المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجدل حول آية السيف: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة!!!



Albayaan
12 Jan 2011, 10:28 PM
مفاهيم جهادية.. بحاجة لتصحيح الجدل حول آية السيف

الدكتور يوسف القرضاوي (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/History/2001/article1.shtml)


من قرأ القرآن مكيَّهُ ومدنيَّهُ ـ مائة وأربع عشرة سورة ـ لاح له بغير خفاء أن القرآن من أوله إلى آخره كتاب دعوة وحوار، خطاب للعقول، وإقامة للحجج، وتفنيد للشبهات، وبيان لحقائق الدين، ورد على أباطيل الخصوم، وإيضاح لآيات الله في الأنفس والآفاق. فهو كتاب هداية وبيان، كما قال تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" (الإسراء: 9) ولهذا سماه الله نورا "وأنزلنا إليكم نورا مبينا" (النساء: 174).
كما أنه يتعامل مع المخالفين له بسماحة منقطعة النظير، يدعو على بصيرة، ويجادل بالتي هي أحسن، ويدفع بالتي هي أحسن، ويأمر بالصبر على أذى الخصوم، والصفح عنهم، وترك أمرهم إلى الله يحكم بينهم يوم القيامة. كما يدعو إلى الدخول في السلم كافة، والإعراض عمن تولى عن الدخول في الإسلام، ولا يشرع القتال إلا لرد العدوان، وقتال من يقاتل المسلمين، أو يفتنهم عن دينهم، أو يعذب المستضعفين منهم ممن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وإذا اضطر المسلمون إلى القتال فعليهم أن يلتزموا بآداب وأخلاق تقفهم عند حدود الله، فلا يقاتلون إلا من يقاتلهم، ولا يقتلون امرأة ولا وليدا ولا شيخا ولا راهبا في صومعته ولا فلاحا يحرث أرضه ولا تاجرا في متجره، ولا يخربون عامرا، ولا يقطعون شجرا، ولا يفسدون في الأرض.
هذه التعاليم القرآنية الواضحة التي تدل عليها عشرات الآيات، بل مئاتها، ذهب بعض المفسرين القدامى إلى أنها فقدت فاعليتها، وأن كل هذه الآيات في المصحف! موجودة حسا، معدومة معنىً، أو باقية تلاوة منسوخة حكما‍‍، وبمعنى آخر، إن هذه الآيات ـ التي قدرها بعضهم بـ114 آية، وبعضهم بـ 140 آية، وبعضهم بـ200 آية ـ قد ألغتها وقضت عليها آية واحدة، أو جزء من آية، أطلقوا عليها (آية السيف).
فإذا استشهدت بقوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة: 256) قيل لك: نسختها آية السيف.
أو بقوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" (النحل: 125) قيل لك: نسختها آية السيف.
أو بقوله عز وجل: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله" (الأنفال: 61) قالوا لك: نسختها آية السيف.
أو بقوله تعالى: "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا" (النساء: 90) قيل: نسختها آية السيف.
أو بقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم" (الممتحنة: 8) قيل: نسختها آية السيف!! ‍وهكذا الآيات الكثيرة الوفيرة.
كأنما أصبحت آية السيف نفسها سيفا يقطع رقاب الآيات، ويتركها جثة هامدة لا روح فيها ولا حياة، فهي متلوة لفظا ملغاة معنى. إذ حكم عليها بالإعدام!!
أي آية هي آية السيف؟
والعجب العجاب في هذا الأمر أنهم اختلفوا في تعيين هذه الآية -التي زعموها ناسخة لغيرها- أيّ آية هي من كتاب الله، وإن اتفقوا على أنها آية من سورة التوبة.
هل هي آية: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.." (التوبة: 5).
أو هي آية: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" (التوبة: 36).
أو هي آية: "انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" (التوبة: 41).
أو هي آية: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 29).

