كامل
04 Nov 2012, 09:47 PM
الابْتِسَاْمَةُ في أحاديثِ الأنبياءِ وفي عُيونِ الشُّعراءِصدقةٌ يطفئ بردُ ثلجها لظى العداوة المستعرةِ , ويُخمد سيلُ غيوثها أُوار حقدِ القلوب الملتهبة , وتبعثُ طمأنينةً في النفس , وجمالاً في الروح وانشراحاً في الضمير...صدقةٌ يُكتب لك ثوابُها من غير أن تدفع ولو جزءاً يسيراً من مالك إلى الفقير !!...صدقةٌ تستطيع أن تحصل على ثوابها في اليوم الواحد عشرات المرات !وهي صدقةٌ لا تتطلب منك إلا أن تُحرك شفتيك , وحتى لا يخطر ببالك أنها الكلمة الطيبةُ فإنني على الفور أخبرُك أني ما أردتها !.... لأن الصدقة التي أتحدث عنها تأتي من دون أن تحرك شفتيك ومن دون أن تنبِس ببنت شَفةٍ !!وهذه الصدقةُ تجعلك مُحببا في القلوب ومقرَّباً من شغافها , وتدخلك إلى حناياها من غير استئذان !وحتى لا أطيل عليك ـ أيها القارئ الكريم ـ ! أقول لك : إنها صدقة التبسم .فالبسمة التي ترتسم على وجهك عند لقاء شخص ما, أو استقبال ضيف , ـ وإذا كنتَ ذا منصبٍ فعند استقبال مُراجِع ملهوفٍ ـ ما هي إلا سرورٌ تغرسه في القلب , ومودةٌ تزرعها في الفؤاد , وسعادةٌ وغبطة تسكبها في بحار الإخاء... أما أن تلقى الناسَ بوجه مكفهرّ , وجبين مقطَّب , ونظرةٍ من عين تتساقط شررا , ولا تنظر إلى الناس إلا شزْرا , ولا تكلمهم إلا قهرا ...فهذا ما يعتبره كثيرٌ من الناس علامةً من علامات التكبر , وأمارة من أمارات التعالي على الناس , ...حتى وإن كان قلبك يحمل الود والصفاء لهم , فإن قسماتِ الوجه هي التي تعبر عن شخصية الإنسان بنظر الناس , كما أننا نحكم بالظاهر, والله يتولّى السرائر....وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث الصحيحة (جلُّ ضحكه التّبَسّمُ) هكذا قال مَن جالَسَهُ , وبهذا وصفه من رآه , وكان دائم الابتسام , وخاصة عند ما يريد الكلام ـ إلا إذا كان الكلامُ موعظةً عندما تُنتهك حرماتُ الله , فكان يغضب أشدَّ الغضب , فيُسمع بحديثه العواتق في خدورهن , وتحمرُّ وجنتاه فيقول واصفه :(كأنما فُقئ فيهما حبُّ الرمان) ـ.... ولأن البسمة قبل البدء بالحديث أدعى للسماع , وأشدُّ قبولاً , وأكثرُ تأثيراً فقد كان عليه الصلاة والسلام يبتسم قبل الحديث , فكانت الآذان ترتشف زُلال بيانه , وتصغي له القلوب وتتنعّم العقول , وتنتشي من أريج كلامه الأرواح..والأدلة على ما أقول كثيرة جدا , منها :ما رواه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ : تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ قَالَ : (عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ اللَّهَ لا يَقْضِي لَهُ قَضَاءً إِلا كَانَ خَيْرًا لَهُ ) مسند أبي يعلىوكذلك ما قاله جريرُ بن عبد الله - رضي الله عنه - : « ما حَجَبني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- منذُ أسلمتُ ، ولا رآني إلا تَبَسَّم في وجهي ». البخاري .... هكذا أمضى حياته صلى الله عليه وسلم رحيماً ليّنا مبتسما ....ثم ها هو عند الممات ينظر إلى أصحابه نظرة الوداع , وهي نظرة ممزوجة بابتسامة تَنُمّ عن حب عميق لهم , ورحمة عظمى بهم , بسمة وداع وشفقة ورضا ..قال أنَس بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه ...حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ[ وهو اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم] وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الْحُجْرَةِ, فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ , ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . مسلم...