المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بحث شامل عن ارضاع الكبير ( رد الشبهات ) للشيخ / خالد جميل



عمرو يس
25 Nov 2011, 08:55 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمــــة

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأصلي وأسلـم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين .
أما بعد ، فهذه كلمات لعلها أن تكون مساهمة مني في وقت قلّ فيه المدافعون وكثر فيه الشاكُّون والمهاجمون . وبعد
فقد قال الله تعالى : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) ([1])
فإن من رحمة الله تعالى على عباده , أن أظهر لهم شرعه وبينه على لسان رسوله "صلى الله عليه وسلم " ولم يقبضه إلا بعد أن أدَّى الأمانة وبلغ الرسالة , واستشهد الناس في يوم الحج الأكبر فشهدوا على ذلك . وأمره بالبلاغ و ضَمِنَ له العصمة كما قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)([2])
ثم قام الصحابة رضوان الله عليهم على نفس الأمر بعد موته بنفس الفهم الذي أراده الله ورسوله من خلقه على أغلب ظنهم في غير أمور الاعتقاد ، فما اجتمعوا عليه فهو الحق الصائب , وما اختلفوا فيه فيجتهد فيه العلماء , وهكذا أحوال الناس فإن في طبائعهم الاختلاف , وقد قال عبد الله بن مسعود : (فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) رواه أحمد في مسنده (1-3600) ، والطبراني في الأوسط (4-3602) ,
ثم تربى على أيديهم أناس بلَّغوا هذا الأمر وبلَغوا فيه الغاية ، ثم ظهر الأئمة وظهرت المدارس الفقهية وانعقدت الإجماعات وتمت الأصول والقواعد لهذا الدين وظل الأمر على ذلك حتى ظهرت الفرق التي كم فرَّقت بين المسلمين ، فقيض الله العلماء فردُّوا عليهم ودافعوا عن دين الله خير دفاع ، حتى توانَىٰ العلماء وقام الأعداء باحثين عن كل نقيصة في الدين ، ولكن هيهات ، هيهات عما يبحثون ثم قام من المسلمين أناس يتبعون هؤلاء يأخذون عنهم دينهم ، و كما كان أصل الفرقة في بادئ الأمر راجعا إلى اليهود والنصارى , كان كذلك أيضا في نهاية الأمر .
قال أبو الفرج ابن الجوزي : (اعلم أن إبليس يدخل على الناس في التلبيس من طرق منها ظاهرة ، ولكن يغلب الإنسان إيثار هواه فيغمض على علم يذلِلُه . ومنها غامض وهو الذي يخفى على كثير من العلماء"
وقد ركب المجدّون ركب النائمين , وخذل التابع المتبوع , تأخر المسلمون , وقد فُقِدوا حينما طُلبوا , وقد صار فيهم أناس أتباع لكل ناعق وصاروا بلا هوية تميزهم ، وطلبوا النجاة من الغرقَى والهلكَى فقام الكفار واستغلوا هذه النومة وهجموا في سبتةٍ من المسلمين وفازوا بجهل المسلمين وأصبحوا هم المعلمين وهم القدوة فردد المسلمون ما يقولون هؤلاء الأساتذة الكفار فما أقروا من ديننا ورضوا منه ومن الدين أقررناه ورضينا به ، وما يخالف ذلك خذلناه ورددناه .
فإن الطبع لص سارق فإذا تُرك مع أهل زمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم ، فهؤلاء وللأسف قد سرقوا أسوأ ما يوجد في هؤلاء ، وهم سرقوا منا أحسن ما عندنا من النظم والمعاملات , ونحن أخذنا سوء الخلق والتقليد الأعمى والعُريّ والخلاعة والأفكار المسمومة , وأخذوا من عندنا العلم والأخلاق فانتفعوا بعلمنا وبأخلاق ديننا ، فهؤلاء وهؤلاء يتلذذون بالنظر لبعضهم البعض وأصبحوا إذا اجتمعوا كان هذا هو الفخر عندهم كما قال الشاعر:
يتكالبان على الحرام وأهله فعل الكلاب بجيفة اللحمان
وهكذا أصبح الأمر بعد أن كان الأسوة والقدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح الغرب هم القدوة وقد قيل :
يا ويــحَ للشرق من أمر به لَبِكٌ كالـهمﱢ مُلتبسٌ في رأي حـيران
من كل معضلة ترمي بمعضلــة رمىَ النحوس لذي بؤسٍ بحرمان
وقد ضُيِّعت الأمانة ووُسِّد الأمر لغير أهله وتكلم الرويبضة في أمور العامة ، شُربت الخمور ورُفع العلم بموت العلماء الأفذاذ وبكثرة الكتب وتجرَّأ العوام على كتب أهل العلم ، واشتغل الناس عن الطلب بالتجارات فساد الجاهل و انتشر الجهل وكثرت الفواحش وأصبح الميزان في أيدي من لا خلاق لهم ولا مبدأ فخرجوا عن العدل وأصبحوا من القاسطين وتكلموا على الشرفاء ، فخوّنوا الأمين وكذَّبوا الصادق وجهَّلوا العلماء ، فكم من سفيه طَالَبَ بتنقيح البخاري وكُتُب السنة ، وكم من جاهل رد أحاديث السنة ليس إلاّ أن المقياس عنده هواه فما وافق قَبِلَه وما خالف فهو بزعمه استغفالاً للإمام البخاري رحمه الله وُضِعَ في غفلة منه فهؤلاء وأمثالهم في جريمة الذقن([3]) لما هم فيه من الغفلة ، فهذا إن أَظهر فإنما يُظهر ويوضح مدى الجهل والحمق الذي هم فيه ، وقد تكلم من لا خلاق له في بعض أحاديث السنة واستغلوا ما نحن فيه من غفلة المسلمين وجهلهم .
وظن هؤلاء بأنهم قد وقعوا على عورة الدين وجاءوا بما لم يأت به أحد من العالمين وعلموا ما لم يعلمه المسلمون .


المبحث الأول : الرضاع في الشريعة الإسلامية
تعريفة : هو التقام الرضيع بمص أو شرب أو سعوط (سعط : أدخله في أنفه)
حد الرضاع : هو وصول لبن آدمية بلعت سن الحيض ولو قطرة أو مختلطاً بغيره وإن قل دون الحولين بمص أو شرب أو سعوط بخمس مرات يقينًا عرفًا .
حكمه : الرضاع واجب للطفل في سن الرضاع مادام الطفل في حاجه إليه , وهو واجب في حق الأب , فإن قامت به الأم وجبت النفقة على الأب لمَ أرضعت له ولده , فإن رغبت الأم في إرضاع ولدها وجبت لها لقوله تعالى : (لا تضار والدة بولدها) .
المرضع : اسم من لها ولد ترضعه .
المرضعة: اسم يطلق على المرأة حال التقام الطفل لثديها .
حد الرضعة : يطلق اسم الرضعة (اسم مرة) على ما إذا التقم الطفل الثدي فامتص منه ثم تركه باختياره بغير عارض سواء شبع أم لم يشبع فإن أخذه وتركه مره أخرى ، فهذه تصبح رضعة جديدة.