Albayaan
12 Jan 2011, 10:30 PM
بحث القضية من جذورها
ولا بد لنا أن نناقش هذه القضية الكبيرة مناقشة علمية هادئة، نؤصلها تأصيلا، ونردها إلى جذورها، وفق أصول الدين، وأصول الفقه، وأصول التفسير، وأصول الحديث، ولا نلقي القول جذافا، أو نتلقى كل ما في الكتب بالقبول، ونعتبرها قضايا مسلمة لا تقبل النقاش.
ومن هنا يجب علينا أن نبحث هنا بحثا عميقا حرا في عدة قضايا أساسية:
القضية الأولى: قضية النسخ في القرآن في ذاتها من حيث المبدأ، وهل هي قضية يقينية قطعية؟ أو هي قضية ظنية محتملة للخلاف؟
القضية الثانية: إذا سلمنا بمبدأ النسخ، وقامت الأدلة على جوازه ووقوعه في كتاب الله، فمتى يلزمنا القول بالنسخ؟ وهل كل ما قيل: إنه منسوخ، يقبل أم أن لذلك شروطا لا بد أن تتوافر؟
القضية الثالثة: إذا سلمنا بمبدأ النسخ، وقبلناه بشروطه، فهل هذه الشروط تنطبق على ما سموه (آية السيف)؟
وهنا يكون لزاما علينا أن نعين آية السيف أي آية هي؟ ثم نبين مناقضتها للآيات الكثيرة الأخرى، التي زعموها منسوخة بها؟ وأنه لا يمكن الجمع بين هذه الآيات وبينها. وأنها نزلت متأخرة عنها.
هذه القضايا الثلاث الكبيرة التي يجب أن تدرس وتبحث وتناقش بجدية وموضوعية في ضوء المسلمات والقواعد العلمية المقررة والمتفق عليها، سنبحثها هنا قضية بعد أخرى.

Albayaan
12 Jan 2011, 10:32 PM
قضية النسخ في القرآن
مما لا يشك فيه مسلم: أن هذا القرآن كلام الله تعالى لفظا ومعنى، ليس لجبريل فيه إلا النزول به من السماء إلى الأرض: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" (الشعراء:193-195) وليس لمحمد منه إلا تلقيه وحفظه، ثم تبليغه للناس وتلاوته عليهم: "سنقرئك فلا تنسى. إلا ما شاء الله.." (الأعلى: 6)، "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" (المائدة: 67)، "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون" (النحل:44).
فهو "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" (هود: 1)، "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" (فصلت: 42).
وإن الله تعالى أنزل هذا الكتاب، ليهتدي الناس بهداه، ويعملوا بموجبه، وينزلوا على حكمه، أيا كان موقعهم أو كانت منزلتهم، حكاما أو محكومين، يقول تعالى: "وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون" (الأنعام: 155)، ويقول: "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء" (الأعراف: 3)، ويقول: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" (النساء: 105)، ويقول: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق" (المائدة: 48)، ويقول: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) المائدة: 49.
فهذه النصوص كلها توجب على الأمة ـ بيقين لا ريب فيه ـ اتباع ما أنزل الله، والاحتكام إليه إذا اختلفوا، كما قال تعالى: "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" (الشورى: 10) أي إلى ما في كتابه، فهو الذي تضمن حكمه سبحانه. وقال تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" (النساء: 59). وقد أجمعت الأمة على أن الرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه.
وقال تعالى في شأن قوم: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا" (النساء: 61).
فكيف يسوغ للمسلم –بغير برهان قاطع- أن يأتي بعد هذه البينات إلى بعض آيات من كتاب الله، ليقول عنها: إنها ملغاة بطل مفعولها! بغير برهان من الله، يا للهول من هذا القول!
ولكن هذا ما حدث، فقد شاع القول بأن في القرآن آيات منسوخة، وأخرى ناسخة، وصنفت في ذلك الكتب، وتوارثه الخلف عن السلف، وأصبحت وكأنها قضية مسلمة، مع أن القضية ليس فيها نص قاطع ولا إجماع متيقّن!

Albayaan
12 Jan 2011, 10:36 PM
فما أدلة القائلين بالنسخ إذن؟
1ـ الدليل الأول من القرآن:
أول الأدلة وأبرزها قوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير. أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" (البقرة: 106 - 108)، فهذه الآيات الكريمات هي عمدة القائلين بالنسخ.
