باسم الله الرحمن الرحيم


الإهداء


إلى القابضين على الجمر في زمن الغربة والغرباء...
إلى ضحايا الحرب الصهيوصليبية القابعين خلف الأسوار...
إلى من تجرؤوا على قول لا حين قال الجميع نعم...
إلى من رفضوا الذل والخنوع في زمن الانكسار...
إلى من يسطرون تاريخ أمتهم ويعيدون صياغته بدمائهم وأشلائهم...
إلى الفارين بدينهم في الشعاب والمغارات والجبال...
إلى العلماء الأسرى الذين رفضوا أن يقتاتوا بكلمات الله...
إلى الشيخ الحجة العالم الضرير الثابت عمر عبد الرحمن...
إلى العلامة الموسوعة أبي قتادة الفلسطيني في سجنه...
إلى شباب الإسلام في مغرب الإسلام الجريح وفي كل مكان...
إلى المجاهدين في كل مكان في مشارق الأرض ومغاربها...
نشد على الأيادي المتوضئة بطهر الجهاد ...
اللهم لا تحرمنا أجورهم...اللهم لا تحرمنا أجورهم...آميييييييين.


مقدمة لابد منها


بادئ ذي بدء أنبه القارئ الكريم وأقر وأعترف وأبصم بالعشرة بدل الإبهام وحدها. على أنني لست بكاتب ولا من هواتها, بل لم أحاول مجرد المحاولة من قبل, ناهيك أن يخطر ببالي يوما ما أنا بصدده اليوم من إطلالة { بتفاهاتي} هاته وعرضها على من سيتيسر له الإطلاع عليها من جمهور النت الذي يتزايد عدده يوما بعد يوم. وهي الوسيلة التي أضحت ملاذ المظلومين وصوت من لا منبر له من أبناء الملل عامة وملة الإسلام خاصة.


لهذا فإنني أستسمح القارئ الكريم على هذا التطفل الذي أرغمت عليه بعد إلحاح شديد من أحد أعز رفاق المحنة والقيد الذي ضل يلاحقني لسنوات عدة مذ قراءته لبعض من خربشاتي التي كنت أخطها على ورق خاص أصنعه من علب الحليب الكرتونية بقلم رصاص لا يتجاوز حجمه عقب سيجارة كنا نخفيه بإحكام في ثقب مموه على جدار مرحاض الزنزانة التي جمعتنا في أيام السجن الأولى, وقبل أن( تفتح لنا الدنيا ذراعيها) ونحصل على أوراق وكتب وحتى التلفاز والهاتف وبعضا من الكرامة والآدمية التي انتزعناها بعد سلسلة إضرابات عن الطعام فقدنا فيها بعضا من إخواننا وكيلوغرامات من أوزاننا وخرج منها الكثيرون بعلل لا تعد وشحناء كادت تعصف بالصف كان الخلاف بشأن التأصيل الشرعي للإضراب عن الطعام سببا في انطلاقتها وإذكاء جذوتها.


حين اقتنعت على مضض بفكرة الأخ السالف الذكر فرج الله عنه, وجدتني قد فقدت جل تلك الأوراق التي كنت أعمد إلى نقعها في الماء بعد تمزيقها قطعا صغيرة حتى يسهل جريانها في بالوعة المرحاض خوفا من حملات التتار. وهي التسمية التي نطلقها على فرق التفتيش التي ينتقى أفرادها من بين أخبث وأقذر حراس السجن. فلا يتوانى الواحد منهم عن إدخال يده في ثقب المرحاض. ويقرأ بتهج علب الأدوية. ويعمد إلى خلط مسحوق الغسيل مع حصة العدس ويقلب كل شيء رأسا على عقب بغية الاستفزاز.


