((العدد الثاني عشر))
امرأة كلامها القرآن
قال عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه : خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبينما أنا في الطريق إذا أنا بسواد على الطريق ،فتميزت ذاك فإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت :السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فقالت : (سلام قولا من رب رحيم)
فقلت لها : يرحمك الله ما تصنعين في هذا المكان ؟!؟
قالت : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام)
فعلمت أنها قضت حجها وهي تريد بيت المقدس ، فقلت لها : أنت منذ كم في هذا الموضع ؟!؟
فقالت : (ثلاث ليال سويا)
فقلت ما أرى معك طعاماً تأكلين ؟!؟
فقالت : (هو يطعمني ويسقين)
فقلت :فبأي شيء تتوضئين ؟
فقالت : (فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيبا)
فقلت لها :إن معي طعاما فهل تأكلين ؟
فقالت : (ثم أتموا الصيام إلى الليل)
فقلت : ليس هذا شهر رمضان !!
قالت : (ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم)
فقلت : قد أبيح لنا الإفطار في السفر ..
قالت : (وأن تصوموا خيراً لكم إن كنتم تعلمون )
فقلت : لم لا تكلميني مثل ما أكلمك؟
قالت : (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)
فتعجبت من ردها وقلت : من أي الناس أنت؟
قالت : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)
فقلت : قد أخطأت فاجعليني في حل.
قالت : (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم)
فقلت : فهل لك أن أحملك على ناقتي هذه فتدركي القافلة؟
قالت : (وما تفعلوا من خير يعلمه الله)
قال : فانحنت ناقتي فقالت : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)
فغضضت بصري عنها .. ولما أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها ..
قالت: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)
فقلت لها : اصبري حتى أعقلها ..
فقالت : (ففهمناها سليمان)
فعقلت الناقة وقلت لها : اركبي ..
قالت : (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)
فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح
فقالت : (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)
فجعلت أمشي رويداً رويداً وأترنم بالشعر ..
فقالت : (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن)
فقلت لها : لقد أوتيتم خيراً كثيرا
فقالت : (وما يذكر إلا ألو الألباب)
فلما مشيت قليلاً قلت لها ألك زوج ؟
قالت : (ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤ كم)
فسكت ولم أكلمها حتى أدركت بها القافلة فقلت لها : هذه القافلة فمن لك فيها؟
فقالت : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا)
فعلمت أن لها أولاداً .. فقلت : وما شأنهم في الحج ؟
فقالت : (وعلامات وبالنجم هم يهتدون)
فعلمت أنهم أدلاء الركب فقصدت لها القباب والعمارات فقلت هذه القباب فمن لك فيها ؟
قالت : (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) (وكلم الله موسى تكليما) (يايحى خذ الكتاب بقوة)
فناديت يا إبراهيم يا موسى يا يحي فإذا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر بهم الجلوس قالت (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه)
فمضى أحدهم فاشترى طعاماً فقدموه بين يدي فقالت : (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)
فقلت الآن طعامكم علي حرام حتى تخبروني بأمرها فقالوا هذه أمنا لها أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن .. فسبحان القادر على ما يشاء ..
فقلت: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
امرأة على باب المقبرة
قالت : كنا منصرفين قبيل المغرب من زيارة عائلية في منطقة الوثبة متجهين إلى حيث نسكن في أبو ظبي، وحاول زوجي أن يسرع ليلحق بصلاة المغرب جماعة، ولذا فقد عرج في الطريق ناحية المقبرة ليدرك الصلاة في المسجد المقام خارجها، وبمجرد أن دخلت بنا السيارة تلك المنطقة في سكون الليل الموحش أحسست أن بدني كله يرتجف من مفرق رأسي إلى أخمص القدم، خيل إلي أنها الزيارة الأخيرة ووداع الدنيا برمتها.