ومعناها عند عامة العلماء أو جمهورهم: ما قاله ابن جرير الطبري في (جامع البيان) ونقله عنه الحافظ ابن كثير: قال: "ما ننسخ من آية.." ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله ونغيره، وذلك: أن نحول الحلال حراما، والحرام حلالا، والمباح محظورا، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. قال ابن كثير: وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب، لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء، ولحظ بعضهم أنه: رفع الحكم بدليل شرعي متأخر[1] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#1). انتهى.
ومن أدلتهم من القرآن أيضا قوله تعالى: "وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون" (النحل: 101).
قالوا: المراد بالتبديل هنا: النسخ.
2ـ إقرار العلماء كافة بوجود النسخ:
ومن الأدلة على شرعية النسخ أن العلماء من قديم قالوا بمبدأ النسخ، وذهبوا إلى أن في القرآن آيات منسوخة، وإن اختلفوا فيها اختلافا كثيرا، فهذا يقول بنسخ هذه الآية، وآخر أو آخرون يعارضونه. ولكن المحصلة النهائية أنهم جميعا أقروا بقاعدة النسخ.
وقد ذكر ذلك في كتب التفسير كلها، كما ألفت كتب خاصة في الناسخ والمنسوخ في القرآن: لأبي عبيد، وأبي جعفر النحاس، وابن هبة الله الضرير، وابن العربي، وابن الجوزي، وغيرهم، ممن أحصاهم الدكتور مصطفى زيد -رحمه الله- في كتابه (النسخ في القرآن) وعقد لهم ولمؤلفاتهم فصلين كاملين من الباب الثاني في كتابه من: ص289، إلى: ص395، ومن الفقرات: 394 إلى 550.
ولكن الذي يتأمل ما جاء عن السلف فيما سموه (نسخا) يجد أن كثيرا منه ليس من النسخ المعروف عند المتأخرين في شيء، والآفة هنا تأتي دائما من إطلاق المصطلحات الحديثة موضع المصطلحات القديمة، مع تغايرهما وتباينهما، فقد كان المتقدمون من العلماء يريدون بالنسخ ما قد يسميه المتأخرون تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق، أو تفسيرا للمجمل، أو غير ذلك، ولا يعنون به (رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر).
وهذا ما نبه عليه المحققون من أمثال الإمام ابن القيم الحنبلي، والإمام الشاطبي المالكي، وهذا في المغرب، وذاك في المشرق.
يقول الإمام ابن القيم: "ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته تارة، وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق وغيرها تارة، إما بتخصيص عام أو تقييد مطلق، وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحدث المتأخر".[2] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#2)
ويقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي: "الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا. كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد".[3] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#3)
3ـ وجود المنسوخ بالفعل:
ومن أدلة القائلين بالنسخ: وجود المنسوخ بالفعل، وليس أدل على جواز الأمر من وقوعه بالفعل، فإن الوقوع أقوى من مجرد الجواز، فإن الشيء قد يكون جائزا ولا يقع.
ودليل الوجود بالفعل أمران:
الأول: وجود آيات متعارضة في القرآن، ولا يمكن الجمع بينها، ولا تفسير لهذا التعارض في كتاب الله، إلا أن إحداهما ناسخة والأخرى منسوخة. ولذلك أمثلة كثيرة ذكرها العلماء، مثل آية التخيير في الصوم: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" (البقرة: 184) عارضتها الآية التي تليها: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه" (البقرة: 185)، فالآية الأولى خيرت بين الصيام ودفع الفدية: طعام مسكين، والآية الثانية ألزمت بالصيام "فليصمه".
وفي البقرة أيضا: آيتا النساء المتوفى عنهن أزواجهن، الآية الأولى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف" (البقرة: 234).
والآية الأخرى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف".
قالوا: الآية الأولى نسخت الآية الثانية، وإن كانت قبلها في المصحف.
الثاني: ما ذكرناه من أقوال عدد من مفسري القرآن بوقوع النسخ في أعداد من الآيات وفي عدد من سور القرآن مكيّه ومدنيّه.

