المنذر
26 Jan 2013, 06:04 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
يعتبر السلطان "منسى موسى" إمبراطور "مالي" صاحب أكبر وأشهر رحلة حج عبر التاريخ الإسلامي، فقد سميت حجته "بحجة الذهب" لما فعله السلطان خلالها موزعا ذهب بلاده كرما ورغبة بالتقرب إلى الله عز وجل. والحج هو الرحلة التي تحن لها قلوب المسلمين على الدوام، ولعل من الطريف أن لقب "الحاج" من أشهر الألقاب الدينية في العالم الإسلامي؛ نظرا لما تحمله هذه الرحلة الفريدة من مخزون إيماني ومعنوي في حياة المسلمين. يلحظ الباحث والمنقب لحياة إمبراطورية "مالي" أنها تشبه قوسا يجلس "منسى موسى" على قمته، فكل الملوك الذين سبقوه وضعوا أسس المجد الذي أتمه، ثم بدأت الدولة بعده في الانحدار بسبب الترف والاعتماد على ما خلفه الآباء والأجداد حتى كانت النهاية بانكسار القوس وتمزق الدولة التي صنعت مجدها وتاريخها.
ويعتبر السلطان موسى من أعظم سلاطين مالي على الإطلاق، وما إن يبدأ الحديث عن التاريخ الإسلامي لأفريقيا، إلا ويذكر في بداية السلطان "منسى موسى" وحجته الأكثر شهرة في التاريخ الإسلامي.
إمبراطورية "مالي"بداية التعريف بإمبراطورية مالي الإسلامية يجعلنا نؤكد على أنها قامت على أنقاض مملكة "غانة" الوثنية بعد أن هاجمها وأسقطها المرابطون 1087م، الذين أخذوا على كاهلهم نشر الدين الإسلامي وفتح البلاد الوثنية.وبسقوط "غانة" بدأ الصراع والتنافس على عرش البلاد بين مملكتين أفريقيتين هما "كانياجا" و"كانجابا" ليكون النصر من نصيب "كانجابا" المسلمة بقيادة الملك "سنديانا"، وقد أتاح له هذا النصر الاستيلاء (في عصر الفتح والإمبراطوريات) على أكثر الأجزاء التي كانت تابعة لدولة غانة، وإقامة دولة إسلامية جديدة عرفت بدولة "مالي" أو "ملي" عام 1240م. وهو اسم ترجحه المصادر التاريخية تبعا لأقدم مدينة عرفت بهذه المنطقة وهي مدينة malel.
ونظرا للتوسع والازدهار الذي جاء في عهد الملك "سنديانا" نفسه، وفي عهد الملوك الذين جاءوا من بعده، صاروا يلقبون من يتولون السلطة بـ "منسى" أي الملك الأكبر.والسلطان "منسى موسى" أعظم ملوك دولة مالي والذي امتد حكمه من سنة 1307 إلى 1332م، ويعد عصره من أزهى العصور، وقد عرف باسم "كنكن موسى"، وهو اسم والدته، والنسب بهذه الطريقة (أي إلى الأم) هو أمر مشهور لدى الأسر المالكة في غرب أفريقيا.وخلال فترة حكمه اتسعت حدود الدولة لتقارب مساحة كل دول غربي أوربا مجتمعة، فامتدت شمالا في الصحراء الغربية حتى اشتركت حدودها مع مراكش تقريبا، وغربا إلى المحيط الأطلسي، وشرقا حتى دولة الهوسا، وعرف عن جيشها النشاط الكبير حتى إنه فتح 24 مدينة من مدن السودان في فترة قصيرة للغاية.
وفي عهده ازدهرت المدن التجارية مثل مدينة تمبكتو، وسيطرت الدولة على مصادر الذهب والنحاس والملح، كما كانت ملتقى للقوافل التجارية من مراكش وشمال أفريقيا ومصر، ومما شجع على ذلك العدالة والأمن اللتان كانتا تسودان البلاد في عصره.ويعد اتساع وشهرة إمبراطورية مالي دليلا واقعيا على قدرة الأفارقة على التنظيم السياسي والاستثمار الاقتصادي. فكانت المدن لها سمات المدن التجارية، كما كانت مركزا للتعليم ونشر الثقافة الإسلامية، وقد استمرت هذه الثقافة والأدب لقرون عدة في السودان الغربي.إضافة لما سبق اشتُهر "منسى موسى" بالتقوى والورع، فيقول ابن أمير حاجب: "كان منسى موسى متدينا محافظا على الصلاة والقرآن والذكر".ويقول أيضا: "إن منسى موسى عندما ذهب إلى الحج ترك ابنه محمدا على العرش، وبعد عودته من الحج كان يريد أن يترك العرش لابنه ويعود إلى مكة لكي يقيم هناك إقامة دائمة، ولكن الأجل لم يمهله".
