عبدالله الكعبي
30 Jul 2013, 01:19 PM
(الكولونياليّة)
هي الاستعماريّة، وتُطلق هذه الكلمة على المستعمِر والمستعمَر أيضاً فنقول بريطانيا الكولونياليّة ونقول كذلك الهند الكولونياليّة التي كانت درة التاج البريطانيّ.
وسنجد أنَّ إرشيفات الدول الاستعماريّة السابقة تحتوي على ملايين الوثائق من المراسلات الرسميّة إلى جانب المذكرات الشخصيّة الخاصة بموظفي حكومات المستعمرات يُضاف إليها مدوّنات الرحّالة الأوربيين في القرون الأخيرة.
وقد وفّرت تلك الوثائق جميعها سرداً استعمارياً يتفاوت في مدى موضوعيته، والقاسم المشترك له صدوره عن المركزية الغربيّة الأوروبيّة التي نظرت إلى ما يوجد خارجاً عنها بأنّه الهامش.
ولهذاتحتاج تلك الوثائق ولاسيّما الخاصة بتاريخ الخليج العربيّ الحديث والمعاصر إلى التدقيق في المفاهيم والمرجعيات التي تنطلق منها.
فعلى سبيل المثال اشتمل (دليل الخليج) ل ج.ج.
لوريمر على أخطاء كبيرة متعلقة بتاريخ القبائل والعوائل الخليجيّة، كذلك أغفل هذا الكتاب التاريخ الاجتماعيّ في الخليج العربيّ فهو ينظر إلى البشر والمجموعات السكانيّة الخليجيّة على أنَّها مجرد أرقام وجداول وإحصاءات ليس أكثر، وبالتالي فإنَّ هذاالكتاب يجب أن يخضعه قارئه إلى قراءة نقدية متفحصة للتحقّق من المعلومات التي يسردها الموظف الإداريّ البريطانيّ لوريمر دون التثبت من حقيقتها.
وما قلناه ينطبق كذلك على المدوّنات البريطانيّة والأجنبيّة الأخرى التي تناولت تاريخ الخليج العربيّ المعاصر.
من المباحث التاريخيّة الطريفة وجود دراسات حديثة في الهند انطلقت بعد تحررها منالاستعمار البريطانيَّ، وتسمّى تلك الدراسات التاريخيّة دراساتالتاseidutS nretlabuS.
ويُقصد بها كتابة تاريخ الهند الحديثة من قبل الجماعات الهامشيّة مثل العمال والفلاحين بعيداً عن كتابة النخب السياسيّة الهندية مثل القوميين الهنود المشتغلين بالأدبيات السياسيّة الماركسيّة وبعيداً كذلك عن السرد الاستعماريَّ البريطانيَّ.
ولاشك أنَّ التاريخ الذي يكتبه الشعب له أهميته في تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم من وجهة نظر شعبيّة.
يذكرالناقد الهندي العالميّ هومي بابا في كتابه (موقع الثقافة) واقعة طريفة دوّنها باحثو دراسات التابع، وهي حادثة رمزية لها علاقتها الوثيقة بمنظور الطبقات الشعبيّة الهنديّة البسيطة الكادحة وتفسيرها للأحداث السياسيّة.
فقد مثّلت (أسطورة الشاباتي) حادثة مهمة في تاريخ التمرد الهنديّ ضد الاستعمارالبريطانيّ الكولونياليّ.
ففي عام 1864 حدثت قصة غريبة في الشمال الغربي الهنديَّ؛ إذ ظهر رسول مجهول أعطى الفطير الهنديّ المعروف بالشاباتي لزعيم إحدى القرى الهنديّة وطلب منه أن يرسله إلى زعيم القرية المجاورة.
وهكذا انتقلت قطع (الشاباتي) من قرية إلى أخرى!