Albayaan
12 Jan 2011, 10:38 PM
ردود المنكرين للنسخ في القرآن
ولمنكري النسخ في القرآن وجهتهم وموقفهم من هذه الأدلة التي استند إليها المدعون للنسخ والمتوسعون فيه، ومن حقهم أن نستمع إليهم، لا سيما بعد إفراط المفرطين في دعاوى النسخ.
الرد على الاستدلال بآية: "ما ننسخ..."
أما ما استدل به القائلون بالنسخ ـ وهم جمهور علماء الأمة أو عامتهم ـ من قوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير..." البقرة: فإن الذين ينكرون النسخ لهم فيها نظر وتأويل يمكن أن يسمع.
فمنهم من قال: هذا في النسخ ما بين الشرائع بعضها وبعض، فمن المقرر المعروف أن الأديان السماوية كلها متفقة في أصولها العقدية، ولكنها مختلفة في أحكامها التشريعية، كما قال تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (المائدة: 48).
وهذا من الحكمة، لاختلافها بعضها عن بعض زمانا وظروفا وأوضاعا، ولهذا حرمت التوراة بعض ما كان حلالا لأولاد آدم من صلبه، مثل إباحة تزوج الأخ لأخته، نزولا على حكم الضرورة، وإلا لما تناسلت البشرية وما استمر النوع.
ومثل ما ذكره الله عن المسيح الذي قال لبني إسرائيل: "وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ" (آل عمران: 50).
فالمقصود بالنسخ في الآية الكريمة هنا نسخ بعض الأحكام التي جاءت بها التوراة أو الإنجيل من قبل، كما قال تعالى في وصف الرسول في التوراة والإنجيل: "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" (الأعراف: 156).
فقد ذكر لنا القرآن أن الله تعالى حرم على بني إسرائيل طيبات أحلت لهم بسبب ظلمهم وبغيهم، كما قال تعالى: "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (النساء: 161)، فجاء الإسلام فرد هذه الطيبات المحرمة إلى أصل الحل.
وهذه الآية "ما ننسخ من آية أو ننسها" قد جاءت في سورة البقرة تمهد لما شرعه الله تعالى لمحمد وأهل ملته من (نسخ القبلة) وتغييرها من (بيت المقدس) إلى (المسجد الحرام) كما كان يتمنى النبي -صلى الله عليه وسلم، ولذا قال له: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" (البقرة: 144). وقد أحدث يهود المدينة ضجة حول هذا التغيير، أو هذا النسخ للحكم القديم، ورد عليهم القرآن بقوله: "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (البقرة: 142).
فلا غرو أن تأتي هذه الآية في هذه السورة، لتمهد لهذه المعركة التي أشعلها اليهود ضد نسخ القبلة.
فهذا رأي من آراء العلماء – وأنا معهم: أن المراد بالنسخ النسخ الواقع بين الشرائع السماوية بعضها وبعض. وهذا لا ينبغي أن ينكر، فهو مقبول حكمة وعقلا، ثابت واقعا وفعلا.
ورُوي عن بعض السلف مثل الضحاك (ما ننسخ من آية): ما نُنسك[4] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#4). كأنه يشير إلى قوله تعالى: "سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ" (الأعلى: 7-8).
وقال عطاء: أما (ما ننسخ): فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم: يعني: ترك فلم ينزل على محمد -صلى الله عليه وسلم[5] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#5). انتهى.
يرى الأستاذ الإمام محمد عبده - كما نقل ذلك صاحب تفسير المنار - رأيا آخر في آية النسخ. فإنه فسر كلمة (آية) في قوله: (ما ننسخ من آية) بأن المراد بها الآية الكونية، مثل الآيات التي أيد الله بها رسله قبل محمد -عليه الصلاة والسلام. وأيد ذلك بأن الآية ختمت بقوله تعالى: "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" وهذا التذييل يناسب الآيات الكونية، وإلا لكان الأنسب أن يقال مثلا: ألم تعلم أن الله عزيز حكيم. وكذلك قوله بعدها: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" وقد سألوه آيات كونية، مثل: أرنا الله جهرة، ونحو ذلك، فهذا التعقيب أقرب إلى الآيات الكونية من الآيات التنزيلية والتشريعية.[6] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#6)
وبهذا نرى أن الدلالة في الآية ليست دلالة قاطعة على مشروعية النسخ في القرآن.