شروط الرضاع المحرّم للزواج عند الفقهاء :
اشترط الفقهاء للتحريم بالرضاع الشروط الستة الآتية :
1- أن يكون لبن امرأة آدمية سواء أكانت عند الجمهور بكرًا أم متزوجة أم بغير زوج ، فلا تحريم بتناول غير اللبن كامتصاص ماء أصفر أو دم قيح ولا بلبن الرجل أو الخنثى المشكل أو البهيمة ، فلو رضع صغيران من شاه مثلاً ، لم يثبت بينهما أخوة ، فيحل زواجهما لأن الأخوة فرع الأمومة فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع .
واشترط الحنابلة أن يكون بلبن امرأة صار لها لبن من الحمل ، فلو طلق الرجل زوجته وهى ترضع من لبن ولده فتزوجت بصبي رضيع فأرضعته حرمت عليه ، لأن الرضيع يصير ابنًا للرجل الذي ثار اللبن بوطئه .
واشترط الشافعي في المرأة أن تكون حيّة حياة مستقرة حال انفصال اللبن منها ، بلغت تسع سنين قمرية تقريباً ، وإن لم يحكم ببلوغها بذلك فلا تحريم برضاع المرأة الميتة والصغيرة ، أي أن لبن الميتة والصغيرة لا يحرم لكن لو حلبت المرأة لبنها قبل موتها وشربه الطفل بعد موتها حرم في الأصح لانفصاله منها وهو حلال محترم .
ولم يشترط الجمهور هذا الشرط فلبن الميتة والصغيرة التي لم تطق الوطء إن قدر أن بها لبناً يحرﱢم ، لأنه ينبت اللحم ، ولأن اللبن لا يموت .
2- أن يتحقق من وصول اللبن إلى معدة الرضيع ، سواء بالامتصاص من الثدي أو بشربه من الإناء أو الزجاجة ، وهذا شرط عند الحنفية فإن لم يتحقق من الوصول إلى المعدة ، بأن التقم الثدي ولم يُعلم أرضع أم لا ، فلا يثبت التحريم ، للشك في وجود سبب التحريم وهو الرضاع ، والأحكام لا تثبت بالشك .
واكتفى المالكية باشتراط وصول اللبن تحقيقاً أو ظناً أو شكًّا إلى الجوف من الفم برضاع الصغير ، فيثبت التحريم ولو مع الشك عملاً بالاحتياط ولا يثبت التحريم على المشهور بمجرد الوصول إلى الحلق فقط .
واشترط الشافعية والحنابلة وجود خمس رضعات متفرقات ، والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف ولا يشترط كونها مشبعة ولابد من وصول اللبن إلى الجوف .
3- أن يحصل الإرضاع بطريق الفم أو الأنف ، فقد اتفق أئمة المذاهب على أن التحريم يحصل بالوجور (وهو صب اللبن في الحلق ) لحصول التغذية به كالارتضاع ، وبالسعوط (وهو صب اللبن في الأنف ليصل الدماغ) لحصول التغذية به ، لأن الدماغ له جوف كالمعدة ، بل لا يشترط التغذية بما وصل من منفذ عال بل مجرد وصوله للجوف كاف في التحريم .
ولا يحصل التحريم عند الحنفية والشافعية في الأظهر والحنابلة في منصوص أحمد بالحقنة أو بتقطير اللبن في العين أو الأذن أو الجرح في الجسم لأن هذا ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز إثبات حكمه فيه ، لانتفاء التغذية .
وقال المالكية : يحصل التحريم بحقنة تغذي أي تكون غذاء لا مجرد وصول اللبن للجوف عن طريق الحقنة وحينئذ يختلف ما وصل من منفذ عال فلا يشترط فيه الغذاء وما وصل من منفذ سفلى ونحوه فيشترط فيه التغذية .
4- ألا يخلط اللبن بغيره ، وهذا شرط عند الحنفية والمالكية ، فإن خلط بمائع آخر ، فالعبرة عند الحنفية والمالكية للغالب ، فإن غلب اللبن حرﱠم وإن غلب غير اللبن عليه ، حتى لم يبق له عند المالكية طعم ولا أثر مع الطعام ونحوه ، فلا يحرم ، لأن الحكم للأغلب ، ولأنه بالخلط يزول الاسم والمعنى المراد به وهو التغذية فلا يثبت به الحرمة ، ولا فرق عند المالكية بين الخلط بالمائع أو بالطعام .
واعتبر الشافعية في الأظهر والحنابلة في الراجح اللبن المشوب (المختلط بغيره) كاللبن الخالص الذي لا يخالطه سواه ، سواء شيب بطعام أو شراب أو غيره لوصول اللبن إلى الجوف ، وحصوله في بطنه .
ورأى أبو حنيفة خلافاً للصاحبين أن اللبن المخلوط بالطعام لا يحرﱢم عنده بحال سواء أكان غالباً أم مغلوباً ، لأن الطعام وإن كان أقل من اللبن ، فإنه يسلب قوة اللبن ويضعفه ، فلا تقع الكفاية به في تغذية الصبي ، فكان اللبن مغلباً معنى ، وإن كان غالباً صورة .
وإذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ، فالحكم للغالب عند أبى حنيفة وأبى يوسف ، فإن تساوى ثبت التحريم من المرأتين جميعاً للاختلاط .
وقال المالكية ومحمد وزفر : يثبت التحريم من المرأتين جميعاً سواء تساوى مقدار اللبنين أو غلب أحدهما الأخر وهذا هو الراجح والله أعلم ، لأن اللبنين من جنس واحد والجنس لا يغلب الجنس .
5- أن يكون الرضاع في حال الصغر باتفاق المذاهب الأربعة فلا يحرّم رضاع الكبير وهو من تجاوز السنتين وجماهير أهل العلم على ذلك ، وقال داود الظاهري : أن رضاع الكبير يحرم وكانت عائشة ترى أن رضاعة الكبير تحرم .
6- أن يكون الرضاع خمس رضعات متفرقات فصاعدًا ، هذا شرط عند الشافعية و الحنابلة ، و المعتبر في الرضعة العرف ، لو انقطع الطفل عن الرضاعة إعراضًا عن الثدي تعدد الرضاع ، عملاً بالعرف ، ولو انقطع للتنفس أو الاستراحة أو الملل أو الانتقال من ثدي إلى آخر أو من امرأة إلى أخرى أو اللهو أو النومة الخفيفة أو ازدراء ما جمعه من اللبن في فمه وعاد في الحال ، فلا تعدد ، بل الكل رضعة واحدة وإن رضع أقل من خمس رضعات فلا تحريم , وإن شك في عدد الرضعات بُنِيَ على اليقين ، لأن الأصل عدم الرضاع المحرم لكن في حالة الشك الترك أولى ، لأنه من الشبهات ، واستدلوا بأدلة ثلاثة :
أولها : ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت (كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن فنسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن)([4]) والنسخ المقصود نسخ الحكم و التلاوة والإجماع منعقد على ذلك كما نقله النووي في شرح مسلم ( 10-27)
ثانيًا : أن علة التحريم هي شبهة الجزئية التي تحدث باللبن الذي ينبت اللحم وينشز العظام ، أي ينميه ويزيده وهذا لا يتحقق إلا برضاع يوم كامل على الأقل وهو خمس رضعات متفرقات .
ثالثًا : حديث (لا تحرم المصة والمصتان)([5]) وفى رواية (ولا الإملاجة والإملاجتان)([6]).
وقال المالكة والحنفية : الرضاع المحرم يكون بالقليل والكثير ولو بالمصة الواحدة للأدلة الثلاثة التالية :
1- عموم قوله تعالى : (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)([7]) فإنه علّق التحريم بالإرضاع من غير تقرير بقدر معين فيعمل به على إطلاقه .
2- حديث (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)([8]) فإنه رباط تحريم بمجرد الرضاع ويؤكده آثار عن بعض الصحابة ، روى عن علي وابن مسعود وابن عباس أنهم قالوا : قليل الرضاع وكثيره سواء .
3- إن الرضاع فعل يتعلق به التحريم ، فيستوي قليله وكثيره لأن شأن الشارع إناطة الحكم بالحقيقة مجردة عن شرط التكرار والكثرة وتحقيق جزئية الرضيع من المرضعة بالقليل والكثير .
ويُعمل بهذا الرأي في مصر وليبيا ويعمل في سورية بالرأي الأول وهو الراجح والله أعلم ، لما فيه توسعة وتيسير على الناس ، فإثبات العدد كان بالسنة كما في حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وقد قيدت السنة هذا المطلق .


([1]) سورة النساء الآية (83)

([2] ) سورة المائدة الآية (67)

([3]) مثل يُضرب للبعير يحمل الحمل الثقيل فلا يقدر وينهض به فيعتمد على ذقنه .

([4]) رواه مسلم ( 2 - 1452 )

([5]) رواه مسلم ( 2- 1450 )

([6]) رواه مسلم ( 2 – 1451)

([7]) سورة النساء الآية (23)

([8]) رواه البخاري (2-2502 ) ، و مسلم ( 2 – 1445 ) .

عمرو يس
25 Nov 2011, 08:57 PM
ما يثبت به الرضاع :

يثبت الرضاع بأحد أمرين : الإقرار أو البينة

1- الإقرار : وهو عند الحنفية اعتراف الرجل والمرأة معاً أو أحدهما بوجود الرضاع المحرم بينهما وفيها حالات كالآتي :

أ- فإذا أقر الرجل والمرأة بالرضاع قبل الزواج بأن اعترفا بأنهما أخوان من الرضاع فلا يحل لهما الإقدام على الزواج وإن تزوجا كان العقد فاسداً ولم يجب للمرأة شيء من المهر ، وإن كان الإقرار بعد الزواج وجب عليهما الافتراق ، فإن لم يتفرقا اختياراً فرق القاضي بينهما جبراً ، لأنه تبين فساد العقد ويجب للمرأة الأقل من المهر المسمى أو مهر المثل .

ب- إذا كان الإقرار من جانب الرجل وحده ، كأن يقول : هي أختي أو أمي أو ابنتي في الرضاع فإن كان الإقرار قبل الزواج فلا يحل له التزوج بها ، وإن كان بعد الزواج ، وجب عليه أن يفارق المرأة فإن لم يفارقها اختياراً وجب على القاضي أن يفرق بينهما جبراً ويكون للمرأة في التفريق قبل الدخول نصف المهر المسمى ، وبعد الدخول يكون لها جميع المهر المسمى ، ولها النفقة والسكنى في العدة ، لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر لا يتعداه إلى غيره ، إلا إذا صدَّقه الغير أو ثبتت بالبينة صحة الإقرار ولكن لا يبطل حقها بالمهر والنفقة والسكنى .

ج- إذا كان الإقرار من جانب المرأة وحدها ، فإن كان قبل الزواج فلا يحل لها أن تتزوجه ، ولكن يحل له أن يتزوجها إذا وقع في قلبه كذبها على المُفْتَىٰ به ، لأن الطلاق له لا لها ، والإقرار حجة قاصرة على المقر ويحتمل أن يكون إقرارها لغرض خفي في نفسها ، وإن كان الإقرار منها بعد الزواج فلا يؤثر على صحة الزواج إلا إذا صدقها الزوج فيه0

ويجوز للمقر الرجوع عن إقراره ما لم يشهد على إقراره سواء قبل الزواج أو بعده ، بأن يقول : كنت واهماً أو ناسياً لاحتمال أنه أقر بناء على أخبار غيره ، ثم تبين له كذبه فإن أشهد على إقراره لم يقبل منه الرجوع بعدئذ لوجود التناقض بين إقراره ورجوعه .

وثبت الرضاع عند المالكية بإقرار الزوجين معاً ، أو باعتراف أبويهما أو باعتراف الزوج المكلف وحده ولو بعد العقد لأن المكلف يُؤْخَذ بإقراره أو باعتراف الزوجة فقط إذا كانت بالغاً قبل العقد عليها ، لا إن أقرت بعده ويفسخ الزواج بينهما في كل هذه الأحوال .

فإن حصل الفسخ قبل الدخول بها فلا شيء لها ، إلا أن يقر الزوج فقط بعد العقد فأنكرت فلها نصف المهر .

ملحوظة: ( هذه إحدى المسائل الثلاث المستثنيات من قاعدة كل عقد فسخ قبل الدخول لا شيء فيه وهي : (نكاح الدرهمين ، فرق المتلاعنين ، فسخ المتراضعين)

وإن حدث الفسخ بعد الدخول بها ، فلها المهر المسمى جميعه إلا إذا علمت المرأة بالرضاع قبل الدخول ، ولم يعلم هو فلها ربع دينار بالدخول (والذي حدد الربع دينار أو ثلاثة دراهم هم المالكية وذلك لئلا يُعَرَّىٰ البضع عن الصداق وهو أقل ما يحل به البضع) وليس لها نفقة ولا سُكنىٰ .

ويقبل إقرار أحد أبوي صغير بأن أقر أبوه أو أمه بالرضاع قبل العقد عليه فقط ، فلا يصح العقد بعد الإقرار .

ولا يصح الرجوع عن الإقرار سواء أصر المقر على إقراره أم لم يصر ، ويشترط لصحة الإقرار عند الشافعية رجلان ، فلا يثبت بإقرار غيرهما لإطلاع الرجال عليه غالباً .

ولو قال الرجل : هي ابنتي أو أختي برضاع أو قالت المرأة : هو أخي حرم تناكحهما ، ولأنه يُؤْخَذ كل منهما بإقراره .

ولو قال زوجان : بيننا رضاع محرّم فُرِّق بينهما وسقط المهر المُسَمَّىٰ بينهما ووجب مهر المثل إذا حدث الوطء .

وإن ادعى الزوج رضاعاً محرّما ، وأنكرت زوجته ذلك ، انفسخ النكاح وفرق بينهما ، ولها إن وطئها المهر المسمى إن كان صحيحاً ، وإلا فمهر المثل ، لاستقراره بالدخول ، فإن لم يطأ فلها نصف المهر ، لورود الفرقة منه ولا يقبل قوله عليها ، وله تحليفها قبل الدخول ، وكذا بعد الدخول إن كان المُسَمَّىٰ أكثر من مهر المثل وإن نكلت عن اليمين حلف الزوج ولزمه مهر المثل فقط بعد الوطء ، ولا شيء لها عليه قبله .

وإن ادعت الزوجة الرضاع فأنكر الزوج ذلك ، صُدِّق بيمينه إن زُوِّجت برضاها ، وإلا بأن زُوِّجت بغير رضاها ، فالأصح تصديقها بيمينها ، ولها في الحالتين مهر مثلها إن وُطئت جاهلة بالرضاع .

وقال الحنابلة : إن أقر الزوج قبل الدخول بالرضاع المحرّم ، بأن قال : هي أختي في الرضاع ، انفسخ النكاح ، كما قال الشافعي ، فإن صدقته المرأة فلا مهر لها ، وإن كذبته فلها نصف المهر .

