الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد
  1. الصورة الرمزية the long night

    the long night تقول:

    افتراضي نحو مجتمع الحرية

    هذه مقدمة كتاب نحو مجتمع الحرية لفضيلة الشيخ الدكتور محمد محمد بدري و هو من اصدارات دار الصفوة الطبعة الأولي 1431و هو من أحدث ما انتجته المطابع و لما أعجبتني مقدمة الكتاب أحببت أن يطلع عليها القراء و لقد قسمتها إلي خمسة أقسام

    الجزء الأول
    مقدمة
    إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،

    أمّا بعـــــد:



    فهذا كتاب شرعت في تأليفه منذ سبعة أعوام ، وما أن استجمعت له في نفسي العناصر الضرورية لإتمامه ، حتى أوقفني ظرف مفاجئ ، لا مجال لروايته خاصة في مقدمة كتاب ، إنما يكفي أن أقول أنه ظرف يتعلق بالصراع من أجل الحرية ، وأنه اضطرني إلى إعادة ترتيب بعض أفكاري والعزم على تأجيل البحث في موضوع الكتاب .. و حين هدأ عقلي بعد الكثير من المخاطر والشقاء عزمت على العودة إلى البحث مرة أخرى ، وكان قد مرّ عامان ، ووجدت نفسي أؤجل العمل يوماً بعد يوم .. ربما لأني كنت أدرك حين قررت العودة مقدار الصعوبة في الرجوع إلي البحث من جديد ..!!



    نعم .. لقد وجدت كلماتي بعينها ، وأفكاري ذاتها ، لكني حينما حاولت أن أجمعها ، اكتشفت أني أكتب من جديد ، في إطار فقط من نقاط إرشاد ، أو علامات تعين على الاهتداء إلى العناصر الكامنة في نفسي ، فهممت أن أتركها ، وأكتفي بالذكرى .. ولكني وجدت فكرة البحث لا تفارق كياني ، لا أستطيع تجاهلها ، ولا أقدر على مواصلة الحياة مع استبعادها ؛ فقررت متابعة القراءة ، وإعطاء القضية مزيداً من التفكير ، ليقيني بأن البحث عن الحقيقة لن يكون خطأ أبداً ، وإنما الخطأ هو الافتقار إلى الشجاعة للسير إلى حيث تقود تلك الحقيقة .!!

    وبدأت البحث من جديد .. بحثت لفترة طويلة كنت فيها كصريع من ظمأ الفكرة يبحث عن نقطة من ماء التجارب ليروي بها صحراء جهله .. أقرأ أكثر المؤلفات مرة وثانية ، وثالثة في بعض الأحيان دون أن أجد في ذلك كلفة ، أوينقص التكرار شيئاً من متعتي بالقراءة لأنني كنت أفهم في الثانية ما يبهم عليّ في الأولي ، وأنفذ في الثالثة إلي ما يغيب عني في الثانية ..

    لقد كنت أدرك أن بعض الأفكار كالصيد الكسيح يطالها كل ذي قلم ، وبعض الأفكار كالغزال الشرود تبصره ، وبالكاد تصيده .. وكانت فكرة " ميلاد مجتمع الحرية " تتحرك أمام عيني ، أدقق فيها النظر وبالكاد أراها ، فأطاردها وأحاول اقتناصها ، وأشعر بها تهرب مني ، فتختبئ ، وأحاول اكتشاف مكانها ، ولا أزال أتتبعها حتى أبصرها ـ بعون الله ـ وأمسك بها .. وبقيت على هذه الحال أبحث بجدٍ لا يفارقني الإصرار ليل نهار ، عن خيط يمكن أن يقودني ـ بتوفيق الله ـ " من التيه إلي الرشاد " ، ويدفع بأفكاري إلى الخطوات الأولى " نحو مجتمع الحرية "..



    ومنّ الله عليّ ، فانصهرت مكونات هذه الأفكار بنار تلك المعاناة التي كنت أشعر معها وكأني أدفع الأعداء بيدي المنفردة .. فكانت أيام البحث ـ مع صعوبتها ـ من أفضل أيام حياتي ..!! بل إنني نسيت أثناء البحث غربتي من خلال التفاعل مع الأفكار الموجودة في الواقع ، والمدونة في بطون الكتب ، فأخذت أجمع هذه الكنوز لكي تكون في متناول كل غيور على الإنسان ، كل الإنسان ، في الأرض كل الأرض ..

    وبقيت على هذه الحال سنوات تشعبت فيها النقاط الأساسية من هذا البحث حتى استوت ـ بتوفيق من الله ـ في صورة شبكة مترابطة من الأفكار ، أحاول من خلالها الوصف ، والتحليل النفسي الدقيق للواقع ، واستخدام ذلك لتغيير ما بالأنفس ، ليغيّر لله ما بها .. كل ذلك من خلال خطوات يتوحد فيها الفكر والممارسة ، والتنظير وتغيير الواقع ، لبيان أزمة الحرية التي يعيشها الإنسان في العالم أجمع ، وتوضيح أسباب حدوثها ، وطرح تصور لكيفية الخلاص منها ..

    ولقد انطلقت في هذا الطرح من الإسلام كقاعدة فكرية تُعنى بتحرير الإنسانية جمعاء ، وترتقي إلى مستوى الأحداث الإنسانية ، وترفع الوعي إلى المدى العالمي الكاشف لقوانين الكون والحياة ، لترى سنة الله وهي تعمل فى الوجود الإنساني ..



    ولأن تمكين الإنسان من قراءة العالم بشكل نقدي هو تحد كبير وممارسة غير مريحة لأولئك الذين يؤسسون قوتهم على سذاجة من يمكن استغلالهم من خلال ما يمكن أن نطلق عليه " صناعة الرِق " التى تبيح المتاجرة بكل القيم ، وتسهّل أخلاق السراديب المظلمة ..!! فقد كان ..



    · الباب الأول : قافلة الرقيق

    والذي حاولت من خلاله توضيح النقطة التي تقف البشرية عندها اليوم ، لنعرف تلك التي نريد الوصولَ إليها .. وأكدت أنه بينما يملأ الحديث عن الحرية كل دنيانا ، و يلهج بذكرها العوام والخواص .. بل ويقيمون لها التماثيل والنُصب ، ويهيمون فى حبها أدباً وفناً ..!! إلا أن من يرَ البشرية من خلال " واقعه " وليس من خلال " أمانيه " ، لا بد له أن يدرك أن الناس يتحركون بسرعة إلى أهداف أُعدت لهم سلفاً وخُطط لها تخطيطاً كاملاً ، فهم فى ذلك أشبه بالأدوات التى توضع على السير المتحرك فى المصانع ، فتتحرك فى الاتجاه المرسوم لها دون أن تعلم لماذا تتحرك ؟ وكيف ؟!!

    ولا شك أن إدراك هذا الواقع " المتاهة " ، هو المقدمة الصحيحة إلي طرح البديل الذى يملك وضوح الرؤية ، ويقوم على سلامة المنطلقات والأهداف .. ومن ثم كان ..

    ـ الفصل الأول : في دنيا العبيد

    والذي أكدت فيه أنه في العالم الغربي الذي يزعم أن الحريّة تظلل حياته .. يشهد واقعه أنه لا تزال فئة قليلة هي التى تتحكم فى كل شىء ، وأنها بجاهها ومكرها وأموالها تصنع الأحزاب وتوجه الرأي العام وتحدد من يفوز فى الانتخابات ، وتلهي الشعب بحريّة الفوضى الخلقية والفكرية ، فلا يفيق من سكره أبداً ..!!

    ويحدث كل ذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه " صناعة الموافقة " حيث تقوم مجموعة صغيرة من الأقوياء بأخذ القرارات ، بينما باقي الشعب هم من جمهور النظارة ، الذين يتم إجبارهم على الموافقة عن طريق التحكم في عقولهم وتنظيمها ..

    وأوضحت .. كيف تحولت الحرية هناك إلى غطاء مقنّع للسيطرة على الإنسان ، من خلال تغيير الاهتمامات ، وإعادة تشكيل الهويات . ثم ترك حرية الاختيار للجماهير التي مهما تنوعت خياراتها ؛ فإنها فى النهاية ستعبّر عن رغبات السادة ، الذين تم تغيير نمط تفكير الجماهير ليوافق ما يريدون .. ومن ثم فقد الإنسان " الحرية " من قبل أن يمارسها ؛ لأن عقله قد تم تدريبه وصياغته لكي يختار وفق رغبات السادة ، وليس رغبات الإنسان !!



    إن القرار فى العالم " الحر " تصوغه القوى الخفية المتحكمة من وراء الستار من رجال المصالح النافذين ، ورجال الأعمال المتنفذين ، ثم يعلنه الممثلون على المسرح باسم الشعب الغارق فى لهثه وراء الرزق ، وفى أمواج الشهوات ، ولهيب الجنس مجرداً من أي قيم أو مثل ، نابعاً من المصالح المادية وحدها ..



    وإذا أنكر البعض هذا الكلام ، فأنا أدعوه إلى نظرة فى واقع تلك الشعوب ليري شواهد هذا الأمر بشكل واضح جداً .. وليدرك دون لبس أو غموض أو إيهام ، أنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم خياراً .. وإن أتيح لهم قدراً من التحرر النسبي، وقدراً من الخير النسبي .. حرية التنقل .. حرية العمل .. حرية الاجتماع .. حرية الكلام .. حرية الصحافة .. ضمانات الاتهام .. وضمانات التحقيق .. وضمانات القضاء ..!! ذلك أن هذا التوجيه الإيحائي الذى يستخدمه قادة العالم " الحر " ، يحقق ما يحققه التوجيه المباشر الذى يمارس فى ظل غيبة الحرية .

    إن قادة هذا العالم " الحر " قد أسقطوا من حساباتهم كل القيم الأخلاقية ، واختاروا مسارات توجهها " قيّم" الخداع والنفعية والتحايل والبطش والسيطرة والاستغلال والابتزاز .. وأصبحت هذه " القيم " غير مستنكرة من الناس بسبب شيوعها علي هذه المستويات القيادية .. و تلك ظاهرة لو أخذناها علي محمل الجد ـ ولابد أن نأخذها كذلك ـ لعرفنا أن البشرية كلها تقف على حافة هاوية سحيقة من العبودية والتخلف ..!!

    وإن كانت هذه هي حال الإنسان في مجتمعات ما يسمي بـ " العالم الحر " ؛ فإن حاله في غيرها من المجتمعات لا يحتاج إلى بيان ، حيث لا يتمتع بأية حصانة ، فى مجتمع تفوح منه رائحة الذلة ، ليس عنده قوت يومه ، وغير آمن على عياله ، ولا يعرف ماذا يحمل له المستقبل من هموم ، بل لا يمر عليه يوم إلا والذى بعده أشرّ منه ..!!



    إن مقياس التخلف أو التحضر هو فى مدى الحرية التى تقف وراء التجمع الانساني .ذلك أن الحرية تقتضي الفكر . والفكر يمثل أخص خصائص الانسان . والانسان إذا كان لا يستطيع شيئاً ازاء لونه أو جنسه ، لأن ذلك خارج عن نطاقه إرادته ، فإنه يستطيع أن يغيّر معتقده ونمط حياته . لذا فإن المجتمع الذى يولي أخص خصائص الانسان الأهمية القصوى يكون مجتمعاً متحضراً .. وأمّا غيره فإنه يكون مجتمعاً من العبيد .. وهذا ما حاولنا إيضاحه من خلال :

    ـ الفصل الثاني : مجتمع الحضارة الأسيرة

    حيث حاولنا القيام بحفريات فى " بنية " الحضارة الغربية بمعاول الإسلام ، وفى محيط أفكارنا الإسلامية ، في طلب لـ " الحكمة " التي هي ضالة المؤمن ، ومحاولة للإمساك بـ " الميزان " الذي يميّز الزبد مما ينفع الناس .. ومن ثم الوصول إلي تغيير يعصم البشرية من تدمير " الإنسان " وتحويله إلي " شيء " في ظل " حضارة " لم تعد تعرف شيئاً من الخير للإنسانية ، وتحاول من خلال القوة أن تجعل صورة الإنسان الذي رسمته هي " المثال " الإنساني الذي يجب النسج علي منواله .. بينما هو لا يعدو أن يكون لوناً من " السراب " الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً !!