طريق الحج.. ذهب
الكعبة المشرفة قديما
تجمع المصادر التاريخية على أن خروج السلطان موسى إلى حج بيت الله الحرام كان سنة 724هـ- 1324م، مقتديا بملوك مالي الذين سبقوه، ويقال إن السبب المباشر لهذا الحج هو أنه قتل أمه عن طريق الخطأ، فأسف لذلك أشد الأسف، وندم على فعله، وخاف عقاب الله، فتصدق بأموال كثيرة، وعزم على صوم الدهر كله.
ومما يقال أيضا إنه سأل بعض علماء المسلمين عما يفعله كي يغفر الله له، فنصحوه بالحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستشفاع به عند الله سبحانه وتعالى.
فخرج من عاصمة دولته، عادا العدة، من على نهر النيجر إلى مدينة "ولاته" الواقعة شمال شرق مدينة "كومبي صالح" عاصمة غانة، ثم غادرها إلى مدينة "قوات"، حتى مدينة القاهرة.وتذكر المصادر المعاصرة أن موكب حج السلطان موسى تكون مما لا يقل عن ستين ألف جندي، سار أمامه خمسمائة عبد يحمل كل واحد منهم عصا من الذهب الخالص تزن كل عصا خمسمائة مثقال.ويقال إنه قدم معه أربعة عشر ألف جارية يقمن بخدمته. واشتمل موكبه على كل وسائل الراحة، فصحبه الطباخون الماهرون الذين كانوا يعدون وجبات الطعام للملك وأتباعه وضيوفه في أي مكان يتوقف به، وقد تعرض الموكب لمحنة قاسية في مدينة "توات" عندما أصابه مرض "خفي القافلة"، الذي أصاب أرجل الإبل حتى قضى على ما يقرب من نصفها، وأطلق المؤرخون على هذا المرض اسم "توات".ويقول ابن خلدون وابن حجر: إن "منسى موسى" حمل معه من بلاده للإنفاق على الرحلة مائة جمل من التبر أي من الذهب، في كل جمل ثلاث قناطير.
ويقدر بعض المؤرخين ما كان يحمله هذا الملك من الذهب بخمسين ألف رطل من الذهب.
مبالغات ولكن..
ويذكر د. إبراهيم طرخان"في كتابه مالي الإسلامية" أن هناك بعض المبالغات في تقدير كمية الذهب التي كان يحملها السلطان موسى، وكذلك مبالغات في ضخامة الموكب، لكن ذلك يلقي ضوءا على أنه كان فعلا كثير الثراء والفخامة، فمالي كانت تتحكم في مناجم الذهب، وهي أرض التبر كما ينعتها الإدريسي وغيره، وملكها هو "ملك الذهب"، وبحسب خرائط التاريخ فإن ملك مالي كان هو أغنى وأعظم ملك في العالم آنذاك.وقد أنفق السلطان موسى كل أمواله في رحلته إلى الحج موزعا إياها كهدايا في مصر وغيرها من البلاد التي مر بها. ففي قصر سلطان مصر لم يترك أحدا إلا وأعطاه من الذهب. ولكل مدينة مر بها أثناء الطريق إلى الحج صدقة مقدارها عشرون ألف قطعة من الذهب الخالص.
كما أهدى السلطان المملوكي الناصر محمد هدية قوامها خمسة آلاف مثقال ذهب. ويقدر بعض المؤرخين مجموع من أنفقه في رحلته بعشرين ألف قطعة ذهبية.وكانت إحدى نتائج هذا الكرم والكثرة فيما أنفق من الذهب في مصر أن انخفض سعر المثقال من الذهب من خمس وعشرين درهما إلى عشرين درهما، واستمر هذا السعر لمدة اثني عشر سنة أخرى على هذا الانخفاض.
