الإبداع الشعريّ حالةٌ خاصّةٌ تمتزجُ فيها حرارةُ العاطفةِ و رقّةُ البوح ِ ، معَ القدرةِ على سكب ِالمشاعر في قالب ٍ أدبيّ رفيع ، مقيّدٍ بضوابطَ تُمليها طبيعةُ الصّنعة ِالشّعريّة .
و الشاعر في هذه الحالةِ مهما استبدّ بهِ لاعجُ الحزن ِ أو خفّةُ السّرور ِ أو سَوْرةُ الغضَب ، لا ينفكّ عادةً عن اجتماع ِ الذّهن ِ و حضور ِ الفكر .
و لكن :
إلى أيّ مدىً يكونُ ذلك ؟
ربّما كانَ هذا السّؤال مُـحيـّراً أو غريباً ، و لكن لتقريبِ الفهم ِ نتساءل :
هل ستنبجسُ القريحةُ الشّعريّة في أصعبِ موقفٍ يتعرّضُ له المرء و هوَ : موقف المثول ِ بينَ يديّ الموت ؟
عندئذٍ :
أين سيكونُ اجتماعُ الذّهن و حضورُ الفكر و رباطةُ الجأش ، هل ستستقرّ مكانَها ، أو ستذهبُ في الشّتاتِ كلّ مذهب ، و تضيعُ في فضاءِ الفرَق ِ بَـدَدا ؟
سؤالٌ لا شكّ أنّه صعب ، و الإجابةُ عنهُ أصعب !
نفتحُ صفحةً في ديوان ِ العرب في محاولةِ استنطاق ِ التّجاربِ الثّريّةِ القابعةِ بين دفّتي هذا الديوان ، و كم يحوي هذا التّراثُ من كنوز ٍ أبكار .
يخبرُنا الإمام " التنوخي " في كتابِه " المُستجاد من فعلات الأجواد " (1) عن القاضي " أحمد بن أبي دؤاد " قوله :
ما رأيتُ رجلاً قطّ نزل به الموتُ ، و عاينه ، فما أدهشه ، و لا أذهله ، و لا أشغله عمّا كانَ أراده ، و أحبّ أن يفعلَه ، حتى بلغَه ، و خلّصه الله من القتل ، إلاّ " تميم بن جميل الخارجيّ " ، فإنّه كانَ تغلّبَ على شاطيء الفُرات ، فأخِذ ، و أتيَ بهِ إلى " المعتصم بالله " .
فرأيتُهُ بين يديْهِ ، و قد بُسطَ لهُ النّطع (2) و السّيف ، فجعل تميم ينظر إليهما ، و جعل المعتصم يُصعّد النّظرَ فيه ، و يصوّبه .
و كانَ تميمٌ رجلاً جميلاً ، و سيماً ، جسيماً ، فأرادَ المعتصم أن يستنطقَهُ ، لينظرَ أينَ جنانه و لسانه من مخبره .
فقال له المُعتصم : يا تميم ، تكلّم ، إن كان لكَ حجّة أو عذرٌٌ فابدِه .