    وأمّا المجتمعات التي تحوي هذا " السراب الإنساني " ، فهي مجتمعات " الأكذوبة الحضارية " ، لأن الحضارة الحقة هي التي ترتفع " بالإنسان " في كيانه كله ، و في " كافة " مجالات حياته .. وتلك مجتمعات يشيع فيها الرق النفسي والفكري ، وتلغى كرامة الانسان !! .. حيث يركض كالعبد خلف متطلبات الحياة الاستهلاكية ، ورأسه مشغول كحاسبة ملآنة بالأرقام والمواعيد والتفاصيل ، وقلبه مربوط بأقساط سيظل يسدد فيها طيلة عمره ، ويده مغلولة بسلاسل تشده كما تشد القطيع الراكض معه ، وعنقه مرهون عند بائع العقارات ، ورئتاه موصولتان ببوصلة التذبذب واللا استقرار .. وروحه هناك مطبوعة على بطاقة " الكريديت كارت " .. لا وزن لإنسانيته ، ولا قيمة لكرامته ..يقاسي عذاباً قاتلاً ، وقلقاً مدمراً وفساداً كبيراً تحت وطأة " حضارة " جافة إيمانياً كشجرة بلا لحاء .. فهي متخشبة وإن طليت بماء الذهب !!



    نعم .. قد تتيح تلك المجتمعات للإنسان قدراً من " الحرية " ، و " حقوق الإنسان " ـ فيما يبدو لمن عجز عن إدراك الحقيقة .. حقيقة أن اليد التي تمنح الحرية هناك ، هي نفسها التي تمنعها هنا ، وأن القانون الذي يحفظ "حقوق الإنسان" هناك هو ذاته الذي يقبل ـ بل يمارس ـ انتهاكها هنا .. وأن تلك المجتمعات تقوم علي القوة والصراع ، وتسلط الإنسان علي الإنسان ..فهي مجتمعات جباية ، وحقد ، وعدوان ، ولو بدت علي غير ذلك ، بسبب التضليل الإعلامي ..

    إن تلك المجتمعات تجعل من مشعل الحضارة " فتيلاً " يحرق بدل أن يضيء ، وفي ضوء ما تشعل من نار ، تشيع الفوضى والظلم في أجزاء الأرض ، وتعالج المشكلات بقطع الرؤوس بدل ترشيدها وهدايتها ، وتسعي دائماً لإقامة إمبراطورية الشر الأسطوري التي تجعل الدنيا مرتعاً خصباً للنهب والسلب ، وتجعل الناس عبيداً لهم ، لا يأكلون إلا مما يقدمونه لهم ، ولا يلبسون إلا ما يلبسوهم إياه ، ولا يدرسون إلا ما يدرسوهم ، ولا يطلبون العلم إلا من مناهلهم !!



    وأحسب ـ والله أعلم ـ أن هذه الكلمات هي لون من ألوان السباحة ضد التيار ، وأن من سيتوقفون أمامها هم القليل من أصحاب العقول الأكثر تفتحاً وفهماً .. الذين يدركون أن طبيعة الأشواق تحدد طبيعة الحضارة ، وأن عملية بث الأشواق في روح الإنسان مشيد الحضارات عملية هامة تحتاج إلي علم بها وصبر عليها ورعاية لها ، و أن من يحاول التغيير ، لا بد له أن يعلم مقدار الفكر والفهم الذي يحمله من يُرِد تغييرهم ، وأن يقرأ نفسياتهم وعقلياتهم ، ويغوص في أعماقها ؛ ومن ثم فقد مسّت الحاجة أن يكون :
    إلي الذين يحلمون بميلاد مجتمع الحرية حيث يسود فيه الاسلام و تعود الأمة الاسلامية إلي قيادة البشرية
    أهدي لهم كتاب نحو مجتمع الحرية لفضيلة الشيخ الدكتور
    محمد محمد بدري
     
  2. الصورة الرمزية the long night

    the long night تقول:

    افتراضي رد: نحو مجتمع الحرية

    الباب الثاني : ثقافة التيه
    وهو باب تأسس علي رؤية واقعية للنفس المستعبَدة في وضعها الحالي .. يحاول أن يري الوجه الخفي لها من خلف الدفاعات المعلنة و الأقنعة الساترة و الخادعة ، ويهدف إلى الانتقال بها إلي وضع أفضل .. من خلال دراسة في علم النفس السياسي نأمل أن تكون لبنة في الأساس تلحقها دراسات أخري تقويها أو تطورها أو تعدلها أو تعلو فوقها ..
    و القيمة الأساسية – فى نظرنا – لهذه المحاولة هي في شق طريق البحث النفساني فى مسألة الاستعباد ، و إدخال تنظيم مبدئي لما كان يبدو عشوائياً في تصرفات الإنسان المستعبد وممارساته ، وجمع هذه الجزئيات في كل مترابط نمتلك من خلاله علماً حقيقياً ينطلق من النفوس ، وممارسات الحياة اليومية ؛ فندرك الصورة علي ما هي عليه ، ونعبّر عنها علي نحو منصف ، ونضع أفكارنا وأعمالنا في الإطار السليم الذي ينبغي أن نضعها فيه في طريقنا العملي نحو تحرير الإنسان ..

    ولأنه من الأفضل أن نرى واقعنا فى أشعة الشمس الواضحة ، والتى قد تكون محرقة .. بدلاً من أن يبقي تحت الأشعة فوق البنفسجية ، التى لا تُرى ، ولكنها قاتلة ..!! .. فإننا نؤكد أننا لن نعبر إلى " حريتنا المفقودة " إلا عبر جرأتنا على مواجهة " عبوديتنا المختارة " .. ومن ثم كان :
    ـ الفصل الأول: العبودية المختارة
    والذي حاولنا فيه أن " نقبض " بالفكر – إن صح التعبير ـ علي مأساة الاستعباد فى حياتنا وإدراك جذور عبوديتنا ، و الإجابة علي تساؤلات كثيرة حول تلك المأساة ، مثل : لماذا يحتمل الناس طاغية لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه ؟ .. ولماذا يتحول الإنسان إلي كائن مسخ يتقن الكذب والتمثيل ؟ .. ولماذا لا يري عيباً فى عبوديته ، ويشعر أنها طوق يستحيل كسره .. بل ربما رأي التحرر انتحاراً ؟! .. إلي غيرها من التساؤلات التي لا بد من الإجابة عنها ، حتى لا نظن أننا بذلنا غاية الجهد فى سبيل التحرر من العبودية ، بينما نحن لم نتجاوز مجرد الحديث عنها ، وإدمان الشكوي من واقعها الأليم ..!!

    حاولنا الإجابة علي تلك التساؤلات عبر تسليط أضواء البحث العلمي الجاد علي " الاستعباد " من جانبه النفسي والتربوي .. ولقد كشفت لنا أضواء البحث أن سبب ذلك المرض هو ما يمكن أن نطلق عليه " مركب العبودية التربوية " ؛ فالمربون " يضطرهم " الاستبداد إلي الكذب والنفاق والتذلل ، و" يدعوهم " الخوف إلى تربية الأبناء علي العبودية للمستبدين ، و " يأمرهم " الهوان أن يكونوا هم ومن يربونهم زيادة في مملكة الاستبداد ، فيتهافتون على الرق والخِدمة ، ويضعون بأنفسهم الأغلال فى أعناقهم والسلاسل فى أقدامهم ، ويلبسون شارة العبودية فى مباهاة واختيال ..!!

    ويتم ذلك من خلال " الترويض " الذي يهييء تربة المجتمع لاستنبات بذور الاستعباد ، و يميّع النفوس فى سوائل ومحاليل الاستكبار التي تشبه إلى حد كبير ما يزعمه السحرة من محاليل تحوّل التراب إلى ذهب ..!! ولكنها هذه المرة تحوّل الذهب الإنساني إلى تراب عديم الفائدة ، لا يقدر علي شيء إلا " امتصاص " العبودية من كل واقع إستبدادي ؛ لأنه يعاني في داخله من " القابلية للاستعباد " التي تنشيء في النفوس أخلاقيات الضعف والخوف ، وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية ؛ فيفقد الإنسان الطموح إلي الحرية ، و يهرب من تضحيات التحرر بإلقاء هذا " الحِمل " علي السلطة المستبدة ليرتاح .. و يكون ثمن هذه الراحة هو " حياة الأغلال " التي يرى الإنسان من خلالها أن التحرر تمردًا ، والاستعلاء شذوذًا ، والعزة جريمة ، ومن ثم يصب نقمته الجامحة على الأحرار ، الذين لا يسيرون فى قافلة الرقيق .. التي تجري وراء من استغني عنها ، وتطلب محبة من ترفع عليها ..

    ولا شك أن أكثر ما يؤلم في هذه الحياة .. حياة الأغلال .. أننا شاركنا فى حفر فخها بأنفسنا ، وبحماس منقطع النظير .. فكلنا يتحمل جزءاً من المسؤولية ؛ فأعداؤنا لم يجرُُّونا إلى نفق العبودية جراً ، بل إننا أحياناً ركضنا إليه ، وشاركنا فى حفره وبنائه فى أحيان أخرى .. وفى جر الآخرين إلى غياباته فى معظم الأوقات ..!! فهل نحن واعون لنقائصنا ، ولكننا نتعايش معها .. أم أننا ألفنا ظلام العبودية فلم نعد نرغب في نور الحرية ؟!!

    إن الحقيقة المرّة أننا لا زلنا نصنع آلهتنا ، ولكنها ليست من تَمر نأكله حين يعضُّنا الجوع ، وإنما هي من لحم ودم ، نركع تحت أقدامها ، و نتجادل ـ وبكل صفاقة ـ أيها أقلُّ سوءاً ؟! .. وكأن الأفضلية عندنا لها حدٌّ خاص قِمَّتُه الصفر ، وقياساته تحت الصفر ..!!

    إنه لا يوجد شيء يبرر الحط من مكانة البشر ، و لا يبرر البؤس ولقمة العيش الاستسلام للعبودية .. بل من حق البؤساء التمرد في وجه الانتهاك الإنساني الذي كانوا ضحاياه المعذبين طويلاً .. لأنهم إن لم يقوموا بذلك فسيدخلون في حالة الإحباط وعدم الفعالية ، ومن ثم لا يستطيعون تقديم الشهادة العملية للحرية ، ولا البقاء في ميدان الصراع من أجلها دون استسلام .. ليس لأنهم مكبلون بأغلال الحديد ، وإنما لأنهم مكبلون بفقدان المبادأة والمقاومة ..

    إننا فى جنازة الحريّة كنا المعزين ، وكنا الموتى فى الوقت ذاته .. و عند حافة المقصلة كانت رقابنا ممدودة ، وكانت أيدينا هي التى وضعتها هناك .. فكنا القتلى ، وكنا القاتلين .. كنا الجلاد ، وكنا الضحايا فى الوقت نفسه .. لقد كنّا على أقل تقدير شركاء فى تلك الجريمة التى أودت بحريتنا ..

    ولا شك أن النفس تلعب دوراً حاسماً فيما وصلنا إليه من واقع أليم ؛ ولذلك فقد كان من الضروري جدا أن تكون هناك وقفة عند النفس المستعبدة .. هذه النفس التى تتصف ببعض الخصائص التى تجعل رؤيتها للواقع سطحية ، عاجزة عن الغوص فيه والسيطرة عليه ، ومن ثم فإنها تخلق العقبات التي تعرقل خطط التغيير التى يكون منطلقها هو التقدير الصحيح والعميق للواقع ، بل إنها قد تعطي المبررات الذهنية لمقاومة التغيير !! ومن هنا كان :
    ـ الفصل الثاني : النفس المستعبَدة
    وهو مرصد نقدي لسلوكيات النفس المستعبدة ، وأخلاق العبيد .. حلوها ومرها ... وإن كانت المرارة تطفو علي سطح الأسطر وتملأ حواشي الصفحات . . فلا يعني هذا أننا ندعو لليأس ، وإنما نحاول الرصد الصادق الذي يقوم على الملاحظة والتحليل النفسي والاجتماعي للظواهر التى نعيشها .. لكتابة نوع من المدخل إلى علم نفس الاستعباد والتخلف .
    و هذه المحاولة بما يعتورها من بعض الثغرات ، تطمح إلى فتح الطريق أمام أبحاث نفسية ميدانية ، تحاول فهم الإنسان المستبعد بنوعيته وخصوصية وضعه ، وبشكل حي وواقعي ، ثم رسم صورة تعرض بعض الخصائص الأساسية لهذا الإنسان وأسبابها ، وتوضح كل منها ، وتبين الرابطة بينها .. لندرك جميعاً الخصائص النفسية للإنسان المستعبد ، والتي تشكّل عقبات في وجه التغيير الاجتماعي ، وتكوّن كابحاً لمشاريع التغيير .. ذلك أنه من المحال أن يتحرر بدن يحمل عقلاً عبداً !!