فحانت مني التفاتة إلى الخلف كي أملأ عيني بأنوار الطريق التي أخذت تتباعد، وتواردت عشرات الخواطر على عقلي حول الحياة والموت، والأحياء والأموات، والسعادة والشقاء، والميلاد والوفاة، والحقائق والأوهام، وعشرات الأقارب والأصدقاء الذين استقروا تحت التراب، وخيل إلي أن شريطاً طويلاً يمر أمام عيني وعشرات بل مئات وآلاف الجنائز تتوالى تشيعها أصحابها إلى دار جديدة يكون بابها الأول حفرة في التراب ومنها يجدون أنفسهم في عالم آخر لا تساوي الدنيا بالنسبة له إلا كما تساوي بطن أم بالنسبة للدنيا كلها !! أما أهل الجنازة، فما أسرع ما يهيلون التراب على صاحبهم وحبيبهم كميات التراب والحصى والحجارة ثم يعودون إلى حيث كانوا يسمرون، وليست سوى أيام حتى ينسى الجميع ما أصابهم !!
ووقفت السيارة في مواجهة بوابة المقبرة تماماً، كأنما تستعد للدخول حالما يفتح الباب وزاد هذا من هلعي، كانت الدنيا قد دخلت في الظلام وكان لهذا الجو أثره النفسي الرهيب على قلبي، حتى قد انعقد لساني كله وأنا أحاول أن أنطق لأطلب من زوجي أن يغير مكان السيارة، غير أنه سرعان ما تركني وحدي أواجه قدري، وبقيت مع أفكاري التي تفور وتشتعل بألوان من المخاوف والمفاجآت التي قد تظهر بغتة من هذه البوابة أو من على هذه الأسوار !!
الموت .. الموت .. وما أدراك ما الموت .. ثم ما أدراك ما الموت ؟!! هذا الغول الذي يفتك بالكبار والصغار بلا موعد ثم يكون مستقر الجميع ههنا
وراء هذه الأسوار : أغنياء وفقراء وصعاليك وأمراء، وأقوياء وضعفاء، وظلمة ومظلومين، الكل يتوارون تحت التراب ويلاقي كل منهم ما قدم من خير أو شر.
يا إلهي !! كيف لو أن قلبي سكت الآن فجأة، وبدلاً من أن أعود إلى صغاري
الذين يتشوقون لعودتي، إذا بي أزف إلى حفرة مظلمة ضيقة في الأرض، لا أنيس معي، ولا حبيب بقربي ولا أهل أصرخ بهم لنجدتي، أنا وحدي والظلام والعذاب والسؤال والحساب، ويرتجف بدني من جديد، وأحس بدبيب يسري في كل خلية من كياني، وأكاد أبكي، وأشرع في فزع إلى إغلاق نوافذ السيارة وأبقى محملقة في ذهول نحو أسوار المقبرة وبواباتها و خفقات قلبي يتصاعد وقعها، و لساني لا أدري كيف انطلق ذاكراً لله مسبحاً مستغفراً داعيا متضرعا باكياً، يطلب المهلة من أجل توبة صادقة، أما رجلاي فلم أشعر بهما أبداً، وأما يداي فقد كانتا ترتعشان وهما تلفان العباءة حول جسدي في إحكام، كانت هذه هي أول مرة أرى فيها المقبرة، وكأني رأيت الموت عياناً، وخيل إلي أن هذا الزوج قد تعمد الإتيان بي إلى هنا لإعطائي هذه الجرعة الروحية أو هذا الدرس الذي يبلغ مستقر العظم.
يا لكثرة نصائح هذا الزوج لي، وتوجيهاته إياي وتوصياته ومواعظه، غير أن كل ذلك لم يهز في شعرة فيما يبدو، وأبقى شامخة بأنفي كأنما المعني بكل ذلك سواي، وكان صبره لا ينفذ، فكان لا يمل من تكرار مواعظه في ود وحب وإصرار كذلك، الآن أحسست أن شرارة ما انقدحت لتحدث هذا التفاعل العجيب مع تلك المواعظ.
الآن أيقنت أن النار كانت كامنة تحت الرماد، الآن فقط أيقنت تماماً أن كلمة الخير لا تضيع وأن النصيحة الخالصة تبقى مخزونة مع الأيام، لقد كرر أمام عيني في تلك اللحظة شريط طويل من نصائحه ومواقفه معي وترهيبه إياي، وركوب رأسي في استخفاف، نعم لقد خطر لي خاطر سوء وقتها هو أن أحمل عليه حملة شعواء بلا هوادة حين يعود، ولكنى عدلت عن هذا الخاطر وأنا أتذكر الموت والموتى والمقبرة والقبور والليل الموحش والحساب والنعيم والجحيم، وعدت باللائمة على نفسي، وقررت أن أستفيد من هذه النفحة الروحية، لقد قفز في ذهني خاطر عجيب، لماذا لا يكون ما حدث هذه الليلة خير عظيم ساقه الله لي، وعليّ أن أستفيد منه.