وإن أقرت المرأة بأن زوجها أخوها من الرضاع ، فكذبها ، لم يقبل قولها في فسخ النكاح لأنه حق عليها ، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها ، لأنها تقر بأنها لا تستحقه .

وإن كان بعد الدخول ، فأقرت بعلمها بالرضاع وبتحريمها عليه ، فلا مهر لها أيضاً لإقرارها بأنها زانية مطاوعة .

وإن أنكرت شيئًا من ذلك ، فلها المهر ، لأنه وطء بشبهة ، وهى زوجته ظاهر الحكم لأن قولها عليه غير مقبول .

2- البينة : وهي الشهادة وهى الإخبار في مجلس القضاء بحق الشخص على الغير ، وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على ثبوت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين من أهل العدالة ، واختلفوا في ثبوت الرضاع بشهادة رجل واحد أو امرأة واحدة أو أربع من النساء .

فقال الحنفية : لا تقبل هذه الشهادة ، لما رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال (لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين) وهو من طريق عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي ، قال البخاري عنه : منكر الحديث ، قال ابن معين : ليس بشيء ، لم يسمع من عمر إنما له رواية عن ابنه عبد الله 0

وكان قوله بمحضر من الصحابة ولم ينكر أحد ، فكان هذا إجماعاً ، وهذا إجماع فيه نظر ، وإن كان أكثر العلماء على أنه لا يقبل أقل من شاهدين ، قال أخرج محمد بن الحسن في موطأه أن عمر أجاز شهادة رجل وامرأتين في النكاح والفرقة وهو منقطع أيضا لأن إبراهيم النخعي لم يدرك عمر ، قال محمد بن الحسن عقب الحديث : وبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة ، وقد جاء عن عمر أنه أجاز شهادة الواحد في الإفطار كما ذكر عند الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف ، وخلاصة الأمر أنه لم يصح عن عمر مما في هذا الباب شيء .

ولأن الرضاع فيما يطلع عليه الرجال ، فلا يقبل فيه شهادة النساء على الإنفراد كالشهادة في الدخول .

وقال المالكية : لا يثبت الرضاع قبل العقد بشهادة امرأة فقط ولو فشا منها أو من غيرها الرضاع ، إلا أم الصغير ، فتقبل شهادتها مع الفشو ، ولا يصح العقد معه .

ويثبت الرضاع بشهادة رجل وامرأة أو بشهادة امرأتين إن فشا الرضاع منهما أو من غيرهما بين الناس ، قبل العقد ، ولا تشترط مع الفشو عدالة على الأرجح ، وإنما اشترط لقبول هذه الشهادة الإظهار قبل الزواج ، لإبعاد التهمة عن الشاهد بهذه الشهادة .

وقال الشافعية : يثبت الرضاع بشهادة أربع نسوة لاختصاص النساء بالإطلاع عليه غالباً كالولادة ، ولا يثبت بدون أربع نسوة ، إذ كل امرأتين بمثابة رجل .

وتقبل شهادة المرضعة مع غيرها إن لم تطلب أجرة عن رضاعها ، ولا ذكرت فعلها ، بل شهدت أن بينهما رضاعاً محرماً ، لأنها لا تريد بهذه الشهادة نفعاً ولا تدفع ضرراً أما إذا طلبت الأجر فلا تقبل شهادتها لأنها متهمة .

وتقبل شهادة أم الزوجة وبنتها مع غيرهما حسبة بلا تقدم دعوى ، ومن المتفق عليه أن الرضاع مما تقبل فيه شهادة الحسبة ، فلا تتوقف على الدعوى ، لأنه يتضمن الحرمة ، وهي من حقوق الله تعالى ، كما تقبل الشهادة على الطلاق حسبة دون تقدم دعوى ، وقد ثبت قبول شهادة امرأة كما في حديث إهاب بن عزيز ، كما في صحيح البخاري ( 1 – 88 ) 0











أثر الرضاع :

قال الحافظ ابن حجر: (الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) أي تبيح ما يباح من الولادة بالإجماع فيما يتعلق بتحريم النكاح وتوابعه وانتشار الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النظر والخلوة والمسافرة ، ولكن لا يترتب عليه باقي الأحكام من التوريث ووجوب النفقة والعتق بالملك والشهادة والعقل وإسقاط القصاص .

قال القرطبي : وفي الحديث دلالة على أن الرضاع ينشر الحرمة بين الرضيع والمرضعة وزوجها ولا يتعدى التحريم إلى قرابة الرضيع , فليست أخته من الرضاعة أختا لأخيه ولا بنتاً لأبيه ، إذ لا رضاع بينهم 0

والحكمة من ذلك أن سبب التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وزوجها وهو اللبن ، فإذا تغذى به الرضيع صار جزءًا من أجزائها فانتشر التحريم بينهم بخلاف أقارب الرضيع لأنه ليس بينهم وبين المرضعة وزوجها نسب ولا سبب .



هل نقل الدم كالرضاع ؟

نقل الدم بين رجل وامرأة لا يكون سبباً محرماً للزواج أو غيره فهو ليس كالرضاع , فالرضاع أمرٌ منصوص عليه في الكتاب والسنة , ونقل الدم ليس منصوصاً عليه في الكتاب ولا في السنة فلا يقاس على الرضاع في التحريم .

أيضاً اللبن المحرم ما فتق الأمعاء وأنشز العظم وأنبت اللحم , ولا يكون ذلك إلا في اللبن فالدم لا يكون فيه ذلك .

وقد جاء في كلمة للدكتور مجاهد محمد أبو المجد أستاذ الأمراض الباطنية بكلية طب المنصورة قال : إن الأبحاث العلمية الحديثة أظهرت وجود علاقة ارتباطية قوية بين عدد ومدة الرضاع من ثدي الأم وظهور مرض السكري من النوع الأول في عدد من الدراسات على الأطفال من كل من النرويج والسويد والدانمرك ، وعلل الباحثون ذلك بأن لبن الأم يمد الطفل بحماية ضد عوامل بيئية تؤدي إلى تدمير خلايا (بيتا) البنكرياسية في الأطفال الذين لديهم استعداد وراثي لذلك ، وأن مكونات الألبان الصناعية للرضيع تحتوي على مواد كيميائية سامة بخلايا (بيتا) البنكرياسية ، وأن ألبان البقر تحتوى على بروتينات يمكن أن تكون ضاره لهذه الخلايا ، كما لوحظ أيضاً في بعض البلدان الأخرى أن مدة الرضاعة من الثدي تتناسب عكسياً مع حدوث مرض السكري ، لذلك ينصح الباحثون الآن بإطالة مدة الرضاعة من ثدي الأم للوقاية من هذا المرض الخطير , وللحفاظ على صحة الأطفال في المستقبل , وبناءًا على هذه الحقائق برزت في السنوات الأخيرة نظرية مفادها أن بروتين لبن البقر يمكن أن يحدث تفاعلاً حيوياً مناعياً يؤدي إلى تحطيم خلايا (بيتا) البنكرياسية التي تفرز بروتين لبن البقر مع فصل الأطفال المصابين بداء السكري بالمقارنة مع الأطفال غير المصابين بالمرض كمجموعة مقارنة .

كما أنه في دراسة أخرى حديثة استخلص الباحثون أن البروتين الموجود في لبن البقر يعتبر عاملاً مستقلا في إصابة بعض الأطفال بمرض السكري بغض النظر عن الاستعداد الوراثي .

وفي أخرى أشار المؤلفون إلي أن تناول لبن الأبقار وبعض الألبان الصناعية كبديل للبن الأم يؤدي إلى زيادة نسبة الإصابة بمرض السكري في هؤلاء الأطفال .

وقد أجريت هذه الدراسة على أطفال صغار السن حتى الشهر التاسع من العمر ، ولهذا نصح المؤلفون بإطالة مدة الرضاع الطبيعة .

وأوضح الباحثون وجود ارتباط قوي بين تناول منتجات الألبان الصناعية (خاصة لبن الأبقار) في السن المبكرة حتى العام الأول من العمر وازدياد نسبة الإصابة بمرض السكري .

كما أنهم قالوا : وجدنا أن الأجسام المناعية المضادة للبن الأبقار وجدت في مصل الأطفال الذين تناولوا لبن الأبقار حتى نهاية العام الثاني .

أما الأطفال الذين تناولوا لبن الأبقار بعد عامين من العمر فلم يتضح فيهم وجود هذه الأجسام المناعية , مما يظهر جدياً كلمة القرآن للرضاعة بعامين كاملين , لكن هناك سؤال مهم ، ألا وهو ! لماذا يسبب لبن الأبقار هذا الضرر قبل العام الثاني , بينما يزول الأثر السيئ للبن بعد هذه المدة ؟

يقول الباحثون : إن بروتين لبن الأبقار يمر بحالته الطبيعة من الغشاء المبطن للجهاز الهضمي نتيجة عدم اكتمال نمو هذا الغشاء من خلال ممرات موجودة فيه ، حيث أن إنزيمات الجهاز الهضمي لا تستطيع تكسير البروتين إلى أحماض أمينية , ولذلك يدخل بروتين لبن الأبقار كبروتين مركب , مما يحفز على تكوين أجسام مناعية داخل جسم الطفل ، وتشير المراجع الحديثة إلى أن الإنزيمات والغشاء المبطن للجهاز الهضمي وحركة هذا الجهاز وديناميكية الهضم والامتصاص لا يكمل عملها بصورة طبيعية في الأشهر الأولى بعد الولادة وتكتمل تدريجياً حتى نهاية العام الثاني .

كما أنه كلما اقتربت مدة الرضاعة الطبيعية من عامين كلما قل تركيز الأجسام المناعية الضارة بخلايا بيتا البنكرياسية التي تفرز الأنسولين , كلما بدأت الرضاعة البديلة , وخاصة بلبن الأبقار في فترة مبكرة بعد الولادة كلما ازداد تركيز الأجسام المناعية الضارة في مصل الأطفال .

كما أنه في إشارة علمية دقيقة أخرى للقرآن الكريم نراه يحدد مدة الرضاعة بما يقرب الحولين ، كما في سورة البقرة : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1)) ،(وفصاله في عامين)([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2)) ، (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))، ويفهم من هذا أن إرضاع الحولين ليس حتماً بل هو التمام ، ويجوز الاقتصار على ما دون الحولين ، وذلك أيضاً يفهم من قوله تعالى : (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)، فيجوز الاقتصار على أقل من الحولين .