فاضطررت إلى العودة إلى ذاكرتي المثقوبة كغربال محاولا عصرها لمقاومة إحدى آفات السجن ومخلفاته الخطيرة على السجين وهي النسيان,مستعينا ببعض شهادات الإخوة وتجميع وقائع وأحداث وطرائف ليكتمل هذا العمل الذي أحتسبه عند الله عز وجل. وأتمنى أن يوفي الغرض الذي كتب لأجله من فضح للظالمين, ونصرة للمظلومين واستنصارا للموحدين, ولنقول ولنرفع عقيرتنا لمن له أذن أو أصغى السمع للنداء.


نحن هنا,,,,نحن هنا,,, نحن إخوانكم,,, فلا تبخلوا علينا بواجب النصرة, وأقله الدعاء,والحبيب الصادق المصدوق يقول: فكوا العاني,فكوا العاني.


أعود وأستسمح للمرة الألف القارئ الكريم إن أنا شططت في العبارة أولم أوفق في الإحاطة بالموضوع كما ينبغي أو زللت وأخطأت فالكمال لله وحده. وكم أكون سعيدا إن كتب لتعليقات القراء أن تتسرب وتصلني خلف هذه الجدران بعد كل حلقة تنشر,كما كتب لمحاولتي هذه أن تتسرب خارجها. خاصة ملاحظات ونقذ أهل التخصص في مجال الكتابة الأدبية. علي أستطيع تدارك بعض من أخطائي في الحلقات التي تليها. فلا تبخل علي أخي وأختي بالمساعدة والنصح والتوجيه حتى يكتمل المشروع ويوفي الغرض والمأمول منه ونقتسم أجر ذلك معا بإذن الله.


ملاحظات لابد منها


1-هذه المادة هي عبارة عن مذكرات وشهادات وخواطر حاولت وحرصت على تقديمها بأسلوب سهل سلس يستوعبه الجميع باختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية. لهذا فإنني أعتذر عن الركاكة في التعبير وعدم تناسق الأفكار وترابطها.


2- حين كتبت هذه المذكرات والخواطر لأول مرة حشوتها باللهجة العامية المغربية لأنني حينها لم أكتبها للنشرعلى مستوى القارئ العربي. لهذا فقد راجعت هذا الأمر قدر المستطاع وتركت اللهجة العامية في بعض المواضع مع ترجمتها للفصحى لتقريب الفهم ما أمكن .


3- قد يلاحظ القارئ الكريم بعضا من الكلمات أو المواقف التي تخدش الحياء. فما أنا سوى ناقل وراو لتقريب القاريء من الوضع ما أمكن ذلك.. والقاعدة تقول أن ناقل الكفر لا يكفر.
4- تعمدت نشر هذه المذكرات على حلقات أو دفعات بناء على نصيحة الأخ المكلف بنشرها لعدة أسباب أولها: ما ذكرته آنفا , وهو قراءة تعليقات القراء بعد نشر كل حلقة للإستفاذة منها في التصويب والتصحيح في الحلقات التي تليها.


5- ربما قد تغيب أو تتوقف هذه السلسلة لمدة من الزمن وذلك راجع لظروف المكلف بنشرها على النت أو تعسر وصولها إليه أو تأخرها أو ما قد يطرؤ من أسباب لا نعلمها, نسأل الله الحفظ والسلامة لكل الإخوة.


6- ألح وأهيب بكل الإخوة والأخوات العمل على نشر هذه المذكرات على أوسع نطاق على الشبكة العنكبوتية ,على المواقع والمنتديات, إسلامية وغير إسلامية ,أدبية,فنية,رياضية,حقوقية,صحافية....إلخ. تعاونا على البر والتقوى وفضحا للظالمين ونصرة للأسرى الموحدين. والله لا يضيع أجر المحسنين فلا تحقرن أخي أختي من المعروف شيئا وإن قل.


7- أسأل كل من اطلع على هذه المادة الدعاء لمن كتبها أو ساعد على نشرها وإيصالها للعالم.