لذا فقد ركزت فكري كله في تلك الوصايا والتوجيهات التى كان يكيلها بلا حساب على مسامعي وذهبت أستعيد الشريط بشكل مذهل وعجيب، وأخذت الوصايا والمواقف والتعليقات تتقافز في ذهني بصورة مثيرة حية، وأيقنت لحظتها أنه ما فعل ذلك كله إلا حباً لي وحرصاً على وشفقة بي وإرادة الخير لي في الدنيا والآخرة وأدركت كم كنت غبية وأنا أتجاهل ذلك كله راكبة رأسي مع هواي وشيطاني ونفسي الأمارة، وسبحت مع أفكاري الجديدة المشرقة منقطعة عن كل ما حولي كما ينقطع الأموات عن الحياة والأحياء حتى لقد أغمضت عيني وأنا أتوهم انطفاء آخر شمعة في حياتي ودخولي في ليل مظلم حالك، وإقبالي على أهوال لا توصف وانتظاري ملائكة الله للسؤال والحساب، وههنا تفزعت بل بكيت، وحملقت في حذر وأخذت أتلفت في جزع وكانت النسائم التى تهب كأنما تحمل معها أرواح الموتى من حولي !! ورغم أنفي سقطت من عيني دموع كثيرة، لقد كانت لحظات لا توصف ولا يمكن التعبير عن الشحنات الروحية التي فيها، ولن يدرك حقيقتها إلا من وقع تحت تجربتها وذاق سحرها.
ولقد كان لتلك الليلة ما بعدها، لقد شعرت بأنني خرجت من المقبرة
بغير القلب الذي دخلت به إليها، ولقد وطنت نفسي منذ تلك الساعة على أن أكون عاقلة، على أن أستعد للقاء هذه النقلة إلى هذا المكان الموحش، فعزمت عزماً أكيداً على الإقبال على الله بنشاط وشوق وفي همة، فههنا على أعتاب هذه الدار سوف يتركك أحب الأحباب إلى قلبك بعد أن تترك أنت أعز الأشياء إلى نفسك، سوف ينفض أحباؤك أيديهم من تراب قبرك، لينسوك بعد فترة قد تطول وقد تقصر ليعودوا إلى ممارسة حياتهم العادية، في اللحظة التي تواجه فيها ما يشيب له شعر الصغير، جميع أحبابك سوف يتركونك وحيداً لتواجه مستقبلاً مجهولاً.
فإذا كان لديك رصيد من طاعات وقربات وحسنات وأذكار فيالفوزك ويالفرحتك وما أروعك يومها وما أعظمك، وأما إذا كانت الأخرى فلا تلومن إلا نفسك ولقد أعذر من أنذر، وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث يخبر أن العاقل الحقيقي هو الذي يحاسب نفسه ويعمل لما بعد الموت، وأن العاجز الغبي هو الذي يتابع هواه في كل الميادين ثم يتمنى على الله الأماني وهو الذي لم يفكر أن يجعل حياته على وفق ما يريد الله سبحانه، أما أنا فلكم حمدت الله كثيرا على تلك الزيارة المفاجئة إلى المقبرة، فلقد نفضت نفسي على نفسي وأشرقت أرض قلبي بنور ربها ولله الحمد والمنة والفضل والثناء الحسن، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
امرأة خافت الله فأعزها الله
يحكى أن رجلاً تزوج امرأة آية في الجمال .. فأحبها وأحبته وكانت نعم الزوج لنعم الرجل .. ومع مرور الأيام اضطر الزوج للسفر طلبا للرزق .. ولكن .. قبل أن يسافر أراد أن يضع امرأته في أيدٍ أمينة لأنه خاف من جلوسها وحدها في البيت فهي امرأة لا حول لها ولا قوة فلم يجد غير أخ له من أمه وأبيه .. فذهب إليه وأوصاه على زوجته وسافر ولم ينتبه لحديث الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم : الحمو الموت !!