وقد أوّل كثيرون حادثة (الشاباتي) الغريبة تأويلاً رمزياً يمثله خطاب أحد رجالات السلطة الهنود الكبار في مراسلته للحاكم العام البريطانيّ بأنَّ الشاباتي هو رمز قوت الشعب وأنَّ نقله وتداوله قُصِدَ منه التحذير والتأثير على الشعب بأنَّ قوته مسيُتنزع منهم بواسطة الاستعمار البريطانيَّ!
فيحين نظر إليها هنود آخرون على أنّها مجرد خرافة فمن المعهود بالنسبة إلى الهندوسيّ الذي يتفشى المرض في أسرته أن يبدأ بنقل (الشاباتي) على هذا النحو لقناعته بأنّه يزيل المرض!
وذهبت تأويلات أخرى إلى أنَّ الغرض من تداول (الشاباتي) على هذا النحو تلويث الشعب الهنديّ وتدنيسه من قبل الإنجليز المستعمرين الذين مزجوا (الشاباتي) المُتداول بمسحوق عظام!
ولاشك أنَّ اختلاف تأويل هذه الحادثة يشي بالاختلاف الثقافيّ المكوِّن للشعب الهنديّ فيتعدياته العرقيّة والإيديولوجيّة، ولاشك أيضاً أنَّ تاريخنا الشفهيّ يزخر بحوادث مهمة في التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ لبيان التاريخ الشعبيّ الخليجيّ الذي يحتاج إلى دراسات تاريخيّة أكاديميّة متخصصة ومتعمقة على غرار دراسات التابع الهنديّة.
لقد دُوِّنت بعض حوادث هذا التاريخ شعبياً في حين ضاع الكثير منه والباقي الكامن فيصدور بعض الرواة الأثبات يكاد ينقرض، وبهذا سنفقد ذاكرة تاريخيّة شعبيّة في غاية الأهمية في تدوين تاريخنا الخليجيّ المعاصر.
يمثل تشارلز بلجريف المستشار البريطانيَّ لحكومة البحرين سابقاً في كتابيه (ساحل القراصنة) ومذكراته الشخصيّة المسماة (مذكرات بلجريف) مجالاً حقيقياً لاختبار فرضيات السرد الكولونياليَّ الخاصة بتاريخ البحرين والخليج العربيَّ.
وتنطلق هذه الأهمية من كون السير بلجريف كما يورد الدكتور عيسى أمين في ترجمته (لساحل القراصنه) كان مستشاراً لحكومة البحرين لمدة إحدى وثلاثين سنة.
ففي عام 1925 استجاب بلجريف الضابط الإداريّ في قسم خدمات المستعمرات البريطانيّة لإعلان حكومة البحرين الذي نُشِرَ في صحيفة (التايمز) عن رغبتها في توظيف موظف إداريّ.
وعند ماجاء بلجريف إلى البحرين عام 1926 عيّنه الأمير الراحل المغفور له الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة مستشاراً لحكومة البحرين، واستمرّ كذلك في عهد المغفور له الشيخ سلمان بن حمد الذي قال عنه (إنَّ وضعنا اليوم هو نتيجة لجهود مستشارنا الذي لا نعتبره إنجليزياً بل بحرينياً إنَّه يدي.
وبالفعل كانت إنجازات بلجريف وجهوده كبيرة في تأسيس الدولة المدنيّة الحديثة في البحرين.
ولذلك فإنَّ سردياته لها أهمية كبرى في اطلاعنا على منظوره الخاص بتدوين الأحداث التي عاصرها وتاريخ المنطقة الذي اطلع عليه ودوَّنه من منظوره الخاص.
وخاصة أنَّه اندمج مع المجتمع البحرينيّ وأسمى ابنه الوحيد جيمس باسم (حمد) على اسم المغفور له الشيخ حمد بن عيسى طيّب الله ثراه.
نجد أنفسنا في سرديات بلجريف أمام منظورين؛ المنظور الأول كولونياليّ بحت يمثله كتابه (ساحل القراصنة) الذي ترجمه الدكتور عيسى أمين.
