حمل أمتعته على عجل ، ورجـلاه لا تكادان تلامسان الأرض من شدة الفــرح ...

وأخيراً تحقق حلمه برحلة بحرية إلى إحدى الجزر البعيدة على متن باخرة تبحر بعد دقائق .. وسيكسر حاجز الروتين الممل أخيراً وسيبتعد عن قصر أبيه للمرة الأولى منذ أن أصبح شاباً يافعاً .. بل الأجمل من ذلك كله أنه سيتذوق طعم الحرية الطبيعي بعيداً عن ( الإتيكيت ) الذي يأسره ليل نهار .

على رصيف المرسى كانت ( سيرين ) تنتظر بقلق ظاهر وصول (صديقها) الذي تأخر عنها كثيراً ... ونداءات البحارة لها بالصعود تتكرر بانتظام يزيدها قلقا وانزعاجاً.

هاهو قد وصل أخيراً ، وتعابير وجهه الخجول تنبئ بصمت أنه يعتذر إليها عن تأخره ...
ناولته التذاكر .. ثم ألقت على صدره حقيبتها وأمتعتها وسط دهشته دون تعليق وكأنها تقول له " ذق جزاء تأخرك أيها الكسول "
تبسم وبدأ يجر رجليه وحمله الثقيل وهو يصعد وراءها درجات سلم الباخرة ويدفعها من ورائها بحركاتٍ صبيانية مضحكة لعله أن يخفف شيئاً من توترها وضيقها.

كان قد تعرف إلى (سيرين) منذ شهر واحد فقط .. وسرعان ما نشأت بينهما علاقة صداقة حميمة . ثم اتفقا على أن يصحبها في رحلة ترفيهية إلى جزيرة نائية في عمق البحر مع عدد من موظفي الشركة الفرنسية التي تعمل فيها سيرين .

ورغم برودة الجو في هذا الصباح الباكر واضطراب حالة الطقس وارتفاع مستوى الموج ، إلا أن القبطان – ذلك الغامض الأعرج-أطلق صافرة الانطلاق لمركبته لتشق عباب الماء في تحد ٍ صارخ للمجهول وبدأ البحارة يرفعون الأشرعة ويسدلونها بحركات متتابعة مدربة وسط أهازيجهم التي تبعث في النفس حلاوة المغامرة .

كان ( كريم ) يسترق النظر إلى المرفأ الذي بدأ يتباعد تدريجياً من خلال نافذة غرفته وقد بدأ في ترتيب أغراضه وملابسه داخل الخزانة ويتراقص بحركات متمايلة ويردد مقاطع من أغنيات تنساب إلى أذنيه من جهاز التسجيل المعلق إلى خصره .. ولم يفسد عليه هذه الأجواء الحالمة إلا صوتُ سيرين وهي تقتحم عليه غرفته بعد أن ملت من كثرة طرق الباب دون أن يسمعها .. دخلت وأقفلت جهاز التسجيل وقد عقدت حاجبيها ثم أبعدت سماعتي التسجيل عن أذنيه وصرخت في وجهه قائلة : " إن لم توافني في الكافيتيريا حالاً فسوف أقبل دعوة أي أحد من زملائي إذا دعاني إلى فنجان قهوة.. هه !! " .

ثم انصرفت وأغلقت الباب بقوة تاركة ً إياه يتأمل علامة استفهام كبيرة ارتسمت في الهواء أمام عينيه.

لم يجد (كريم) بداً من أن يلملم أغراضه سريعاً ويخرج بحثاً عنها بين الدهاليز والممرات حتى وجدها هناك في الكافتيريا الرئيسي تقف وسط عدد من زملائها وزميلاتها الفرنسيين والعرب .
حياهم بأدب ثم أمسكت سيرين بيده والتصقت بجانبه في نشوة ظاهرة ،وراحت تعرفه إليهم وتعرفهم إليه وهو يصافحهم الواحد تلو الآخر.

دار بينهم حديث متشعب حول كل شيء في جو يملأه المرح والسرور في شيء من الدبلوماسية واللباقة .. تعرفوا من خلاله على بعضهم البعض بشكل أكبر ، وكانت فرصة رائعة بالنسبة لسيرين التي لم تكن لتبعد عينيها المعجبتين عن صديقها الخجول وقد تحول إلى شخصية ذات دعابة ونكتة .... وجاذبية .

فجأة !!! ... لمعت في عيني سيرين آثار منظر أعجبها وراء النافذة فأمسكت بيد كريم واستأذنت منهم بلطف وصعدت به إلى سطح الباخرة في نفس الوقت تماماً الذي استطاعت فيه الشمس أخيراً أن تخترق فراغات بدت بين السحب السوداء الكثيفة لتطل على الأرض بوجهها المشرق ، وراحت تداعب سطح الماء بخيوط ذهبية لم يكن في ذلك اليوم الحالم شيءٌ أجمل منها ولا أروع .