    وإذا كنا نسعي لتحرير المجتمع ، فيجب ألا نضع حجراً في بناء حتي ننبش الأرض أولاً ، ونطهرها جيداً ، ولقد أرادنا بهذه المحاولة أن نصنع شيئاً من ذلك ، واخترنا منطقة شديدة الوعورة للبدء ، وهي منطقة النفس والأخلاق ..لأن المجتمع إذا زاغت أخلاقه ، زاغ معها فهمه وتلعثم إدراكه ووقع في براثن الخوف ، وفقد الرغبة في استشراف الحقيقة ، والشجاعة في تقبلها

    لقد تبين من خلال هذه المحاولة أن مجتمع العبيد يقوم في الأساس علي فكرة " المصلحة " وتحقيق أكبر نصيب من المتع الحسية دون الاعتبار للقيم ، ومن ثم فهو يعتبر أن الطموح ، وشهوة القوة ، والمصلحة الذاتية ، والانغماس في الشهوات والتكبر ، والانتقام هي الصفات التي يجب أن تُحترم !! .. فيكون له مفهومه الخاص للسعادة ، ومفهومه الخاص للحب والبغض ، ومفهومه الخاص للنجاح والفشل ، ومفهومه الخاص للاستقامة والانحراف ، والصواب والخطأ .. وهذه المفاهيم هي التي تقرر سلوكيات العبيد !!

    و إذا أردت أن تتيقن من ذلك فدونك وقف على الكيفية التى يعيش بها الفرد فى بيته ، وكيف يتصرف مع زوجته وأولاده ؟ .. وكيف يتعامل مع السلطات التى تحكمه , بل كيف يتعامل مع الخدم إن كان لديه خدماً ؟
    فهذه الأمور الحياتية هي التى توضح لك طبيعة هذا الإنسان وحقيقته .!!

    إن العبيد يتعاملون مع كل صاحب سلطة بالخضوع والخنوع والاستسلام ، ويرون أنهم غير جديرين بالحياة الكريمة ، ويرضون بالفتات الذي يُلقي إليهم من يد السيد صاحب السلطة والسطوة .. وشيئاً فشيئاً تذوب الكرامة ، وتنمحي النخوة والعزة والرجولة ، وتسود صفات الانتهازية والنذالة والجبن والتسول المهين ..!!
    ذلك أن الفرد بادئ ذي بدء يخضع للإستبداد ويستسلم له ، وقلبه غير مطمئن به ، ثم يأخذ قلبه في الاستئناس به يوماً بعد يوم حتى يطمئن به ، ويحس من نفسه ميلاً وتشوقاً إليه .. وهكذا يتدرج في الركون إليه والاستئناس به إلي أن يكون عوناً له ومؤازراً في توطيد دعائمه ، بل حتى يأتي عليه اليوم الذي لا يضن فيه ببذل النفس والمال في سبيل إقامة صرحه !!

    ولأن العبيد يؤمنون بالحلول المفاجئة ؛ فإنهم يصبرون في انتظار الفرج بلا عمل جاد ، وينظرون إلى مآسي واقعهم على أنها " أزمة وتعدي " ؟!! ، ومهما كانت قسوة "الأزمة " أمام عيونهم فإنهم يظلون في انتظار حدوث المعجزة وظهور " الزعيم المخلّص " فإن ظهر ؛ انقادوا وراءه لينقذهم من واقعهم " المأساة " بشعاراته القوية .. بل وتدفعهم هذه " الشعارات " لتقديم التضحية والولاء والطاعة للزعيم المغوار " الصنم " من أجل أن يغدق عليهم بالمزيد من الوعود والشعارات الكاذبة لتخفف عنهم وطأة الذل والخزي والمهانة الناخرة لذواتهم !!
    وهكذا تظهر بين الحين والآخر في حياة العبيد بعض " المفاتيح السحرية " في صورة شعارات تعطي الغريق طوق النجاة ، وتقوم بالتنفيس عن آلام العبيد ، وتعطيهم آمالاً خادعة في المستقبل ، فهي أشبه بإعطاء المخدر دون إجراء أي عمليات جراحية لتصحيح المسار ..!!
    ولا يعني هذا بالطبع أن مجتمع العبيد مجتمع ساكن جامد .. بل هناك انتفاضات ومحاولات تغييرية تبرز من آن لآخر ..ولكنها تطمس بسرعة نظراً لشدة قوى القمع .. ولأن من يعيشون أجواء القهر يحاولون التوفيق بين التطلع إلى الحريّة العميق فى النفوس من ناحية ، وبين خبرات الحياة اليومية التى تصدم مشاعرهم وعقولهم ، ويصعب عليهم تجاهلها والاستهانة بها .. وهم يحاولون الخروج من هذا المأزق بالرجوع إلى صورة " القدرية " أو " الجبرية " .. فالمستبدون مقهورون على ما يفعلون بالمستعبَدين ..!! والمستعبَدون يجب أن يرضخوا لقدر الله !!!!
    وهكذا تبقي لدى العبيد رغبة دائمة فى تبرير الواقع ، وتنزيه الذات ، وتشويه الحقيقة بما يخدع الناظر لأول وهلة ، وهم دائمي البحث عن كبش الفداء ، وتلمس العذر للمهانات التى تصيبهم . ومن ثم تكون الأسطورة عندهم أعمق أثراً من الوثيقة التاريخية .. والبدعة التى اختلطت بالدين أقوى من الدين نفسه ، بل إن ذكرى حادثة قديمة قد تكون عندهم أضخم بكثير من الحادثة نفسها ..!!

    إن ظاهرة الاستبداد لن تزول في الواقع إلا حين تزول نفسياً من نفوس المستعبدين حين ينضجوا ويتحرروا نفسياً ويرغبون في استرداد وعيهم وكرامتهم وإرادتهم التي سلموها طوعاً أو كرهاً للمستبد ، حينئذ فقط تضعف منظومة الاستبداد حتي تنطفئ ، وليس هناك طريق غير هذا إذ لا يعقل أن يتخلي المستبد طواعية عن مكاسبه من الاستبداد . و قد أثبتت خبرات التاريخ أن الحرية لا تمنح وإنما تسترد وتكتسب .

    إن أزمة الحرية ليست مجرد نظم إستبدادية ، أو قوانين استثنائية ، أو إعتقالات وسجون وأجهزة أمن وتجسس .. بل تمتد جذورها إلي النفس الإنسانية ، والبيئة الاجتماعية ؛ ولذلك ينبغي على فقه التغيير أن يقرأ النفس المستعبَدة وما تنتجه من فكر ووسلوكيات تقوي شوكة المستبِد ، وتضفي عليها هالة من القضائية والقدرية التي تشعر الانسان بطبيعية المسألة فيسلم ليد الغيب التي هي في الواقع يد السلطان ليس غير . !!

    وحتي لا تبقى هذه هي حال العبيد .. وحتى لايبقون على نومهم ، بينما ديارهم مهددة من النوافذ والأبواب ، والهجوم يتجه إلى الأطراف والقلب معاً ، والهاجمون تراودهم الأمانيّ أنهم هذه المرة منتصرون ، وأن حظهم سيكون أفضل من حظوظ آبائهم الأقدمين ..!!
    وحتي لا تبقي محاولاتهم للتحرر تشبه أعمال طائفة من الرسامين الذين خامرهم النوم ، وأيديهم مازالت تحرك أقلامهم محاولة رسم بناء ، بينما تحاول أيدٍ أخري هدمه من الأساس لتصوغ من أهدافهم النبيلة سخرية متوحشة ... فقد وجدنا من الضروري أن يكون :
    التعديل الأخير تم بواسطة the long night ; 14 Feb 2010 الساعة 10:59 AM
    إلي الذين يحلمون بميلاد مجتمع الحرية حيث يسود فيه الاسلام و تعود الأمة الاسلامية إلي قيادة البشرية
    أهدي لهم كتاب نحو مجتمع الحرية لفضيلة الشيخ الدكتور
    محمد محمد بدري
     
  3. الصورة الرمزية محب رسول الله

    محب رسول الله تقول:

    افتراضي رد: نحو مجتمع الحرية

    جزاك الله خيرا
     
  4. الصورة الرمزية the long night

    the long night تقول:

    افتراضي رد: نحو مجتمع الحرية

    و جزاك الله خيرا يا اخي يا محب لرسول الله و نؤكد ان في الكتاب افكار جميلة جدا
    الباب الثالث :المتلاعبون بالعقول

    وهو محاولة تقدم بياناً على قدر الحاجة ، بعيداً عن تخمة الإسراف ، و مخمصة التقتير .. تتحدث بلسان الداعية ، وتؤكد الأفكار بعقل السياسي .. تنظر لواقعنا المعاش ، و تجربة العصر ، و توقعاته وإحباطاته ، وانتصاراته وهزائمه .. وتؤكد أن هذا الواقع يصب الماضي فيه باعتباره ذاكرة ، ويصب المستقبل فيه باعتباره أملاً ..

    قد لا يشعر القاريء أن هذا الباب قد كشف له عن وقائع لم يكن يعرفها أو أحداث كان يجهلها، ولكنه ربما شعر أنه قد أعيد تصنيف الأشياء والظواهر وترتيب أهميتها علي نهج جديد ، بحيث تتعدل لديه الأوزان النسبية بين الظواهر والحقائق ، فيصير أَحدَ بصراً ، وأدق ميزاناً ، وأقدر علي التمييز للواقع الذي يحرّك العبيد في سعيهم وكدهم وتفاهمهم .. ويرى دون لبس أو غموض أو إيهام كيف يصرفهم الإعلام عن صميم المشكلات ، ويطمس الحقائق و يختلق البدائل ، ويزينها في أعينهم ، لتغيير قناعاتهم .. فتروج سوق النفاق ، وازدواج المعايير فيما يشبه السحر الجماعي الذي يتم تحقيقه بالمثابرة على تكرار الفكرة ربما للمرة المليون ، وسط ميدان كثرت فيه ألاعيب السحرة ، وغابت عنه عصا موسى ..!!



    ولأن هذا الواقع له قانونه الخاص الذي لا يمكن معرفته إلا بالغوص فيه ، ومعرفة مكوناته .. ولأن واقعنا قد تحوّل إلى ما يشبه مياه المحيط التى كلما تعمقت فيها ، كلما ازدادت ظلاماً ، وازداد ضغطها على جسمك وعقلك ، حتى تفقد ولو للحظات قدرتك على فهم ما يحدث أو حتى تفهمه ..!!

    لذلك كله لم يعد يجدي أن نقوم بتغطية هذا الواقع بطبقة رقيقة من الخطابة أو المعارضة العلنية أو السرية ، أو الهجرة خارج الأوطان أو داخلها ، أو اليأس والإحباط والتوقف في المكان .. بل الواجب تحليل مكوناته وتفاعلاته الداخلية وميزان قواه ؛ فقد كان :

    ـ الفصل الأول : فقه الواقع

    والذي أكدنا من خلاله أنَّ وعي الواقعِ هو المقدمة الصحيحة لتغييره .. وأنه كلما زاد الوعي قل الانحراف ، ويبقي الانحراف ما قلّ الوعي أو تلاشي ، ولذلك نرى المستبدين يُركِّزون على سَلْب الوعي والإدراك من المستعبَدين ، حتي يفقدوهم الإحساس بالوقع الاجتماعي ، فلا يكترثون بظلم ولا بعدل ، بل ربما لا يفرقون بينهما .. وتصبح محاولاتهم للتغيير ـ إن حاولوا ـ بلا فاعلية ؛ لأنها تكون منفصلة عن إطارها الاجتماعي ، فتكون المواقف مجرد ردود فعل لما يرسمه المستبدون ، ويكون أسلوب العمل والعلاج عشوائياً خاطئاً كمن يداوي بالكي رجلاً من خشب .!!

    إن الاستبداد يمارس مع المستعبَدين لعبة مصارعة الثيران ، والتي يلوح فيها المصارع بقطعة قماش أحمر أمام ثور هائج في حلبة الصراع، فيزداد هيجانه بذلك ، وبدلاً من أن يهجم علي المصارع يستمر في الهجوم علي المنديل الأحمر الذي يلوح به حتى تنتهك قواه !!

    فالاستبداد يلوح في مناسبات معينة ، بشيء يثير غضب المستعبَدين ، ليغرقهم في حالة شبيهة بالحالة التنويمية التي يفقد معها الإنسان شعوره ويصبح عاجزاً عن إدراك موقفه ، وعن الحكم عليه حكماً صحيحاً ، فيوجه ضرباته وإمكانياته توجيهاً أعمي ، ويسرف من قواه دون أن يصيب بضربة صادقة المصارع الذي يلوح بالمنديل الأحمر... و يستمر الاستبداد في التلويح بالمنديل الأحمر ، حتى لا تكون للعبيد فرصة يتداركون أمورهم ، وينظرون إلي مشكلاتهم بمنطق الفعالية ..

    إن فقيه التغيير لا بد له من خارطة تضاريس الواقع الذي يحيط به إجتماعيا وسياسياً ، لتحديد مساره بدقة ، وذلك من خلال معرفة مستمرة ومتجددة بهذا الواقع ، يقوم فيها الفقيه بين وقت وآخر بنوع من الحساب والمراجعة والتثبت بالحذف والإضافة حيال زمن يتغير ، وواقع يتبدل باستمرار ، وإلا سيكتشف أنه قد توقف فى إحدي محطات الماضي فى الحكم على واقعه ، وأن تصرفاته بعيدة كل البعد عن الزمن الذي يحيا فيه العالم ، ومن خلاله يُصاغ مستقبل البشرية .!!