ومرت الأيام .. وخان هذا الأخ أخيه فراود الزوجة عن نفسها إلا أن الزوجة أبت أن تهتك عرضها وتخون زوجها .. فهددها أخو الزوج بالفضيحة إن لم تطيعه .. فقالت له افعل ما شئت فإن معي ربي وعندما عاد الرجل من سفره قال له أخوه على الفور أن امرأتك راودتني عن نفسي وأرادت خيانتك إلا أنني لم أجبها !!
طلق الزوج زوجته من غير أن يتريث ولم يستمع للمرأة وإنما صدق أخاه !
انطلقت المرأة .. لا ملجأ لها ولا مأوى .. وفي طريقها مرت على بيت رجل عابد زاهد .. فطرقت عليه الباب .. وحكت له الحكاية .. فصدقها وطلب منها أن تعمل عنده على رعاية ابنه الصغير مقابل أجر .. فوافقت ..
في يوم من الأيام خرج هذا العابد من المنزل .. فأتى الخادم وراود المرأة عن نفسها .. إلا أنها أبت أن تعصي الله خالقها !!
وقد نبهنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أنه ما خلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما !
فهددها الخادم بأنه سينال منها إذا لم تجبه .. إلا أنها ظلت على صمودها فقام الخادم بقتل الطفل !
عندما رجع العابد للمنزل قال له الخادم بأن المرأة قتلت ابنه .. فغضب العابد غضباً شديداً .. إلا أنه احتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى .. وعفى عنها .. وأعطاها دينارين كأجر لها على خدمتها له في هذه المدة وأمرها بأن تخرج من المنزل
قال تعالى : (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)
خرجت المرأة من بيت العابد وتوجهت للمدينة فرأت عددا من الرجال يضربون رجلا بينهم .. فاقتربت منهم وسألت أحدهم .. لمَ تضربونه ؟؟ فأجابها بأن هذا الرجل عليه دين فإما أن يؤديه وإما أن يكون عبداً عندهم .. فسألته : وكم دينه ؟؟
قال لها : إن عليه دينارين .. فقالت : إذن أنا سأسدد دينه عنه ..
دفعت الدينارين وأعتقت هذا الرجل فسألها الرجل الذي أعتقته : من أنت ؟
فروت له حكايتها فطلب منها أن يرافقها ويعملا معا ويقتسما الربح بينهما فوافقت ..
قال لها إذن فلنركب البحر ونترك هذه القرية السيئة فوافقت ..
عندما وصلا للسفينة أمرها بأن تركب أولا .. ثم ذهب لربان السفينة وقال لها أن هذه جاريته وهو يريد أن يبيعها فاشتراها الربان وقبض الرجل الثمن وهرب ..
تحركت السفينة .. فبحثت المرأة عن الرجل فلم تجده ورأت البحارة يتحلقون حولها ويراودونها عن نفسها فتعجبت من هذا الفعل .. فأخبرها الربان بأنه قد اشتراها من سيدها ويجب أن تطيع أوامره الآن فأبت أن تعصي ربها وتهتك عرضها وهم على هذا الحال إذ هبت عليهم عاصفة قوية أغرقت السفينة فلم ينجو من السفينة إلا هذه المرأة الصابرة وغرق كل البحارة ..
وكان حاكم المدينة في نزهة على شاطئ البحر في ذلك اليوم ورأى هبوب العاصفة مع أن الوقت ليس وقت عواصف .. ثم رأى المرأة طافية على لوح من بقايا السفينة فأمر الحرس بإحضارها ..
وفي القصر .. أمر الطبيب بالاعتناء بها .. وعندما أفاقت .. سألها عن حكايتها .. فأخبرته بالحكاية كاملة .. منذ خيانة أخو زوجها إلى خيانة الرجل الذي أعتقته فأعجب بها الحاكم وبصبرها وتزوجها .. وكان يستشيرها في كل أمره فلقد كانت راجحة العقل سديدة الرأي وذاع صيتها في البلاد ..
ومرت الأيام .. وتوفي الحاكم الطيب .. واجتمع أعيان البلد لتعيين حاكم بدلاً عن الميت .. فاستقر رأيهم على هذه الزوجة الفطنة العاقلة فنصبوها حاكمة عليهم فأمرت بوضع كرسي لها في الساحة العامة في البلد .. وأمرت بجمع كل رجال المدينة وعرضهم عليها ..