على حافة سطح الباخرة من مؤخرتها .. وقفا يملآن صدريهما بالهواء النقي ....
نسمة هواء باردة تسللت على حين غفلة منهما وراحت تتلاعب بشعر سيرين وتتمايل به .. تارة تهزه إلى آخر أطرافه في الفراغ بينهما .. وتارة تلفح به وجه وصفحة عنق كريم وهو ينظر باتجاه الشمس مغمض العينين ... ويتهامسان بعبارات مقتضبة للغاية حديثاً لا يفهمه سواهما .
وبينما هما في هذه الأجواء الحالمة إذ تزايد من حولهما عدد الركاب الذين اجتذبهم هم أيضاً جمال المشهد وشاعريته وهدوئه ، فاغتالوا بذلك من حيث لا يشعرون شيئاً من مشاعرهما الرقيقة البكر ووأدوها تحت تراب صدريهما قبل أن ترى النور .. فانسلا من بين الجموع وعادا إلى غرفتيهما ليأخذا قسطاً من الراحة قبل موعد الغداء .

***********************

كانت سيرين في حركة دائبة داخل غرفتها ترتب أغراضها وتجهز كاميرتها الرقمية استعداداً لكمٍ هائلٍ من الصور والذكريات الجميلة ... وكلما احتاجت إلى شيءٍ من العون والمساعدة هرعت إلى غرفة كريم دون تردد .
أما كريم ، فقد انشغل عنها وسط ألوانه وأصباغه وريشه وهو يرسم المنظر البديع الذي لاح له من بين شرائح ستارة غرفته .. ويمزج المنظر بمناظر متداخلة بشكل معقد تتسرب إلى خياله لا يدري مصدرها

بدأت معالم بحـرٍ لـُجـّي عميق تظهر على قاعدة اللوحة .. وفي طرفها الأيسر رسم دوامات دائرية على سطح الماء تكاد تبتلع سفينة عملاقة توسطت اللوحة وهي تصارع الأمواج !!.
وفي أقصى الركن الأيمن العلوي من اللوحة بالكاد يظهر طرف قرص الشمس وقد خنقتها السحب السوداء وأخفتها بعناية عن الأرض .. وخيوط ٌ من النور الساطع نجحت في الإفلات من قبضة السحب لتصل أخيراً إلى أعالي جزيرة قابعة بصمت في أحضان المحيط فتوصل إليها نداءات استغاثة متكررة من أهل الشمس إلى أهل الأرض !!!.

لم تكن سيرين تتذوق هذا النوع من الفن التشكيلي .. إلا أنها أبدت اهتماماً بالغاً به حين بدأ كريم يرسم وسط اللوحة وجـهاٌ هلامياً لفتاة حسناء ملامحها ساحلية ، تسدد نظرها الساحر مباشرة في عيني كل من يرى اللوحة ويتأملها .

ظنت في بادئ الأمر أنها هي المقصودة بالفتاة .. وهو الأمر الأكثر دفأً الذي تسلل إلى مشاعرها ودفعها باتجاهه .. وتجزم في قرارة نفسها أنه يبادلها الشعور نفسه .. بينما لم يكن كريم ينظر إليها بهذا الاتجاه.

ورغم أن كريم لم ينته بعد من رسم اللوحة .. إلا أنها أحرجته أمام زملائها وزميلاتها وهم على الغداء .. وراحت بحماس تصور لهم براعته في الرسم وجمال اللوحة التي رسمها بسرعة عجيبة وإبداع أخـّاذ . وتحت ضغط الجميع وإلحاحهم المتكرر ، وجد نفسه المسكين يجر رجليه باتجاه غرفته ليحضر لهم اللوحة .


************************

في المسـاء .. كانت عناصر اللوحة دون إذن سابق من أحد تتحول إلى أكثر المواضيع طرحاً على الطاولات وفي الممرات والغرف . وتصبح هذه العناصر مجتمعة موضوع السهرة الوحيد .( البحر-السحب السوداء- الجزيرة – الباخرة – سوء الطقس- وأخيراً وهو العنصر الأكثر إثارة وتشويقاً وغموضاً من بينها ؛ الدوامات البحرية )

وكان بعض الذين وهبهم الله إحساساً مرهفاً بالخطر قبل وقوعه من الركاب ، يشعرون دون غيرهم بوجود حركة خفية غير طبيعية بدأت تظهر على تصرفات البحارة وطاقم السفينة .. .

ثم ما لبثت هذه الأحاسيس أن تحولت إلى واقع بدأ يطفو على السطح عندما بدأت السفينة الضخمة تتمايل وترتفع وتنخفظ وتفقد تدريجياً شيئاً من توازنها وسط دهشة الركاب الذين لم يستطيعوا هم أيضاً السيطرة على أنفسهم وتوازنهم .. بل ولم يتمكنوا من السيطرة على ملاعقهم وصحونهم وهي تتساقط على أرضية المطعم الكبير .

وعبثاً كان يحاول النادلون ( الجرسونات) في المطعم تهدئة الركاب والمسارعة بتنظيف أرضيات المطعم وتبديل الصحون المكسورة على الأرض..
على طاولة طويلة تحلق حولها كريم وسيرين وثمانية من زملاء وزميلات سيرين ، لم يكن الوضع أحسن حالاً عن بقية الطاولات وبدأ حديثهم يتقطع بتقطع التيار الكهربائي داخل المطعم .. وترتفع أصواتهم بارتفاع أصوات من حولهم من الركاب المذعورين .. وكان أحد الفرنسيين يربط عناصر لوحة كريم بالذي يحدث الآن ،غير أنه نسي الدوامات البحرية .. ونسي معها الجزيرة بالطبع .

*************************