([1]) سورة البقرة الآية (233)
([2]) سورة لقمان الآية (14)
([3]) سورة الأحقاف الآية (15)

عمرو يس
25 Nov 2011, 08:59 PM
المبحث الثاني



عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير ؟ فقال : أخبرني عروة بن الزبير , أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ,كان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم , وكان قد شهد بدراً , وكان تبنى سالماً الذي يقال له سالم مولى أبى حذيفة , كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثه , وقد زوج أبو حذيفة سالماً ,وهو يرى أنه ابنه, وزوجه ببنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة وهى يومئذ من المهاجرات الأُول وهى من أفضل أيامىٰ قريش , فلما أنزل الله تعالى في كتابة في زيد بن حارثه ما أنزل , فقال : (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما)([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))رُدّ كل واحد من أولئك إلى أبيه , فإن لم يعلم أبوه صار مولى وأخا في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل , وهى امرأة أبي حذيفة , وهي من بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله كنا نرى سالماً ولداً وكان يدخل عليَّوأنا فُضُل وليس لنا إلا بيت واحد , فماذا ترى في شأنه ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها وكانت تراهابناً من الرضاعة , فأخذت عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبى بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال ، و أَبَى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس وقلن : لا والله , ما نرى الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم سهله بنت سهيل , إلا رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رضاعة سالم وحده , لا والله لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد .

والحديثرواه الإمام مسلم عن عائشة قالت : جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أرضعيه) قالت : وكيف أرضعه ؟ وهو رجل كبير : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : (قد علمت أنه رجل كبير) .

وعنها- أي عائشة - (أن سالما - مولى أبي حذيفة - كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم ، فأتت بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال ، وعقل ما عقلوه ، وإنه يدخل علينا ، وإني أظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أرضعيه تحرمي عليه) فأرضعته ، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة ، فرجعت إليه فقلت : إني قد أرضعته ، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة !) ([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))

قال ابن أبي مليكة : فمكثتُ سنة أو قريباً منها لا أحدث به هيبة ثم لقيت القاسم فقلت له : لقد حدثتني حديثاً ما حدثته بعد ، قال : فما هو ؟ فأخبرته ، قال : فحدثه عني أن عائشة أخبرتنيه ، قال أبو عمر : هذا يدلك على أنه حديث تُرك قديما ولم يُعمل به ولم يتلقه الجمهور بالقبول على عمومه بل تلقوه على أنه خصوص والله أعلمكما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وعن عائشة أن أم سلمة قالت لها : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي ، فقالت عائشة أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ قالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله إن سالماً يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أرضعيه حتى يدخل عليكِ ) .([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))

وعن أم سلمة تقول : أَبَى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحد بتلك الرضاعة ، وقلن لعائشة : والله ما نرى هذا إلاّ رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا . أ . هـ .

صحيح مسلم (2/453) ، صحيح البخاري (5/4800) ، موطأ مالك (2/1265) ، مسند الشافعي (1/307) ، مسند الدارمي (2/2257) ، مستدرك الحاكم (2/2692) ، صحيح ابن حبان (10/4213) ، سنن النسائي الكبرى (3 /5474) ، سنن أبي داود (2/2601) ، سنن ابن ماجه (1/1943) ، مسند أحمد (6/ 24154) وغيرها من دواوين السنة .

شرح الحديث:

قال العلماء رحمهم الله : بأن سالماً ولد لأبي حذيفة بالتبني قد تربى في حجره ، وقد أعتقته زوجة أبي حذيفة ، ثم كبر ونشأ في بيت أبي حذيفة مع زوجته سهلة بنت سهيل فكانا لا يرونه إلا ولداً لهم ويعتقدون ذلك وقد زوجه أبو حذيفة من فاطمة بنت الوليد بن عتبة وكانت من أفضل أيامى قريش ديناً وحسباً ونسباً وعاش سالم على هذا وكان يدخل عليهم على أنه أبوه وأمه .

فلما نزلت آيات تحريم التبني وأمر برد التبني وكل متبنٍ إلى أبيه (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم)([4] (http://majles.alukah.net/#_ftn4))فلم يُعلم من أبوه فرد بالموالاة إلى أبي حذيفة وقد خرج بالتبني بالآية من الرق بالعتق وبقى مولى بالموالاة ، وكان يدخل إلى بيته الذي يعيش فيه معهم , وكان يمر على زوجته -أي زوجة أبي حذيفة- وهى في ثياب الخدمة كسائر النساء في بيوتهن الذي يعيشون فيه مع أولادهم ، فهو لم يرى منها عورة وذلك لا يجوز كما قررته قواعد الشرع .

وكانت ترى الكراهة في وجه أبى حذيفة لا لدخوله عليهم ، فقد كان يدخل من قبل ذلك , ولكنه ظن بأنه إذا رضي بذلك يكون قد أسخط اللهَ ورسوله .

فذهبت سهلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصت عليه الأمر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها : أرضعيه ، فكانت تضع مقدار الرضعة في سعوط إناء فكان يشربه في كل يوم لمدة خمسة أيام فحرم عليها ، فعلم أبو حذيفة برضى الله ورسوله فذهب ما كان في وجهه من عدم الرضى .

وهذه صورة مبسطة لشرح الحديث ، وهو حديث عظيم يحتاج إلى شرح أكثر من هذا ولكن قام المغرضون وطاروا إلى الحديث وقاموا بأخذ بعضه، وقالوا كيف يرضى رسول الله بذلك وعائشة وكيف يرضى أبو حذيفة بذلك ؟ ثم كيف هذه المرأة ترضعه وكيف يمس ثديها ؟ وكيف يجوز مس عورة المرأة ؟ كما يدخل على المرأة وهى فُضُل أي في ثوب واحد ، كأنهم أخذوا على الإسلام والمسلمين أنهم قوم يدعون إلى الدياثة وهذه ادعاءات باطلة ، فهم يعلمون جيداً أنه الحق من ربهم وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وقد قال الله تعالى : (قد نعلم إنه ليحزنك الذييقولون فإنهم لايكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)([5] (http://majles.alukah.net/#_ftn5))، فهؤلاء لا يكذبون الله ورسوله ولكن يريدون أن يشككوا المسلمين في دينهم وقد طرقوا باباً وللأسف الشديد كان لا يجب عليهم أن يطرقوه ، فديننا يأمر بالحجاب وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وعندهم كم من رجل صالح كما يزعمون وقع على بناته وكم من نبي وحاشهم ذلك وتعالوا عما يقول هؤلاء وهم يتعبدون بذلك ليل نهار .وقد قال ابن حجر : من تكلم في غيرفنه أتى بالأعاجيب .

وعلى العموم فهم يتكلمون فيما لا يعلمون كما أنهم أصحاب هوى لايمثلون للشرع شيئاً ولا يعتد بحكمهم في مثل هذه المسائل كما قال تعالى : (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) ([6] (http://majles.alukah.net/#_ftn6)) .

وقال الشاعر:

ما أنت بالحَكَمِ التُرْضَىٰ حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي الجدل

ولكن الحكم الذي يتعبدالمسلمون برضاه هو الله سبحانه وتعالى ثم رسوله صلى الله عليه وسلم فما أشار به الشرع على المسلمين من أمر أو نهى فهو من دينهم فما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم دينًا يسمى بعد موته دينًا وما لم يكن دينًا لا يسمى دينًا . كماأمرنا الله بطاعته وأتباعه قال تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب)([7] (http://majles.alukah.net/#_ftn7)) .

فالمرأة ردت الأمر إلىصاحبه وأعلم الخلق فيه فأشار عليها بإرضاعه ففعلت , فهو صلى الله عليه وسلم أغير الخلق ، وهو الذي أُمر أن يأمر بالحجاب وعدم إبداء الزينة ووصف صنف من نساء أمته أنهن من أهل النار فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صنفان من أهل النار .... إلى أن قال : ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة)([8] (http://majles.alukah.net/#_ftn8)) فكيف يقبل ذلك أو يقول السفهاء عليه ذلك .

(كنا نرى سالماً ولداً) نرى : أي نعتقد أنه كان قبل نسخ التبني ولد لهم ، من أجل ذلك زوَّجه أبو حذيفة بابنة أخيه الوليد ابن عتبة (فاطمة) .

(ويدخل عليَّ وأنا فُضُل) فضل : تعنى مكشوفة الرأس والصدر وقيل : عليّ ثوب واحد لا إزار تحته ، و قيل : متوشمة بثوب على عاتقها بين طرفيه .

قال ابن عبد البر : أصحها الثالث أي كانت لا تظهر منها عورة لأن هذا لا يجوز عند محرم ولا غيره ، أيضاً هذا مخالف للقواعد العامة التي وضعتها الشريعة لإبداء المرأة ما يجوز أن يظهر وما لا يجوز أن يظهر ، فلا يجوز للمرأة أن تظهر العورة إلا للزوج ، ولا يجوز للمرأة أن تظهر أمام المحرم سوى رقبتها وجزء من يدها وجزء من قدمها كما هو معروف في كتب الفقه ، فكيف تظهر غير ذلك كالثدي وهذا لا يجوز أمام الولد أو الأخ بعد البلوغ أو الوالد .

(كان يدخل) هذا يدل على أنها تحرزت منه بعد النسخ هو في قولها : (ليس لنا إلا بيت واحد) هذا يبين أنها كانت تحترز ولكن بقدر ما يمكن من الاحتجاب منه ، وفي رواية شعيب : (وقد أنزل الله فيه ما علمت) أي من حرمة التبني ، وفي رواية مسلم : (إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوه , وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبى حذيفة إذا رضي بدخوله البيت بعد نزول التحريم يكون قد أسخط الله ورسوله) وإلا فإنه كان يدخل عليهما قبل ذلك ولا يوجد في وجهه شيء ، كما ذكر الزرقاني ولا منافاة بين رواية مالك ورواية مسلم فإنها سألت السؤالين للنبي صلى الله عليه وسلم واقتصر كل راو على واحد .

فقال : (أرضعيه خمس رضعات) ولمسلم : (أرضعيه) ، قال ابن عبد البر : رواية يحيى بن سعيد عن ابن شهاب : (عشر رضعات) ورواية مالك هي الصواب وتابعه يونس .

(فيحرم بلبنها) لمسلم ، قالت : كيف أرضعه وهو رجل كبير ؟ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال : قد علمت أنه رجل كبير كان قد شهد بدراً , وفي لفظ له : (أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة) .

قال ابن عبد البر : صفة رضاع الكبير أن يُحلب له اللبن ويُسقاه , فأما أن تُلقِمه المرأةُ ثديَها فلا ينبغي هذا عند أحد من العلماء .

قال القاضي عياض : لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها ولا التقت بشرتهما ، إذ لا يجوز رؤية الثدي ولا مسه ببعض الأعضاء لا للمحارم ولا غيرهم .

قال الإمام النووي : وهو حسن ويحتمل أنه عفي عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبير والله أعلم .

قال الزرقانى : وأيده بعضهم بأن ظاهر الحديث أنه رضع من ثديها لأنه تبسم وقال : (قد علمت أنه رجل كبير) ، ولم يأمرها بالحلب وهو موضع بيان ومطلق الرضاع يقتضى مص الثدي فكأنه أباح لها ذلك لما تقرر في نفسها أنه ابنها وهي أمه فهو خاص بهما لهذا المعنى .