فلو كانت قاطعة ما وجدنا من العلماء القدامى من ينكر النسخ بالكلية مثل أبي مسلم الأصفهاني؟ وما وجدنا حديثا: من ينكر النسخ كذلك.
ولا أريد أن أخوض في ذلك أو أطيل، فهذا ليس موضوعنا، وإنما اضطررنا للخوض فيه من أجل توسع من توسع في القول بالنسخ بآية السيف.
إنما يكفينا هنا: أن نقول: إن الآية التي هي عمدة القائلين بالنسخ ليست قاطعة الدلالة على قولهم، مع أن قولهم بإنهاء حكم آية أو أكثر من كتاب الله من الخطورة ومن الأهمية، بحيث يحتاج إلى دليل قطعي يسنده، وإلا فإن الأصل أن آيات كتاب الله محكمة ملزمة، عامة دائمة ثابتة إلى يوم القيامة.
آية سورة النحل:
وأما الآية الأخرى من سورة النحل التي استدل بها القائلون بالنسخ، وهي قوله تعالى: "وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون" (النحل:101).
قالوا: المراد بالتبديل هنا النسخ.
ولكن المنكرين يقولون: إن هذه الآية من سورة النحل مكية بالإجماع، وفي العهد المكي لم يحدث أي نسخ في القرآن الكريم.
وما قيل في تأويل آية البقرة، يسهل أن يقال هنا، بل ربما كان أكثر قبولا.
2 ـ ليس في السنة دليل على النسخ في القرآن:
ثم إن من قرأ كتب الحديث الستة المعروفة، أو التسعة –بإضافة الموطأ ومسند أحمد والدارمي- أو الأربعة عشر، بإضافة مسندي أبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة – أو السبعة عشر- بإضافة صحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم – وأكثر منها: لم يجد فيها حديثا ثابتا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول فيه: إن الآية الفلانية في سورة كذا منسوخة وقد بطل حكمها، أو يقول: إن هذه الآية من سورة كذا قد أبطلت حكم آية كذا من سورة كذا.
فقد تلقى كُتَّاب الوحي وحفاظ القرآن وعامة الصحابة القرآن من فم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما أمره ربه أن يبلغه "...بلغ ما أنزل إليك من ربك..." ولم يسمعوا من رسول الله شيئا من ذلك.
كما أن الله تعالى كلفه ببيان القرآن المنزل عليه، كما قال تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" (النحل: 44)، ولم يكن في بيانه للقرآن طوال ثلاثة وعشرين عاما ما يفيد أن آية نسخت آية أخرى، مع أهمية هذا البيان وضرورته، وحاجة المسلمين الماسة إليه، وقد قرر العلماء أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لما فيه من إضلال الناس عن الحقيقة.
3 ـ لا إجماع على النسخ
وكما أنه لا يوجد دليل قاطع من القرآن على شرعية النسخ، ولا دليل قاطع ولا غير قاطع من الحديث النبوي، فكذلك لا يوجد إجماع من الأمة ـ التي لا تجتمع على ضلالة ـ على جواز النسخ ووقوعه في القرآن.
وقد عرفنا من المخالفين للنسخ في القرآن أبا مسلم الأصفهاني، الذي يذكر الإمام فخر الدين الرازي في (تفسيره الكبير) أقواله المعارضة للنسخ في الآيات التي اشتهر فيها القول بالنسخ، كما يذكر دليله على عدم قبول النسخ. ويبدو لمن يتأمل كلام الرازي ونقله عن أبي مسلم، وعدم رده على قوله، يبدو وكأنه يؤيده بوجه من الوجوه، وفي بعض الأحيان قال: رأى أبي مسلم -إن لم يسبقه إجماع- فهو قول صحيح حسن[7] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#7). وإن كلام أبي مسلم في تأويل بعض الآيات المدّعى نسخها لا يخلو من تكلف واعتساف.
