ولاية الزوج في تأديب الزوجة
فيه فرعان:
الفرع الأول: ولاية الزوج في تأديب زوجته لحق الله تعالى.
الفرع الثاني: ولاية الزوج في تأديب زوجته لحق نفسه.
الفرع الأول: ولاية الزوج في تأديب زوجته لحق الله تعالى:
تحرير محل النزاع: اتفق العلماء - رحمهم الله - على أن الزوج مطالب ومسؤول عن أمر زوجته بفرائض الله عز وجل كالصلاة والصيام ونحوهما، ونهيها عن معاصي الله كشرب الخمر ونحوه2لعموم الأدلة الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر كقوله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾3، وقوله: ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ﴾4، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته..."5ونحوها،
ولكن هل يجب على الزوج تأديب زوجته على ترك الفرائض أو لا؟
لم أقف - بعد البحث القاصر - على قول للفقهاء يوجب على الزوج تأديب زوجته على ترك الفرائض، بل المفهوم من عباراتهم أن ترك التأديب أولى، إلا ما نقل عن ابن البَزْري6 من الشافعية أنه أوجب على الزوج ضرب زوجته على ترك الصلاة7
وإنما اختلفوا في جواز تأديب الزوج لزوجته في حق الله تعالى، كترك الصلاة ونحوها على قولين مشهورين:
القول الأول: أنه يجوز للزوج تأديب زوجته لحق الله تعالى كتأديبها على ترك الطهارة والصلاة والصيام ونحوها.
وإلى هذا ذهب المالكية8 وهو قول عند الحنفية9 والحنابل10واختار هذا القول الصنعاني11
ويمكن أن يستدل لأصحاب هذا القول بما يأتي:
1- الأدلة العامة على مشروعية تأديب الرجل زوجته كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾12
ففي الآية دلالة على جواز تأديب الزوجة على ترك الفرائض لوقايتها من النار؛ لأنها داخلة في مسمى الأهل"13
وعن جابر14 رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله عبداً علَّق في بيته سوطاً يؤدب به أهله"
[15]، فهذا التأديب عام فيما يتعلق بالتقصير في الحقوق الزوجية، أو حقوق الله تعالى.
2- كما أنه ورد في أصل الشرع معاقبة المتهاون في أداء الصلاة بالضرب، إذ قد ورد الأمر بضرب الصبيان إذا بلغوا عشر سنين16
لحملهم على الالتزام بأداء الصلاة.
وهذه الدلالة وإن كانت صريحة في حق الصبيان المتهاونين إلا أنها في حق الكبار واردة، إذ الكبار أكثر حاجة إلى الردع عن التهاون بها،
والزوجة داخلة في هذا المعنى.
قال الخطابي رحمه الله عند شرحه لحديث أمر الغلام بالصلاة: "ونقول: إذا استحق الصبي الضرب، وهو غير بالغ فقد عُقل أنه بعد البلوغ
يستحق من العقوبة ما هو أشد من الضرب"17.ا.هـ.
3- روى الأشعث18 عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا أشعث احفظ عني شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
تسأل الرجل فيم ضرب امرأته"19
وجه الدلالة:
إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب الرجل زوجته، وعدم مساءلته في السبب الباعث على تأديبها سواء أكان ذلك متعلقاً بحق
الزوج أم بحق الله تعالى.
4- إن تأديب الزوجة على ذلك إنما هو "من باب إنكار المنكر، والزوج من جملة من يكلف بالإنكار باليد أو اللسان أو الجنان، والمراد هنا
الأولان"20
القول الثاني: إنه ليس للزوج تأديب زوجته لحق الله تعالى، وهو مذهب الشافعية21 والقول الآخر للحنفية21
والحنابلة23
واستدل أصحاب هذا القول بالآتي:
1- قوله تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾24
وجه الدلالة:
أن الله عز وجل قد رتب التأديب على خوف النشوز، و"نشوز المرأة: تعاليها على زوجها وإساءتها معاملته25 وأما تركها لحقوق الله تعالى، فليس في اصطلاح الفقهاء نشوز.
2- وقالوا أيضاً: إن هذا النوع من التأديب لا يتعلق بحق الزوج، ولا ترجع المنفعة إليه بل إليها، فليس له الحق في التأديب26
الترجيح:
والراجح من هذين القولين - والله أعلم بالصواب - القول بجواز تأديب الزوج زوجته على ترك فرائض الله؛ لظهور أدلة أصحاب هذا القول وقوتها؛ ولأنه أمكن مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني، وذلك على النحو الآتي:
أما وجه استدلالهم بالآية الكريمة فيجاب عنه من وجهين:
أ- أن يقال لهم: إن الآية الكريمة قد نصت على مشروعية التأديب حال النشوز، ولم تتعرض للتصريح بالتأديب على ترك فرائض الله، وعدم الذكر ليس فيه ما يدل على منع التأديب لترك الصلاة والطهارة، إذ استفيد من أدلة أخرى.
