المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرةٌ الــبـــق



عبدالله الكعبي
29 Jan 2013, 08:31 PM
http://www.ala7ebah.com/upload/attachment.php?attachmentid=2225&stc=1&d=1359480748





دبيب حارق على جسده، في ظلمة الليل، في هواء المكيف الفاتر، في انتشار الغبار والهوام اللاسع، يستيقظ، يلتفت بحثا عن أعداء، عن
جن وأشباح، ربما تواروا خلف الدولاب والطاولات.

قرصات مثل الانفجارات تورم الجسد وتشكل هضابا حمراء، تطلع من أدغال الخلايا المنتشرة، من هذا الجلد الذي
كان منبسطا رقيقا فصار نارا وفحما وقارا.

كان السرير معه سنوات طوالا، فخما، مستطيلا، ذا طوابق، صنع خصيصا لأصحاب الظهور التعبة المنحنية،
ولجماعة الديسك التي شمخت برؤوسها.

في البناية الرثة، التي تنضح جدرانها بسوائل فوقية مصفرة قذرة، والتي تعيش بين دكاكين الحلاقين وباعة السمك ومكاتب العقارات الفارغة،
وجد جسده الضحية، تسلطت عليه فجأة كائنات غير مرئية، ينهض في عمق الليل فيجد جلده الرقيق استحال مثل هضاب الجزيرة العربية
المحمرة المثخنة بالدبابات، وهو لم يعلن الحرب على أحد.

يتلفت، يحدق في الشراشف الوسخة، في مرتبات الوسائد المدعوكة برأس هرمة كثيفة الشعر، تتغلغل أصابعه فيها، ربما
كانت المخابئ متوارية في الداخل. لا يجد شيئا.

يضع قطرات السوائل المختلفة على جلده، الهضاب الحمراء تتقزم قليلا.

كان الليل هو ملاذه، يستمر العمل طويلا مرهقا، ثم يأتي الليل بمسلسلاته وأفلامه، ثم الفراش الفاخر والنوم الهانئ
الطويل الذي لا يتقطع إلا في الصباح والشمس ناطور شرس على نافذته.

صار يخاف الليل، هي مؤامرة عليه، عمل سحري بث في الحصى، كانت علاقاته بالحشرات منقطعة، تمضي في عوالمها،
في غيرانها، يزيلها وهي تقترب من مواد غذائه، لكنه يجعلها تعيش في المنطقة المحايدة التي لم يكتشف فيها زيت.

أصبح الليل جحيما، السرير انقلب إلى ساحة معركة ليلية شرسة، فتعددت علب الرش الخضراء والصفراء التي يهجم رذاذها الخانق حول السرير.

الليل الدامس مقلق، ينير المصباح، يتعبه الضوء، يحل الظلام فيأتي الدبيب الصغير الحارق، ينام، يجد نفسه
صرصورا، كائنا مرعوبا في الدرب، يتحسس السوائل وكرات الخبز الصغيرة.

طوال عمره كان كائنا صغيرا، ابتعد عن الجبال والبنوك والعصابات، غرق في كلماته، كره أن يتزوج لما يراه من معارك أهلية،
هو الآن صرصور يمضي للسوق، يشتري السمك والخس، يبحث عن صرصورة فلا يجد، ينام في سائل لزج.

يقترب من كوارتين الكتب التي قدمت منذ سنوات من البراري البعيدة، لا تزال ربطاتها القوية التي قام بها عمال الشحن
مشدودة، لكن الورق المقوى اهترأ. وتوحدت الكوارتين بالجدار الذي رشرش عليها رطوبة ونورة،
فتبللت قواعدها وتمزقت واستقبلت سطوره الحشرات بمودة.

يتطلع إلى التلفزيون طويلا، ينادم الأفلام الرديئة، يخاف من الفراش، يغفو، يحسلا كأن أحدا يمسكه، ويعضه.
يتثاقل مشيا، يصمم على الجثوم، يحدق في السرير النظيف، لا شيء فيه مثير للقلق، يضع رأسه على الوسادة.


http://www.ala7ebah.com/upload/attachment.php?attachmentid=2226&stc=1&d=1359480986

أتكون الوسادة المخرمة هي سبب الإعصار الناري؟
يرفعها، يدقق فيها، لا شيء، يستبدلها بأخرى، ولم ينم على وسادة حب.

يصحو في عمق الليل، ثمة كائنات تدب على جلده، شرارات تتفجر في كل مكان، يغرز أظافره في لحمه، يسيل الدم،
تتكون جروح مستطيلة ودائرية.

يبحث، يسلط الضوء، لا شيء، أتكون كوارتين الكتب؟ نعم، إنها هي.