وفي الحجاز أدى فريضة الحج وزار المدينة، وأفاض على الحجيج وأهل الحرمين بالإحسان فيقول السعدي: "طاب المقام لمنسى موسى بالحجاز، فبقي نحو ثلاثة شهور فيه بعد انتهاء موسم الحج".
انقلاب الموقفيقول "ابن أمير" حاجب والي مصر إن السلطان موسى "كان معه مائة حمل ذهب. أنفقها في سفرته تلك على من بطريقه إلى مصر من القبائل ثم من مصر إلى الحجاز توجها وعودة، حتى احتاج إلى القرض فاستدان على ذمته من تجار مصر بما لهم عليه من المكاسب الكثيرة بحيث يحصل لكل واحد منهم في كل ثلاثمائة دينار سبعمائة دينار ربح".وقد اصطحب معه في طريق عودته المهندسين والمعماريين الذين ساعدوا على إقامة نهضة حضارية ومعمارية في غرب أفريقيا ومن هؤلاء "أبو إسحاق الساحلي" وكان شاعرا ومهندسا معماريا أسباني الأصل كان يقيم بمكة وما زالت آثار هذه الحضارة من مساجد وقصور موجودة حتى الآن.
شهرة غزت أورباوبمرور موكب السلطان موسى على ساحل البحر المتوسط أعطى الفرصة لتجار أوربا الذين كانوا يرتادون شمال أفريقيا ومدنها الساحلية لمشاهدة الحالة التي سافر بها هذا الملك للحج، ومن ثم وصلت شهرة مالي وأخبار موكب حج موسى ودلالته إلى أوربا كلها.ومنذ ذلك الوقت ازداد التفكير الأوربي في محاولة التعرف على قلب أفريقيا والوصول إليه فأنشأت مدرسة في جزيرة "ميورقة" كان أهم أهدافها التعرف على قلب أفريقيا، وظهرت صورة منسى موسى في أغلب الخرائط التي صدرت في ذلك القرن.فبلاده عدت قلب المنطقة، أو الهدف الأقصى الذي ينبغي السعي للوصول إليه، فمن هذه المنطقة تتدفق السلع الأفريقية، كما يتدفق الذهب.وترجع أقدم خريطة إلى عام 1339م، أي بعد وفاة "منسى موسى" بقليل، على أن أهم الخرائط التي ظهرت في ذلك القرن، ما عرف باسم "الخريطة القطالونية" أو "الأطلس القالوني" وذلك زمن الملك شارل الخامس الملقب بالحكيم أو الرشيد (1364- 1380م) وهي من عمل العالم الجغرافي الميورقي "إبراهام كرسك" وصدرت حوالي عام 1375م.
الستار الذهبيوقد أوضحت الخريطة قلب الصحراء، وفيه رجل ملثم يركب جملا ويسير بخطى سريعة، نحو ملك مهيب جالس على عرشه في كامل لباسه الملكي، وعلى رأسه تاج، وفي إحدى يديه صولجان الملك، وفي اليد الأخرى قطعة من ذهب يقدمها لذلك الراكب المهرول نحوه، ويسمى كما هو منقوش على الخريطة "هذا السيد الزنجي موسى مالي سيد زنوج غينيا، يكثر الذهب في بلاده حتى صار أغنى وأعظم ملك في جميع البلاد".والذي يمكن قوله في هذا المجال إن عظمة مالي زمن منسى موسى كانت من بين الحوافز التي أدت إلى زيادة الرغبة في التعرف على قلب أفريقيا، تمهيدا لحركة الكشف والاستعمار الأوربي.ويعتبر منسى موسى ممن حطم الستار الحديدي العنصري، وهو حاجز اللون والتفرقة العنصرية فيما نسميه حديثا، حتى وصف السلطان موسى بأنه "صديق البيض" نتيجة لنجاحه في إقامة ودعم العلاقات الخارجية وتنميتها من خلال تجارة مالي ونشاطها.وقد توفي السلطان موسى سنة 1337، بعد أن حكم بلاده 25 عاما متواصلة تاركا إمبراطورية واسعة الأرجاء مستقرة الأحوال، وحديثا ذائع الصيت عن موكب حجه وذهب بلاده.