    ومن هنا ، فإن الفقيه الذي نحتاجه هو الفقيه القادر علي التحرك وسط سائر الظروف ، بكل جزء من المعرفة يكتسبه ، ويتفاعل به مع ما يستجد حوله تفاعلاً حياً يُصلْح الخطأ ويجعله مصدراً للخبرة ، وينَمي الكفاءة ويجعلها سبيلاً لابتكار وسائل التغيير المتجددة .. وليس ذلك الفقيه الذي نرى في واقعه أن القصد قد غاب ، والهدف قد غام ، ولم يعد فكره يصب في الواقع فضلاً عن أن يحركه ، بل انعزل وطار فوقه ، ولم يعد مؤثراً في شيء .. ومن ثم تحول فكره إلى غطاء للواقع أكثر منه مرآة تعكسه أو مبضعاً يشرحه !!



    إن غبار المعركة بين الحق والباطل مازال مثاراً ، وجلجلة سلاح الفكر بينهما مسموعة .. يصطرعان ، ولا يلتقيان .. جموع الباطل يحدوها الزيف والمكر فى غالب الأحوال ، وإن حملت أحياناً شكلاً من أشكال الموضوعية .. و جموع الحق تتزاحم أقدامهم على بوابات الخروج من نفق العبودية .. وليس من سبيل للخروج من ظلمات هذا النفق إلا باب " فقه الواقع " وعبر " الوعي " بما نحياه ..



    ولذلك فإننا نحتاج في هذا الواقع ى أن نلاحظ بعناية ، وأن نقارن بدقة ، وأن نستنتج بعمق ، و أن نلتفت إلى كل دقائق هذا الواقع حتى ما يمكن أن يرى البعض أنه حركات بريئة ، وأن نحرر عقولنا ومشاعرنا من أن نصدق مقولات الآخرين دون أن نتغلغل فيما يعتقدون .. بل لا بد أن تخضع كل الملاحظات للتحليل المستمر ، والتحاور حول كل دقيقة فيها ، مع التحقق من معطياتها .. حتي لا يهزمنا أعداءنا من خلال ..

    ـ الفصل الثاني : إغتيال العقول

    والذي أوضحنا فيه أنه مع إدراكنا أنه ليس كل ما يُعلم يُقال ، وليس كل ما يُقال ، يُقال في كل وقت ، وأنه في بعض الأوقات يكون الصمت هو الواجب .. إلا أننا نرى أن الكلام يصبح هو الواجب حين يستغل الاستبداد صمتنا ، ولذلك كان هذا الفصل محاولة للتوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام في كيفية اغتيال الاستبداد لعقول المستعبَدين ، وبعد قراءة الفصل يكفي القارئ أن يفتح عينيه على الواقع ليرى أمارات هذا الاغتيال ، بل ربما يستخلص من الوقائع المعروضة نتائج لم تلفت انتباهنا ، أو أغفلناها خلال هذا الفصل احتياطاً من التطويل ورغبة في التحديد.



    لقد أصبح الإعلام من أقوي " الأسلحة " ، ووُظفَت دراسات علم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم في خدمته ، حتى أصبح قادراً علي " صناعة " اهتمامات الفرد ، و " صياغة " أفكاره ، و " تغيير " سلوكه بما يتفق مع التغيير الاجتماعي المنشود .

    ولقد قطع الإعلام المعاصر خطوات كبيرة نحو " الإنسان " حتى أوقعه في أسر العبودية ، و خففت نعومة وسائل الإعلام من غلواء القهر والاستعباد ، وشككت المستعبَدين في قدرتهم علي التغيير.. بالتماس الحيلة فى إدارة النفس الإنسانية ، والتي أصبح تعبيد البشر من خلالها فناً كاملاً ، وعلوماً وممارسة !! .. وأضحت هذه الطاقة الإعلامية ذات قدرة فائقة علي صياغة حياة الإنسان وعالمه وأفكاره ومشاعره .



    وأمطرت سماء الإعلام المنظم الشرس الأرض بمعلومات خاطئة ، و أفكار أعمت الأبصار ، فشغلت العقول بما لا ينفع ، وأفقدتها ربط الأفكار ربطاً صحيحاً ، حتى تكبلت بقيود أفقدتها حتى التبصر بالبديهة عبر إزاحة حواسّ المتفرج ، وإلغاء الاستقلالية والحيادية لتلك الحواسّ ، والوقوف فى وسط الطريق بين الإدراك بالرؤية بالعين والسمع بالأذن والتعبير باللسان ، و استخدام العقل بحكمة وموضوعية .. ثم الاستعاضة عن ذلك بسديم ضبابي يخدّر الحواس جميعاً ، ويمنحها متعة سريعة طارئة وزائلة فى الوقت ذاته .. ثم هو في ذات الوقت يمنع العقول من أن تربط بين الأحداث ، فتصاب بما يمكن أن نطلق عليه " الذريّة " في النظر لتلك الأحداث ، واعتبارها ذرّات منفصلة ليس بينها أي ارتباط عضوي ، و لا يمكن استخلاص قانونها العام الذي يمكن تطبيقه في الحالات المشابهة !!



    وهكذا .. يستمر اغتيال العقول ، فتأتي الأخبار أنهم يريدون تغيير نظام هنا أو تثبيت آخر هناك ، بينما هم يريدون نظام حياتنا ..!! وتؤكد التحليلات .. لقد حاولوا اغتيال فلان أو فلان ، بينما قنّاصهم دوماً يصوّب سلاحه نحو رأسي ورأسك !! .. لا يريدون قتلي أو قتلك ، وإنما يريدون كلاً منا حياً بأفكار ميتة ..!!

    وتأتي أنباء الحروب أن صواريخهم تدّك ما أنشأنا من مباني ، بينما عيونهم على ما نشأنا عليه من قيّم ..!!

    و بين السطور ، ووراء الأخبار .. خلف التحليلات والتعليقات .. خارج لغة البيانات التى تتمخض عن المؤتمرات .. أكون أنا وأنت دوماً البند الأول غير المعلن ..!!



    إن عصابات الاستبداد تبني خطتها على أن الحراس قليلون أو نائمون ، وأن المنافذ سهلة لا وعرة ، وأن الاستيلاء على الغنائم لن يكلف جهداً يذكر ، فهي تقوم بعملها لا يخامرها قلق ، وكثيراً ما تعود من مغامراتها وهي راضية بما نالت ؛ لأنها تتخفي وتتلون وتقوم في كل مرة باحتلال مساحات صغيرة من عقول المستعبَدين ، ونفوسهم ، ثم تحلل هذه النفوس في مختبرات متخصصة في الكيمياء السياسية ـ إن صح التعبير ـ تخصصاً عميقاً ، لتكتشف الطريق إلي إبقائهم في دائرة الاستعباد ، ثم تبدأ في إقامة مناطق مراقبة لا يعي المستعبَدون مدي انتشارها ، لتنسج من خلال كل تلك الخيوط :

    ـ الفصل الثالث : بيت العنكبوت

    وقد أوضحنا من خلاله أن خطط الاستبداد تكون أحيانا مدوية واضحة ؛ حروب وانفجارات وصواريخ .. ومرات تكون سرية وخفية .. حيث يُحفر الفخ شيئاً فشيئاً ، بصمت العنكبوت ، ومكر الثعلب ، وبطء السلحفاة ، ومثابرة النملة ، وتلوّن الحرباء ، وغدر الذئب .. فيسقط فيه المستعبَدون الذين ـ ربما ـ توهموا أن الاستبداد قد اقترف خطأَ كبيراً !!

    وهكذا .. يتحكم الاستبداد في المستعبدين من خلال " خيوط العنكبوت " التي ينسجها وفقاً لانفعالاتهم ، ولعقدهم ، ولنفسيتهم .. ذلك أن العبيد لا يفعلون ، وإنما ينفعلون .. ولذلك فإنه بينما يفكّر الاستبداد في الحُفر الموحلة التي يريد أن يوقعهم فيها ، فإنهم لا يفكرون إلا فيما وقعوا فيه بالأمس من حفر موحلة .. !!



    إن المؤامرة هنا ليست نظرية ، وليست افتراضاً ، وليست وجهة نظر .. إنها الواقع المحبوك الذى نعيشه ، والذى يحاصرنا من كل الجهات .. إنها اليقين الذى نقطع به فى عالم ملىء بالافتراضات والاحتمالات والمتغيرات .. إنها الحقيقة القاطعة مثل حد سكين يخترق الرقاب ، أو شفرة حادة لا نجرؤ على ابتلاعها ، ولا نقدر على إخراجها .. إنها الواقع الذى يبتلعنا مثل أخطبوت هائل الحجم لا متناهي الأذرع .. إنها المؤامرة المحبوكة المخطط لها ، والتي يشعر معها المرء أنه ذرة ألقيت بين قوي رهيبة متطاحنة ، فإذا لم تسحق إلي غبار الغبار فإنها معحزة .. ذلك ان الاستبداد يتعامل مع المعارضين عبر وصفة ثلاثية مضمونة .. فإمّا شراؤهم بالمال .. أو توريطهم بمنحهم مقاعد وثيرة فى ديكور سياسي فيه كل شىء إلا ما ينفع أو يفيد .. أو السجن لمن يعاندون مكاناً ضيقاً حتى تتعفن عظامهم .. وبذلك ينضبط المجتمع ويعمّه سكون المقابر !!



    ولا شك أن للمحترفين من رجال الدين وظيفة أساسية في بيت العنكبوت .. تلك هي وظيفة التخدير والتغرير بالجماهير ، وإقناعها بأن القهر حرية ، وأنَّ الفقر نَماء ، وأنَّ ما يحصل لنا قدر ..!! كل ذلك من خلال خطاب يقترب أن يكون لوناً من التجارة بالدين .. تلك التجارة التي تجعل من العاملين للإسلام جزءاً مكملاً لجهاز الاستبداد .. كما كان فرعونُ يضع قيداً حول رقبة الرجل ويَمتطي كتِفيه، بينما يقومُ قارون بتفريغ جيوبه ، وكان بَلعمُ بن باعوراء مكلفاً بالهمس في أذنه بِرقَّة وحنان وعطف، وإقناعه بأن يَتحمَّل هذا الوضع ويعتبرَه مشيئةَ الله ..!!

    وهكذا يحاول الطغاة أن يجعلوا من العبيد قطيعاً من الأبدان تروح وتغدو ، تائهة المسير ، مسلوبة الإرادة ، فاقدة الوعي .. يحاولون ذلك من خلال معاقبة المخالفين في الرأي ، ومكافأة الأزلام .. ومن قبل ذلك ومن بعده ، من خلال الإكراه العقائدي الذي لا يشم الإنسان معه رائحة الحرية إلا حين يكون وراء قضبان السجون !! ..



    إن الطغاة في سبيل الوصول إلي أهدافهم يسوغون كل انتهاك للمبادئ والأخلاق ، فالمباديء عندهم لا تعدو أن تكون برقعاً جميلاً يخفي وراءه وجهاً بشعاً ، وكلاماً علي اللسان معسولاً يغطي فعلاً أثيما .. والأخلاق عندهم لا تعدو أن تكون مناديل ورقية تستخدم لمرة واحدة لتحقيق المصالح ، ثم تلقي في سلة المهملات .. !!

    ولهم في ذلك أسوة بأسيادهم من اليهود البعيدين عن الإنسانية ، والمعادين لها ، الذين يرضون بديلاً عن خضوع الإنسانية لسلطانهم من خلال كل صور الفتنة والفساد التي تسولها لهم أنفسم المغلولة .



    و في كل الأحوال يحرص الطغاة علي إبقاء المستعبَدين في حالة من الاستكانة ، والجهالة والخضوع انتظاراً لخيرات يتفضل بها " السادة " على " عبيدهم " .. فإذا بدأت النذر بأن السماء قد تمطر ناراً أو دماراً علي أعداء الله ، بأيدي أولياء الله .. عندها يبدأ الاستبداد " لعبة " جديدة يمسك فيها بالمستعبدين من خلال خيوط من الخوف رفيعة كخيوط العنكبوت .. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، لو كانوا يعلمون ..!!