وكأنهم رحمهم الله تعالى لم يقفوا في ذلك على شيء ، وقد روى ابن سعد عن الواقدي[9] (http://majles.alukah.net/#_ftn9) عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه قال كانت تحلب في مسعط إناء قدر رضعته فيشربه سالم . وهذا الراجح المقبول بعيداً عن الأفهام السقيمة المعوجة والأهواء وذلك لأمرين :

1- أن الشرع يحرم على المرأة أن يُرى منها عورة للأجانب والمحارم .

2- لوجود هذا النص فهو أولى من الاجتهاد من غير نص .



موقف السيدة عائشة من رضاع الكبير:

بالنسبة لموقف السيدة عائشة من رضاع الكبير كما جاء في الحديث بأنها كانت تأمر أم كلثوم بنت أبى بكر أن تدخل عليها الرجال بهذه الرضاعة ، فقد قال الشيخ محمد نجيب المطيعي في كلامه عن الحكم بالمنطوق : ومنه ما كان الأمر في واقعه خاصة فظنه الراوي حكماً كلياً ومنه ما أخرج فيه الكلام فخرج التأكيد ليعضوا عليه بالنواجذ فظن الراوي وجوبه أو حرمته وليس الأمر على ذلك ومثال ما ظنَّته عائشة رضي الله عنها من أمر النبي صلى الله عليه وسلم مولى أبى حذيفة ولسهلة بنت سهيل من أن يرضع بعد البلوغ واشتداد عوده واستوائه ، أن هذا يسرى على رضاع الكبير فيحرم به النكاح وتحصل بموجبه المحرمية بين الراضع والمرضع ، ومن كان فقيهاً في هذا الشأن خالفها كما خالفها أمهات المؤمنين جميعاً وسائر الصحابة في هذه المحرمية الحاصلة من رضاع الكبير ، لقوله تعالى : (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)([10] (http://majles.alukah.net/#_ftn10)) وكانت قصة سالم واقعة حال أ . هـ

أما بالنسبة لرواية مسلم : (يا عائشة انظرن من إخوانكن من الرضاع ، إنما الرضاعة من المجاعة)([11] (http://majles.alukah.net/#_ftn11)) ، قال الإمام ابن تيمية لكنها رأت الفرق أن يقصد الرضاعة أو التغذية ممن كان المقصود الثانية "التغذية" لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام وهذا إرضاع عامة الناس .

أقوال الفقهاء فى إرضاع الكبير

(1) أصحاب الرأي الأول :

قال ابن القاسم : هل يري مالك رضاع الكبير يحرم شياً أم لا ؟ قال ، لا ، قلت : أرأيت الصبي إذا فصل فأرضعته امرأة بلبنها بعد ما فصل أيكون هذا رضاعاً أم لا في قول مالك ؟ قال : قال مالك الرضاع حولان وشهر أو شهران ذلك إذا لم ينقطع الرضاعة عنه .

قال ابن وهب : عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا رضاع بعد الفطام .([12] (http://majles.alukah.net/#_ftn12))

وأخبرني رجال من أهل العلم عن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبى طالب وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبى هريرة وأم سلمة وابن المسيب وربيعة الرأي وأبى موسى الأشعري .

1- قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : وهذا في سالم خاصة ، وإذا كان لسالم خاصة فالخاص لا يكون إلا مخرجاً من حكم العام وإذا كان مخرجاً من حكم العام فالخاص غير العام ، ولا يجوز في العام إلا أن يكون رضاع الكبير لا يحرم ولابد إذا اختلف الرضاع في الرضاع الكبير والصغير في طلب الدلالة على الوقت الذي إذا صار إليه المرضع فأرضع فلم يحرم . قال : والدلالة على الفرق بين الصغير والكبير موجودة في كتاب الله عز وجل قال تعالى : (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)([13] (http://majles.alukah.net/#_ftn13)) فجعل الله عز وجل تمام الرضاعة حولين كاملين وقال : (فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) يعني - والله أعلم - قبل الحولين فدل على أن إرخاصه عز وجل في فصال الحولين على أن ذلك إنما يكون باجتماعهما على فصاله قبل الحولين وذلك لا يكون - والله أعلم - للمولود من والديه أن يكون يريان أن فصاله قبل الحولين خير ، له من إتمام الرضاعة له لعله تكون به أو بمرضعته وأنه لا يقبل رضاع غيرها أو أشبه هذا وما جعل الله تعالى له غاية الحكم ، فالحكم بعد مضى الغاية فيه وغيره قبل مضيها فإن قال قائل : وما ذلك ؟ قيل قال الله تعالى : (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)([14] (http://majles.alukah.net/#_ftn14)) فكان لهم أن يقصروا مسافرين وكان شرط القصر لهم بحال موصوفه دليل على أن حكمهم في غير تلك الصفة غير القصر ، قال تعالى : (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)([15] (http://majles.alukah.net/#_ftn15)) فكن إذا مضت الثلاث الأقراء فحكمهن بعد مضيها غير حكمهن فيها .

ثم قال رحمه الله تعالى : أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار قال جاء رجل إلى ابن عمر وأنا معه عند دار القضاء يسأله عن رضاعة الكبير فقال ابن عمر جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال كان لي وليدة فكنت أطؤها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت : دونك فقد والله أرضعتُها ، فقال عمر بن الخطاب : أوجعها وائت جاريتك ، فإنما الرضاع رضاع الصغير.

أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا موسى قال : رضاعة الكبير ما أراها إلا تحرم ، فقال ابن مسعود : انظر ما يفتى به الرجل : فقال أبو موسي فما تقول أنت فقال : لا رضاعة إلا ما كان في الحولين ، فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم .

قال الإمام الشافعي : فجماع فرق ما بين الصغير والكبير أن يكون الرضاع في الحولين فإذا أرضع المولود في الحولين خمس رضعات كما وصفت فقد كمل رضاعة الذي يحرم .

2- قال ابن قدامة : فلو ارتضع بعد الحولين بلحظة لم يثبت ، هذا قول أكثر أهل العلم ونحو ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبى هريرة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة وإليه ذهب الشعبي وابن شبرمة والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور ورواية لمالك ، ورُوي عنه أنه زاد شهراً ورُوي شهران . وقال أبو حنيفة : يحرم الرضاع في ثلاثين شهراً لقوله تعالى : (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء ، لأنه يكون سنين فعلم أنه أراد الحمل من الفصال .

قال زفر : مدة الرضاع ثلاث سنين وكانت عائشة رضي الله عنها ترى رضاعة الكبير تحرم ، ويروى هذا عن عطاء والليث وداود لما روى أن سهلة بنت سهيل قالت : (يا رسول الله إنا كنا نرى سالماً ولداً 000 الحديث) ثم قال رحمه الله : ولنا قول الله تعالى : (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فجعل تمام الرضاعة حولين كاملين فيدل على أنه لا حكم لهما بعدهما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فإنما الرضاعة من المجاعة)([16] (http://majles.alukah.net/#_ftn16)) وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام) ([17] (http://majles.alukah.net/#_ftn17)) ، وقولُ أبى حنيفة تحكمٌ يخالف ظاهر الكتاب والسنة وقول الصحابة .

3- قال السرخسي : (ولا رضاع بعد الفصال) بلغنا ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وهكذا رواه جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا رضاع بعد الفصال ولا يتم بعد الحلم 000 الحديث)

والكلام هنا في فصول :

إحداها : أن الحرمة لا تثبت بإرضاع الكبير عندنا وعلى قول بعض الناس تثبت الحرمة لحديث سهلة ، فإنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما انتسخ حكم التبني وبهذا أخذت عائشة.

والصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على هذا وقد ذُكر عن علي وابن مسعود رضي الله عنهم قال : لا رضاع بعد الفصال ، كما قال رحمه الله : إن الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم وذلك لا يحصل في الكبير .

4- قال ابن رشد : واتفقوا على أن الرضاع يحرم في الحولين واختلفوا في إرضاع الكبير ، قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وكافة الفقهاء لا يحرم رضاع الكبير ، وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه يحرم وهو مذهب عائشة رضي الله عنها ومذهب الجمهور (ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك ، وهذا لأنه ورد حديثان في ذلك أحدهما حديث سالم المتقدم ، والثاني : حديث عائشة المتقدم.

فمن ذهب إلى الترجيح قال : لا يحرم اللبن الذي لا يقوم للمرضع مقام الغذاء ، إلا أن حديث سالم نازلة عين ، وكان سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خلا عائشة يرون ذلك رخصة لسالم ، ومن رجح حديث سالم ، علل حديث عائشة بأنها لم تعمل به .

5- قال النووي : واختلف العلماء في هذه المسألة فقالت عائشة وداود الظاهري : تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ كما تثبت برضاع الطفل لهذا الحديث ، وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن : لا يثبت إلا بإرضاع من دون سنتين ، إلا أبا حنيفة فقال : سنتين ونصف ، وقال زفر : ثلاث سنين ، وعن مالك رواية سنتين وأيام ، واحتج الجمهور بقوله تعالى : (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) والحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا (إنما الرضاعة من المجاعة) وبأحاديث مشهورة . وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم .

وقد روى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا والله أعلم

6- قال أبو بكر بن العربي : اتفق الفقهاء على أنه لا يحرم إرضاع الكبير إلا الليث وعطاء وتعلق بحديث سهلة وإنه لقوى ، إلا أن أول من أنكره أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة به ، لأن ذلك لو كان رخصة لسالم لقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون لأحد بعدك ، كما لأبى بردة في شأن الجذعة .

وأشد في ذلك ما قاله علمائنا : أنه يجوز الرضاع بعد الحولين بثلاث شهور وأقله نقصان الشهور وإذا زود فليس بعد الزيادة حد ، وقد قال تعالى : (كاملين) وهل بعد الكمال إلا النقصان ، وجاء جواز الحرمة برضاع الكبير من غير تحريم على التخصيص وهما متعارضان ، فجمع النظر في هذا التعارض :

أ- أن يكون رخصة يدل عليها الحصر المتقدم في وجه تحريم الرضاع .

ب- أن يتعارضان ويقع النظر في دليل سواهما وهو متعلق بقوله : (أمهاتكم اللاتي أرضعنكم) والرضيع في اللفظ اسم للصغير دون الكبير حتى صار يسمى به وإن لم يرضع ، فالمأكول اسم لما يتغذى به وإن لم يؤكل ، وإذا لم يسم الكبير رضيعاً لم تسم الأم مرضعة ، ويعضد هذا علة الرضاع وهى وجود البعضية فيه وذلك يتصور في الصغير لأن كل جزء يحصل في جوفه ينمو به والكبير لا ينمو به ، وضرب الله مثلاً للحد الذي ينمو به والفصل الذي بينه وبين الذي لا ينمو به الحولان وهذا غاية الكلام ، ووجه زيادة علمائنا على الحولين وتحقيقه أن الله تعالى لم يجعل الحولين حد شرعياً وإنما وكله إلى إرادة إكمال مدة الرضاعه أو تنقصيها ، فصار ما زاد عليه محلاً للاجتهاد ولكن بشرط الزيادة ألا نتعد حد المسمى بالحول والله أعلم.