يعتبر السلطان "منسى موسى" إمبراطور "مالي" صاحب أكبر وأشهر رحلة حج عبر التاريخ الإسلامي، فقد سميت حجته "بحجة الذهب" لما فعله السلطان خلالها موزعا ذهب بلاده كرما ورغبة بالتقرب إلى الله عز وجل. والحج هو الرحلة التي تحن لها قلوب المسلمين على الدوام، ولعل من الطريف أن لقب "الحاج" من أشهر الألقاب الدينية في العالم الإسلامي؛ نظرا لما تحمله هذه الرحلة الفريدة من مخزون إيماني ومعنوي في حياة المسلمين. يلحظ الباحث والمنقب لحياة إمبراطورية "مالي" أنها تشبه قوسا يجلس "منسى موسى" على قمته، فكل الملوك الذين سبقوه وضعوا أسس المجد الذي أتمه، ثم بدأت الدولة بعده في الانحدار بسبب الترف والاعتماد على ما خلفه الآباء والأجداد حتى كانت النهاية بانكسار القوس وتمزق الدولة التي صنعت مجدها وتاريخها.
ويعتبر السلطان موسى من أعظم سلاطين مالي على الإطلاق، وما إن يبدأ الحديث عن التاريخ الإسلامي لأفريقيا، إلا ويذكر في بداية السلطان "منسى موسى" وحجته الأكثر شهرة في التاريخ الإسلامي.
إمبراطورية "مالي"بداية التعريف بإمبراطورية مالي الإسلامية يجعلنا نؤكد على أنها قامت على أنقاض مملكة "غانة" الوثنية بعد أن هاجمها وأسقطها المرابطون 1087م، الذين أخذوا على كاهلهم نشر الدين الإسلامي وفتح البلاد الوثنية.وبسقوط "غانة" بدأ الصراع والتنافس على عرش البلاد بين مملكتين أفريقيتين هما "كانياجا" و"كانجابا" ليكون النصر من نصيب "كانجابا" المسلمة بقيادة الملك "سنديانا"، وقد أتاح له هذا النصر الاستيلاء (في عصر الفتح والإمبراطوريات) على أكثر الأجزاء التي كانت تابعة لدولة غانة، وإقامة دولة إسلامية جديدة عرفت بدولة "مالي" أو "ملي" عام 1240م. وهو اسم ترجحه المصادر التاريخية تبعا لأقدم مدينة عرفت بهذه المنطقة وهي مدينة malel.
ونظرا للتوسع والازدهار الذي جاء في عهد الملك "سنديانا" نفسه، وفي عهد الملوك الذين جاءوا من بعده، صاروا يلقبون من يتولون السلطة بـ "منسى" أي الملك الأكبر.والسلطان "منسى موسى" أعظم ملوك دولة مالي والذي امتد حكمه من سنة 1307 إلى 1332م، ويعد عصره من أزهى العصور، وقد عرف باسم "كنكن موسى"، وهو اسم والدته، والنسب بهذه الطريقة (أي إلى الأم) هو أمر مشهور لدى الأسر المالكة في غرب أفريقيا.وخلال فترة حكمه اتسعت حدود الدولة لتقارب مساحة كل دول غربي أوربا مجتمعة، فامتدت شمالا في الصحراء الغربية حتى اشتركت حدودها مع مراكش تقريبا، وغربا إلى المحيط الأطلسي، وشرقا حتى دولة الهوسا، وعرف عن جيشها النشاط الكبير حتى إنه فتح 24 مدينة من مدن السودان في فترة قصيرة للغاية.
وفي عهده ازدهرت المدن التجارية مثل مدينة تمبكتو، وسيطرت الدولة على مصادر الذهب والنحاس والملح، كما كانت ملتقى للقوافل التجارية من مراكش وشمال أفريقيا ومصر، ومما شجع على ذلك العدالة والأمن اللتان كانتا تسودان البلاد في عصره.ويعد اتساع وشهرة إمبراطورية مالي دليلا واقعيا على قدرة الأفارقة على التنظيم السياسي والاستثمار الاقتصادي. فكانت المدن لها سمات المدن التجارية، كما كانت مركزا للتعليم ونشر الثقافة الإسلامية، وقد استمرت هذه الثقافة والأدب لقرون عدة في السودان الغربي.إضافة لما سبق اشتُهر "منسى موسى" بالتقوى والورع، فيقول ابن أمير حاجب: "كان منسى موسى متدينا محافظا على الصلاة والقرآن والذكر".ويقول أيضا: "إن منسى موسى عندما ذهب إلى الحج ترك ابنه محمدا على العرش، وبعد عودته من الحج كان يريد أن يترك العرش لابنه ويعود إلى مكة لكي يقيم هناك إقامة دائمة، ولكن الأجل لم يمهله".