    إن الطغاة يحاولون من خلال المكر والتآمر إلقاء الخوف في قلوبنا ، بينما الحقيقة أنهم هم الخائفون ، ويغطون خوفهم بتصدير الخوف لنا .. وما خوفنا منه إلا وهم تصنعه عقدة النقص التي تربت فينا في مواجهتهم .. ولكي نتخلص من هذه العقدة ؛ لا بد أن نؤمن أن الصراع بيننا وبينهم هو في حقيقته صراع إرادات ، من يُصدر الخوف لمن ؟ من يُلقي الرعب في قلب الآخر ؟ .. وأنه إن كان يصعب علينا ـ أحياناً ـ مواجهة قوتهم لعجزنا عن تلك المواجهة ؛ فإن قدرتنا علي تقوية أنفسنا ستظل أمراً متاحاً لا يقدر أحد علي منعنا منه .. فإذا امتلكنا القوة السياسية التي تقوم علي قواعد الحرية و العدل و الإحسان ، وإنزال القيم مناط التطبيق ، وحمل المبادئ فوق الأشخاص ، وزرع نبتة الأخوة الحقيقية ؛ فإننا قادرون ـ بإذن الله ـ علي هدم بيت العنكبوت ..!!

    ولست أزعم هنا أنني قلت عن بيت العنكبوت كل ما ينبغي أن يقال ، فنحن في زمان يجعل ما يسكت عنه المرء – فى بعض الأوقات ـ أهم مما يقوله ، و يشبه الخوض فى بعض قضاياه الدخول إلى " جحور الأفاعي " !! .. وإنما حاولت إلقاء ضوء على عناصر القوة وعناصر الضعف في هذا البيت .. وإلقاء حجر في مياه وعينا لتحريكه ، و ليتأمل القاريء بين الأسطر ، ويحاول اكتشاف دقائق هذا الواقع ، ويستجلي خطط المجرمين ، ليصبح قادرًا على معرفة ألاعيبهم ، ومن ثم مواجهتها بجدية وقوة تتناسب مع الرسالة التي يحملها للعالمين بالخروج من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. تلك الرسالة التي نتحدث عنها من خلال :



    إلي الذين يحلمون بميلاد مجتمع الحرية حيث يسود فيه الاسلام و تعود الأمة الاسلامية إلي قيادة البشرية
    أهدي لهم كتاب نحو مجتمع الحرية لفضيلة الشيخ الدكتور
    محمد محمد بدري
     
  5. الصورة الرمزية the long night

    the long night تقول:

    افتراضي رد: نحو مجتمع الحرية

    معذرة
    أرجو من ادارة المنتدي حذف المكرر من المشاركة السابقة لانه حدث خطأ غير مقصود مني
    و اليكم أيها الأحبة الجزء الرابع و يبقي الجزء الاخير المرة القادمة ان شاء الله تعالي

    الباب الرابع : الحرية والحضارة

    وهو محاولةٌ لإحياء فهم الإسلام ؛ من حيثُ هو رسالة غايتها تحرير " الإنسان " ، لتأهيله لعمارة الدنيا ، وقيادة البشرية ، نحاول من خلالها إعادة تركيب ملامحنا لنطل على العالم بوجه له سمة التسامح والمرونة ، وعقل يحمل مشروع تحطيم أغلال العبودية ، وقلب يأنس به كل من يقابله من بني البشر .. ويدرك من خلال التعامل معه أن هذا الدين موضوعه هو " الإنسان " ، وهدفه هو " تحرير " هذا الإنسان من الأغلال السياسية ، والأصار الاجتماعية التي صارت عليه .. لينشأ مجتمع " الحرية " من خلال تصحيح القيم والموازين ، وترشيد المشاعر والسلوك ، لتكون قادرة على أن تحتضن في أكنافها كل إنسان .

    ولأن بذرة التغيير الحضاري لا تنمو ولا تزدهر وتورق وتؤتي ثمارها علوماً ومعارف ونظماً إجتماعية .. بل وتستقطب وتجذب خيرة الموارد البشرية والمادية من بيئات أخرى مختلفة ، إلا فى مناخ الحريّة .. و لأن الإنسان يعيش فى ظل الحرية نشيطاً في أعماله ، سعيداً بآماله .. فإن الحرية تصبح ضرورة .. ضرورة للدين وللعقل والفكر ، وضرورة لتوفير العدل والأمان ، وضرورة لرعاية العهود والحرمات .. وضرورة من ضرورات الحضارة بل يمكن أن نقول أن :

    ـ الفصل الأول : الحرية شرط الحضارة

    والذي أكدنا من خلاله أنه بقدر نقص الحريّة ، تنتقص الحضارة حتى تأخذ طريقها إلى التخلف والتصحر والتحجر .. حتى إذا استكملت تلك الجراثيم المهلكة حظها وبلغت مبلغها من التمكن تكون قد آذنت شمس الحضارة في ذاك الفضاء بالمغيب ليستقبل نعيق البوم فى ليالي التخلف المديدة . وينادي مؤذن الكون بالرحيل ..!!

    أمّا حين تضىء شموس الحرية ، وتضرب بأشعتها فى كل واد ، فإن البشر تتسع آمالهم ، وتكبر هممهم ، وتتربى فى نفوسهم ملكة الاقتدار على الأعمال الجليلة ، فتتفتق القرائح فهماً ، وترتوي العقول علماً ، وتأخذ الأنظار فسحة ترمى فيها إلى غايات بعيدة ، فتصبح الإمكانات طوع اليد ، والطاقات طوع الفكر ، والمصير طوع الإرادة ، ويكون التخطيط طريق المجتمع فى بناء الحضارة ..



    ولذلك فإن كل الحضارات يجمع بينها أنها توفّر العدل والحرية .. وهذا يجعلها مجالاً رحباً لتفتح الملكات ، وقوة جذب للنابغين وذوى الكفاءة والطموح فى شتى مجالات المعارف والعلوم والفنون والتجارة والمال ، ابتغاء ترقية ملكاتهم وتحقيق طموحاتهم .. بينما غياب هذه الحقوق والقيم يؤدى إلى أن تذبل الملكات ، ذلك أن الإكراه والقهر والضيق بالخلاف ، ورفض سنة التعدد وحقوق الآخر فى الاختلاف ؛ يجمد حركة الحياة فتأسن وتتحجر ، فيغدو الفضاء الإجتماعي طارداً للطاقات ، يضيق ذرعاً بالإبداع والمبدعين ، ينعق فيها البوم ، وتعشش فيه الفوضى ، وترى العصافير التى كانت تعمر الأشجار بشجي الغناء تأخذ فى الرحيل خشية الصيّاد المتربص باحثة عن فضاء حضاري آخر تجد فيه العدل والحرية والأمن ..



    إن الاستبداد يخترق جسد المجتمع عبر وسائل عدة ، فيحطم كافة قوى المقاومة فيه ، و يمحو المميزات الفردية بداخل أفراده ، ويصهر الشخصيات الخاصة بهم فى بوتقة القطيع ، ثم يميّع أنفسهم فى سوائل ومحاليل تشبه إلى حد كبير ما يزعمه السحرة من محاليل تحوّل التراب إلى ذهب .. ولكنها هذه المرة تحوّل الذهب الإنساني إلى تراب عديم الفائدة ..!! ينمو في تربته الاستبداد ، ليصبح أشجاراً باسقة تمد ظلالاً من الرعب على المستعبدين فيتحول الفرد منهم إلى كائن مسخ يتقن الكذب والتمثيل .. لا يرى مشاكله بل يصطدم بها اصطداماً .. فيسرع الى الحلول الجاهزة والسريعة لمشاكل في حجم الجبال !!



    ولأن زرع مفهوم الحرية لدى الإنسان هو الذي يصنع الحضارة ، لأنه يُنشئ لديه إرادةً نحو التغيير لا يستطيع لها دفعاً .. ولأن المفاهيم السليمة تُوجد المناخ الجيد ، وهو بدوره يُبْرز أحسن ما في الإنسان .. والمفاهيم القاتلة أو الميتة ، تُوجد مناخاً سيئاً ، وهو بدوره يُبْرز أسوأ ما في الإنسان ؛ فإن من أهم شروط الفكرة التى تنتج الحضارة أن تحرر الإنسان من كل ضروب القهر والاستبداد ، وأن تزوده بأهداف وقيم عليا تعطي معنى لحياته ؛ وتجعله يستعلي عن أن يَستعبِد غيره أو يُستعبد هو من أحد ، ولا شك أن الإسلام هو الفكرة المثلي ، والطريق الأقرب لتحقيق ذلك الهدف لأن :

    ـ الفصل الثاني : الإسلام رسالة الحرية

    والذي أكدنا من خلال أفكاره أن الحرية هي قيمة الحياة .. لأن الحرية هي شعور الإنسان بالتوافق والتناغم مع فطرة الحياة.. من حركة إيجابية ، وإرتقاء نحو الأفضل ، وشعور بالوجود ، وقدرة على التأثير ، و هي شعور بالتحرر من كل الآصار والأغلال والأوضاع التي تخالف الصورة الربانية للحياة الإنسانية .. تلك الأوضاع التي يخسر الإنسان فيها كيانه ، و شخصيته.. تفرده ، و إبداعه .. بل إنه يخسر نفسه !! .. ولذلك فإنه ، وإن كان في محاولة الخروج عن القطيع خطورة بالغة ، لكنها لا تساوي لحظة واحدة يبقاها الإنسان بلا قيمة بين قطيع البشر..

    إن لهذه الحرية قيمة ضخمة .. بل هي قيمة الحياة ، وتتمثل فيها كل معاني الحياة ، ولذلك فإن من وهبه الله تلك النعمة لا بد أن يمنحها للأموات من العبيد قبل أن تنتهي رحلتهم على هذه الأرض .. يمنحها لهم وهو يدرك أن هذا المنح هو طريقه لأن يبقي هو في حياة .. ويسعي إلي تحرير " الإنسان " .. كل الإنسان ، في الأرض.. كل الأرض ، وهو يرى أن قيمة جهده في أن يبقى ساعياً نحو الحرية ، ونحو الحفاظ عليها ..وأن مهمة تحرير الإنسان هي السبيل للحفاظ على الحرية ترفرف في قلبه ؛ فيكون حمله لها من خلال رسالة أمن و هداية ، وليس رسالة إرهاب وجباية ..

    ولا شك أن هذه هي رسالة الإسلام التى يخرج الله بها من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. يحملها رواد ، فيهم من القدرة والطاقة ، والإدراك والكفاية ، والاستعلاء والحماسة ، والإصرار والصلابة ، بقدر ما فيهم من الإيمان ، والثقة بهذا الإيمان ، لكي يخلّصوا أنفسهم من ضغط هذا الواقع .. ولكي يملكوا – على الرغم من الواقع والتوجيه المضلل – أن يروا رؤية واضحة .. تصوراً آخر أرفع وأكمل ، وأعمق حيوية ، وأكثر طموحاً ، من كل التصورات التى تعم الأرض اليوم ، فتعبّد الإنسان للإنسان ..

    إن هؤلاء الرواد يشعرون بـ " الأناقة الحضارية " ، في صورة القيام بدور حمل رسالة إنقاذ للبشر، وإخراجهم من عبودية بعضهم لبعض .. يرددون لكل العالم : " جئنا لنخرجكم من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " ، و تثور ثائرتهم علي أحبائهم المقربين ، إذا هتكوا حرية أحد ، فتنفجر قداسة الحرية علي ألسنتهم : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟! " . ثم هم بتلك الرسالة يحاولون إرساء الأسس الصلبة لتحضّر راق متوازن يهضم كل ما حققته البشرية من مستويات سامقة من التحضّر ، ويعالج مشكلاته المستعصية فى نطاق مفهوم شامل للحرية .. تلك الحريّة التى تعنى عبادة الله بالحياة وفق منهاجه الذى يستجيب لكل أبعاد الإنسان وحاجاته الفكرية والنفسية والعقدية والحياتية عامة ، ويرحب بكل إنجاز حضاري يرسي نظاماً اجتماعياً يكفل الحريات والحقوق ، ويرتقي بالإنسان فى كل جانب من جوانب حياته ..



    و حتى لا يصير هذا الفصل من الكتاب كموعظة لركاب سفينة تغرق ويأتيها الماء من كل مكان .. وحتى لا يكون حديثنا فيه كمن يقرر أن البحر هائج ، وأن قوارب النجاة لن تجدي شيئاً ؛ فإنه لا بد من باب نتحدث فيه عمّا يمكننا عمله حتى لا تغرق السفينة البشرية .. فننتقل من مرحلة عرض الإسلام الفكرة ، وإبراز حقيقتها وعظمتها وجماليتها ، إلي مرحلة الاهتمام بكيفية تحقيقها في الحياة العملية ، وتحويلها إلي مجتمع حيّ متحرك . نخرج به من نفق العبودية ؛ لنبدأ السير فى الطريق إلى الحرية ، ولذلك فقد ختمنا بحثنا بـ :

    إلي الذين يحلمون بميلاد مجتمع الحرية حيث يسود فيه الاسلام و تعود الأمة الاسلامية إلي قيادة البشرية
    أهدي لهم كتاب نحو مجتمع الحرية لفضيلة الشيخ الدكتور
    محمد محمد بدري
     
  6. الصورة الرمزية أختكم في الله مها

    أختكم في الله مها تقول:

    افتراضي رد: نحو مجتمع الحرية

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .



     
  7. الصورة الرمزية the long night

    the long night تقول:

    افتراضي رد: نحو مجتمع الحرية

    جزاك الله خيرا اختنا الكريمة اكرمك الله تعالي و اعزك
    و الآن وصلنا الي الجزء الخامس و الاخير من المقدمة
    الباب الخامس : سبيل الرشاد

    و أوضحنا فيه ، أنه مع ما يبدو من ضخامة الواقع الذى تعيشه البشرية اليوم.. ولكن الحقيقة أن هذا الوضع هو أنسب وضع للمحاولة ! فالفكرة الجديدة جدة كاملة هي أقرب أن تُسمع ، وتكوين النفس البشرية الفطري يجعلها أشد إصغاء للجديد – حين تكون جدته كاملة تثير دهشتها – منها للإصغاء إلى المألوف ، أو التعديلات الجزئية القريبة .. وليس كهذا الإسلام نقلة بعيدة جداً .. بعد السماء عن الأرض .. أو إن شئت قلت : بعد صنعة الله عن صنعة العبيد !!

    إن الإسلام هو سبيل البشرية إلي الحياة الراشدة الهانئة .. إلا أنه لا يقود إلي هذا النوع من الحياة إلا إذا جرت خطوات عرضه وتطبيقه حسب منهاج واضح وترتيب محدد .. يمثل " المشروع الحضاري الإسلامي " ، وهذا المشروع ليس برنامجاً سياسياً من بين برامج أخرى ، ولا وهماً يقترح " أفضل العوالم " ، أو عالماً خيالياً ، بل إنه مشروع يدعو إلى اليقظة ويقترح خطوط عمل تنفصل عن العبودية التي يعيشها هذا العالم ..

    إنه محاولة للحلم والنقد والمبادرة . . الحلم بالمستقبل ، والنقد للواقع المرير ، والمبادرة بوضع الحلول للمشاكل المحيطة بنا .. يحملها ـ بتوفيق من الله ـ الذين يحلمون وعقولهم يقظة ، وعيونهم مفتوحة ، ويستعدون لأحلامهم بالعمل .. فيحول الله بهم الحلم إلى واقع ، لأنهم أقلعوا عن مجرد تفسير الواقع ، وبدأوا الابحار فى طريق المستحيل !!

    وهذا المشروع ينتقل من مرحلة عرض الإسلام ، وإبراز حقيقته وعظمته وجماليته ، إلي مرحلة الاهتمام بكيفية تحقيقه في الحياة العملية ، وتحويله إلي إنسان حي حر ، ليكون هذا الإنسان هو المقدمة لـ " ميلاد مجتمع الحرية " .. كل ذلك في إطار من نص حضاري حر .. حضاري بفكره ومنهجه وموضوعه ..حر تنسجه خيوط الصدع بالحق القاصد إلى الوعي بالذات وبالواقع .. تحمله أشواق واقعية ، لا يصاب الإنسان باليأس عندما لا يستطيع لها تحقيقاً ..وكلما أسلمته التجارب إلى صدمة في الرؤية ، انفتح له من واقع هذه الصدمة باب جديد للتأمل في " سبيل الرشاد " والخروج من التيه إلى " مجتمع الحرية " !!

    ولأنه لا شيء في هذا العالم يحدث اعتباطاً، ولا يمكن أن يحدث شيء واحد في حياه البشر اعتباطاً . وإنما كل شيء في حياه البشر يجري حسب سنة الله التي لا تتخلف ولا تحابي أحداً من الخلق مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباة ، و لا يجدي معها " تعجل " الأذكياء ، ولا " أوهام " الأصفياء " .. ولأن التغيير ليس هديه تُعطي ، ولا غنيمة تُغْتصب ، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بتغيير ما بالأنفس فقد كان :

    ـ الفصل الأول : حتى يغيّروا ما بأنفسهم

    حيث انصبّ جهدي كله في هذا الفصل على بيان أن وظيفة تغيير ما بالنفس هي وظيفة " الإنسان " ، وأن تغيير ما بأنفس الأفراد هو الشرط الجوهري لكل تغيير للمجتمع ، لأنه لن يكون هناك سحر يمحو عبوديتنا وتخلفنا في لحظات ويبدلهما حرية وحضارة ...إنما يحدث ذلك وفق سنن ربانية تقوم عليها الحياة ، لا تحابي أحداً مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباة .. ولكي ننجو من الاستذلال والاستعباد ؛ لا بد أن تنجو نفوسنا من أن تتسع للذل ، وتتخلص أرواحنا مما يؤهلها للعبودية .وهذا هو المنهج الصحيح للتغيير ، والذي أضاءته بنورها تلك الآية الكريمة:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .. تغيير لما بالأنفس غايته هجر الأفكار والثقافات والقيم الخاطئة بكل موروثاتها الصنمية ، إلي الإسلام بقيّمه التوحيدية ..

    وهذا الفصل من الكتاب يأمل إحداث بعض التغيير في طريقة التفكير في مجتمعنا عبر تحريك ما هو ساكن وقابع في داخل الذين يعيشون في وسط التغيير ولا يلاحظونه ، أو لا يرغبون في ملاحظته ، أو لا يعرفون كيف يضعون أيديهم عليه ، فهو إذن يخاطب الذين تعلموا بالتلقين أن هناك طريقة واحدة للإجابة ، وأن هناك حلاً واحداً للمسألة ، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، أو غير الفاعلين منتظري رد الفعل . .

    والبداية من هنا .. من " إقرأ " هذه الكلمة التي أدهشت النبي ( ص ) ، وأثارت معه وعليه العالم .. و التي وضعها القرآن بداية للذين حمَّلهم مسؤولية تحرير الإنسان ، وقيادة البشرية .. لأن الذين يقودون العالم هم من يعرفون كيف يقرأون .. ذلك أن القراءة معناها المعرفة ، والمعرفة معناها أن ينمو العقل وينضج التفكير .. فيمتلك الإنسان العقل الذى لا يخاف ، فيرتاد الإبداع ويكسر الآبائية الفكرية .. كل ذلك عبر أسئلة تحطم سلطان الاستبداد ، و أفكار هي سبيكة معرفية نفيسة ، تتشابك وتتوافق في صياغتها ، المنهجية العلمية ، والجمالية ، والإبداعية ، فتنشيء المجتمع الذى يوفر لأفراده الإطعام والأمن .. ويحررهم من علاقات الاستضعاف والاستكبار ..

    وهكذا .. تبدأ التكونات الجنينية لمجتمع الحرية من " إنسان الفكرة " الذي تحررت نفسه من الخوف إلى الثقة ، ومن القهر إلى الإرادة ، ومن الإستلاب إلى الاعتزاز ، ومن الإنزواء إلى الصدارة .. و من رد الفعل إلى الفعل .. تبدأ من خلال إشراقة التوحيد المشبعة بفكرة الاستخلاف ، يحملها ذلك الإنسان فيستجيب إليه طليعة .. و تعيش هذه الطليعة فى مناخ مناهض لفكرة التوحيد والاستخلاف ، فيولّد ذلك شعوراً عميقاً بالتحدي لدى تلك الطليعة .. فتحدث هذه الفكرة مع التحدي تغييراً داخلياً فى نفوسهم .. وهذا التغيير هو ما يفي بالشرط : :{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .

    إن التغيير يخضع لعلاقة بين الهدف والوسيلة.. وإنه من الخطأ كل الخطأ أن نتصور أن نجاحنا في تحقيق هدفنا يمكن أن يحدث بطريقة سحرية غامضة الأسباب؟! .. فإذا كنا لا نملك الآن ما يمكننا من الوصول إلى هدفنا ، فإن هذا لا يدفعنا أن نتوقف عن العمل حتى تتدخل القوة الخارقة الغامضة الأسباب لتوصلنا إلى هدفنا ؟!.. بل المطلوب منا هو العمل قدر الوسع والطاقة واستخدام الوسائل التي نملكها .. و من أكبر ما يعيننا على ذلك أن نتعلم فن ممارسة الممكن .. فلا نزهد في الممكن الصغير ، لنتعلق بالمستحيل الكبير ، ذلك أن النتيجة ستكون فوات الصغير والكبير معاً .!!

    إن البعض قد يرون أن ما يقومون به من أعمال صغيرة هو أمر غير مثمر ، ولكن الحقيقة أن هذه الأعمال تختزن فى صورة " طاقة وضع " إن صح التعبير .. وهذه الـ " طاقة " تتشكل بعد فترة كـ " طاقة حركة " .. فإذا حافظنا على تلك الأعمال من أن تتضارب ، أو تذروها رياح الفكر الموجّه ، وعواصف الواقع المؤلم ؛ فإننا قادرون ـ بعون الله ـ على الوصول إلى المرحلة الحاسمة في مواجهة الاستبداد ، تلك المرحلة التي نتغلب فيها على خوف الموت ، لنبدأ عملية تحرير الإنسان من خلال الانتصار على الخوف والاستكانة ، والانتصار على اليأس والقلق .. وغيرها من المشاعر المتأصلة في نفس الإنسان المستعبد ؛ فيندفع إلى المواجهة المباشرة للإستبداد ، من خلال رسالة الحرية ، " شاهداً " للإسلام ، و " شهيداً " من أجله ..

    ولأن التربية على تعشق الحرية ، والسعي في رفع الاستبداد عن العقول ، هو المقدمة الصحيحة لانطلاق الإنسان لتمزيق غيوب أوهام الاستبداد التى تُمطر بالمخاوف .. ولأن بذرة " الحريّة " فى القلوب هي الطريق إلى اجتثاث شجرة الاستبداد اللعينة من حياتنا ، و " بداية البدايات " فى طريق خروجنا من نفق العبودية المظلم ، إلى فضاء الحرية الراشد ، فقد حاولنا بيان كيفية الوصول إلى ذلك من خلال :



    ـ الفصل الثاني : ثقافة النقد والحوار

    و يأتي هذا الفصل في سياق الإثراء الفكري .. وفي دائرة توسيع الخيارات ، والتأكيد على أن الاجتهاد ضرورة ، والإبداع محرك ، وأن التقليد تراجع ، والنمطية قيد ، ولذلك فإنه يلزم كل المربين تشجيع المتربين علي البوح بمكنوناتهم ، وعلي الحوار ، والبحث ، والإبداع .. لأن الحياة تُعاش ولا تُلقن .. وفهم المنهج يكون بحرية العقل ، ونقاء القلب ، لا بالترديد الأعمى ..

    وقد حاولت تناول هذا الأمر من زاوية تربوية تعتمد إثارة العواطف والأشواق نحو طلب الحرية ، والتضحية في سبيل نيلها ، وبيان الطريق إلى تربية الأحرار .. في محاولة لإحياء ثقافة النقد الحوار ، ورفضِ ثقافة الصمت ، التي تصنع من الإنسان شيطاناً أخرس .. أو تدفعه إلى كلمات خائفة مذعورة ، تزيّف الواقع ، وتسوّغ العبودية في زمن يجب أن تُنسج خيوط الكلام فيه من خلال الصدع بالحق ، ويُبني صرح التربية فيه على قواعد من الاختيار والإرادة ..

    ولا شك أن هذا لا يكون إلا من خلال فكر نقدي ، يراقب الأفكار بدون ملل ، ويدخل التصحيح على الخطأ .. يغربل الحقيقة ، ويخصب العقل ، ويشحذ الفاعلية ، ويحصحص الحق .. يؤمن أنه من حق كل إنسان أن يكون له صوت مسموع ، وأن يعبّر عن خطابه النقدي بطريقة أو بأخرى ، وأن يشترك بشكل أو آخر في معركة الدفاع عن هذا الحق ، حتى لا يصح فى النهاية إلا الصحيح ، ولا يثبت إلا الصواب .. كل ذلك من خلال حوار مبدع يجعل الحرية هي قاعدة الوعي ، ويؤمن أن التغيير هو غايته ..



    ومن هنا فإن المربي الناجح هو من يكون لديه الرغبة في تغيير الواقع ، وليس من يقوم بتربية الآخرين على تقبّل هذا الواقع أياً كان !! .. هو من ينشيء فيمن يربيهم القدرة على نقده إن أخطأ ، ومعارضته إن أصرّ ، وإقصائه إن انحرف ، وتجاوُزِه إن عجَز أو قصَّر .. هو من يتيح الفرصة لمن يربيهم لكي ينطلقوا ويتحرروا من ملاصقته لهم ، لأنه يدرك أنه من المستحيل أن نطلب من الطائر أن يحلق بحرية بعد أن وضعناه داخل قفص بدعوى حمايته من الطيور الجارحة التى قد يواجهها أثناء التحليق عالياً وبعيداً ..