تعب كثيرا في تأليفها، عرضها طويلا، لا مشترين، يغفو، يرى نفسه يمشي في الخلاء، يقترب من الكوارتين،
يقطع جلدتها، يبصر كهفا عميقا، يسلط الضوء فتتدفق صراصير، وحيات تقفز في وجهه، وشخصيات كثيرة مشوهة تصفعه بأكفها الغليظة.

الكوارتين المنتفخة بالماء والورق والأقنعة تتحرك ببطء، تقترب من السرير، تقفز إلى صدره، الشخوص والأحياء والصحارى تجثم عليه وتخنقه.

راح يحلم أن يكون صرصورا، في النهار الطويل المليء بشموس مشتعلة تقذف أشلاء من القار، لا يكلم أحدا.

يجثم في غاره الطويل بانتظار فريسة.

ينتشي بأعراس البلاعات الفائضة، وبالأمطار المتحولة وحلا، وبانفجارات الكهرباء وتوقف المحطات وسيادة الظلام والطعام.

ملأ ورقه الصحارى وخنق البق ولكنه الآن جاء إليه ليلا، استحال نملا، يرى الفضائيات الممتلئة، والساعة
تشير للواحدة وهو خائف أن ينام، منذ زمن طويل كانت الأشياء تلاحقه، ضربه أبوه بقسوة ورسم خرائط على ظهره وحقويه،
دفن في رمل الصحارى سنوات، ولم يشتغل في رسم الحشرات، اعتبرها كائنات كريهة ولكنها ليست عدوة، صار الآن كهلا
في حجرة تحيط بها كوارتين الكتب، كتب من اهداءات أصدقائه، كتب أحبها، كتب كرهها واحتفظ بها، ثم راح في الليل
يحملها ويلقيها في المزبلة، تنضح بسوائل وتراب، يقترب من المزبلة التي هي علبة حديدية متوسطة العمق، لكنها صارت
هرما كبيرا، يجد عاملا أجنبيا يبحث فيها، يقترب منه، يعطيه الكتب، فلا يأخذها، يكلمه
بلغته؛ (! هذه الكتب تساوي كثيرا، ربما يتمكن أحفادك من بيعها والثراء بها)،ولكن الرجل يحدق
فيها بشك، ويضعها في خرجه، ويتطلع إليه بغضب.
يقول بلغته: أي مجنون أنت؟!

الكتب هي العلة، لولاها لكان تاجرا كبيرا الآن في المجتمع.

فيها أسرار الأفلاك والهلاك.

يفتح كوارتين الكتب، يحدق في هوة عميقة، بئر بلا ضفاف، يسمع أصداء صوته، تأتيه منذ أن كان فتى، اغتر بمهنة الكتابة،
وأبوه البناء بكى على كتفه في السجن، يحمل قراطيس ويكتب مسرحيات صعبة، غريبة، مليئة بالمجانين والحالمين،
سكة حديدية طويلة من الورق تمتد من اقصى الصين إلى حدائق الموز بين اللاتين، وهو الآن عجوز على فراش متهالك، نخر،
امتلأ بالحشرات الخفية، ومراسلات الأشباح والمخبرين، ينام صاحيا، يتورم حالما، يهذي شاربا، ولا ينام.

الغرفة ملأى بالكتب، بورق قديم من قصاصات الصحف التي نشرت أوساخها على السكان، وهو يسرب كلمات محجوزة،
شائكة، ويرسم علامات استفهام على خرائب المكان، ورق أصفر لم يبق من الصحف سواه، ملأ دولايبه، وفاض على الجدران،
ينتزعه، يمزقه، و. . ويرى أصابعه مقطوعة فيه، كل أسبوع كان يكتب، كل يوم كان يكتب، ويطلب منه المذيع أن يتحدث
ساعة عن فقيد لم يكتب سوى سطور حاز بعدها على قصور، ليعطيه المذيع بعد أن يقذر البرنامج المساء
صفعة على وجهه وقلما ناشفا، وسطوره تمتد في الوريقات الصفراء المنتزعة، الترابية التي ترشح حشرات، وتطير فراشات
بين المساكين، وهي أرواح شريرة للذين سرقوا وانتقدهم، أقنعة للصوص، وجوه خبيثة استولت على اللوحات والتماثيل
ومغارات علي بابا، أنها قصص ممزقة على حلقات، ومعارك بالسيوف الخشبية، فيها كل دمه وبصاق رئته، وشعره
الممحي وبدلاته المباعة في سوق المفلسين.

فيها جثامين صحبه، ونعوش أهل حيه.