طريق الحج.. ذهب
الكعبة المشرفة قديما
تجمع المصادر التاريخية على أن خروج السلطان موسى إلى حج بيت الله الحرام كان سنة 724هـ- 1324م، مقتديا بملوك مالي الذين سبقوه، ويقال إن السبب المباشر لهذا الحج هو أنه قتل أمه عن طريق الخطأ، فأسف لذلك أشد الأسف، وندم على فعله، وخاف عقاب الله، فتصدق بأموال كثيرة، وعزم على صوم الدهر كله.
ومما يقال أيضا إنه سأل بعض علماء المسلمين عما يفعله كي يغفر الله له، فنصحوه بالحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستشفاع به عند الله سبحانه وتعالى.
فخرج من عاصمة دولته، عادا العدة، من على نهر النيجر إلى مدينة "ولاته" الواقعة شمال شرق مدينة "كومبي صالح" عاصمة غانة، ثم غادرها إلى مدينة "قوات"، حتى مدينة القاهرة.وتذكر المصادر المعاصرة أن موكب حج السلطان موسى تكون مما لا يقل عن ستين ألف جندي، سار أمامه خمسمائة عبد يحمل كل واحد منهم عصا من الذهب الخالص تزن كل عصا خمسمائة مثقال.ويقال إنه قدم معه أربعة عشر ألف جارية يقمن بخدمته. واشتمل موكبه على كل وسائل الراحة، فصحبه الطباخون الماهرون الذين كانوا يعدون وجبات الطعام للملك وأتباعه وضيوفه في أي مكان يتوقف به، وقد تعرض الموكب لمحنة قاسية في مدينة "توات" عندما أصابه مرض "خفي القافلة"، الذي أصاب أرجل الإبل حتى قضى على ما يقرب من نصفها، وأطلق المؤرخون على هذا المرض اسم "توات".ويقول ابن خلدون وابن حجر: إن "منسى موسى" حمل معه من بلاده للإنفاق على الرحلة مائة جمل من التبر أي من الذهب، في كل جمل ثلاث قناطير.
ويقدر بعض المؤرخين ما كان يحمله هذا الملك من الذهب بخمسين ألف رطل من الذهب.
مبالغات ولكن..
ويذكر د. إبراهيم طرخان"في كتابه مالي الإسلامية" أن هناك بعض المبالغات في تقدير كمية الذهب التي كان يحملها السلطان موسى، وكذلك مبالغات في ضخامة الموكب، لكن ذلك يلقي ضوءا على أنه كان فعلا كثير الثراء والفخامة، فمالي كانت تتحكم في مناجم الذهب، وهي أرض التبر كما ينعتها الإدريسي وغيره، وملكها هو "ملك الذهب"، وبحسب خرائط التاريخ فإن ملك مالي كان هو أغنى وأعظم ملك في العالم آنذاك.وقد أنفق السلطان موسى كل أمواله في رحلته إلى الحج موزعا إياها كهدايا في مصر وغيرها من البلاد التي مر بها. ففي قصر سلطان مصر لم يترك أحدا إلا وأعطاه من الذهب. ولكل مدينة مر بها أثناء الطريق إلى الحج صدقة مقدارها عشرون ألف قطعة من الذهب الخالص.
كما أهدى السلطان المملوكي الناصر محمد هدية قوامها خمسة آلاف مثقال ذهب. ويقدر بعض المؤرخين مجموع من أنفقه في رحلته بعشرين ألف قطعة ذهبية.وكانت إحدى نتائج هذا الكرم والكثرة فيما أنفق من الذهب في مصر أن انخفض سعر المثقال من الذهب من خمس وعشرين درهما إلى عشرين درهما، واستمر هذا السعر لمدة اثني عشر سنة أخرى على هذا الانخفاض.