ب- ثم يقال لهم: إن النشوز لم يتمحض مقصده في معنى واحد عند أهل العلم، بل توصف به المرأة التاركة لحقوق الله تعالى كغسل الجنابة وصيام رمضان كما نص عليه فريق من أهل العل27.وأما قولهم: إن هذا النوع من التأديب لا يتعلق بحق الزوج، ولا ترجع المنفعة إليه بل إليها، فليس له الحق في التأديب28.فيجاب عنه:
بأن الأمر على خلاف ذلك؛ بل للزوج في ذلك منفعة ظاهرة، إذ يؤدي التزام المرأة بطاعة الله، حرصها على طاعة زوجها وعنايته به وبأولاده، وأنه يحصل للزوج بذلك مزيد إقبال عليها29 لأجل ما اتصفت به من طهارة باطنة وظاهرة، فالصلاة في أوقاتها ينشأ عنه مزيد نظافة وطهارة تجعل الزوج يقبل على زوجته ويحرص على دوام الألفة المطلوبة بينهما.وكذا يجري الحال في سائر حقوق الله تعالى. والله أعلم.
الفرع الثاني: ولاية الزوج في تأديب زوجته لحق نفسه30من المعلوم أنه يجب على الزوجة طاعة زوجها في الحقوق الزوجية، وذلك في الحدود التي رسمها الشارع الحكيم، ولا يجوز لها أن تعصيه في ذلك إلا إذا أمرها بمعصية الله عز وجل31؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف"
ولقد جاءت الأحاديث النبوية مقررة حق الزوج في الطاعة في غير معصية الله، ومن ذلك:
1- قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت"31.
2- وقال - عليه الصلاة والسلام -: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها"34
3- وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها"35
فإذا عصت المرأة زوجها فيما يجب عليها أن تطيعه فيه، فإن من حق الزوج مطالبتها في هذا الحق، وله أن يسلك معها من السبل ما يحقق قيامها بما يجب عليها، فيجوز له أن يضربها ضرباً غير مبرح إذا تعذَّر استصلاحها بما دون الضرب للآية الكريمة.
و"لا يتقيد تأديب الزوجة بسن معينة، فللزوج أن يؤدبها في أي مرحلة من مراحل عمرها؛ لأن التأديب مرتبط بالزوجية لا بالسن، فإذا استحقت الزوجة التأديب، فإن للزوج أن يؤدبها سواء كانت صغيرة أو كبيرة"36
ولأجل ذلك:"ذهب جماهير أهل العلم إلى أن من أحكام النكاح ولاية الزوج على تأديب زوجته إذا استعصت، وترفعت عن مطاوعته، ومتابعته فيما يجب عليها من ذلك، بأن كانت ناشزة، ونصُّوا على أن له أن يؤدبها على ذلك كما جاء في التنزيل"37.
قال الكاساني رحمه الله في معرض حديثه عن ولاية تأديب الزوج زوجته لنشوزها:"للزوج أن يؤدبها تعزيراً لها؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته كما للمولى أن يعزر مملوكه"38ا.هـ.وقال القرافي39 رحمه الله:
"وأما المستوفي للتعزير فهو الإمام والأب والسيد... والزوج في النشوز، وما يشبهه مما يتعلق بمنع حقه40.ا.هـ، إلا أن المالكية
قيدوا جواز تأديب الزوج زوجته بما "إذا لم يبلغ نشوزها الإمام أو بلغه ورجي صلاحها على يَدِ زوجها"41.
وقال النووي رحمه الله: "والزوج يعزر زوجته في النشوز وما يتعلق به"42.ا.هـ.
وقال ابن قدامة رحمه الله بعد بيانه لمرتبتي وعظ الزوجة الناشز وهجرها: "فإن أصررن فاضربوهن... وعليه أن يجتنب الوجه، والمواضع المخوفة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف... وله تأديبها على ترك فرائض الله"43.هـ.
إذا تبين ذلك، فما هي طرق تأديب الزوجة؟
وهل يجوز للزوج أن يبادر بضرب زوجته لأول معصية أو تقصير في حقه أم لابد من تكرار المعصية والإصرار عليها؟