    إن التربية التي تسير في اتجاه واحد ، من المربي الذي يقوم بالدور الحيوي الفاعل والنشط ، إلى المريد المراقَب والمحاصَر في جميع حركاته ، والذي لا يعدو عقله إلا أن يكون " بنكاً " للودائع الجاهزة سلفاً عند مربيه !! .. إن هذا اللون من التربية لا ينتج إلا نسخاً كربونية من المربي ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن حالة التلقي والخضوع السلبي ، والطاعة العمياء تُعد المتربين ليكونوا عبيداً.. ونهيّئهم ليكونوا خرافاً سهلة المنال في مجزرة الاستبداد ، وهذه ليست تربية ، و إنما هي جريمة كبري .. !!



    إن " تربية الحرية " القائمة على " الحوار " تؤدي إلى " فكر نقدي " يقوم علي " النصوص الحرة " محدثاً " فعلاً إجتماعياً " يغيّر الله به واقع الاستبداد .. ذلك أن ممارسة تربية الحرية على مدى عدة أجيال تجتث جذور التسلط في ثقافة التيه والخوف ، ومن ثم تتداعي شجرة الاستبداد كما تتساقط أوراق الخريف ، فتعود شجرة الحرية من جديد ، وتورق خضراء طيبة في ربيع الحياة .. ولا يكون ذلك إلا حين نتحرر من أن تستعبدنا فكرة ، أو يستبد بنا تصور ، أو تستعمرنا مقولة .. و يكون سعينا لميلاد مجتمع الحرية من خلال :

    ـ الفصل الثالث : إطار عمل لا إطار انتماء

    والذي نحاول فيه أن نهز جذور الفكر الإسلامي من غفوة ، وننشطه من إعاقة ، وننفض ما علق بجسمه من تعصب ، وما أصاب بدنه من حزبية .. حتى لا يبقى هارباً من مواجهة الواقع لتغييره ، إلى المبالغة في تضخيم بعض الظواهر الشكلية ، وحتي لا يغرق في الخطاب الفردي على حساب ثقافة المشروع الحضاري .. وحتى لا تبقي أعمال من يحاولون التغيير تشكل ردة فعل على ما يبادر إليه المستبدون . فلا تخرج عن كونها قفزات وارتجالات وعفويات !!

    ولقد أكدنا في هذا الفصل ، أن مما يخيف في أكثر الحركات الحزبية التي تسعي لتحرير الإنسان ، أن مناهج التكوين التربوي داخلها لا تهتم بتربية الإنسان كـ " عنصر مجتمعي " يتواصل مع مجتمعه فكرياً ونفسياً وثقافياً .. قدر عنايتها بتربيتة وتنشئتة كـ " عنصر حزبي " يطيع وينفذ ما تأمر به القيادات في حزبه أو جماعته .. ومن ثم يبقي هذا العنصر الحزبي في حالة من " الانتظار الدائم " للأوامر والتعليمات ويفقد كل قدرة على المبادرة على أي مستوى من المستويات ، ولو حتى على مستوى تكوين رأيه في القضايا التي يشاهد ظواهرها يومياً .. ومن ثم يتكاثر " المنفّذين " ويضمر " المبدعين " ، و يتحول هذا الكيان الحزبي بوعي أو بدون وعي إلى عامل من عوامل تجميد طاقات المنتمين له ، بسبب الإصرار على خنق الحرية ، و حرمان المنتمي من تذوّق حلاوة الإبداع .. بل و فقدان الوعي بالواقع والحياة ..



    إن المنتمي إلى الكيان الحزبي يعتقد في البداية أنه انتقل من الاستبداد في خارج التنظيم والحزب إلى الحرية بداخله ، لكنه يكتشف بعد نضوب العاطفة والحماس ، والاحتكاك بأفراد التنظيم والمرور بتجارب حياتية معهم أنه تحرر من الاستبداد الذي يحكم المجتمع الأوسع ، ليصبح في طوق جديد من الاستبداد يمليه الكيان الحزبي حيث الضغط أوقع ، والألم أشد .. وكأنه خرج من إسار ودخل في آخر ، وتخلص معنوياً من سلطة ، ليسلم رقبته لسلطة أخرى ..!! فيجبره ذلك على إعادة النظر في مجمل وضعه الإنتمائي وليس الإلتزامي .. فهو يحب ويميل للكيان الحزبي ، ولكنه غير مقتنع به ، فلا يرى أمامه سوى أمرين .. إمّا أن يبقى مع الكثرة الكاثرة من الركاب الذين يفضلون البقاء في المقاعد وربط الأحزمة ومتابعة تعليمات القائد دون أن تكون لديهم أية فرصة لمعرفة الاتجاه الفعلي للطائرة .. أو ترك الكيان الحزبي إلى الذوبان فيما هرب منه في البداية ..!!



    ولا سبيل لعلاج هذا الواقع إلا أن يتحول " التنظيم " أو " الحزب " إلى " تيار " يؤمن بأن العمل الإسلامي ليس حكراً علي الحركات الإسلامية ، وأن المسؤولية عن الإسلام هي مسؤولية كل من شهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله علي تفاوت في الدرجات بتفاوت الاستعدادات والقدرات ، والمواقع والظروف .. ثم يكون لهذا التيار " قلب مرجعي " مشبّع بالعلم الشرعي ، والفكر الاستراتيجي ، والفهم للواقع المحلّي والإقليمي والعالمي ، يمتلك أدوات الفحص المنهجي السليم المناسبة للعصر وظروفه وملابساته .. ولديه القدرة على أن يُشِعّ ما هو مطلوب من التوجيه دون ولوج تجربة " التنظيم " السياسية وتفريعاتها المؤلمة .



    وحتى يخرج هذا " القلب المرجعي " لا بد أن يترك أفراد الكيانات الحزبية التقوقع داخل الحزب تحت دعوي أنه وحده من يمتلك الحقيقة ، ليسمحوا لأنفسهم بالانفتاح على من يختلف معهم ، الانفتاح للتساؤل .. الانفتاح للاتفاق والاختلاف .. الانفتاح علي الحياة وتقلباتها .. الانفتاح علي الملامح المتعددة والمتنوعة ، من الابتسامة العذبة على وجه موافق ، إلى العبوس في وجوه ترى عدم الموافقة .. من الأذرع المفتوحة للتلقي ، إلي الجسد المنتفض بالرفض .. الانفتاح الدائم علي الحياة .. والسير فيها دون انزلاق إلى مهاوي التعصب ، أو الاندفاع إلى التطاول على الآخر ..



    فإذا تجاوز أفراد تلك الكيانات " العتبة الحزبية " إلى فضاء " التيار " ، الذي يتسع للقاء والحوار والاختلاف . وقبل ذلك وبعده للعلاقات الإنسانية ؛ فإنهم قادرون ـ بعون الله ـ على القيام بدورهم في تحرير الإنسان وتغيير واقع الاستبداد من خلال " إطار عمل " لا " إطار انتماء " .. إطار عمل محمود شرعاً " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ " [آل عمران: 104] .. إطار عمل منصور قَدَراً " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله " [رواه مسلم ] .. إطار عمل يجعل كل فرد فيه " رِفداً " للعمل ، وليس " عبئاً " عليه ..



    إن العمل الراشد إنما يكون ضمن هذا الإطار ، وفي صورة تيار فكري يستمد مشروعيته من قوة الحجة وإقناع الآخر ببرامجه ، ويدخل إلى المجتمع من أبوابه ، وليس من نوافذه أو شقوقه .. فلا يقدّم نفسه للمجتمع في صورة الوصيّ عليه ، بل يرى دوره في حماية حق الإنسان فى الاختيار الحر ؛ ليكون الفيصل هو اقتناع " العقل " لا " رهبة السلطة " .. ومن ثم فهو يدفع القوة بالقوة ليكون الدين " لله " ، لا تحت سلطان أحد من " الناس " .. وهو يقوم بكل ذلك من خلال :

    ـ الفصل الرابع : إقناع لا إخضاع

    والذي حاولنا من خلاله أن نجيب على بعض الأسئلة الخاصة بصراعنا مع الاستبداد .. هل كان هذا الصراع مع الاستبداد أم المستبِد ؟ .. ولماذا كان التغيير الذي نقوم به ـ في أغلب الأحوال ـ يستبدل مستبِداً بآخر مع بقاء الاستبداد كما هو ؟ .. وهل كان سبب ذلك أننا كنا نسعي للتغيير بينما نحمل في خلايا نفوسنا ظلماً نبحث له عن تنفيس ، فنحاول أن نحل محل المستبِد ، ونتحول من موقع المظلوم إلى موقع الظالم ؟!! .. كل هذه الأسئلة وغيرها ، حاولنا من خلال الإجابة عليها التنبيه إلى مرض الاستبداد الذي لم يُستأصل من نفوسنا .. والذي تستيقظ جرثومته النائمة بداخلنا عند أول شعور ببعض القوة ..



    إن المجتمع المتخلف يعشق العنف ، ويأخذ العنف فيه طابع التشفي الذي لا يعرف الارتواء ، لأن جرح أفراده النابع من القهر غير قابل للاندمال ، فهم يجترون أحقادهم ويتحينون الفرصة للإطاحة بالرؤوس التي قامت بإذلالهم ..في محاولة لإنشاء مجتمع الحرية .. وهنا يظهر أعداؤهم الذين تدربوا على استدراجهم وإثارتهم ليؤدوا دورهم في الوقت المحدد ؛ فيقومون بالضغط علي نقاط الضعف في المجتمع الوليد ؛ فيكون رد فعله هو العنف ، فيخرج عن توازنه ، ويظهر في صورة السفيه الذي يجب أن يحجر عليه ، ومن ثم يجد الاستبداد المبرر لاستخدام القوة وسحق هذا المجتمع بسهولة ..!!



    وهكذا تدور " دوامات العنف " ببذور مجتمع الحرية ، من خلال ظهور شخصية ذات صفات قيادية ، و التفات مجموعات من الشباب حولها .. فنمو هذا التيار لحجم كبير .. ثم توريط التيار عن طريق المشبوهين في داخله في " عنف محدود " يقوم فيه باغتيال هيكل الاستبداد الكرتوني ليدفع ثمنه محاقاً لمجتمع الحرية الوليد .. وعندها يرتاح خصوم الحرية عندما لا يرون فيمن أمامهم أكثر من أناس بسطاء يمكن توريطهم في أفخاخ العنف ، وبعد ذلك عرضهم على الرأي العام ، وهم لا يحملون الصفة الشرعية .. !!



    إننا فى حاجة إلى سنوات من الهدوء نمارس فيها ما يمكن أن نطلق عليه صراع االظواهر الاجتماعية ؛ والتي نحاول فيها أن نحوّل مقاومة الاستبداد فيها إلى خبز يومي ، وندخلها في تفاصيل حياتنا ، وفي عاداتنا وتقاليدنا حتى يندحر الاستبداد إلى غير رجعة .. كل ذلك من خلال استخدام العلم في حل الألغام الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .. حل هذه " الألغام " بنزع فتيلها ، وليس بـ " الارتماء عليها " . واليقين بأن القوة ليست بالحماس ولا الانفعال ، بل بالسعي الدائب للوصول إلي الهدف بتوازن يحكم الإحجام كما يحكم الإقدام ؛ ورفض الاستسلام لزهو البطولة الانفعالي الذي يدفع الإنسان إلى اتخاذ المواقف من خلال سياسة اللحظة السريعة لا من خلال سياسة النفس الطويل ..



    إن التغيير يجب أن يكون عبر الإقناع ، وليس الإخضاع ؛ لأن التغيير معناه تبديل القناعات وهذه تأتي بالفهم وليس بالقهر .. فنحن لا نملك عقول الآخرين ، ولكن نملك فقط الطرق على باب العقول وبلياقة ، وقد نمنع من الدخول ، وقد ندخل ولكن لا يستضيفنا العقل الآخر فنفشل فى الإقناع .. ذلك أن القيم لا تُفرض على الناس فرضاً ، إنما تجذبهم إليها القدوة الحسنة والمثل الطيب ؛ فمن يملك القدوة ؛ يملك الهيبة وإن افتقد القوة .. و من يحتاج القوة لفرض هيبته ، هو من لم يصدق عمله كلامه .. ومن ثم فإن المجتمع المسلم يقوم على " الاختيار " الحرّ ، فى إعتناق " الفكرة " من جانب الأفراد .. وهذه الحقيقة هي المقدمة الصحيحة لـ :

    ـ الفصل الخامس : ميلاد مجتمع الحرية

    والذي أوضحنا من خلاله ماهية المجتمع ، وأنه ليس مجموعة أفراد ، بل هو " شبكة علاقات" ، تنظّم نشاط الأفراد داخل " النسيج الاجتماعي " ، والذي يتعلق بدوره بالأفراد الذين يفرزونه ، ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود ، النشيط أو الخامل ، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو يدمرونها . ولذلك فإن

    قوة الشبكة الاجتماعية وإحكامها هي من قوة الأفراد لأنها من صناعتهم .. وهم قد يمزقون هذه الشبكة من خلال شد كل فرد منهم لخيط من خيوطها بتوتر زائد من خلال ما يمكن أن نطلق عليه " تورّم الأنا " لكل فرد ..!!