بدأ الرجال يمرون من أمامها فرأت زوجها .. فطلبت منه أن يتنحى جانباً
ثم رأت أخو زوجها .. فطلبت منه أن يقف بجانب أخيه ..
ثم رأت العابد .. فطلبت منه الوقوف بجانبهم ..
ثم رأت الخادم .. فطلبت منه الوقوف معهم ..
ثم رأت الرجل الخبيث الذي أعتقته .. فطلبت منه الوقوف معهم ..
ثم قالت لزوجها .. لقد خدعك أخوك .. فأنت بريء .. أما هو فسيجلد لأنه قذفني بالباطل !
ثم قالت للعابد .. لقد خدعك خادمك .. فأنت بريء .. أما هو فسيقتل لأنه قتل ابنك !
ثم قالت للرجل الخبيث .. أما أنت .. فستحبس نتيجة خيانتك وبيعك لامرأة أنقذتك !
وهذه هي نهاية القصة وفي ذلك نرى أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
أما تخجل من الله ؟
يقول الراوي : كنت أتابع محاضرة قيمة للأستاذ عمرو خالد على أحد قنوات التلفزيون ، وكنت مشدودا مع حديثه الشائق عن التوبة والتائبين .. غير أن قضية محددة وردت في خاتمة الكلام ، كانت أشبه بمسك الختام بالنسبة لي ، هذه القضية استوقفتني طويلا ، بعد أن هزتني كثيرا ..
طرح الأستاذ عمرو خالد القيام بتجربة وأخذ يؤكد أن لها ما بعدها في استجاشة الرغبة الشديدة في التوبة والإقبال على الله .. وقررت أن اقدم على هذه الخطوة ، وانفردت بنفسي في حجرتي وأحضرت ورقتين وقلماً ، وكتبت في رأس الأولى : قائمة بنعم الله عليّ .. !!
وكتبت في رأس الثانية : قائمة بما فعلت من معاصي وزلات وذنوب ..!
وبدأت أكتب ما أتذكره من نعم الله علي في ذات نفسي ، فيما حولي مما تتعلق به حياتي ..
وشرعت أكتب وأكتب ، وأنا أرى نعم الله تتوالد أمام عيني ، كلما كتبت نعمة تولدت عنها نعمة تتعلق بها ، أو تقوم عليها ، ومما كتبته :
نعمة العقل .. والذاكرة .. والقدرة على التحليل واستخلاص النتائج .. والبراعة في عرض الأفكار .. وحسن الكلام والبيان الجيد المؤثر في كثير من الأحيان .. ومجرد اللسان نعمة كبرى .. ونعمة البصر .. وعدم الحاجة إلى استخدام نظارة نعمة أخرى .. ونعمة القراءة والكتابة .. وهكذا
واكتملت الورقة الأولى ، ولم يكتمل شريط العرض لاستعراض نعم الله علي ..
وسحبت ورقة أخرى ، وواصلت تدوين النعم ..
نعمة الوجود أصلا .. نعمة الصحة والسلامة البدنية وكمال الأعضاء .. نعمة العلم ، والقدرة على التعليم .. نعمة الشم والسمع والحركة … الخ الخ …
وإذا بي أقف عاجزاً بعد أن أكملت الورقة الثانية مما أتذكره من نعم الله ، ولقد رأيت نفسي أشبه بالغريق في خضم بحر عظيم ..
واكتفيت بما كتبت وأنا أردد : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ..
وانتقلت إلى القائمة الثانية وقلبي لحظتها قد بدأ يهتز وهو مملوء بشعور الحياء من الله ..
وشرعت أكتب ما أتذكره مما عملت من ذنوب ومعاصي وزلات ، التي اغترفتها ولا أزال متلطخا بكثير منها ..
وكذلك لم أنس أن أكتب ما ابتليت به من التقصير في الإقبال على الفرائض ، والتكاسل عنها ..
ومما كتبته : خطايا باللسان كثيرة .. من غيبة وسخرية بالناس ، وكذب وهذر قول في سفساف الأمور .. وخطايا بالعين من نظر لا يحل إلى أمور لا يرضى عنها الله . . ومتابعة لساعات لما ضره أكثر من نفعه ... وخطايا بالأذن من سماع من كرهه الله ولا يحبه كالاستماع إلى الأغاني .. ومنها : صور كثيرة من عقوق الوالدين .. ونحو هذا كثير ..