وقد ذكر الإمام الزركشي في البرهان أن هناك من العلماء من نفى النسخ في القرآن، أو نفى النسخ بالكلية في الشريعة، فقد تكلم عن معنى النسخ ثم قال:
اختلف العلماء فقيل: المنسوخ ما رفع تلاوةً تنزيلُه، كما رفع العمل به، (يريد: أن ما بقي لفظُه متلوًا في القرآن لا ينسخ). ورد بما نسخ من التوراة والإنجيل بالقرآن، وهما متلوان.[8] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#8)
وقيل: لا يقع النسخ في قرآن يتلى وينزل. قال: ويفرّ هؤلاء من القول بأن الله ينسخ شيئا بعد نزوله والعمل به.
قال: والصحيح جواز النسخ ووقوعه سمعا وعقلا.[9] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#9) انتهى.
ومما يؤيد نفي الإجماع أنه لا توجد آية قيل بنسخها، إلا وجدنا من يخالف فيها من المفسرين المتقدمين.
ومعنى هذا أنه لا توجد آية في كتاب الله قد اتفق جميع العلماء على أنها منسوخة.
والأصل في آيات القرآن أن الله عز وجل إنما أنزلها ليُعمل بها، ويُهتَدى بهداها، لا ليبطل حكمها بآية أخرى. وإنه جعل هذا الكتاب متشابها يصدق بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا، ويتكامل بعضه مع بعض، كما قال تعالى: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" (النساء: 82)
يقول الإمام أبو محمد ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام):
لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ" (النساء: 64) وقال تعالى: "اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ.." (الأعراف: 3) فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ـ ففرضٌ اتّباعه، فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتّباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفترٍ مبطل، ومن استجاز خلاف ما قلنا ـ فقوله يئول إلى إبطال الشريعة كلها؛ لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة، وهذا خروج عن الإسلام، وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز لنا أن نسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله، إلا بيقين نسخ لا شك فيه..). [10] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#10)
وبعد الإمام ابن حزم، نجد الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي يؤكد ما قاله ابن حزم برغم تفاوت ما بينهما في الاتجاه، فابن حزم (ظاهري) والشاطبي ( مقاصدي). يقول الشاطبي في (موافقاته):
إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق. ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبرَ المتواتر؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعى نسخه فلا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام، مكية كانت أو مدنية...).
وبعد أن يقرر أن غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تؤمل وجد متنازعا فيه، ومحتملا، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني تفصيلا لمجمل أو تخصيصا لعموم... إلخ، وبعد أن يذكر أن ابن العربي قد أسقط من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة ـ نراه ينقل عن الطبري حكاية الإجماع عن أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت، ثم اختلافهم في نسخها، ليقول عقب هذا: قال النحاس: فلما ثبتت بالإجماع، وبالأحاديث الصحاح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجز أن تزال إلا بالإجماع، أو حديث يزيلها ويبين نسخها. ولم يأت من ذلك شيء[11] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#11). هذا فيما ثبت بالسنة فيكف بما ثبت بصريح القرآن؟

Albayaan
12 Jan 2011, 10:40 PM
التضييق في دعاوى النسخ
على أن الذي يهمنا هنا أن نقرره ونبينه ونثبته، هو التضييق الشديد في دعاوى النسخ في كتاب الله، فإن الله تعالى لم ينزل كتابه إلا ليهتدى بهداه، ويعمل بأحكامه، وكل دعوى لنسخ آية أو بعض آية منه فهي على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل لا يقبل إلا ببرهان يقطع الشك باليقين.
ولو طبقنا ما وضعه علماء أصول الدين وعلماء أصول الفقه وعلماء أصول التفسير وعلماء أصول الحديث من ضوابط وشروط، فإننا لا نكاد نجد آية في القرآن الكريم مقطوعا بنسخها، وما لم يقطع بنسخه فيجب أن يبقى حكمه ثابتا ملزما كما أنزل الله تعالى، ولا ننسخه ونبطل حكمه بمحض الظن، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا.