وفي هذا الكتاب يؤرخ بلجريف لرحلة السفينة البريطانيّة (إيدن) وقبطانها لوخ من لندن إلى الخليج لتدمير القراصنة العرب!
وطوال الكتاب الذي يؤرخ لتاريخ المنطقة في فترة سياسيّة حرجة هي الربع الأول من القرن التاسع عشر الميلاديّ نجد بلجريف يتبنى المفاهيم البريطانيّة الكولونياليّة مثل (القراصنة) و (ساحل القراصنة) لإطلاقها على القوى العربيّة البحرية الخليجيّة آنذاك مثل العتوب والقواسم دون مساءلة تلك المصطلحات والمفاهيم التاريخيّة الخاطئة والمضلّلة التي شّوهت تاريخ القوى العربيّة البحرية الكبرى آنذاك، ودون النظر إلى أنَّ هذه القوى البحرية كانت تمارس هيمنة ضمن أراضيها وليست قوات غازية استعمارية مثل بريطانيا العظمى!
وفي كتابه الآخر الذي يحمل اسم (مذكرات بلجريف)، الذي ترجمه الباحث البحرينيّ مهدي عبدالله وكذلك في كتاب مي الخليفة تشارلز بلجريف، السيرة والمذكرات (1926ـ1975)، يؤرخ بلجريف لجانبين الجانب الشخصيّ لحياته مع زوجته (مارجوري) في البحرين منذ نهاية العشرينيات إلى منتصف الخمسينيات من القرن الماضيّ والجانب الإداريّ بوصفه مستشار الأمير وجهوده في تأسيس الدولة المدنيّة البحرينيّة الحديثة كما بيّنا.
وقد أوضح بلجريف المشكلة الكبرى التي اعترضته طوال مدة إقامته في البحرين وهي معضلة الولاء للشيخ أوالولاء لبريطانيا العظمى وخاصة عندما تتعقد المسائل بين حكومة البحرين وبريطانيا، وانتهى به الأمر إلى سياسة محنكة متوازنة للحفاظ على علاقة ثابتة مع الطرفين لاحتواء أية خلافات يمكن أن تحدث ونجح في ذلك.
وبقي ولاؤه وإحساسه بالامتنان الشديد للشيخ سلمان بن حمد كما يظهر في مذكراته التي كتبها بعد سنتين من تقاعده عن العمل في البحرين.
وحافظت المذكرات على جانب كبير من الرصانة والتوازن في عرض تاريخ البحرين الحديثة في كافة المناحي السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لبيان كيف تحوّلت البحرين إلى دولة مدنية حديثة ذات جهاز إداريّ متطوّر سابقة بذلك شقيقاتها الخليجيات خاصة في الأجهزة الإداريّة من خلال تأسيس جهاز الشرطة والجمارك والمجالس البلدية وتطويرالنظام القضائيّ وإعداد الميزانية العامة للدولة ونشرها في الجريدة الرسميّة، وقدسبقت البحرين بهذه الخطوة الدول الخليجيّة الأخرى، وفي تعليم المرأة وفي مشاركتها في الانتخابات البلديّة في العشرينيات من القرن الماضي إلى جانب إنشاء المدارس الحكوميّة وإرسال البعثات الطلابيّة البحرينيّة إلى الخارج لتأهيل الكوادرالبحرينيّة وإحلالها في مناصب عُليا إلى جانب تأريخه لصعود الطبقة البورجوازية البحرينيّة الحديثة وجهودها في إعمار البلاد.
والمتفحص للمذكرات يدرك المجهود الكبير الذي بذله أمراء البحرين من الشيخ حمد بن عيسى إلى الشيخ سلمان بن حمد في تأسيس البحرين الحديثة داخلياً وخارجياً من خلال توثيق العلاقات مع الدول الخليجيّة والعربيّة والأجنبيّة مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ومن خلال الزيارات الخارجية كزيارة المغفور له بإذن الله سمو الشيخ سلمان إلى بريطانيا وزيارة المغفور له بإذن الله سمو الشيخ عيسى بن سلمان ورئيس الوزراء سمو الشيخ خليفة بن سلمان إلى الولايات المتحدة عام 1955، ويعلق بلجريف على زيارتهما بأنهما حقّقا نجاحاً كبيراً فقد أعطيا انطباعاً طيباً عن البحرين لدى الأشخاص الذين قابلوهم.