7- قال ابن عبد البر : هذا يدلك على أنه حديث ترك قديما ولم يعمل بهولم يتلق الجمهور رضاع الكبير بالقبول على عمومه بل تلقوه على أنه مخصوص والله أعلم ، ورضاع الكبير ليس بشيء .

وجاء هذا عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عمر و أبي هريرة وابن عباس وسائر أمهات المؤمنين سوى عائشة ، وجمهور التابعين وجماعة فقهاء الأمصار ومنهم الثوري ومالك وأصحابه والأوزاعي وابن أبى ليلى وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وكذا أيضاً ذكر ذلك الدارمي في سننه ومسلم في صحيحه والزرقاني والبخاري والإمام ابن القيم . وقال ابن هبيرة : اتفقوا على أن التحريم بالرضاع يثبت في سنتين .

كما ذكر القرطبى : فإنما الرضاعة من المجاعة تثبت قاعدة كلية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغنى به الرضيع عن الطعام باللبن ويعتضد بقوله : (لمن أراد أن يتم الرضاعة) فإنه يدل على أن هذه المدة أقصى مدة للرضاع المحتاج إليه عادة المعتبر شرعاً فما زاد عليه لا يحتاج إليه عادة فلا يعتبر شرعاً ، إذ لا حكم للنادر ، وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاك حرمة المرأة بارتضاع الأجنبي منها .



(2) أصحاب الرأي الثاني : بالجواز مطلقاً

وهم كما قدمنا قول عائشة وعطاء بن أبى رباح والليث وداود الظاهري وابن حزم . وقد ذكر الحافظ ابن حجر قال : رأيت بخط التاج السبكي : أنه رأى في تصنيف لمحمد بن خليل الأندلسي في هذه المسألة أنه توقف في أن عائشة صح عنها الفتيا بذلك لكن لم يقع منها إدخال أحد من الأجانب بتلك الرضاعة .

قال تاج الدين طاهر : الأحاديث ترد عليه وليس عندي فيه قول جازم لا من قطع ولا من ظن غالب ، وكذا قال وفيه غفلة عما ثبت عند أبى داود في هذه القصة فكانت عائشة تأمر بنات إخوانها وأخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها ، إسناده صحيح ، وهو صريح فأي ظن غالب وراء هذا والله أعلم .

فقد فهم من مفهوم كلامه رحمة الله تعالى أنه من المجيزين لرضاع الكبير وأن تاج الدين طاهر ممن توقفوا في هذا الأمر.

(3) أصحاب الرأي الثالث : من يقول بالجواز عند الضرورة

1- قال الإمام بن تيمية : والرضاعة المحرمة ما كان في الحولين فإن تمام الرضاع حولان كاملان لقوله تعالى : (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) وما كان بعد التمام فليس من الرضاعة ، ولهذا كان جمهور العلماء والأئمة الأربعة وغيرهم أن رضاع الكبير لا تأثير له واحتجوا بما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال من هذا يا عائشة قلت أخي من الرضاعة قال : (يا عائشة انظرن من إخوانكن إنما الرضاعة من المجاعة)([18] (http://majles.alukah.net/#_ftn18)) .

وروى الترمذي عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام)([19] (http://majles.alukah.net/#_ftn19)) ومعنى قوله : (في الثدي) أي في وقته الحولان كما جاء في الحديث : (إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي)([20] (http://majles.alukah.net/#_ftn20)) أي وهو في زمن الرضاع وهذا لا يقتضى أنه لا رضاع بعد الحولين ولا بعد الفطام وإن كان الفطام قبل تمام الحولين :

وقد ذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أن إرضاع الكبير يحرم واحتجوا بما رواه مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمه أن أم سلمة قالت لعائشة : أنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي ، فقالت عائشة : (أما لك في رسول الله أسوة حسنة قالت : إن امرأة أبى حذيفة قالت : يا رسول الله أن سالماً يدخل عليَّ 0000 الحديث) أخذت به عائشة وأبَىٰ غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به مع أن عائشة روت عنه قالت : (الرضاعة من المجاعة) ، ولكنها رأت الفرق أن يقصد رضاعة أو تغذية ممن كان المقصود الثاني لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام وهو إرضاع عامة الناس ، فأما الأول فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم وقلنا يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها وهذا قول متجه .

2- قال الشوكاني : وقد استدل بذلك ( أي بالحديث ) من قال إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم وهو مذهب علي بن أبي طالب وابن حزم - وقد أنكر ابن عبد البر هذا القول عن علي - وعائشة وعروة والليث وعطاء وابن علية وداود الظاهري ، كما أنه احتج بحديث عائشة وقال لا يصح التخصيص لأنه لابد أن يكون بدليل كحديث الجذع من المعز وشهادة خزيمة برجلين ثم قال : إن رضاع الكبير يعتبر فيما دعت إليه الحاجة الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه ، إليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا هو الراجح عندي وبه يحصل الجمع بين الأحاديث وذلك بأن يجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم إنما الرضاعة من المجاعة ، والإرضاع إلا في الحولين ، ولا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم ، وهذه طريقة متوسطة بين طريقة من استدل بهذه الأحاديث على أنه لا حكم مطلقاً لرضاع الكبير وبين من جعل رضاع الكبير كرضاع الصغير مطلقاً لما لا يخلو عنه كل واحدة من هاتين الطريقتين من التعسف .

واختار العظيم أبادي قول الإمام الشوكاني قال بقوله وقول الإمام ابن تيمية وجعل جواز ذلك لما دعت إليه الحاجة .




([1]) سورة الأحزاب الآية (5)
([2]) رواه النسائي عن عائشة ، وصححه الألباني .
([3]) رواه مسلم عن عائشة برقم (1453) .
([4]) سورة الأحزاب آية (5)
([5]) سورة الأنعام الآية (33)
([6]) سورة الأنعام الآية (119)
([7]) سورة الحشر الآية (7)
([8]) رواه مسلم (3|2128)
([9]) قال الذهبي في " الميزان " : استقر الإجماع على وهن الواقدي .
([10]) سورة البقرة الآية (233)
([11]) رواه مسلم برقم (1455)
([12]) وذكر ابن حجر أن عبد الرحمن بن زيد هذا يروي الموضوعات عن أبيه والخبر ساقط .
([13]) سورة البقرة الآية (233)
([14]) سورة النساء الآية (110)
([15]) سورة البقرة الآية (228)
([16]) رواه البخاري برقم (2647) ، ومسلم برقم (1455) عن عائشة .
([17]) رواه الترمذي في جامعه ، وصححه الألباني .
([18]) سبق تخريجه
([19]) سبق تخريجه
([20]) رواه مسلم برقم (2316)

عمرو يس
25 Nov 2011, 09:00 PM
المبحث الثالث : الترجيح بين هذه الآراء (نتيجة البحث)

ولكن قبل الترجيح لابد من معرفة ما قال العلماء في حديث سهلة .

1- قال بعضهم بأنه خاص ، وهو قول الشافعي قال بأنه خاص في سالم وذكر قول أم سلمه وكذا ابن رشد وبه قال ابن تيميه ، وذكر ابن حجر في بعض الأقوال وأيضا ابن عبد البر وأيضاً أبو محمد الدارمي .

2- ومنهم من قال بالنسخ كابن القيم والإمام مسلم والنووي وغيرهم .

3- ومنهم من قال أنها حادثة عين ، به قال الزرقاني وابن عبد البر والنووي وابن رشد والحافظ ابن حجر وهذا هو الراجح لدي والله أعلم .



تعريف حادثة العين :

هي واقعة تقع بعينها بحيث تكون قد جاءت ليُبْنَى عليها حرمة أو واجب وأن تكون مخالفة للأصول العامة المتفق عليها وأن تكون وقعت مرة واحدة في بدء أمر التشريع ولم تتكرر وتعارف الصحابة على خلاف ذلك ولا تحتاج إلى ناسخ ينسخ هذا لأن القواعد الشرعية استقرت على خلاف ذلك غالباً .

شروطها :

1- أن تكون للبيان المعلق عليه الوجوب أو الحرمة .

2- أن تكون مخالفة للأصول العامة المتفق عليها .

3- أن تكون وقعت مرة واحدة ولم تتكرر .

4- أن تكون في بدء أمر التشريع ثم تعارف الصحابة على خلاف ذلك غالباً .

5- أن لا تحتاج إلى ضابط التخصيص .

أمثلة واقعة العين :

1- فعل النبي صلى الله عليه وسلم في وضع جريدة رطبة للذين يعذبان لعل الله يخفف عنهما .

2- نداء النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي بدر حين مر على قليب وأخبر بأنهم أسمع من المسلمين ، وقد علق الألوسي على هذه الواقعة قائلاً : فسماعهم إذاً خاص بذلك الوقت وبما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، ولأنها واقعة عين لا عموم لها فلا تدل على أنهم يسمعون دائماً وأبدا وكل ما يقال لهم لا يشمل غيرهم من الموتى مطلقاً.

قال صلاح الدين كليكدي العلائي : وفى قصة الخطيب الذي قال : (ومن يعصهما) فيكون ذلك مختصاً بمن حاله كذلك ولعل الجواب هو الأقوى لأن هذه القصة واقعة عين . وهناك وقائع عين كثيرة ولكن اختلف فيها العلماء .

ويتبين من هذا بأن حادثة سالم حادثة عين كما بين الزرقانى : فهي قصة عين لأنها لم تأت من غيره واحتفت بها قرينة التبني وصفات لا توجد في غيرها فلا يقاس عليها غيرها ، وكذا قال محمد نجيب المطيعى : وكانت قصة سالم واقعة حال لن يكون لها مثيل في الإسلام لأن سالماً كان دعياً لأبى حذيفة وتبناه كزيد بن حارثة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزل تحريم التبني فأمر الله بردهم إلى آبائهم فلم يكن معلوم والد سالم فدُعي سالم مولى أبى حذيفة فلما بلغ أشده واستوى جاءت سهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله ماذا تصنع وهو قد خرج من البنوة بتحريم التبني وخرج من الرق بالولاء الحاصل بينه وبين من كان متبنيا له ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترضعه حتى تحصل المحرمية بينهما بذلك فتكون أمه من الرضاعة ، ولما كان التبني قد حرمه الله فلن تتكرر قصة سالم مرة أخرى في الإسلام ولن نفترض أن يأتي أحد فيتبنى أحداً ثم يكبر ثم تقول أرضع حتى تحصل بينك وبينه محرمية وكل هذا غير جائز الوقوع .

ويترجح من ذلك أولاً :

بأن الذين قالوا بأن رضاع الكبير يحرم مطلقاً هم عائشة رضي الله عنها وعطاء بن أبى رباح وداود الظاهري .

فأما عائشة فقد فهمت هذه الحادثة على أنها خرجت مخرج العام ، وقد رُدَّ ذلك بما يلي :

أولاً : لإنكار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة .

ثانياً : لمخالفة ذلك لصريح القرآن الكريم في آية الرضاع والسنة .

ثالثاً : لأنها حادثة عين كما بيَّنَّا .