فقال : أمّا إذ أذنَ أميرُ المؤمنينَ بالكلام ، فأقول : الحمدللهِ الذي أحسنَ كلّ شيءٍ خلقَه ، و قد خلقَ الإنسانِ من طين ، ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين ، يا أميرَ المؤمنين ، جبرَ اللهُ بكَ صدعَ الدّين ، و لمّ شعثَ المسلمين ، و أخمدَ بكَ شهابَ الباطل ، و أوضحَ نهجَ الحقّ ، إنّ الذنوبَ تخرسُ الألسنةَ ، و تعمي الأفئدةَ ، و أيمُ الله ، لقد عظمَت الجريرة، و انقطعتِ الحجّة ، و كبُر الجرم ، و ساءَ الظنّ ، و لم يبقَ إلاّ عفوُك ، أو انتقامُك ، و أرجو أن يكونَ أقربها منّي و أسرعهما إليّ ، أوْلاهما بإمامتكَ ، و أشبههما بخلافتِكَ ، و أنتَ إلى العفوِ أقرب ، و هوَ بكَ أشبهُ و أليق ، ثمّ تمثّل بهذهِ الأبيات :
أرى الموتَ بينَ السيفِ و النّطعِ كامناً *** يلاحظني من حيثُما أتلفّت
و أكـبـرُ ظـنّي أنّك الـيومَ قاتـلي *** و أيّ امريءٍ ممّا قضى اللهُ يُفلت
و من ذا الذي يدلي بعذرٍ و حجّةٍ *** و سيفُ المنايا بينَ عينيهِ مُصلت
و ما جزعي من أن أموتَ و إنّني *** لأعلمُ أنّ الموتَ شيءٌ موقّت
و لكن خلفي صـبـيـةٌ قد تركـتُـهم *** و أكبادهم من حـسـرةٍ تتفتّت
كأني أراهم حينَ أنــعى إليهمُ *** و قد خمّشوا حرّ الوجوهِ و صوّتوا
فإن عشتُ عاشوا سالمينَ بغبطةٍ *** أذودُ الأذى عنهم و إن مُتّ موّتوا
فـكم قائـلٌ لا يـبـعـدُ الله داره *** و آخـر جـذلان يـسـرّ و يـشـمتُ
قال : فتبسّم المعتصم ، ثمّ قالَ : أقولُ كما قالَ رسول اللهِ صلى الله عليهِ و سلّم : " إنّ من البيانِ لسحرا " . (3)
ثمّ قال : يا تميم كادَ و اللهِ أن يسبقَ السّيفُ العذل ، اذهبْ ، فقد غفرتُ لكَ الهفوةُ ، و تركتكَ للصّبية ، و وهبتُكَ للهِ و لصبيتِك .
ثمّ أمرَ بفكّ قيوده ، و خلعَ عليهِ ، و عقدَ له على ولايةٍ على شاطيءِ الفُرات ، و أعطاهُ خمسينَ الف دينار .
و يذكرُ العلاّمة " شوقي ضيف " رحِمه الله في كتابِه " العصر العبّاسي الثّاني " (4) أنّ " محمّداً بن البعيث " أحدَ الثّائرينِ على الدّولةِ العبّاسيّة هُزمَ ، ثمّ سيقَ مٌقيداً ذليلاً إلى الخليفةِ " المُتوكّل " الذي أمرَ بضربِ عنقه ، فطُرحَ على النّطع ، و جاءَ السّيّافون فلوّحوا لهُ بسيوفِهم ، و قال لهُ المتوكّل حانقاً غاضبا : ما دعاك يا محمّد إلى ما صنعت ؟
فأجابه : الشّقوة و أنتَ الحبلُ الممدود بينَ اللهِ و خلقه ، و إنّ لي فيكَ لظنّين أسبقُهما إلى قلبي أولاهما بك ، و هوَ العفو ، ثمّ اندفع ينشده :
أبى النّاسُ إلاّ أنّك اليومَ قاتلي *** إمامَ الهدى و الصّفح بالحرّ أجمل
و هل أنا إلاّ جُبلةٌ من خطيئةٍ *** و عفوُكَ من نورِ النبوّةِ يُجبلُ
تضاءلَ ذنبي عندَ عفوِكَ قلّةً *** فمن بعفوٍ منكَ و العفوُ أفضل
فإنّكَ خيرُ السّابقين إلى العُلا *** و لا شكّ أنْ خير الفعاليْن تفعل
فقال المُتوكّل : أفعلُ خيرَهما و أمنّ عليكَ ، ارجعْ إلى منزلكَ ، و خفّف عنهُ الحكمَ من الإعدامِ إلى الحبس و ظلّ فيهِ حتّى وافاهُ الموت .