ولاتخلو المذكرات بطبيعة الحال في بعض الفقرات من الغطرسة البريطانيّة في وصف المواطنين البحرينيين انطلاقاً من المركزية الاستعماريّة، ولكن المذكرات لم تخلُ كذلك من حكمة عميقة في تحليل الوضع السياسيّ في البحرين آنذاك وخاصة موقف بلجريف من (هيئة الاتحاد الوطنيّ) البحرينيّة المعارضة الطامحة إلى إنشاء إمارة دستوريّة على غرار بريطانيا آنذاك.
وقد نشأت الهيئة في ظروف سياسية وملابسات معقدة للغاية وغامضة بعض الشيء متعلقة بالنضال ضد الاستعمار البريطانيّ وبالعلاقة مع القوميين العرب الذين يمثلهم الزعيم المصريّ جمال عبد الناصر؛ إذ يرى بلجريف (أنَّ نظم الحكم بالدول الغربيّة وأشكال الديمقراطيّة فيها استغرقت مئات السنين لكي تظهر إلى الوجود)، ولذلك وصف القائمين على الهيئة بأنَّهم يريدون الجري قبل أن يتعلموا المشي، وبأنَّ معظم المطالب التي نادت بها الهيئة كانت الحكومة قد اقترحتها على الشيخ سلمان وأقرّها قبل تأسيسها.
وتأتي أهمية هذه الشهادة من بلجريف نظراً لانخراطه وبقوة في تأسيس البحرين الحديثة إدارياً، ولذلك فإنَّ مذكراته بالذات تستحق الاطلاع عليها وقراءتها بعمق لقراءة التاريخ البحرينيّ.
هي الاستعماريّة، وتُطلق هذه الكلمة على المستعمِر والمستعمَر أيضاً فنقول بريطانيا الكولونياليّة ونقول كذلك الهند الكولونياليّة التي كانت درة التاج البريطانيّ.
وسنجد أنَّ إرشيفات الدول الاستعماريّة السابقة تحتوي على ملايين الوثائق من المراسلات الرسميّة إلى جانب المذكرات الشخصيّة الخاصة بموظفي حكومات المستعمرات يُضاف إليها مدوّنات الرحّالة الأوربيين في القرون الأخيرة.
وقد وفّرت تلك الوثائق جميعها سرداً استعمارياً يتفاوت في مدى موضوعيته، والقاسم المشترك له صدوره عن المركزية الغربيّة الأوروبيّة التي نظرت إلى ما يوجد خارجاً عنها بأنّه الهامش.
ولهذاتحتاج تلك الوثائق ولاسيّما الخاصة بتاريخ الخليج العربيّ الحديث والمعاصر إلى التدقيق في المفاهيم والمرجعيات التي تنطلق منها.
فعلى سبيل المثال اشتمل (دليل الخليج) ل ج.ج.
لوريمر على أخطاء كبيرة متعلقة بتاريخ القبائل والعوائل الخليجيّة، كذلك أغفل هذا الكتاب التاريخ الاجتماعيّ في الخليج العربيّ فهو ينظر إلى البشر والمجموعات السكانيّة الخليجيّة على أنَّها مجرد أرقام وجداول وإحصاءات ليس أكثر، وبالتالي فإنَّ هذاالكتاب يجب أن يخضعه قارئه إلى قراءة نقدية متفحصة للتحقّق من المعلومات التي يسردها الموظف الإداريّ البريطانيّ لوريمر دون التثبت من حقيقتها.
وما قلناه ينطبق كذلك على المدوّنات البريطانيّة والأجنبيّة الأخرى التي تناولت تاريخ الخليج العربيّ المعاصر.