وكتبت وكتبت وكتبت ، وإذا بهذه الأخرى تتوالد كأنها الدود ، وهالني أني رأيت هذا الزحم من الهفوات والزلات والمخالفات ..
وشرعت اسحب ورقة أخرى لأواصل رحلة البحث .. وإذا بي أمام قائمتين على طرفي نقيض تماماً .. !!
أما الأولى فنعم منهمرة متدفقة تقوم عليها حياتي كلها ..
نعم تغمرني من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي ، ومن فوق ومن تحتي ، وفي من حولي مما يتعلق به أمري ، ومن لحظة ولادتي إلى يوم الناس هذا ..
منحني كل ذلك بلا سؤال مني ، لعلمه هو بما ينفعني ..
وأما الثانية : فقائمة يطأطئ لها الرأس حياء ..
قائمة سوداء حالكة كلها خطايا وذنوب وآثام وزلات وهفوات وقصور وتقصير وجرأة على الله تعالى ..!
ولم اشعر إلا بدمعات تنساب على خدي وأنا أعيد النظر متأملا هذه تارة وهذه تارة ، وتذكرت الحديث الشريف الذي يقول فيه الله سبحانه : إني والأنس والجن في نبأ عجيب .. أخلق ويعبد غيري ، وارزق ويُشكر سواي ، خيري إليهم نازل ، وشرهم إلى صاعد ، أتحبب إليهم بالنعم ، وأنا الغني عنهم ، و يتبغضون إليّ بالمعاصي ، وهم أحوج ما يكونون إليّ …
عندها شعرت بموجة غامرة من الحياء تغمرني من الله سبحانه .. بل شعرت بهيجان مشاعر حب جارف لله جل جلاله .. وكيف لا يحبه قلبي وهو يتعامل معي على هذه الشاكلة العجيبة .. وأنا أتعامل معه على هذه الشاكلة الغريبة ..!!
ودخلت معي نفسي في سلسلة عتاب ، ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير !
قفزت إلى ذهني خاطرة جعلتني أجهش بالبكاء .. تذكرت كيف أتعامل مع أبنائي ..
كيف أني أرى بأني قائم بأمرهم كله ، ومن ثم فعليهم طاعتي ، وعدم مخالفتي وأني لا أتحمل ما يفرط منهم من مخالفات ، فأنزل بأحدهم عقابا يناسبه ..!
بل أحيانا بما لا يناسبه !! وإنما هي فورة غضب عارمة !!
وقلت لنفسي : فكيف لو عاملني الله بما أعامل به أبنائي ..!
كيف لو عاقبني على كل مخالفة أقع فيها … إذن لأهلكني منذ زمن .. وأيقنت أن الله يحب عباده أشد من حب الوالدين لأبنائهما .!
فكيف لا يحبه العباد سبحانه اشد الحب وأعلاه وأعظمه …!؟
حقا ساعة خلوت فيها مع الله لأقوم بهذه التجربة ، لكنها كانت خير ساعات عمري .. لقد خرجت منها وقلبي يمور بمشاعر متباينة .. الخوف والرجاء والحياء والحب .. الخوف من سوء الخاتمة بسبب هذه الأوزار والآثام والهفوات والزلات .. والرجاء لأن من أنعم ابتداء ، سينعم انتهاء .. ومن أعطى بلا سؤال ، لن يبخل مع السؤال والإلحاح فيه ..
والحياء من رؤية هذا الحشد من المعاصي والذنوب . في مقابل تلك النعم التي لا تزال تتوالى .. والحب لأنه يستحق أن يمتلئ القلب بحبه جل جلاله .. يا لها من ثمرات رائعة وجليلة أثمرتها تلك الجلسة مع الله ..
وقد قال علماؤنا : أن ذرة من أعمال القلوب تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح .. فلله الحمد رب العالمين ..