أما بالنسبة لردها أو لعدم عملها لحديث (إنما الرضاعة من المجاعة) ، فهذا على أنها فهمت أن التغذية بعد الفطام وقبل الفطام لا تؤثر على الحرمة كما بيَّن الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى وقد أخذ عطاء بقول عائشة وداود وعملا بظاهر الحديث .

أما بالنسبة لمن قال بأنه لابد منه عند الحاجة للجمع بين الأدلة فهذا غير الراجح لأنه قد بينا أن حادثة العين لا تصلح لاستخراج الأحكام منها ولا تحتاج دليل التخصص كما أن حادثة العين لا تتكرر فبناء على ذلك لا تصلح لأن تكون دليلاً لغيرها .

والراجح هو أصحاب الرأي الأخير أن رضاع الكبير لا يحرم مطلقاً لأمور :

1- قال ابن أبي مليكة للقاسم بن محمد - كما روى مسلم - بأنه كره أن يحدث بهذا الحديث لمدة عام.

قال ابن عبد البر : هذا يدلك على أنه حديث ترك قديما ولم يعمل به ولم يتلقه الجمهور بالقبول على عمومه بل تلقوه على أنه خصوص والله أعلم به 0

لأن الجمهور على أنها حادثة عين .

2- بأن الله عز وجل قال : (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) فالكبير لا يسمى رضيعاً لأن الرضيع اسم يطلق على ما دون الحولين 0

3- بأن الحديث خرج مخرج الخاص فيكون خاص خرج من عام فإن كان العام أن اللبن يحرم في الصغر ، فكان الخاص يحرم الكبير ، إذن كان الكبير في رضاعه لا يحرم .

4- أثر عمر بن الخطاب الذي رواه مالك حينما قال: أوجع امرأتك وائت جاريتك .

5- بأنه يتفرع على ذلك بأن الرجل إذا وقع على امرأته ووقع لبن في فيه فإنه لا يحرم بالإجماع ، وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبى موسى وعروة والليث وابن حزم والأئمة الأربعة وسائر علماء الأمصار إلى الآن .

لماذا بقيت هذه الآراء في التشريع الإسلامي ؟

بقيت هذه الآراء محفوظة في التشريع الإسلامي لأمور:

1- هذا يبين بأن الإسلام يدعو إلى الاجتهاد ما دام المرء أوتي هذه الأدوات وأنه ليس قائم على هيئة معينة .

2- احترام العقول التي تبحث بالأدوات الشرعية .

فقد بين الإمام ابن القيم بأنه من اجتهد بلا أدوات وأصاب فعليه وزر وإن أخطأ فعليه وزران أما من اجتهد وهو أهل للاجتهاد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر .



النتيجة العامة من البحث

وها نحن وصلنا إلى نتيجة البحث وهى :

أولا : أن الشرع محكم وأن الله عز وجل وضع القواعد الواضحة والمبينة للوصول إلى فهم هذه الأدلة .

ثانياً : ترسيخ قاعدة الرجوع إلى أهل الاختصاص (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)([1]) وأنه لا اعتبار لمن تكلم في الشرع بدون تأهل ولو أصاب وأن المتأهل لو تكلم في الشرع بأدوات الشرع وأخطأ له أجر واعتبر كلامه من جهة صحة الاجتهاد

ثالثاً : احترام الإسلام لعقلية المسلمين وأمرهم بإعمال العقل فيما فيه اجتهاد بحيث لا يحكم العقل على الشرع ولكن يقبل منه الاجتهاد وفى حدود المساحة التي أعطاها الشرع للعقل .

رابعاً : احترام الإسلام للمرأة وعدم انتهاك حرمة المرأة ولم يجز لها أن تُظهر عورتها أمام أحد سواء من المحارم أو غيرهم

خامساً : معالجة الشريعة للمستحدثات والمستجدات والنوازل والطوارئ .

مراجع الهوامش


كتاب الأم للشافعى 5/47

كتاب المدونة الكبرى لسحنون بن سعيد 2/297

كتاب المغنى لابن قدامة 11/138/139

كتاب شرح صحيح الترمذى لابن العربى 5/72 ،78

كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد 2/75

كتاب التمهيد لابن عبد البر 8/260

كتاب سنن الدارمى 2/210

كتاب عون المعبود للعظيم أبادى 6/46

كتاب أخر كتاب الإفصاح لابن هيرة 2/238

كتاب حاشية على السنن لابن القيم 6/44

كتاب عمدة القارئ 20/96

كتاب فتح الباري لابن حجر 9/148/149

كتاب الفتاوى الصغرى لابن تيمية 34/59/60

كتاب نيل الأوطار للشوكاني 6/371

كتاب الزرقانى شرح الموطأ 3/372

كتاب الآيات البينات للألوسي 1/30

كتاب الفصول المزيدة في الواو المزيدة 1/98

كتاب صلة القرآن بالسنة وطريقة الاستنباط لمحمد نجيب المطيعى 62 ص

كتاب شذور الذهب لابن هشام

كتاب ديوان القمر للرافعى

كتاب نونية القحطانى

كتاب الطبقات لابن سعيد في ترجمة سالم وسهل

كتاب الإصابة في تمييز الصحابة في ترجمة سالم وسهلة

كتاب الضعفاء والمتروكين للبخاري والنسائي

كتاب الميزان للذهبي

صحيح مسلم بشرح النووى

تلبيس ابليس لابن الجوزى

تهذيب السنن لابن القيم

الفقه الإسلامي و أدلته للشيخ وهبة الزحيلي (10 | 7273 |7293)

شرح مختصر خليل ( 3- 245 )

بدائع الصنائع (92 – 141 )

الفقه علي المذاهب الأربعة لابن هبيرة

([1]) سورة النحل الآية (43) ، سورة الأنبياء الآية (7)

صمت الدموع
25 Nov 2011, 11:59 PM
جزاك الله كل خير .. بحث شامل الله يعطيك العافيه ..

الدكتور
26 Nov 2011, 06:49 PM
بارك الله فيكم أخ عمرو ونفع بك

بحث علمي مؤصل لا حرمك ربي الأجر

عبدالله الكعبي
05 Dec 2011, 01:36 PM
وسأجعل الكلام هنا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وللسادة العلماء , وسأختصر إختصاراً أسأل الله أن لا يكون مخلا , وإلا بسطه يحتاج إلى كراريس وكراريس .

وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال مدارها على حديث عائشة – رضي الله عنها - قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم , فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- « أرضعيه » , قالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال « قد علمت أنه رجل كبير » .
أخرجه مسلم 4/168 .

فالأقوال :

• أن رضاع الكبير لا ينشر المحرمية مطلقا .

• أن رضاع الكبير ينشر المحرمية مطلقا .

• التفصيل فمن كان حاله كحال سالم نشر المحرمية وإلا فلا .

وإليكم أدلة أصحاب القول الأول :

قال الله تعالى " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " الآية

قال ابن كثير – رحمه الله - :" هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك .."
تفسير ابن كثير 1/350 .

وقال ابن بطال – رحمه الله - :" فأخبر تعالى أن تمام الرضاعة حولان ، فعلم أن ما بعد الحولين ليس برضاع ، إذ لو كان ما بعده رضاعًا لم يكن كمال الرضاعة حولين " .
شرح صحيح البخاري 7/197 .

وفي الآية دليل ( مفهوم ) على أن ما بعد الحولين ليس برضاعة وشاهده في قوله تعالى " لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " والتمام ليس بعده شيء , وأنظر إلى لفظ التمام فهو لم يرد في القرآن على أن له بقية .

قال تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " وقوله تعالى " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ... " وقوله تعالى " فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ... " وقوله تعالى " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... " وغيرها من الآيات .

ومن السنة أحاديث كثيرة نقتصر على ما صح سنده

* عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قال يا عائشة من هذا قلت أخي من الرضاعة قال :" يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة "
أخرجه البخاري 6/554 .

* وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام "

اخرجه الترمذي 3/458 ثم قال حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا .

* وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة وقلن لعائشة : والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا .
أخرجه مسلم 2/1078 .

وأما القول الثاني فمداره على عموم حديث عائشة – رضي الله عنها – ولا دليل لهم غيره وسيأتي رده في الرد على القول الثالث .

وأما القول الثالث فجعلوا أدلة القول الأول مستند لهم , وحديث عائشة – رضي الله عنها – واقع على من كان حاله كحال سالم مولى أبي حذيفة – رضي الله عنهما - .

وقد أجاب عن كلا القولين الأخيرين ( القول بأن رضاع الكبير ينشر المحرمية مطلقاً والقول بالتفصيل ) كثير من الأئمة الأعلام .

وسأختصر في النقول هنا على المنصوص صريحا دون تتبع لأقوالهم – رحمهم الله – وقد وقعت على أكثر من 100 نقل في هذه المسألة .

قال القرطبي - رحمه الله - :" حكى الوليد بن مسلم عن مالك – رحمه الله - أنه قال : ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين ، وما كان بعد ذلك فهو عبث .

ثم ساق – رحمه الله – الأقوال ثم قال : وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم ، وهو قول عائشة رضي الله عنها ، وروي عن أبي موسى الأشعري ، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك "
ثم قال قلت : وهذا الخبر مع الآية والمعنى ، ينفى رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له .
تفسير القرطبي 3/163 .

وقال ابن بطال – رحمه الله - :" اتفق أئمة الأمصار على أن رضاع الكبير لا يحرم ، وشذ الليث وأهل الظاهر عن الجماعة ، وقالوا : إنه يحرم ، وذهبوا إلى قول عائشة في رضاعة سالم مولى أبي حذيفة ، وحجة الجماعة قوله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) [ البقرة : 233 ] ، فأخبر تعالى أن تمام الرضاعة حولان ، فعلم أن ما بعد الحولين ليس برضاع ، إذ لو كان ما بعده رضاعًا لم يكن كمال الرضاعة حولين "
شرح صحيح البخاري 7/197 .

وقال ابن العراقي – رحمه الله - :" أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه خاص بسالم ، وامرأة أبي حذيفة كما اقتضاه كلام أمهات المؤمنين سوى عائشة رضي الله عنهن ، وروى الشافعي رحمه الله عن أم سلمة أنها قالت في الحديث " كان رخصة لسالم خاصة " قال الشافعي " فأخذنا به يقينا لا ظنا " حكاه عنه البيهقي في المعرفة ، وقال ما معناه إنما قال هذا لأن الذي في غير هذه الرواية أن أمهات المؤمنين قلن ذلك بالظن ، ورواه ( أي الشافعي ) عن أم سلمة بالقطع .

" وقال ابن المنذر ليست تخلو قصة سالم من أن تكون منسوخة أو خاصة لسالم "

" وحكى الخطابي عن عامة أهل العلم أنهم حملوا الأمر في ذلك على أحد وجهين إما على الخصوص ، وإما على النسخ "
طرح التثريب 7/346 .

وقال العيني – رحمه الله - :" وعند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن لا تثبت إلا برضاع من له دون سنتين .... وأجابوا عن حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم وقيل إنه منسوخ والله أعلم "
عمدة القاري 9/218 .