وإن المتأمل في الأحاديث النبوية الشريفة يرى أن كثيراً من الأمور التي يراها الناس اعتيادية سهلة , لا تحتاج إلى جهد جهيد , ولا إلى عمل كثير , يراها عظيمةً عند الله , أجرُها لا يقل عن أجر الصدقة , بل هي صدقة من الصدقات , وبابٌ عظيم من أبواب الخير يُفتح لصاحبها...ومن هذه الأمور : تبسُّمك في وجه أخيك , وإماطةُ الشوكة والحجر عن الطريق ... وغيرُها من الصدقات التي يبينها الحديث التالي :عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ : (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ تُكْتَبُ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَإِمَاطَتُكَ الشَّوْكَةَ وَالْحَجَرَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ، وَإِرْشَادُكَ الضَّالَّ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.) الترمذيوالأحاديثُ الصحيحة التي تتحدث عن التبسم وفضله كثيرة يطول ذكرها , ولا مجال هنا لحصرها...أما البسمة في عيون الشعراء , فقد أكثروا الحديث عنها في أشعارهم , فهي بنظرهم تُطفئ الضغائن , وتجتثُّ سدرَ الأحقاد , وتقتلع جذور الكراهية , وتزرع في روض القلب وِداداً ومحبة وصفاء , كما قال الشاعر :بتبسّمي أطفأتُ ألفَ ضـغينةٍ وزرعتُ في قلب العليلِ وِدادامتجهمَ القسماتِ كم لاطفْتُهُ ! لأسـلَّ من أضلاعه الأحقادابينما يرى المتنبي أن البسمة لا تكون دائماً علامةً من علامات الرضا , فهو يحذرنا ناصحا ومرشدا فيقول :إذا رأيت نيوبَ الليث بارزةً فلا تظننَّ أن اللـيثَ يبتسمُ !ويتساءل شاعر آخرُ :أَلَمْعُ بَرْقٍ جَرَى أَمْ ضَوْءُ مِصْبَاحِ أَمِ ابْتِسَامَتُهَا بِالْمَنْظَرِ الضَّاحِي ؟!في حين نرى أن ياقوتاً الحمويَّ في معجم الأدباء قد ذكر ثلاثة أبيات لأبي عبد الله النحوي ..وهي أبياتٌ تفيض عذوبة ورقة , ودموعاً سخينةً وابتساماتٍ حرّى , ولا تجتمع الدمعةُ مع البسمة كما تجتمع عند ساعة الوداع ... فجعل شاعرنا التبسم في موقف الوداع المحزن ينمُّ عن سير المطايا فها هو يقول :وماذا عليهـم لو أقاموا فسـلموا وقد عـلموا أنـي مشوق متيم ؟!سرَوا ونجومُ الليـل زهـرٌ طوالعٌ على أنـهم فـي الليل للناس أنْجُمُوأخفَوا على تلك المطايا مسيرَهم فنـمَّ عليهم فـي الظـلام التّبسُّمُوكثيراً ما جعل الشعراءُ البرقَ يبتسمُ تارةً ويقطب تارة أخرى , فكلّ شيء يرى الشعراءُ البسمة تلوح في محياه , والسرور يُوشّي وجنتيه فالزهر يبتسم والربيع يبتسم والقمر يبتسم والنسيم يبتسم....وما أروع قول الشاعر عن ابتسامة البرق وقطوبه ! :إذا لاحَ برقُ الغورِ غورِ تِهامـةٍ تجدّد من شوقٍ عليَّ ضُروبُفطوراً تراهُ ضاحكاً في ابتسامـةٍ وطوراً تراه قد علاهُ قـطوبُوختاماً : ما هذا إلا غيضٌ من فيض , فأحاديثُ الأنبياء عن التبسّم كثيرة , وأشعار الشعار عن التبسم وفيرة , و للبسمة ـ كما هو معلوم ـ أنواعٌ وأنواعٌ , فلكل موقفٍ بسمتُهُ الخاصة , وانفعالاتُه النفسيةُ التي تعبِّر عنه....ولكنْ ـ أخي الكريم ـ : إذا كنت مبتئساً فلا تزرعِ البؤس في قلوب الآخرين , وإذا كدَّرَ مزاجَك أمرٌ ما في المنزل فلا تصطحبْه معك إلى الشارع أو إلى مكان العمل , ولا تصحب كذلك إلى بيتك كدر العمل وشقاءَه...وخالِقِ الناس بخلقٍ حسن , وقابلهم بابتسامة وديعة فإن لم تستطع فقد تصنعُ البسمة صناعة..... وباختصار...كن جميلاً ترى الوجود جميلاالشيخ الأديب : مصطفى قاسم عباس منقول