ثم قلت وأنا أبتسم : وهذه وحدها من أعظم نعم الله علي .. وعندها خررت ساجدا وأنا أبكي ، وأنا أردد :
املأ قلبي بحبك .. املأ قلبي بحبك .املأ قلبي بحبك .... يا رب .. يااااااااااااارب ... يااارب ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
كان زميلاً لي في الكلية العسكرية … كان الأول على زملائه في كل شئ في طاعته لله… في حسن خلقه… في دراسته… في
تعامله … كان صاحب قيام ليل ومحافظة على صلاة الفجر وغيرها وحب للخير… وبعد أن تخّرج وفرح كما يفرح الطلبة بالتخرج وإذا به يُصاب بما نسميه ( الأنفلونزا) وتطور معه المرض حتى أصاب العمود الفقري فأصيب بشلل تام ولم يعد يستطيع الحركة… كتاب قصص واقعية للدكتور خالد الجبير
حتى أن طبيبه المعالج قال لي أنه حسب مرئياته فلا أمل له في الشفاء… وإن احتمال رجوعه لما كان عليه ونجاح العلاج معه لا تتجاوز العشرة في المائة فقلت الحمد لله على كل حال وسألت الله له الشفاء وهو القادر على كل شئ… ثم زرته في المستشفى وهو مقعد يرقد على السرير الأبيض لمواساته وتذكيره بالله والدعاء له فإذا به هو الذي يذكّرني بالله !! وهو الذي يواسيني… وجدته قد امتلأ وجهه نوراً… واشرق بالإيمان نحسبه والله حسيبه… قلت له : الحمد لله على السلامة… وأسأل الله لك الشفاء العاجل طهور إن شاء الله… فأجابني بالشكر والدعاء ثم قال كلمته العجيبة في حالته المأساوية نعم إنها كلمة عجيبة!! لم يشتكي ! ولم يتبرم !! ولم يقل أرايت ماذا حل بي يا أخ خالد !! إنما قال تلك الكلمة التي دوّت في أذني وأثرّت في قلبي وما زلت احفظها حتى الآن … قالها وهو يبتسم … قال حفظه الله : يا أخي لعل الله علم منى تقصيري في حفظ القـرآن فلهذا أقعدني لإتفرغ لحفظه … وهذه نعمة من نعم الله !! سبحـان الله … مـا هذا الكلام؟! من أين هذه العبارات ؟! كيف تتحول النقمة إلى نعمة ؟! إنه الإيمان يصنع المعجزات بعد فضل الله وتوفيقه … وصدق الله في جزاء من صبر واسترجع عند المصيبة وقال إنا لله وإنا إليه راجعون إن له ثلاث جوائز … قال تعالى)أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ( البقرة 157 . نعم إنها الرحمة من الله والثناء منه والهداية لصراطه المستقيم والثبات على شرعه القويم وفي صحيح مسلم من حديث صهيب مرفوعاً… ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذاك لأحد إلا لمؤمن إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) مختصر مسلم 2092 . ما أجمل تلك العبارات التي قالها … إنها والله تعدل عشرات الكلمات النظرية … لأن المواقف الإيمانية تربي وتعلّم الشيء الكثير … وفي كل خير… نعم لقد تعجبت ودهشت من موقفه وإيمانه وصبره وثباته رغم ما هو فيه من مرض خطير … وشلل تام … ورغم أنه لم يمض على تخرجه ستة أشهر ولم يفرح بالرتبة والراتب والعمل الجديد أياماً … والله لقد غبطته على إيمانه… وحمدت الله جل وعلا أن في الأمة أمثال هذا الرجل … وأمة محمد