شذرات من أقبية الأبالسة



مذكرات ضحية من زمن الإنصاف والمصالحة المزعومة[1]



1


الرابعة صباحا.... أفقت مذعورا أرتجف... كانت الضربات القوية تهز الباب هزا عنيفا...والجرس يرن دون توقف يوقظ الكامن في قلبي... ابنة أخي الصغيرة تصرخ في هلع وتتشبث بتلابيب أمها.... شقيقتي تقف مشدوهة مصدومة كالبلهاء وكأنها فقدت صوابها.... وقع أقدامهم يزلزل سقف البيت .ينطون فوق الجدران وأسطح الجيران كأفراد عصابة سطو محترفة .... انهارت والدتي المسكينة وبدأ جسدها يرتجف وهي تبكي وتشهق بحرقة لا مثيل لها من هول الصدمة مرددة.
...هذا ما كنت أخشاه يا بني...هذا ما كنت أخشاه...."


همست لها بعد أن عانقتها وأنا ألهث كحصان رهان مهزوم,محاولا التخفيف عنها والتهديء من روعها لا أدري كيف خرجت الكلمات من فمي... لقد عادوا ... اصبري يا أمي... اصبري فلك أجر عند الله...


ما إن فتح أخي الباب حتى صرعوه أرضا على ظهره .... تدفقوا كالكلاب الجائعة أو الوحوش المنفلتة من أقفاصها.


وبدأوا ينشبون سكاكينهم وأيديهم في الأفرشة والوسائد ,وهم يطلقون أقذع الشتائم وألفاظ السوق...احتج أخي في أدب وخوف قائلا.
نحن أسرة محترمة ... ولم نرتكب أي جريمة حتى تعاملونا هكذا...
كلكم تكررون نفس الأسطوانة ... قال أحدهم.
اسألوا عنا كل الجيران ... أقسم بالله العظيم...


قاطعه كبيرهم مرة أخرى" نحن لانظلم أحدا ولا نلفق التهم دون أدلة "... (اللي دار راسو في النخالة كينقبو الدجاج)


شجع الحوار الهادئ نسبيا شقيقي وجرأه أكثر.
لو سمحتم أريد أن أعرف من أنتم وأريد رؤية إذن الوكيل العام بالتفتيش؟؟
قهقه قائدهم ثم اقترب منه وجذبه من كم منامته صارخا في وجهه بعنف.


تريد الهوية وإذن الوكيل العام يا أستاذ ". خذ هاهو الإذن": وبحركة خبير متمرن صعقه بعصاه الكهربائية على خده.خارت قوى شقيقي فسقط أرضا مغمى عليه...ازدادت صرخات النساء والأطفال ارتفاعا دون أن يعبأ بهم أحد... ثم جروني إلى الخارج حافي القدمين دون أن يمهلوني لانتعال حذائي حتى.


حاولت والدتي المسكينة التشبث بي ومنعهم وهي تبكي وتصيح :
" خذوني مكانه إنه مريض إنه مريض"
حين فشلوا في إقناعها بأني سأعود بعد ساعتين على الأكثر لأن الأمر لا يعدو أن يكون إجراءا بسيطا وبضعة أسئلة. قذفوها كالكرة في الممر المؤدي إلى الدرج وسحبوني....


ها قد عادت الأيام االسوداء مرة أخرى.... أين المفر؟؟إنه قدري الذي لا مفر ولا فكاك منه . لكن ما يجري هذه المرة يبدو أنه ليس كالمرات السابقة ... الخطر ماحق... ومنذ صدور التقرير الأمريكي الذي صنف أبناء هذا البلد على رأس قا ئمة من يعكرون صفو حلمهم بمشروع عالم إسلامي جديد ويظنكون عيشهم بدمائهم وأشلائهم على أرض الرافدين... صاروا منذ ذاك الحين كالكلاب المسعورة."حرك السيد السوط فضاعف العبد المجهود".


هل نصيبي أن أعاني مرة أخرى وأ تعذب... فلم أكد أصدق أن خلاصي منهم قد حان حتى وقعت بين أيديهم من جديد...


