والأمعاء وسائر آلات النفس والغذاء، زيادة على ما يجري فيها من إنشراح الصدر وقوة النفس والروح المعنوي الذي تقوى به الطبيعة، مما لا يقدر الملاحدة على إنكاره إلا حين المكابرة.
والصلاة من أعظم وسائل الراحة والصبر، وهي مجلبة للرزق حافظة للصحة الحسية والمعنوية دافعة للأذى مطردة للأدواء - أدواء الشبهات والشهوات - مقوية للقلب مفرحة للنفس الزكية، مذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن.
وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، لا سيما إذا أعطيت حقها في التكميل ظاهراً وباطناً. فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة واستجلبت مصالحهما بمثل الصلاة لأنها صلة بين العبد وربه وعلى قدر صلة العبد بربه تنفتح له الخيرات وتنقطع عنه الشرور أو تقل.
وما أبتلي رجلان بعاهة أو مصيبة أو مرض إلا كان حظ المصلي منهما أقل وعاقبته أسلم.
والمؤمنون حقيقة يجدون فيها الراحة والمتعة والسرور كما كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: (أرحنا بالصلاة)، ويقول: (جعلت قرة عيني في الصلاة).
فالمؤمنون تقر أعينهم بالمثول بين يدي مولاهم في الصلاة أعظم مما تقر عيون أهل الدنيا بمقابلة حكامهم والحظوة منهم ولهذا كان علامة الإيمان المسارعة إلى الصلاة وعلامة صحة القلب وسلامته من أمراض الفتنة فرحته بالصلاة وتلذذه بطول إقامتها دون أن يخطر بباله الخروج منها وعلى العكس مريض القلب الذي إن صلاها فصلاته تشبه العادة يأتي بها من غير وعي وإحساس ويرتقب انتهاءها والخروج منها بسرعة حتى أن كثيراً من الناس يشكو الإمام الذي يطيل الصلاة ويهجر مسجده إلى غيره فمثل هذا لا ينتفع بصلاته إلا قليلاً.
أما الأول فهو الذي تؤتي صلاته ثمارها الطيبة ونتائجها الحسنة التي يتأثر بها في سلوكه لقوة صلته بالله وازدياد محبته وتعظيمه ومراقبته.
فمن هنا كانت الصلاة تأمر صاحبها بالمعروف وتنهاه عن المنكر وتجعل قلبه متقداً بالغيرة لدين الله والغضب لحرماته وحدوده فتندفع قواه وجوارحه لحمل رسالته وقمع المفتري عليه والقيام بإصلاح ما أفسده المبطلون في كل مكان شعوراً منه بأداء وظيفة الله في الأرض فيكون من ورثة نبي الله عليه الصلاة والسلام لا من ورثة أعدائه.
2) أما "الصبر" فهو نصف الإيمان. لأنه ماهية مركبة من صبر وشكر كما قال بعض السلف مستنداً إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وهو ثلاثة أنواع:
1) صبر على فرائض الله فلا يضيعها أبداً.
2) وصبر عن محارمه فلا يرتكبها أو ينتهكها.
3) وصبر على أقضيته وأقداره فلا يتسخطها.
وأركان الصبر ثلاثة:
1) حبس النفس على المكروه.
2) وتحمل الأذى في سبيله.
3) انتظار الفرج.
ومن استكمل أنواع الصبر وأركانه فقد استكمل الصبر وكانت عاقبته الحصول على لذة الدنيا والآخرة، والفوز والظفر بما هو موعود فيهما، قال ابن القيم ما معناه: ولا يصل أحد إلى مقصوده إلا على جسر الصبر، كما لا يصل أحد إلى الجنة إلا على الصراط.
وقد قال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ا: (خير عيش أدركناه بالصبر).
وإذا تأملت مراتب الكمال المكتسب في العالم رأيتها كلها منوطة بالصبر وناشئة عنه، وإذا تأملت النقصان المكتسب أيضاً وجدته من عدم الصبر، وكذا فإن صحة القلوب والأبدان والأرواح ترجع إلى الصبر، وكثرة أسقام القلب والبدن تنشأ من انعدام الصبر.
ولو لم تكن في الصبر إلا أن معية الله مع أهله لكفى فإن الله مع الصابرين يؤيدهم ويقويهم ويثبتهم ويؤنسهم، ولا يدعهم في الطريق وحدهم، ولا يكلهم إلى أنفسهم ويتركهم لطاقاتهم المحدودة ما داموا متوكلين عليه حاملين لواءه، ويجلي هذا قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وقوله {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن النصر مع الصبر).