    إن الماس اللامع الرائع الصلد ، مكون من ذرات من " الكربون الأسود " ، والذي منح اللمعان للذرات السوداء ، هو طبيعة " التركيب الداخلي " لذرات الكربون ، فأصبحت شديدة اللمعان .. والمجتمع بدوره هو " ترتيب خاص " بين أفراد ، فإذا بقي ذرات كان اسوداً قاتماً ، وإذا تراصت ذراته تحول إما إلى إعصار طاقة ، أو لمعان تفوق عبر التاريخ...

    إن المجتمع يضم ما هو أكثر من مجرد مجموعة من الأفراد الذين يؤلفون صورته ، يضم عدداً من الثوابت التي يدين لها بدوامه ، وبتحديد شخصيته .. فهو بنيان وليس تكديساً .. بنيان يكتسب صفته عندما يبدأ في الحركة للوصول إلي هدفه .. ومن ثم فإن تجمعات الأفراد الذين لا يعدّل الزمن من علاقاتهم الداخلية ، ولا تتغير أشكال نشاطهم خلال الزمن ، لا ينطبق عليها وصف " مجتمع " لأن شبكة العلاقات الاجتماعية كما أنها الثابت الذي يربط أفراد المجتمع فيما بينهم ، فهي في ذات الوقت ما يوجّه ألوان نشاطاتهم المختلفة في اتجاه وظيفة ذلك المجتمع ، ورسالته في الحياة .. فإذا فقد المجتمع رسالته ، ولم يبق له هدف يسعي إليه ، وعاش كل فرد لنفسه ، فقد تحوّل إلى " كومة " من الأفراد ، ودبت في أوصاله الأمراض ، وبدأ في رحلته نهو الموت والهلاك .!!



    ولأننا قد تقطّع ما بيننا ، لا يحن الأخ لأخيه ، ولا يهتم الجار بشأن جاره ، ولا يرقب أحدنا فى الآخر إلاً ولا ذمة ، أغلق كل فرد منا بابه على نفسه ، وعاش مع عياله ، فتحول إلى ذرة رمل تائهة ، غير متماسكة مع غيرها ، في صحراء تضرب فيها العواصف في مؤشر خطير على انقضاء أجل المجتمع أو سكناه العناية المركزة تحت إشراف أسوأ الأطباء وأقلهم خبرة وأضعفهم اختصاصاً .. في الوقت الذي ينزف فيه اجتماعياً حتي وصل إلى قصور إجتماعي شديد ، أنتج له هذيانا على صورة صراخ هستيري للأفراد وهم يمارسون العبودية المختارة ..

    إن أول عمل يقوم به من أراد إحياء هذا المجتمع هو خلق شبكة العلاقات القادرة على توحيد طاقات أفراد المجتمع في صورة نشاط مشترك .. وذلك من خلال تربية إجتماعية تؤكد للمسلم أن مساعدة أى واحد من المسلمين تعنى أنه يساعد جزءاً صغيراً من كيانه المعنوي ، وأن قيامه بواجبه نحو الآخر في المجتمع يقوي الروابط بين أفراد ذلك المجتمع ، وكلما قويت الروابط ؛ قلّ الفراغ الاجتماعي بين الأفراد حتى يصل إلى صورة " البنيان " يشد بعضه بعضاً ، فتلك صورة المجتمع الذي لا يوجد فيه فراغ اجتماعي ..



    ولكي نصل إلي ميلاد هذا المجتمع ؛ فنحن في أمس الحاجة لأن يدرك أفراد المجتمع أن قيامهم بـ " الواجبات " لا بد أن يتفوق على مطالبتهم بـ " الحقوق " ؛ ومن ثم فإن الواحد من هذا المجتمع تسهر عيونه والناس نيام .. يبقى عاملاً مجتهداً ومفكراً مجداً ، ولا يزال كذلك طوال شهره ، حتى إذا ما انتهى الشهر ، جعل مورده مورداً لمجتمعه ، ونفقته نفقة لفكرة هذا المجتمع ، وماله خادماً لغايته .. وما لم تتم هذه الخطوة ؛ فإن أفراد مجتمع الحرية سيبقون جزءاً من مجتمع العبودبة الذى يرفضونه " نظرياً " .. بل ربما يتحفظ كل فرد منهم بقوة حول حقه في البقاء فرداً في مجتمع العبودية ، و يرفض أن يتصور أن نشأة مجتمع الحرية ستؤدي إلى الإطاحة بمكانته في مجتمعه القديم ..!!

    إنه لا سبيل إلي الخروج من هذا التيه إلا من خلال الوعي الذي لا يُخدع بواقع " مجتمع العبودية " ، و الفهم العميق للفكرة التي تجمع أفراد " مجتمع الحرية " .. ولا يكون ذلك إلا من خلال التحرّك في الحياة وفقاً لفكرة مجتمع الحرية ؛ لأن هذا التحرّك يضيف خبرة جديدة إلى الفكرة الأصلية ، فيتسع نطاق الفكرة و يتحرك بها المجتمع حركة أوسع ؛ فتضيف إليه الحركة الأوسع خبرة أكبر تضاف إلى نطاق الفكر ليتسع ؛ فيمارس به حركة أوسع .. كما هو الحال في الدراجة ، فراكبها عندما يتحرك ينقدح الضوء فيرى ، فإذا رأى أمامه أكثر تحرّك ، وإذا تحرّك أكثر ازداد تألق الضوء أكثر فأبصر أكثر ، فإذا اتضحت الرؤيا أمامه أكثر تحرّك أكثر وهكذا .. فمع وضوح الرؤيا تمشي الحركة بجرأة وسرعة ، والعكس بالعكس مع ضباب الرؤية ..

    إنه لا شيء يولد مكتملاً ، وإنما يولد عبر زمان حمل ، ومخاض ولادة ، ومعاناة رعاية ، وصراع وتطور مطرد .. حيث تأخذ ثقافة التيه كل فرد في المجتمع ، فيلمع بريقها في عيونه بزيف الشهرة والمال .. وتحمل له كل لحظة الشك في أنها تأخذه إلى مرحلة جديدة من اليأس والضياع ، بينما هي في الحقيقة تكشف له رقائق الزيف التي تحيط مجتمع العبيد .. ومن ثم فهي تقربه من لحظة الميلاد العظيم .. ميلاد مجتمع الحرية ..

    إخوتي القراء ..

    لقد حاولت في هذه المقدمة الجمع والتوفيق بين ما يقتضيه التلخيص من الإيجاز والتكثيف ، وما يتطلبه الوضوح من البيان والتفصيل ، وهي مهمة لا تخفى صعوبتها ، فأسأل الله أن أكون بين ذلك قواماً .. كما حاولت أن تدور فصول الكتاب في حلقات متتابعة لنعيش في الحاضر بما يحمله من عناصر الذل والاستعباد ، ثم نحلّق في سماء المستقبل حيث آمال الحرية .. ذلك أن الحاضر ليس إلا تلمساً لعناصر التطور الذي سوف يحمله المستقبل من خلال القوة التي استمدها من مأساة الحاضر وخبرة الماضي .



    إن ما حاولت عرضه من خلال فصول هذا الكتاب ليس وهماً يقترح " أفضل المجتمعات " في " العالم الخيالي " ، بل هو مشروع يقترح خطوات في الطريق إلي " مجتمع " حيّ متحرك.. مجتمع تراه العيون ، وتلمسه الأيدي ، وتلحظ آثاره العقول .. يتفاعل الإنسان فيه مع الواقع الحياتي ، ويحاول من خلاله إقامة التوازن بين سيره نحو الحرية ، وقدرته على الوصول إليها .. فلا تشكو كلماته قلة رصيدها من العمل ، أو يعاني عمله من التشنج والارتجال .



    إن الفكرة الفعالة ليست مجرد كلمات تؤلف بها الكتب ؛ وإنما هي ما يسترشد به القلب ، ويضىء به العقل ، و تنجذب إليه النفس .. فتتعلم تعلم الفطن ، وتتحرك تحرك الواعي الحاذق ؛ فتتحول إلي جزء من حلبة الصراع ، ويصبح حلمها الأكبر تحويل أفكارها إلي مجتمع حيّ فى عالم الواقع ودنيا التعامل .. وعندها ، تصنع الحروف ما لا تستطيعه السيوف ، وتتحول الكتابة إلي حركة صادقة ، ترفض المشاركة في انزلاق الإنسان عن قضاياه المصيرية ، ولو بمجرد تشحيم المنزلق .!!

    إن الفكرة هي الوطن الذي يحتضن حلم الإنسان .. ولقد كان ـ ولا يزال ـ حلمي هو " مجتمع الحرية " ؛ فحاولت ألا أختزله في بكاء عين علي ضياعه ، أو شكوى يائسة من وجوده ، وأخذت التفكير في صياغة خطوات تصنع الطريق إليه ؛ فكان هذا الكتاب الذي تقرأه ، وكلي أمل أن تتحول القراءة إلى تجربة حيّة يتعانق فيها عقل القارىء مع فكر الكاتب ، وينصهر فيها فكر الكاتب بقدر الطاقة مع أفق فهم القارىء ؛ ليصبح القاريء شريكاً للكاتب في الفكرة .. ويقوم بعملية تحويل الفكرة إلى عمل ، وبذل الكثير من الجهد في سبيل تحقيق الفكرة في عالم الواقع ..

    ومن هنا ؛ فإن هذا الكتاب يطلب منك ، أن تنظر فيه ناقداً ، وأن تتأمل أفكاره بأقصى ما يمكنك من فضول ، وأن تبذل جهداً لكي تفهم ، بل لا يقتصر جهدك على مجرد الفهم لكل مكون من مكونات الكتاب ، وإنما تستوعب بدرجة أعمق ما تتطلبه كل كلمة عندما تتداخل مع غيرها في شبكة علاقات النص والتي تشبه إلى حد كبير شبكة العلاقات الاجتماعية التي يولد من خلالها " مجتمع الحرية " ..!!



    و لا أدعي لعملي هذا كمالاً ، وإنما هو محاولة ، وبداية أردت بها فتح الباب رجاء أن يتوسع ويغدو عريضاً علي أيادي آخرين ، ولذلك اقترح علي إخواني أصحاب الفقه أن يقتحموا مداخل النقد والانتقاد والتصحيح والتصويب ، وأن يتم تحدي ما تم التوصل إليه من نتائج ، وتتاح الفرص لمناقشتها من قراء الكتاب .. بل إنني أكرر هنا ما كتبته في كتبي السابقة .. أن دور القارئ لا يقتصر على مجرد النقل الحرفي للنص ، بل لا بد من القيام بمهمته كمنتج للمعنى الذي تضمنته المفردات التي أمامه .

    أبي الحبيب ..

    يرحمك الله .. تذكرتك وقد انتهيت من هذه المقدمة ، وتذكرت كيف كنت تحكي لي صغيراً عن أولئك الذين يأكلونَ إلههم عندما يجوعون ، وكيف حررهم النبي ( ص ) من الخضوع لغير الواحد الأحد .

    أساتذتي الفضلاء ..

    إن العين لتدمع امتناناً كلما جالت بخاطري الآثار التي حفرتها تربيتكم في ذاتي ووجداني ، والتي كان لها النصيب الأكبر في تشكيل حياتي .. أقدم لكم هذه الصفحات تعبيراً عن شكري لمن أعانني الله بهم على الاهتداء إلى " سبيل الرشاد " ، وتعلمت معهم كيف أعيش الإسلام في واقع حيّ متحرك هو " مجتمع الحرية " .

    أخوتي وأحبتي ..

    ربما رأيتم هدفكم أكبر من واقع التيه والاستعباد ... ربما رأيتم مجتمع الحرية حلماً بعيد التحقيق .. ألا فاعلموا أنكم إن صدقتم دبّت الحياة في آمالكم فلم تعد عرائس من شموع .. وإن بذلتم مما تحبون فإن أحلامكم أثقل من حقيقة الواقع .. وإن حقق الله بكم ذلك المجتمع ؛ فإن سعيكم للوصول إليه سيبقي أساساً علمياً لـ " سبيل الرشاد " .. وعلامة هادية " نحو مجتمع الحرية " .



    محمد محمد بدري


    و هكذا نكون انتهينا من المقدمة

    و جزالكم الله خيرا

    واذا كان وضع رابط لمقدمة الكتاب لا يخالف قواعد المنتدي فاليكم رابط مقدمة الكتاب من موقع صيد الفؤائد
    http://saaid.net/book/open.php?cat=8&book=6469

    إلي الذين يحلمون بميلاد مجتمع الحرية حيث يسود فيه الاسلام و تعود الأمة الاسلامية إلي قيادة البشرية
    أهدي لهم كتاب نحو مجتمع الحرية لفضيلة الشيخ الدكتور
    محمد محمد بدري