الصدمة والمفاجأة تسيطر علي, رجحت أن الأمر قد كشف. كنت على وشك الرحيل إلى غير رجعة. نعم إلى غير رجعة. قررت أن أترك لهم الجمل وما حمل,وإن كنت لا أملك لا جمل ولا حمل. بل حتى ثمن كيلو من شحم سنامه لم أجده يوم احتجته كعلاج شعبي وصف لي لتسكين آلام صدري.
وأنا أنزل معهم الدرج... درج البيت خارت قواي... فشلت ركبتاي... دارت بي الأرض... تبخرت أحلامي الجميلة ... واسود كل شيء أمامي ... تبا لهم... لو أمهلوني أسبوعا فقط... أسبوعان على الأكثر... لقبضوا على الريح , ولم يقبضوا علي....


جلبة وضوضاء غير معهودة تعم الحي في ذاك الوقت المتأخر من الليل... استفاق جل الجيران بعد أن أرغموا بعضهم على فتح أبوابهم واستعمال أسطح منازلهم للهجوم على بيتنا... أسلوب لإرهاب الناس وإنذار لكل من تسول له نفسه شيئا. الخبثاء يعلمون علم اليقين أنني لست مسلحا,ولا أشكل أي خطر على أي أحد. والعملية لن تحتاج لأكثر من فردين فقط, أو استدعاء للمثول بين أيديهم. أنا ضعيف البنية, معتل الصحة, رغم هذا فكل أصناف السيارات هنا. جيش من العمالقة احتل المكان اختيروا بعناية. لا يقل طول الواحد منهم عن المترين مدججين بالأسلحة. هالني المنظر وازداد رعبي ويقيني في أنها نهايتي.


وهم يعبرون بي الزقاق الضيق صوب السيارة التي ستقلني نحو المجهول=المعلوم..
تعالى فجأة صياح و صراخ احتجاج. حمدت الله,لا يزال في هذه الأمة من يرفض الظلم ويجهر باللهم إن هذا منكر.


زال عجبي حين عرفت من يكون ووصلت كلماته مسامعي . إنه هو ,عبد الله. صادفت عودته كعادته في ذاك الوقت المتأخر من الليل وجود الزوار. منذ فتحت عيني في هذا الزقاق وأنا أعرفه على هذه الحالة. لا يكاد يصحو إلا في رمضان. مع ذلك كان يكن لي احتراما خاصا رغم أنني في سن أصغر أبنائه الذين (حركوا)=هاجروا سرا للضفة الشمالية بعد وفاة والدتهم وزواجه من بدوية في سن أصغرهم. لطالما أيقظتني الوالدة في جوف الليل للتدخل وإنقاذها من ركلاته ولكماته كلما عاد ثملا مهزوما في حلقات القمار.


في اليوم الموالي كان يعتذر لي أشد الاعتذار ويعدني بالتوبة وعدم التكرار مع التزام الصلاة بمسجد الحي.


يصرخ ويلعن...يرغي ويزبد...مترنحا وزوجته تحاول ثنيه وإدخاله بيته وهي تردد محاولة إلجام فمه بكفها (راه أحمق أسيدي ما تديوش عليه ,راه أحمق وعندو وراق السبيطار...)= إنه أحمق يا سيدي لا تلتفتوا لكلامه. إنه أحمق وعنده أوراق المستشفى التي تتبث ذلك.


وهو يقاومها ويصيح: (الأحمق هو أبوك...هذا دري زوين ماعمرنا شفنا عليه شي حاجه خايبه. غير الدار للجامع الجامع للدار...سيرو شدوا كروش الحرام ...آش بغيتو عندو آولاد الق...)
هذا شاب طيب لم نر منه شيئا سيئا. من البيت للمسجد ومن المسجد للبيت ...إذهبوا وألقوا القبض على أصحاب البطون المنتفخة بالحرام...ماذا تريدون منه يا أبناء العاهرات...