وكرر الله ذكر الصبر والأمر به وحسن نتائجه في القرآن الكريم لأن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي يقتضيه حمل الرسالة والاستقامة على الطريق بين شتى النزعات والدوافع المختلفة، وضخامة المجهود الذي يقتضيه القيام على دعوة الله، والدفع بدينه إلى الأمام بين شتى الصراعات الفكرية والدموية، فلا بد من الصبر والمصابرة في هذا كله.
وصبر المؤمن على طاعات الله ثم صبره في كف نفسه عن معاصيه يقويه في الصبر على جهاد أعداء الله، وعلى كيدهم والكيد لهم، ثم المرابطة على بطء النصر والمرابطة لارتجائه.
ولئلا يضعف الصبر بطول المدة وكثرة المشقة أرشد الله عباده إلى الزاد والمدد الروحي فقرن الصلاة إلى الصبر وقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}، فهي المدد الروحي الذي لا ينقطع، والزاد المعنوي الذي لا ينضب ولا ينفد، ويزداد القلب قوة يستسهل بها الصعاب، ويقرب عليه بها البعيد فتجدد طاقاتهم، ويمتد حبل صبرهم، وتكسبهم هذه الصلاة كمال الرضى والثقة واليقين، كما في يوم (الخندق) و (حنين) وغيرهما، ولهذا كان يكثر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما حز به أمر، وكان مطلوباً من كل مسلم أن يأمر أهله بالصلاة كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، وقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم على تركها لعشر...)، وكان قيام الليل وتلاوة القرآن فيه مفتاحاً للقلوب، وطاقة للجوارح، كما قال تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
هذا وقد أظهر الطب الحديث فائدة عظيمة للصلاة، وهي أن الدماغ ينتفع إنتفاعاً كبيراً بالصلاة ذات الخشوع، كما قرر ذلك فطاحل الأطباء في هذا العصر، وهذا من بعض الأسباب التي يرجع إليها قوة تفكير أساطين الصحابة الكرام، وسلامة عقولهم، ونفوذ بصيرتهم، وقوة جنانهم، وصلابة عودهم، فكانوا بذلك معجزة بين الأمم فلم يخلفهم مثلهم إلا قليل نادر.
ولا شك أن الذين يتجهون بكل حب وتعظيم إلى القوة المطلقة إلى ذي الحول والطول جل وعلا، ويخرون للأذقان سجداً لعزته وسلطانه وشكراً لنعمته وإحسانه، ولا شك أنهم يكونون موصولي السبب بجنابه العظيم فيستمدون منه جميع قواهم كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه تعالى (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) وقال أيضاً: (فبي يسمع، وبي يبصر، بي يبطش... الخ) وأحاديث كثيرة في هذا المعنى. فالصلاة من أكبر العوامل التي تربي الشخصية وتجعلها ربانية التصور، وربانية الشعور والوعي، وربانية السلوك والتصرف.
ثم إن في الصلاة منفعة عظيمة، وعلاجاً واقياً وشافياً من شر ما يصاب به الإنسان في حياته الاجتماعية وهو الشح والجبن الذي نبه الله عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} . وقال صلى الله عليه وسلم: (شر ما أوتي العبد شح هالع أو جبن خالع).
فالشح يبذر الهلع والفقر في القلب، ويجعل صاحبه فقير القلب مهما استغنى كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: (بأنه كالذي يشرب ماء البحر)، فإنه لا يروى بل يزداد عطشه وغلبته.
وأما الجبن فإنه يروث الخوف والذعر الذي يتزايد بصاحبه، حتى يكون عند المصائب والحروب كالذي يغشى عليه من الموت، وفي الأمن والرخاء حديد البصر ذلق اللسان، مثل المنافقين المعوقين الذين فضحهم الله في سورة الأحزاب.
وقد يكون الجبان كسولاً. عادم الإرادة ولهذا ورد في الحديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة أن يدعو بهذه الدعوات: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل وضلع الدين وقهر الرجال)، فإنها ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان، فالهم والحزن أخوان، والعجز والكسل أخوان، والجبن والبخل أخوان، وضلع الدين وقهر الرجال أخوان.
والمصلي الصحيح الذي يقيم الصلاة حق إقامتها ينجيه الله ويعيده من هذه الأمور لكثرة ما يسبّحه ويستغفره، ويوحده ويحمده، ويعترف بذنبه وبعبوديته لربه، وقد قال الله تعالى عن نبيه يونس عليه السلام: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وقال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} .
وللصلاة وشروطها فوائد ومزايا، وحكم بالغة غير ما ذكرته لا أحب الإطالة بذكرها هنا لأني أفردت لها رسالة مستقلة ولله الحمد والمنة.
...................................