من شروط قبول النسخ
ومن شروط قبول النسخ عند من سلم به: أن يكون هناك تعارض حقيقي بين النص الناسخ، والنص المنسوخ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال من الأحوال، أما إذا أمكن الجمع ولو في حال من الأحوال، فلا يثبت النسخ؛ لأنه خلاف الأصل.
ولهذا رأينا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان) يرفض كثيرًا من دعاوى النسخ المروية عن بعض المفسرين إذا لم يجد تنافيا كاملا بين الناسخ والمنسوخ.
انظر قوله فيما رُوي عن قتادة في الآية الكريمة من سورة الأنفال: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله" (الآية:61)، فقد ذهب قتادة إلى أن هذه الآية كانت قبل نزول سورة (براءة)، فلما نزلت نسخت ذلك، بمثل قوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وقوله: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" فأمرت بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: لا إله إلا الله.
وورد عن عكرمة والحسن البصري ما يوافق قول قتادة، وإن جعلا الآية الناسخة من براءة: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
قال الطبري رحمه الله يرد هذه الدعوى:
"فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله -من أن هذه الآية منسوخة- فقول لا دلالة عليه من كتاب، ولا سنة، ولا فطرة عقل، وقد دللنا – في غير موضع من كتابنا هذا وغيره – على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائن ناسخا"[12] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#12).

Albayaan
12 Jan 2011, 10:42 PM
كيف يعرف النسخ؟
نقل السيوطي في إتقانه عن العلامة ابن الحصار قوله: "إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا".
قال: "وقد نحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدم والمتأخر".
قال: "ولا يعتمد في النسخ قول عوامّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد".
قال: "والناس في هذا بين طرفَيّ نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن تساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما"، انتهى.[13] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#13)
وأود أن أقول هنا: إني لا أعرف نقلا صريحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آية كذا نسخت آية كذا. ومن عرف ذلك فليدلني عليه.
وأما قول الصحابي: آية كذا نسخت آية كذا، فلا بد لقبوله من ثلاثة شروط:
الأول: أن يصح سنده عن الصحابي.
الثاني: ألا يكون قاله باجتهاد منه، ظنًا منه أن الآية معارضة للآية الأخرى، وقد لا يسلم له بذلك، فهو يكون رأيا منه يعارض برأي غيره.
الثالث: ألا تكون كلمة النسخ جارية على مفهوم المتقدمين، وهو ما يشمل: تخصيص العام، وتقيد المطلق، وتفصيل المجمل، والاستثناء والغاية وغيرها.
ويندر وربما يتعذر أن توجد لدينا آية تتحقق فيها هذه الشروط.
ومن المهم هنا أن ننتبه إلى أهمية الشرط الثالث هنا، فكثير من المتقدمين يقولون: آية كذا نسخت آية كذا، ولا يقصد بذلك ما يقصده المتأخرون بكلمة النسخ، فلم يكن هذا الاصطلاح قد استقر عندهم، كما استقر عند من بعدهم، وهو: رفع حكم شرعي بدليل متأخر، وهذا ما نص عليه المحققون من أمثال ابن القيم والشاطبي رحمهما الله. وقد سبق نقل قولهما.

Albayaan
12 Jan 2011, 10:44 PM
بحث في تعيين آية السيف:
قلنا: إن المفسرين، ومعهم الفقهاء: اختلفوا في تحديد (آية السيف) التي زعموا أنها نسخت ما نسخت من الآيات. وقد ذكروا آيات أربعا كلها من سورة التوبة. قيل عن كل منها: إنها آية السيف.
1ـ آية (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم):
ولعل أشهر الأقوال، هو: أن آية السيف هي قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم" (التوبة: 5).
وهي – كما هو واضح – تأمر بقتل المشركين حيث وجدوا، وبأسر من لم يقتل منهم، وبحصارهم وتضييق الخناق عليهم. لكن: من هم المشركون المقصودون في الآية؟ ومتى يقتلون؟
إن الآيات التي قبل هذه الآية تقول:
بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (التوبة:1-4).