لم يكد يكمل حتى رفع في الهوا...ذاب صراخه وسبابه ونحيبه وسط هدير محرك السيارة التي أركبوني إياها.
ستصير واقعته لاشك حديث المجالس وقد تغطي بعض الشيء على حكايتي مع إضافة المزيد من البهارات والتوابل قصد التشويق والمتعة وتجزية الوقت وقتل الفراغ. تبا لهم...لكل المهووسين المسكونين بالإشاعة والمبالغة. حتى والدتي كادت بدورها أن تصدق ما روجوه عن وجود أسلحة ومتفجرات في العلب الكرتونية التي جمعوا فيها كل كتبي وأشرطتي وحاسوبي المتهالك, وحرصوا كل الحرص على إظهارها واستعراضها أمام الجيران قبل شحنها بكل عناية في سيارة خاصة محروسة غير تلك التي أقلتني...كان أول ما سألتني عنه في أول زيارة لي بعد إحالتي على السجن هو محتوى العلب الكرتونية التي أخرجوها من غرفتي...


أجلسوني في وسط المقعد الخلفي...أحاط بي اثنان من الغلاظ الشداد واحد عن يميني والآخر عن شمالي ...كبلوا يدي للخلف في عنف وقيدوا رجلي بأصفاد خاصة بالأقدام...تذكرت زمن العبيد المرحلين قسرا من أوطانهم صوب العالم الجديد أمريكا بعد الإكتشاف . تفو ... تفو ... تفو ...ألف مرة على هذا الكريستوف كلومبس مكتشف هذا الطاعون...


أدخلوا رأسي في كيس خانق...كل شيء يتم ويسير على الطريقة الأمريكية الهليودية لها الريادة في كل شيء...إنه زمن العبيد...زمن أمريكا ...ومحاكاة أمريكا ...ونصرة أمريكا والويل والثبور لمن غضبت عليه اللقيطة الشرسة. حبل صدام لا يزال متدليا يتأرجح لتذكير كل من سولت له نفسه العصيان...


انطلقت كالسهم تشق هدوء الليل البهيم. رن الهاتف..أجاب أحدهم ...نعم سيدي ...نعم سيدي الأمانة معانا ...كن هاني سيدي...بعد انتهاء المكالمة أنزلوا رأسي بين ركبتي بعنف وشدة. تقوس ظهري . ضغطوا عليه بقوة مع كلمات تحذيرية ...كلما حاولت التململ زاد من بجواري في الضغط علي أكثر وضرب بقبضة يده الغليظة على قفاي ...(نزل لمك راسك لتحت...)


رن المحمول من جديد...(نعم سيدي احنا في الأوتوروت) = الطريق السيار...عرفت الوجهة زاد هلعي وانقباض صدري...خفقان قلبي...وبدأ مغص بطني الفظيع في مثل هذه المواقف...يبدو أن القوم مستعجلون متلهفون للقائي...


تمتمت ببعض الأدعية...أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق. اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من شرورهم. أحس بي من بجانبي فخاطبني ساخرا (سمعنا باش نقولو وراك آمين)=سمعنا لنؤمن على دعائك.
غص ما تحت السماوات وفوق الأرضين بعيون المخبرين...
لكل إنسان لدينا تهمة تمشي ويمشي معها ألف كمين...
نصفها في داخل السجن ونصف خارج السجن سجين...
ليتني رحلت معه ولم أتأخر...
" نموت مع الرجال خير لنا من هذا الجحيم الذي لا يطاق" هكذا كان يحدثني ويكرر على مسامعي صديق المحنة الأولى- ع- منذ أطلقوا سراحنا بعد ثلاثة أشهر من العتمة والعذاب والبشاعة...هنيئا لك يا -ع - لو كنت هنا لساقوك .لكن يبدو أنني سأؤدي نيابة عنك, والأداء لا شك أنه سيكون عسيرا هذه المرة . رأيت ذلك في عيونهم ولمسته من تصرفاتهم وشراستهم...