r فيها الخير ولله الحمد . ثم زرته بعد فترة وعنده بعض أقاربه … فسلمت عليه ودعوت له … ثم رأيت أمرً عجيباً … وسمعت منه ما أدهشني مرة أخرى … وفي كل زيارة له يزداد الإيمان من مواقفه العجيبة الإيمانية . قال له ابن عمه : حاول تحريك رجلك … ارفعها للأعلى … فقال له : إني لاستحي من الله أن استعجل الشفاء فإن قدّر الله لي وكتب الشفاء فالحمد لله … وإن لم يكن مقدوراً لي فالحمد لله … فالله أعلم بما هو خير لي … فقد يكون في الشفاء ما لا تحمد عقباه … وقد أمشي بقدميّ هاتين إلى الحرام … ولكني أسأل الله إن يكتب لي الخير فهو العليم الحكيم … ولا تعليق على كلامه الإيماني إلا بما هو خير قال تعالى ) وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( البقرة آية 216 . يواصل الدكتور حديثه قائلاً : سافرت لإكمال الدراسات العليا ثم عدت بعد ثلاثة أشهر وكنت متوقعاً إنه في منزله حيث لا أمل في علاجه وسيبقى في منزله على فراشه يحمل من مكان إلى آخر … سألت عنه الزملاء في المستشفى هل خرج ؟! وكيف حالته ؟! فقالوا : هذا الرجل عجيب جداً… لقد كان عنده قوة في العزيمة وهمة عالية وابتسامة دائمة ورضىً بما كُتب له… ولقد تحسنت حالته شيئاً ما … فنُقل إلى التأهيل للعلاج الطبيعي … ذهبت إلى مركز التأهيل فإذا به على كرسي المعاقين ففرحت به وقلت له : الحمد لله على السلامة… الحمد لله أصبحت الآن تتحرك أحسن مما مضى… فقاطعني قائلاً : الحمد لله … أبشرك إنني قد أتممت حفظ القرآن !! فقلت : سبحان الله !! ما أعجب هذا الرجل … لا يمكن أن أزوره إلا وأجدُ فائدة إيمانية … فدعوت له … وسألت الله من فضله . سافرت مرة أخرى وغبت عنه أكثر من أربعة أشهر … ولما عدت حصل ما لم يخطر لي ببالي الضعيف المسكين وهو ليس بعجيب ولا غريب على قدرة الله تعالى الذي يحي العظام وهي رميم … أتدرون ماذا حصل ؟! لقد كنت أصلي في مسجد المستشفى… فإذا برجل يناديني يا أبا محمد أتدرون من المنادي؟! إنه صاحبنا… نعم والله إنه الزميل الحبيب الذي كان مشلولاً معاقاً تماماً يناديني وهو يمشي وبصحة جيدة وعافية … نعم إنها قدرة الله … ثم إنه الإيمان يصنع المعجزات قال تعالى) الله ولي الذين آمنوا ( إنه التقوى قال تعالى ) ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ( إنها النجاة والعافية من الله للمؤمنين قال تعالى ) وكذلك ننجي المؤمنين( . نعم … لقد جاءني يمشي … وسلمت عليه وضممته إلى صدري وأنا أبكي نعم أبكي مرتين … ولأمرين … أما الأول فأبكي فرحاً لما حصل له من شفاء … هجم السرور علىّ حتى أنه من فرط ما قد سرني أبكاني وأما الثانية فعلى نفسي المسكينة المقصرة … فكم نحن فيه من نعم وخيرات ولم نقم بشكر الله عليها ولم نجتهد في حفظ القرآن وعمل الصالحات … وكلنا تقصير وتسويف … نسأل الله العفو والغفران . ليس هذا فحسب بل منّ الله عليه بأمور كثيرة … فمنها موافقة المسئولين لبعثته بعثة داخلية لجامعة الملك سعود بالرياض لإكمال دراسته العليا… ولهذا البعثة قصة أخرى… فقد طلب ذلك منذ تخرجه من الكلية ولم يأته الرد … وقبل أيام … وبعد شفائه ولله الحمد جاءت الموافقة عليها بعد أن نسيها فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . ثم قال لي بعدها : يا دكتور خالد إن ما حصل لي حجة علي إن لم أقم بشكر النعمة … قلت : بل هي حجة علينا جميعاً … القصة لم تنته بعد … فلقد زارني بعد سبع سنوات في مراجعة لجدة المريض بالقلب … فماذا رأيت ؟! رأيت شاباً وضيئاً … وقد رزقه الله الترقيات حتى وصل إلى رتبة رائد … فأسأل الله أن يجعله رائداً في الخير والنفع والصلاح وأن يصلح أحوالنا جميعاً أنه سميع مجيب
ــــــــــــــ.ــــــــــــــــ.ــــــــــــــــ.ـ ـــــــــــــــ.ـــــــــــــ.ــــــــــــ.ـــــــ ـــــــ.ــــــــــــ.ــــــــــــــ.ــــــــــ.ـــ ــــــ
بسبب الدراسة ممكن ينزل العدد الثالث عشر في الأسبوع القادم
تحيــــــــاتي