من المباحث التاريخيّة الطريفة وجود دراسات حديثة في الهند انطلقت بعد تحررها منالاستعمار البريطانيَّ، وتسمّى تلك الدراسات التاريخيّة دراساتالتاseidutS nretlabuS.
ويُقصد بها كتابة تاريخ الهند الحديثة من قبل الجماعات الهامشيّة مثل العمال والفلاحين بعيداً عن كتابة النخب السياسيّة الهندية مثل القوميين الهنود المشتغلين بالأدبيات السياسيّة الماركسيّة وبعيداً كذلك عن السرد الاستعماريَّ البريطانيَّ.
ولاشك أنَّ التاريخ الذي يكتبه الشعب له أهميته في تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم من وجهة نظر شعبيّة.
يذكرالناقد الهندي العالميّ هومي بابا في كتابه (موقع الثقافة) واقعة طريفة دوّنها باحثو دراسات التابع، وهي حادثة رمزية لها علاقتها الوثيقة بمنظور الطبقات الشعبيّة الهنديّة البسيطة الكادحة وتفسيرها للأحداث السياسيّة.
فقد مثّلت (أسطورة الشاباتي) حادثة مهمة في تاريخ التمرد الهنديّ ضد الاستعمارالبريطانيّ الكولونياليّ.
ففي عام 1864 حدثت قصة غريبة في الشمال الغربي الهنديَّ؛ إذ ظهر رسول مجهول أعطى الفطير الهنديّ المعروف بالشاباتي لزعيم إحدى القرى الهنديّة وطلب منه أن يرسله إلى زعيم القرية المجاورة.
وهكذا انتقلت قطع (الشاباتي) من قرية إلى أخرى!
وقد أوّل كثيرون حادثة (الشاباتي) الغريبة تأويلاً رمزياً يمثله خطاب أحد رجالات السلطة الهنود الكبار في مراسلته للحاكم العام البريطانيّ بأنَّ الشاباتي هو رمز قوت الشعب وأنَّ نقله وتداوله قُصِدَ منه التحذير والتأثير على الشعب بأنَّ قوته مسيُتنزع منهم بواسطة الاستعمار البريطانيَّ!
فيحين نظر إليها هنود آخرون على أنّها مجرد خرافة فمن المعهود بالنسبة إلى الهندوسيّ الذي يتفشى المرض في أسرته أن يبدأ بنقل (الشاباتي) على هذا النحو لقناعته بأنّه يزيل المرض!
وذهبت تأويلات أخرى إلى أنَّ الغرض من تداول (الشاباتي) على هذا النحو تلويث الشعب الهنديّ وتدنيسه من قبل الإنجليز المستعمرين الذين مزجوا (الشاباتي) المُتداول بمسحوق عظام!
ولاشك أنَّ اختلاف تأويل هذه الحادثة يشي بالاختلاف الثقافيّ المكوِّن للشعب الهنديّ فيتعدياته العرقيّة والإيديولوجيّة، ولاشك أيضاً أنَّ تاريخنا الشفهيّ يزخر بحوادث مهمة في التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ لبيان التاريخ الشعبيّ الخليجيّ الذي يحتاج إلى دراسات تاريخيّة أكاديميّة متخصصة ومتعمقة على غرار دراسات التابع الهنديّة.
لقد دُوِّنت بعض حوادث هذا التاريخ شعبياً في حين ضاع الكثير منه والباقي الكامن فيصدور بعض الرواة الأثبات يكاد ينقرض، وبهذا سنفقد ذاكرة تاريخيّة شعبيّة في غاية الأهمية في تدوين تاريخنا الخليجيّ المعاصر.
يمثل تشارلز بلجريف المستشار البريطانيَّ لحكومة البحرين سابقاً في كتابيه (ساحل القراصنة) ومذكراته الشخصيّة المسماة (مذكرات بلجريف) مجالاً حقيقياً لاختبار فرضيات السرد الكولونياليَّ الخاصة بتاريخ البحرين والخليج العربيَّ.