"لم تعد البلد بلدنا والأرض أرضنا أصبحنا كالمصابين بالجذام المعدي...الكل صار يفر منا خوفا من الشبهة ومن بطش خفافيش الظلام...
حتى الأقارب يخافون من زيارتنا ويتحرجون من زيارتنا لهم وصلة أرحامهم بل إن بعضهم يفكر في تغيير اسمه العائلي..."


كنت أتهمه بالمبالغة وأنعته بالموسوس حين كان يحدثني أنهم قد دسوا لنا العيون والآذان في كل مكان. وكان يقسم لي أنهم لن يتركوننا في سلام وأن التهمة لن تفارقنا حتى وإن ولجنا قبورنا...ويستدل لي على ذلك بحادثة حسن الذي غيبوه شهورا عدة , وبعد أن تركوه مات في حادثة سير غامضة –ع- على الطريق الرابط بين العاصمة ومدينة القنيطرة. كل من شيعوا جنازته أو زاروا قبره للترحم عليه ابتلعهم الأخدود.


ويتابع قائلا "لا تغتر أنهم أطلقوا سراحك...والله لم يتركوك إلا ليعيدوك بملف ضخم هذه المرة بعد أن تكون طعما لغيرك كما فعلوا بفلان..وفلان...وفلان...وعلان... ليس أمامنا إلا أن نتحول إلى جواسيس أو نرحل إلى أرض بعيدة...بعيدة جدا ...ثم يتابع في إلحاح وحماس محاولا إقناعي ... "أنسيت ما قاله لك (الحاج)في آخر استدعاء ؟؟؟ ألم يقل لك أن من مصلحتك ومصلحة البلاد أن تتعاون معهم ...ألم تفهم ماذا يقصد بالتعاون؟؟؟ "


انتفضت يوما في وجهه أو اصطنعت ذلك لاستفزازه ودفعه للإفصاح عما كان يدبره في الخفاء دون إخباري. نفس الشيء كنت أفعله هكذا علمتنا التجربة السابقة. المعلومة في وقتها وعلى قدر الحاجة لا على قدر الثقة. ثم شرعت أحدثه عن حب الأوطان وأسرد عليه بعض ما قاله الشعراء وكبار الأدباء في ذلك مما علق بالذاكرة من أيام الاحتفالات المدرسية بالأعياد الوطنية التي لا تكاد تنتهي من كثرتها...


فرد علي ردا فاحما " اسمع يا أخي ... إن شعراؤك هؤلاء لم يجلسوهم على قارورة ولم يدخلوا العصي والأقلام في مؤخراتهم ...لم يحاربوهم في أرزاقهم ولم تطاردهم عيون المخبرين والجواسيس في كل مكان...تصور حتى المعلمة صارت تسأل إبنتي عن تفاصيل حياتنا ومعارفنا وطعامنا... الحرارة أحسها هذه الأيام تقترب منا أكثر فأكثر ,لم أعد أشعر بالأمان والاطمئنان هنا... البلد صار كسجن كبير ونحن في حالة سراح مؤقت فقط ... الأصدقاء يتخطفون من حولنا كما تخطف الطير. وفي صباح كل يوم تلوك الألسن قصة أحدهم وسيناريو اختطافه ... لا أريد أن أموت بحسرتي خلف جدرانهم ...


"لماذا لا نحاول المقاومة؟؟؟ نتصل بالجمعيات والحقوقيين...نحكي لهم ما نعيشه من تضييق وحرمان حتى من كسب قوت اليوم... ونسألهم الوقوف إلى جانبنا... "
قهقه في سخرية وأجابني إجابة قانط يائس من الجميع, لكنه واقعي ومدرك لحقائق الأمور وحجم الخطر الذي كان يتربص بنا.


"رغم ما عانيته أراك لا تزال ساذجا يا عزيزي . لو كنت شيوعيا...أو بوذيا... أو شاذا جنسيا لخرجت المسيرات ونظمت الوقفات الإحتجاجية من أجلك ولناصرك العام.أما وإنك قد صلبت على لائحة المتهمين بالإرهاب فلن يبك عليك غير أمك...حمزة لا بواكي له يا أخي ... لا تغرنك الشعارات . انتهت سنوات وعهد الرصاص1 وجاء عهد الفولاذ ... "
ثم يشرع كعادته يوضح لي الفرق بين الحديد والفولاذ وأيهما أصلب ...


