السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين .
أيها الأخوة الكرام :-
أن مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إلى الفعل وسهولته على العبد فإذا إجتمع
في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق على الصابر ، وإن فقدا معا سهل
الصبر عنه وان وجد أحدهما وفقد الآخر سهل الصبر من وجه وصعب من وجه ،
فمن لا داعي له الى القتلوالسرقه وشرب المسكر وأنواع الفواحش والاهو سهل
عليه فصبره عنه من أيسر شيء وأسهله ، ومن أشتد داعيه الى ذلك وسهل عليه
فعله فصبره عنه أشق شيء عليه ، ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم وصبر الشاب
عن الفاحشه وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات وفي المسند وغيره عن النبي
-صلى الله عليه وسلم - عجب ربك من شاب ليست له صبره ( ولذلك إستحق السبعه
المذكورين في الحديث الذين يظلهم الله في ظل العرش لكمال صبرهم ومشقته فإن
صبر الإمام المتسلط على العدل في قسمه وحكمه ورضاه وغضبه وصبر الشاب على
عبادة الله ومخالفة هواه ، وصبر الرجل على ملازمة المسجد ، وصبر المتصدق
على إخفاء الصدقه حتى عن بعضه وصبر المدعو الى الفاحشه مع كمال جمال الداعي
ومنصبه ، وصبر المتحابين في الله على ذلك في حال إجتماعهما وإفتراقهما ،
وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك وإظهاره للناس من أشق الصبر ولهذا
كانت عقوبة الشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المحتال أشد العقوبه لسهولة
الصبر عن هذه الأشياء المحرمات عليهم لضعف دواعيها في حقهم ، فكان تركهم
الصبر عنها مع سهولته عليهم دليلا على تمردهم على الله وعتوهم عليه ولهذا كان
الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي اليهما
وسهولتهما ، فإن معاصي اللسان فاكهة الأنسان كالنميمه والغيبه والكذب والمراء
والثناء على النفس تعريضا وتصريحا وحكاية كلام الناس والطعن على من يبغضه
ومدح من يحبه ونحو ذلك فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ :- أمسك عليك لسانك ( فقال : وأنا
لمؤاخذون بما نتكلم ؟ فقال : وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد
السنتهم ) ولا سيما إذا صارت المعاصي اللسانيه معتاده للعبد فإنه يعز عليه الصبر
ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع من استناده الى وسادة حرير
، لحظة واحده ويطلق لسانه في الغيبه والنميمه والتفكه في أعراض الخلق وربما
خص أهل الصلاح والعلم بالله والدين والقول على الله مالا يعلم وكثير ممن تجده
يتورع عن الدقائق من الحرام والقطره من الخمر ومثل رأس الأبره من النجاسه
ولا يبالي بإرتكاب الفرج الحرام كما يحكي أن رجلا خلا بأمرأه أجنبيه فلما أراد
مواقعتها قال : يا هذه غطي وجهك فإن النظر إلى وجه الأجنبيه حرام وقد سأل
رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض فقال أنظروا إلى هؤلاء يسألوني عن دم
البعوض وقد قتلوا إبن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفق لي قريب
من هذه الحكايه ، كنت في حال الأحرام فأتاني قوم من الأعراب المعروفين بقتل
النفوس والإغارة على الأموال يسألوني عن قتل المحرم القمل فقلت : يا عجبا
لقوم لا يتورعون عن قتل النفس التي حرم الله قتلها ويسألون عن قتل القمله
في الأحرام والمقصود أن أختلاف شدة الصبر في أنواع المعاصي وأحادها
يكون بأختلاف داعيه إلى تلك المعصيه في قوتها وضعفها ويذكر عن علي -رضي
الله عنه - أنه قال : الصبر ثلاثه : فصبر على المصيبه ، وصبر على الطاعه
وصبر على المعصيه ، فمن صبر على المصيبه حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له
ثلاثمائة درجه ، ومن صبر على الطاعه حتى يؤديها كما أمر الله كتب الله له
ستمائة درجه ، ومن صبر عن المعصيه خوفا من الله ورجاء ما عنده كتب الله
له تسعمائة درجه .( وقال ميمون بن مهران ) الصبر صبران فالصبر على المصيبه
حسن وأفضل منه الصبر على المعصيه . ( وقال الفضيل في قوله تعالى ) سلام عليكم
بما صبرتم ) سورة الرعد آيه 24 ثم قال ( صبروا على ما أمروا به وصبروا عما نهوا
عنه ) وكأنه جعل الصبر على المصيبه داخلا في قسم المأمور به والله أعلم .
منقول من كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
لابن قيم الجوزيه
أخوكم الرافدين