و أضاف الدكتور شوقي ضيف مُعقّباً بعدَ هذا الموقفِ الفريد : " و بلغَ من ثباتِ جأشِه و جنانِه أن أنشدَ المتوكّلَ الأبياتَ السالفةَ وهوَ على النّطعِ و السيّافُ شاهرٌ سيفَه يريدُ أن ينقضّ عليهِ و أن يحزّ رأسه و يزهقُ روحَه ، و شررُ الغضبِ يتطايرُ من عينيّ المُتوكّل و قد انتفخت أوداجُه . و كأنّ ذلكَ كلّه لم يملأ نفسه خوفاً و لا هلعاً ، فظلّ رابطَ الجأش مجتمعَ القلب ، لا تخونه الكلمةُ في اللحظةِ الحرجةِ ، بل لا يخونه البيتُ الذي يستلّ الغضبَ من نفسِ المُتوكّل . و قد بلغَ منه مبلغاً خطيراً ، حتّى أوشكَ أن يقضيَ عليهِ قضاءً مبرماً . و هي قدرةٌ نفسيةٌ كانت تمتزجُ بقدرتِهِ البيانيّة " . ا هـ .
و غنيّ عن البيان ِ أنّ هذه الأبداعات الشّعريّة و ما جرى مجراها تفتّقت عن نفسيّةٍ ذليلةٍ مُستجديةٍ للعفو بإقرارِها بالخطيئةِ ، وملتمسةٍ للرّحمة بالإعتذارِ عمّا اقترفتُه من جريرةٍ استوجبت أشدّ العقوبات ، فكانَ حضورُ ذهنِ صاحبِها ملفتاً للنظر ، و مستدعياً للإعجاب و الإكْبار ؛ و لا غروَ أن سكبت تلكَ البلاغةُ الماءَ الباردَ على بركانِ الغضبِ ، و انتزعت خيارَ العفو ِ من فكِّ الأسدِ المُزمجر .
و لكن ّهناك َمن ْبلغَ من ثباتِ
جنانِه و رباطةِ جأشهِ و حضورِ ذهنِهِ مدىً أبعد ، لدرجةِ أنّهُ
انشغلَ في هذا المشهدِ العصيبِ بأمرٍ آخر ، فيتذكّرُ أحبابَه !
فينقلُ " ابن خلّكان " في كتابِه " وفيات الأعيان " (5) ، أنّ رجلاً قد تعيّنَ عليهِ القتلُ و حضرَ أهلُ القوَد بحضور" الحجّاج بن يوسف الثّقفي " ، فلمّا فُرشَ النّطعُ و سلّ السّيفُ اتّفقَ أن ملأ عينَه في حالِهِ تلكَ فرأى بريقَ السّيفِ و لمَعانَ برق ، فاستنظرَ ثمّ أنشد مرتجلاً :
تألّقَ البرقُ من نجدٍ فقلتُ له : *** يا أيها البرقُ إنّي عنكَ مشغول
يكفيكَ ما قد ترى من ثائرٍ حنقِ *** في كفّهِ كصبيبِ الماءِ مسلول !
فلمّا رأى الحجّاج ما كانَ من حضورِ ذهنه وجودةِ شعره عطفَ عليهِ إشفاقاً له و عرضَ على طالبيهِ أن يؤدّيَ عنه ديتَه ، فجعلوا يأبونَ و جعل يتولّج في تحليل القصّةِ و يتدرّج في تنفيسِ الدّيةِ حتّى بذل لهم دية ملك ، فلمّا أبوا و عتوا قال لحرسِه : فكّوا قيده و أخلوا سبيلَه فإنّ من لم ينسَ أحبّتَه في هذا المقام لجدير أن لا يُـقـتـل !
و بعد ؛ كما أنّ منَ القصائدِ ما أودَت بصاحبِها و أوردته مورادَ الهلَكَة ، فإنّ منها كذلكَ ما أنقذَت صاحبَها و أنجتهُ من الهلاك المُحقّق ، و إن كُنّا في هذهِ الأمثلةِ لا نحاكمُ هذا في عفوِهِ ، أو ذاكَ في عقوبتهِ ، فاللهُ وحده أعلمُ بعدالةِ هذا القرار ِ من إجحافِه ، و لكن في كلتا الحالتين يتجلّى لنا برهانٌ متجدّدٌ و دليلٌ لا يمكنُ دفعه بأنّ الإنسانَ يتأثّرُ بالكلمة ِ البليغةِ أيّما تأثّر ، فتذهبُ بهِ كلّ مذهب ، و بهِ تتأكّدُ الحقيقةُ الخالِدةُ القائلة " إنّ منّ البيان ِ لسحرا " .
و اللهُ المُوفّق .
________________________