" أين المفر وأي أرض تقبل أن نمشي فوقها والعالم كله قد تكالب وتعاون. حتى خلافاتهم وضعوها جانبا لما صار العدو أمثالنا؟؟؟ وآخر ما أسمعوني إياه بنبرة الواثق في نفسه قبل أن يخلوا سبيلنا المشروط في المرة السابقة هو...لو صعدت إلى القمر لجئنا بك في كيس مختوم محكم الغلق ...لا تحاول اللعب ...فعلها غيرك وفشلوا...فالعالم أصبح قرية صغيرة...ويدنا طويلة...
ثم كيف السبيل والواحد منا لا يستطيع التحرك مسافة عشرين كيلو دون أن يخبرهم بذلك ويخضع لسين وجيم...ومن أين لنا بجوازات السفر...و...و..."


قاطعني قائلا, مفصحا عما ضل يحوم حوله من مدة , وضللت أنتظره منه وأستدرجه للإفصاح عنه,مختبرا رد فعلي ومدى استعدادي وتجاوبي مع المشروع "...ليس لنا إلا أن نلحق بمن سبقونا. بطن الأرض خير من ظهرها في زمن الذل هذا...ميتون ...ميتون...فلنمت بشرف بين الشرفاء. تابع في حماس لما لاحظ اهتمامي ...بلاد الرافدين ...بلاد الرافدين... أراها في منامي ويقظتي ...ستندم وتقتلك الحسرة إن هم أعادوك هذه المرة...أنظر حولك...أين تعيش أنت...ألا ترى وتسمع كل يوم سيناريوهات الخلايا المزعوم اكتشافها والتي تتناسل ولا تكاد تنتهي تحت شعار الضربات الإستباقية؟؟؟. غدا أو بعد غد ستكون واحدا من أفرادها
بل بقدرة قادر سيجعلونك أميرا على إحداها."


واصل في حماس أنا أتدبر أمر الطريق والجوازات ...أما المال فنتدبره معا ..."


كنت رغم تظاهري بالتمنع واللامبالات واثقا في قرارة نفسي بصواب كل كلمة يتفوه بها المسكين, بل كنت قد بدأت البحث والتحري عن الطريق والوسائل الموصلة إلى هنالك. خاصة بعد أن وصلتني رسالة -خ- الإلكترونية المشفرة والتي جاء فيها بعد مقدمة ملؤها الشوق والمحبة والترغيب في اللحاق بالقافلة :
"...تحررت من الخوف العقبى لكم ...العقبى لكم...تصور رغم حمم النيران التي تقذف بها أحدث آلياتهم على رؤوسنا ورغم الموت الذي يحيط بنا في كل ناحية...وجحافلهم وعملائهم ...رغم كل شيء أقسم لك أنني أحس بالحرية والأمن أكثر بكثير مما كنت أحسه وأنا معكم هناك" .


ثم ختم رسالته ب : " لا تصدقوا أبواقهم المسمومة والله إنهم بعدتهم وعتادهم يفرون من أمام الشباب الحافي الأقدام والذي لا يجد أحيانا غير التمر والماء كوجبة لأيام متتالية يفرون كالجردان المجنونة ذعرا...العقبى لكم أوصيك لا تتأخر عند أي فرصة ...أنا الآن أشتغل في مجالي وأخرج بين الفينة والأخرى مع الشباب لصيد الخنازير وقنصها. لا تخف أعرف ما يدور بذهنك الآن, فرغم النظارات الطبية فقد أصبحت قناصا ماهرا ...نحن في نعمة وسعادة لا تعدلها نعمة في هذه الدنيا دعائي لكم بالفرج والتوفيق فلا تنسونا من دعائكم.


أخوكم -خ-


يتبع....إن شاء الله

مركز المقرزي