وفي الحجاز أدى فريضة الحج وزار المدينة، وأفاض على الحجيج وأهل الحرمين بالإحسان فيقول السعدي: "طاب المقام لمنسى موسى بالحجاز، فبقي نحو ثلاثة شهور فيه بعد انتهاء موسم الحج".
انقلاب الموقفيقول "ابن أمير" حاجب والي مصر إن السلطان موسى "كان معه مائة حمل ذهب. أنفقها في سفرته تلك على من بطريقه إلى مصر من القبائل ثم من مصر إلى الحجاز توجها وعودة، حتى احتاج إلى القرض فاستدان على ذمته من تجار مصر بما لهم عليه من المكاسب الكثيرة بحيث يحصل لكل واحد منهم في كل ثلاثمائة دينار سبعمائة دينار ربح".وقد اصطحب معه في طريق عودته المهندسين والمعماريين الذين ساعدوا على إقامة نهضة حضارية ومعمارية في غرب أفريقيا ومن هؤلاء "أبو إسحاق الساحلي" وكان شاعرا ومهندسا معماريا أسباني الأصل كان يقيم بمكة وما زالت آثار هذه الحضارة من مساجد وقصور موجودة حتى الآن.
شهرة غزت أورباوبمرور موكب السلطان موسى على ساحل البحر المتوسط أعطى الفرصة لتجار أوربا الذين كانوا يرتادون شمال أفريقيا ومدنها الساحلية لمشاهدة الحالة التي سافر بها هذا الملك للحج، ومن ثم وصلت شهرة مالي وأخبار موكب حج موسى ودلالته إلى أوربا كلها.ومنذ ذلك الوقت ازداد التفكير الأوربي في محاولة التعرف على قلب أفريقيا والوصول إليه فأنشأت مدرسة في جزيرة "ميورقة" كان أهم أهدافها التعرف على قلب أفريقيا، وظهرت صورة منسى موسى في أغلب الخرائط التي صدرت في ذلك القرن.فبلاده عدت قلب المنطقة، أو الهدف الأقصى الذي ينبغي السعي للوصول إليه، فمن هذه المنطقة تتدفق السلع الأفريقية، كما يتدفق الذهب.وترجع أقدم خريطة إلى عام 1339م، أي بعد وفاة "منسى موسى" بقليل، على أن أهم الخرائط التي ظهرت في ذلك القرن، ما عرف باسم "الخريطة القطالونية" أو "الأطلس القالوني" وذلك زمن الملك شارل الخامس الملقب بالحكيم أو الرشيد (1364- 1380م) وهي من عمل العالم الجغرافي الميورقي "إبراهام كرسك" وصدرت حوالي عام 1375م.
الستار الذهبيوقد أوضحت الخريطة قلب الصحراء، وفيه رجل ملثم يركب جملا ويسير بخطى سريعة، نحو ملك مهيب جالس على عرشه في كامل لباسه الملكي، وعلى رأسه تاج، وفي إحدى يديه صولجان الملك، وفي اليد الأخرى قطعة من ذهب يقدمها لذلك الراكب المهرول نحوه، ويسمى كما هو منقوش على الخريطة "هذا السيد الزنجي موسى مالي سيد زنوج غينيا، يكثر الذهب في بلاده حتى صار أغنى وأعظم ملك في جميع البلاد".والذي يمكن قوله في هذا المجال إن عظمة مالي زمن منسى موسى كانت من بين الحوافز التي أدت إلى زيادة الرغبة في التعرف على قلب أفريقيا، تمهيدا لحركة الكشف والاستعمار الأوربي.ويعتبر منسى موسى ممن حطم الستار الحديدي العنصري، وهو حاجز اللون والتفرقة العنصرية فيما نسميه حديثا، حتى وصف السلطان موسى بأنه "صديق البيض" نتيجة لنجاحه في إقامة ودعم العلاقات الخارجية وتنميتها من خلال تجارة مالي ونشاطها.وقد توفي السلطان موسى سنة 1337، بعد أن حكم بلاده 25 عاما متواصلة تاركا إمبراطورية واسعة الأرجاء مستقرة الأحوال، وحديثا ذائع الصيت عن موكب حجه وذهب بلاده.