وتنطلق هذه الأهمية من كون السير بلجريف كما يورد الدكتور عيسى أمين في ترجمته (لساحل القراصنه) كان مستشاراً لحكومة البحرين لمدة إحدى وثلاثين سنة.
ففي عام 1925 استجاب بلجريف الضابط الإداريّ في قسم خدمات المستعمرات البريطانيّة لإعلان حكومة البحرين الذي نُشِرَ في صحيفة (التايمز) عن رغبتها في توظيف موظف إداريّ.
وعند ماجاء بلجريف إلى البحرين عام 1926 عيّنه الأمير الراحل المغفور له الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة مستشاراً لحكومة البحرين، واستمرّ كذلك في عهد المغفور له الشيخ سلمان بن حمد الذي قال عنه (إنَّ وضعنا اليوم هو نتيجة لجهود مستشارنا الذي لا نعتبره إنجليزياً بل بحرينياً إنَّه يدي.
وبالفعل كانت إنجازات بلجريف وجهوده كبيرة في تأسيس الدولة المدنيّة الحديثة في البحرين.
ولذلك فإنَّ سردياته لها أهمية كبرى في اطلاعنا على منظوره الخاص بتدوين الأحداث التي عاصرها وتاريخ المنطقة الذي اطلع عليه ودوَّنه من منظوره الخاص.
وخاصة أنَّه اندمج مع المجتمع البحرينيّ وأسمى ابنه الوحيد جيمس باسم (حمد) على اسم المغفور له الشيخ حمد بن عيسى طيّب الله ثراه.
نجد أنفسنا في سرديات بلجريف أمام منظورين؛ المنظور الأول كولونياليّ بحت يمثله كتابه (ساحل القراصنة) الذي ترجمه الدكتور عيسى أمين.
وفي هذا الكتاب يؤرخ بلجريف لرحلة السفينة البريطانيّة (إيدن) وقبطانها لوخ من لندن إلى الخليج لتدمير القراصنة العرب!
وطوال الكتاب الذي يؤرخ لتاريخ المنطقة في فترة سياسيّة حرجة هي الربع الأول من القرن التاسع عشر الميلاديّ نجد بلجريف يتبنى المفاهيم البريطانيّة الكولونياليّة مثل (القراصنة) و (ساحل القراصنة) لإطلاقها على القوى العربيّة البحرية الخليجيّة آنذاك مثل العتوب والقواسم دون مساءلة تلك المصطلحات والمفاهيم التاريخيّة الخاطئة والمضلّلة التي شّوهت تاريخ القوى العربيّة البحرية الكبرى آنذاك، ودون النظر إلى أنَّ هذه القوى البحرية كانت تمارس هيمنة ضمن أراضيها وليست قوات غازية استعمارية مثل بريطانيا العظمى!
وفي كتابه الآخر الذي يحمل اسم (مذكرات بلجريف)، الذي ترجمه الباحث البحرينيّ مهدي عبدالله وكذلك في كتاب مي الخليفة تشارلز بلجريف، السيرة والمذكرات (1926ـ1975)، يؤرخ بلجريف لجانبين الجانب الشخصيّ لحياته مع زوجته (مارجوري) في البحرين منذ نهاية العشرينيات إلى منتصف الخمسينيات من القرن الماضيّ والجانب الإداريّ بوصفه مستشار الأمير وجهوده في تأسيس الدولة المدنيّة البحرينيّة الحديثة كما بيّنا.
وقد أوضح بلجريف المشكلة الكبرى التي اعترضته طوال مدة إقامته في البحرين وهي معضلة الولاء للشيخ أوالولاء لبريطانيا العظمى وخاصة عندما تتعقد المسائل بين حكومة البحرين وبريطانيا، وانتهى به الأمر إلى سياسة محنكة متوازنة للحفاظ على علاقة ثابتة مع الطرفين لاحتواء أية خلافات يمكن أن تحدث ونجح في ذلك.