هنا في هذه الدولايب، في الكوارتين التي ساحت، وقد أخذتها الحشرات إلى المتحف.

ينتفض في عمق الليل، جلده محترق، يشعل كل الأضواء، يجد حشرة سوداء تتطلع فيه، وابنتها الصغيرة تمضي سائرة
تتدرب على التقاط رزقها وانتزاع الدم. يتعاطف معهما.

كان الرزق دائما عنده مرادفا للعذاب وإراقة الدم على البلاط.

قال له النجار هذا سرير قديم، من عهد فرعون ذي الأوتاد. واسع كأنه ملعب كرة سلة.

يصلح لنعش ومأوى للبق. لم يجد البق في العاصمة مكانا أنجح منه.

أضاف: (أنصحك ببيعه خردة على جيرانك الفقراء).

يظن بأن البق استوطن خشبته الديكورية الخلفية التي هي على شكل هلال أو قوس كبير، يصلح مسندا في
حالة القراءة الطويلة في عمق الليل.

رفع تلك الخشبة من علائقها ومساميرها وحملها على سلم العمارة الكثيف بأحذية العمال المهاجرين وحقائبهم
القديمة ودولايبهم المستعملة، ونعالهم، حتى السطح الممتلئ بالحبال والثياب المعلقة والصحون اللاقطة. تركه هناك في شمس تشوي الحصى.

استعاده في الليل، ركبه مرة أخرى.

هدأ السرير، صار النوم حلوا، لولا الورق الذي يبث البعوض، ويورم جلده بضع لحظات، فينهض ويبحث عن البق الذي لا يجده.

راح يضرب السرير بمطرقة ويكشط قماشه ويتوغل في شرايينه ليجد كتلا سوداء سعيدة بامتصاص الدم.

في كل أدغال الأحياء يجد تلك الكائنات، سلط أضواء حادة على المسوح والعباءات والآبار والمخازن، كشف انفاقا تحت البيوت والحدائق للبق، نزل بكشاف قوي ورأى عفونة التربة، والمدينة، لكن حدث انهيار أرضي مفاجئ وربما مرتب، دفنه على عمق ثلاثين قدما، صارت فيه البق والهوام المتحدثة الوحيدة باسم الأرض، فراح يحول أعضاء الحشرات إلى أقلام رصاص.


هرب من غابة الحشرات.

سكن بعيدا في المدينة، واستأجر هذه الشقة الصغيرة، وعاش على بيع لحمه المشوي في النهار،
لكن طوابير من الخنافس راحت تمشي على السلالم، وتغلغلت بين ثياب العمال ولحاهم، وحصلت ملكة البق على حق التنقيب عن النفط والآثار.

السرير شبه محطم، البق راح يتصفح الروايات وكتب الفلسفة، ويسمر في الألواح، ويقدم الأطروحات.

يتحول السرير إلى نعش كبير.

يأخذونه إلى البحر، النعش كتاب ثقيل،
سطوره وكلماته قضبان، يتمشى به في الشوارع، الزحام على أشده، المحلات التجارية الباذخة الأضواء
تولت على حيه القديم، كانت الصبايا يأخذن علب الحشائش ويلقينها في مياه المد لتظهر الجن والقصص والخلايا.

اتصل به موظف مجهول بالنسبة له وقال إن الوزارة في سبيل رفع قضية عليه بسبب كتابه الأخير.

ايقن بأن الحلم له أساس من الكابوس.

الذهاب كثيرا للمحكمة، وإضاعة الأصابع بين الحصى، وتكليف محام بالدفاع عن قضية مجهولة، ثم تجيء
حفلة البق كل ليلة، تلتهم أحلا الكتاب يمشي، وهو مصلوب فوقه والبحر يقترب البق مثل كورس جنائزي، يحملنه لقبره الجميل،
وهو يطفو على المياه ويغرق شيئا فشيئا على إيقاع طفولته الساكنة على الشاطئ

رياض أبو عادل
30 Jan 2013, 10:02 AM
بارك الله فيك أخي اليزيدي

أتمنى من الأخت طيف المدينة أن تنقل هذه القصة إلى قسم البستان الأدبي

فهو المخصص للقصص...

عبدالله الكعبي
30 Jan 2013, 10:18 AM
احسنت اخي نعم البارحة غلط و عدم انتباهي احاول ان انقلها و اعتقد انت ايضا بامكان النقل وانت ايضا مشرف بارك الله فيك و عندي سؤال لك
هل حدث معك الموضوع الذي ذكرته انا

رونق الامل
04 Feb 2013, 08:38 PM
http://up.ala7ebah.com/img/SJS74109.gif