وقال ابن حجر – رحمه الله - :" ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة ، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة ، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط سالم بسهلة ، فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقة ، وهذا فيه نظر لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية ويثبت مذهب المخالف ، لكن يفيد الاحتجاج "
فتح الباري 14/346 .

وقال في موضع آخر يقول :" وادعى بعضهم أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير "
فتح الباري 4/69 .

ونقل صاحب العناية اتفاق الصحابة على عدم محرمية رضاع الكبير , غير ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها .
العناية شرح الهداية 5/134 .

قال صاحب بدائع الصنائع :" وأما عمل عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها ما يدل على رجوعها فإنه روي عنها أنها قالت :" لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم " وروي أنها كانت تأمر بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا على أن عملها معارض بعمل سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن كن لا يرين أن يدخل ( يُدخلن ) عليهن بتلك الرضاعة أحد من الرجال والمعارض لا يكون حجة وإذا ثبت أن رضاع الكبير لا يحرم ورضاع الصغير يحرم .
بدائع الصنائع 4/6 .

وقال الزيلعي – رحمه الله - :" ولنا أن إرضاع الكبير منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام "
تبيين الحقائق 2/182 .

وقال ابن رشد – رحمه الله - :" واختلفوا في رضاع الكبير فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وكافة الفقهاء : لا يحرم رضاع الكبير ، وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه يحرم ، وهو مذهب عائشة ، ومذهب الجمهور هو مذهب ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام "
بداية المجتهد 2/30 .

وقال الوزير ابن هبيرة – رحمه الله - :" واتفقوا على أن رضاع الكبير غير محرم " .
اختلاف الأئمة العلماء 2/204 .

وقال الطاهر بن عاشور – رحمه الله - :
" والأصحّ هو القول الأوّل ( أي في العامين ) ؛ ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك ، وما روي أنّ النبي أمر سَهْلَة بنتَ سُهيل زوجةَ أبي حُذيفة أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة لمّا نزلت آية { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمّهاتهم ، فتلك خصوصيّة لها ، وكانت عائشة أمّ المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجابَ أرضعتْه ، تأوّلت ذلك من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لِسَهْلة زوج أبي حذيفة ، وهو رأي لم يوافقها عليه أمّهات المؤمنين ، وأبَيْن أن يدخل أحد عليهنّ بذلك ، وقال به الليث بن سعد ، بإعمال رضاع الكبير . وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به .
التحرير والتنوير3/451 .

وقال ابن إبراهيم – رحمه الله - :" وأما رضاع الكبير الذي قد تجاوز الحولين فلا يؤثر ولا ينشر الحرمة ، وهذا هو قول الجماهير من الصحابة والتابعين والفقهاء ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وهو الصواب "
فتاوى ابن إبراهيم 11/154 .

ونقل ابن عبد البر – رحمه الله - : " أنَّ هذا القول ( أي عدم إنتشار الحرمة برضاع الكبير ) هو مذهب جماعة فقهاء الأمصار ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم ، والثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، والطبري . وقال به من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة ، وجمهور التابعين "
التمهيد 3/616 .

وقال شيخ الإسلام – رحمه الله - :" والرضاع إذا حرم لكونه ينبت اللحم وينشر العظم فيصير نباته به كنباته من الأبوين وإنما يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ولهذا لم يحرم رضاع الكبير لأنه بمنزلة الطعام والشراب ... " الفتاوى 3/167 .

وهو أحد القولين له وإن كان القول بالتفصيل هو الأرجح فقد نقله عنه أئمة أعلام كابن القيم والشوكاني وغيرهم – رحمهم الله - .

المرجحات والقرائن على أن رضاع الكبير لا تنتشر به المحرمية غير ما سبق ذكره من النصوص والنقول :

المرجحات :

• أن راوية الحديث وهي عائشة – رضي الله عنها – هي التي روت لنا حديث " إنما الرضاعة من المجاعة " والقاعدة الأصولية تقول :
( العبرة بما روى الراوي لا بما رأى ) .

• أن عمل الصحابة جميعهم على خلاف عمل عائشة – رضي الله عن الجميع – كما نقل البابرتي – صاحب كتاب العناية – ولا يتفق في سُنةٍ أن لا يعمل بها أحد من الصحابة سوى واحد فقط مع بلوغها لهم ( وفرق هنا بين الرواية والعمل ) .

• أن الخلاف عند أهل العلم قائم على عمل الصحابي الذي لم يوجد له مخالف من الصحابة هل يعتبر حجة أم لا ؟ فما بالك بعمل لم ينقل عن أحدهم العمل به سوى عائشة – رضي الله عن الجميع – بل نقل مخالفتهم له , مع ورود الدليل وعلمهم به , كما هو الحال مع أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن - .

• أن القول بالإطلاق ينسبه القائلون به إلى حديث عائشة – رضي الله عنها – والقائلون بالتفصيل ينسبونه لحديث عائشة أيضا , فهنا يقع اضطراب في المآخذ والقاعدة الأصولية تقول
" إذا طرق الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال " .

ولعلي أكتفي بهذه المرجحات أما القرائن على أن رضاع الكبير خاص بسالم مولى أبي حذيفة – رضي الله عنهما - :

القرائن

• أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا لسهلة زوجة أبي حذيفة , ولم يقله لغيرهم مع أن أسامة بن زيد – رضي الله عنه وعن أبيه – هو أبن زيد بن حارثة والذي ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يدخل عليه في كل وقت وكان بالمنزلة العظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان حِبه وأبن حِبه , ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاعة , وأوضح من ذلك أنس بن مالك – رضي الله عنه – خادمه الذي يخدمه في بيته ويطلع على بعض الأمور التي لا يطلع عليها غيره كحال الخادم مع مخدومه ولم يثبت هذا في حقه .

• أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة امرأة أبي حذيفة في إرضاع سالم كان بينه وبينها ولم يكن مشهورا حتى بلغته عائشة – رضي الله عن الجميع – ولو كان عاماً لكان إنتشاره أظهر من هذا.

• يحتج بعضهم بأنه لو كان خاصاً بسالم لكان في لفظ الحديث ما يدل على أنه خاص كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة بن نيار – رضي الله عنه – في التضحية بالعناق " نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك " , فذكر هنا أنها خاصة به دون غيره وفي حديث سهلة لم يذكر هذا , والرد على هذا أن قول النبي صلى عليه وسلم لأبي بردة كان من على المنبر كما في الصحيحين وهذا أمر عام ولو لم يبين أنه خاص بأبي بردة لبقي العموم على عمومه , أما حديث رضاع سالم فكان خاصاً بينه صلى الله عليه وسلم وبين سهلة ويبقى الخصوص على خصوصه .

• يستدل أصحاب القول بالتفصيل بجواز الإرضاع في حال المشقة كحال سالم وسهلة – رضي الله عنهما – وهذا التخصيص يحتاج إلى دليل والحال ليس دليلا يحتج به , وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما كان فيه مشقة ربما تزيد على المشقة الواقعة على سهلة وسالم ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم " إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو ؟ قال الحمو الموت " . مع أن بعض أخوة الزوج من ليس لديه مسكن إلا مع أخيه , ومعلوم حال الصحابة في ذلك الوقت , وقلة ذات أيديهم , وصغر بيوتهم وحاجة أخو الزوج للدخول بيت أخيه في غيابه ظاهرة , فلو كان رضاع الكبير جائزاً بإطلاق أو حتى جائزاً بوجود المشقة , لرخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولم يكن من هذا شيء .
( والقرينة الأخيرة أفدتها من كلام الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - ) .


وفيما سبق من الأدلة والنقول والقرائن والمرجحات يترجح القول بعدم جواز رضاع الكبير وأن واقعة سالم مولى أبي حذيفة ( واقعة عين ) وهي خاصة به – رضي الله عن أصحاب رسول الله - .

ذكر حافظ حكمي – رحمه الله –
من أوجه ترجيح الأقوال أن تتعارض الأقوال فقال :" ومن ذلك كون الراوي لأحدهما قد روى عنه خلافه فيتعارض روايتاه ويبقى الآخر سليماً عن المعارضة : كحديث أم سلمة : " لا يحرم من الرضاع غلاما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" مع حديث عائشة في "الصحيحين" : "أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم محتجة بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي ( امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً وكان يدخل عليها بتلك الرضاعة" فتعارض الحديثان لكن ثبت عن عائشة في "الصحيحين" أن رسول الله ( قال لها : "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة" فتعارض روايتا عائشة وبقى حديث أم سلمة سليماً من المعارضة فرجح ، وهذا هو مذهب الجمهور وهم الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة والأكابر من الصحابة وسائر أزواج النبي ( سوى عائشة رضي الله عنهن ورأوا حديث سالم المتقدم من الخصائص ومن ذلك تقديم الخاص على العام ، والمطلق على المقيد ، والمنطوق على المفهوم ، وغير ذلك .
دليل أرباب الفلاح 41 .

وختاما من هذه النقول نخلص إلى أن

القائلين بالجواز هم :

عائشة – رضي الله عنها - .

وروي عن عروة بن الزبير

الليث بن سعد

ابن حزم

داود الظاهري .

القائلين بالتفصيل هم :

شيخ الإسلام

ابن القيم

الشوكاني

الصنعاني

محمد صديق حسن خان

عبد الرحمن بن قاسم

الألباني

وبعض المعاصرين .

القائلين بالمنع مطلقا :

عمر بن الخطاب

علي بن أبي طالب

أبو هريرة

عبد الله بن عباس

عبد الله بن مسعود

عبد الله بن عمر

أبو موسى الأشعري

أمهات المؤمنين سوى عائشة

( ونـُقل إتفاق الصحابة على ذلك كما تقدم )

أبو حنيفة

مالك بن أنس

الشافعي

أحمد بن حنبل

الترمذي

الأوزاعي

سفيان الثوري

ابن أبي ليلى

إسحاق بن راهويه

أبو ثور

أبو عبيد

الطبري

القرطبي

البيهقي

ابن المنذر

الخطابي

ابن العراقي

الكاساني

الزيلعي

ابن رشد

ابن كثير

ابن الصباغ

ابن هبيرة

البابرتي

العيني

ابن حجر

ابن بطال

شيخ الإسلام على قول

ابن عاشور

ابن إبراهيم

حافظ حكمي

ابن باز

ابن عثيمين

( وهو قول الجماهير من التابعين والمعمول به في الأمصار الإسلامية في عهد السلف بدون مخالف في العمل )

( " رحم الله الجميع ورضي عنهم وأسكنهم فسيح جنانه " )

ومما تقدم يظهر أن القول الراجح ما رجحه أعلام السنة ومشاعل الهداية في كل عصر ومصر , أن رضاع الكبير لا تثبت به محرمية مطلقاً وأن واقعة سالم – رضي الله عنه – واقعة عين خاصة به دون سواه .

والله تعالى أعلم وأحكم .