وبقي ولاؤه وإحساسه بالامتنان الشديد للشيخ سلمان بن حمد كما يظهر في مذكراته التي كتبها بعد سنتين من تقاعده عن العمل في البحرين.
وحافظت المذكرات على جانب كبير من الرصانة والتوازن في عرض تاريخ البحرين الحديثة في كافة المناحي السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لبيان كيف تحوّلت البحرين إلى دولة مدنية حديثة ذات جهاز إداريّ متطوّر سابقة بذلك شقيقاتها الخليجيات خاصة في الأجهزة الإداريّة من خلال تأسيس جهاز الشرطة والجمارك والمجالس البلدية وتطويرالنظام القضائيّ وإعداد الميزانية العامة للدولة ونشرها في الجريدة الرسميّة، وقدسبقت البحرين بهذه الخطوة الدول الخليجيّة الأخرى، وفي تعليم المرأة وفي مشاركتها في الانتخابات البلديّة في العشرينيات من القرن الماضي إلى جانب إنشاء المدارس الحكوميّة وإرسال البعثات الطلابيّة البحرينيّة إلى الخارج لتأهيل الكوادرالبحرينيّة وإحلالها في مناصب عُليا إلى جانب تأريخه لصعود الطبقة البورجوازية البحرينيّة الحديثة وجهودها في إعمار البلاد.
والمتفحص للمذكرات يدرك المجهود الكبير الذي بذله أمراء البحرين من الشيخ حمد بن عيسى إلى الشيخ سلمان بن حمد في تأسيس البحرين الحديثة داخلياً وخارجياً من خلال توثيق العلاقات مع الدول الخليجيّة والعربيّة والأجنبيّة مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ومن خلال الزيارات الخارجية كزيارة المغفور له بإذن الله سمو الشيخ سلمان إلى بريطانيا وزيارة المغفور له بإذن الله سمو الشيخ عيسى بن سلمان ورئيس الوزراء سمو الشيخ خليفة بن سلمان إلى الولايات المتحدة عام 1955، ويعلق بلجريف على زيارتهما بأنهما حقّقا نجاحاً كبيراً فقد أعطيا انطباعاً طيباً عن البحرين لدى الأشخاص الذين قابلوهم.
ولاتخلو المذكرات بطبيعة الحال في بعض الفقرات من الغطرسة البريطانيّة في وصف المواطنين البحرينيين انطلاقاً من المركزية الاستعماريّة، ولكن المذكرات لم تخلُ كذلك من حكمة عميقة في تحليل الوضع السياسيّ في البحرين آنذاك وخاصة موقف بلجريف من (هيئة الاتحاد الوطنيّ) البحرينيّة المعارضة الطامحة إلى إنشاء إمارة دستوريّة على غرار بريطانيا آنذاك.
وقد نشأت الهيئة في ظروف سياسية وملابسات معقدة للغاية وغامضة بعض الشيء متعلقة بالنضال ضد الاستعمار البريطانيّ وبالعلاقة مع القوميين العرب الذين يمثلهم الزعيم المصريّ جمال عبد الناصر؛ إذ يرى بلجريف (أنَّ نظم الحكم بالدول الغربيّة وأشكال الديمقراطيّة فيها استغرقت مئات السنين لكي تظهر إلى الوجود)، ولذلك وصف القائمين على الهيئة بأنَّهم يريدون الجري قبل أن يتعلموا المشي، وبأنَّ معظم المطالب التي نادت بها الهيئة كانت الحكومة قد اقترحتها على الشيخ سلمان وأقرّها قبل تأسيسها.
وتأتي أهمية هذه الشهادة من بلجريف نظراً لانخراطه وبقوة في تأسيس البحرين الحديثة إدارياً، ولذلك فإنَّ مذكراته بالذات تستحق الاطلاع عليها وقراءتها بعمق لقراءة التاريخ البحرينيّ.