وانظر: كيف احترم عهد هؤلاء المشركين، الذين عاهدهم الرسول والمسلمون، فوفّوا بعهدهم معهم، ولم ينقصوهم شيئا، مما فرضته المعاهدة ولم يظاهروا عليهم عدوا، فأمر الله تعالى أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم، فهذا من التقوى التي يحبها الله ويحب أهلها.
وبعد ما سموه آية السيف مباشرة نجد آية تقول:
" وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ" (التوبة: 6).
فهي تأمر بإجارة المستجير المشرك، وإتاحة الفرصة له حتى يسمع كلام الله، كما تأمر بأن يبلغ الموضع الذي يأمن فيه
(هنا ملحق ص: 138 من الطبري)
ثم تليها آيات أخر تعلل للأمر بقتلهم، وأنه لم يأت من فراغ ولا تعنت ولا اعتداء، فهم يصدون عن سبيل الله ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، ثم كيف نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دين الله، وهموا بإخراج الرسول، وبدءوا المؤمنين بالقتال أول مرة!!
يقول الأستاذ الدكتور مصطفى زيد في كتابه القيم عن (النسخ في القرآن):
فالمشركون الذين تتحدث عنهم آية السيف، هم إذن فريق خاص من المشركين: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد، فنقضوه، وظاهروا عليه أعداءه. وقد برئ الله ورسوله منهم، وآذنهم بالحرب إن لم يتوبوا عن كفرهم، ويؤمنون بالله ربا واحدا، وبمحمد نبيا ورسولا.
وهؤلاء المشركون أعداء الإسلام ونبيه ليسوا هم كل المشركين، بدليل قوله جل ثناؤه قبل آية السيف: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، وبدليل الأخبار التي تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم – أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد- فعهده إلى مدته"، ثم بدليل قوله تعالى بعد آية السيف (7): "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة:7).
وإنما هم قوم من المشركين، كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد إلى أجل، فنقضوه قبل أن تنتهي مدته...، وقوم آخرون كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد غير محدود الأجل. فهؤلاء وأولئك هم الذين أعلن الله عز وجل براءته هو ورسوله منهم، وأمهلهم أربعة أشهر من يوم الحج الأكبر (والمراد به يوم عيد النحر، وهو اليوم الذي نبذ إليهم فيه العهد على سواء)؛ ليسيحوا في الأرض خلالها حيث شاءوا، ثم ليحددوا فيها موقفهم من الدعوة إلى الإيمان بالله ربا واحدا: فإما تابوا فكان في استجابتهم لداعي الله خيرهم، وإلا فهي الحرب، وما تستتبعه من قتل وأسر وحصار وترقب[14] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#14)!
وإن الله جل ثناؤه ليبين لهم سبب حكمه هذا عليهم، في آيات تلي آية السيف..
أليسوا هم أئمة الكفر، يطعنون في دين الله، ويصدون الناس عن سبيله؟! ينقضون عهدهم مع رسول الله، ويظاهرون عليه أعداءه؟! ينافقون الرسول والمؤمنين، فيرضونهم بأفواههم، وتأبى قلوبهم أن تعتقد ما يقولون؟! ينكثون أيمانهم، فيهمون بإخراج الرسول، ويبدءون المؤمنين بالقتال في بدر؟! يتربصون بالمؤمنين، ويترقبون فرصة للانقضاض عليهم، دون رعاية لعهد ولا ذمة؟!
بلى، فليقاتلهم المؤمنون إذن؛ ليعذبهم الله بأيدي من يريدون هم أن يعذبوهم، وليخزيهم ويذلهم، ولينصر المؤمنين عليهم، فيشفى صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم!.. ثم ليتوب على من أراد له التوبة والسعادة في الدنيا والآخرة[15] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#15).
ليست الغاية إذن من قتالهم هي إكراههم على الدخول في الإسلام بقوة السلاح، وما كانت (الغاية) قط هذا الإكراه...
ولا أدل على هذا من قول الله عز وجل لنبيه، في الآية التي تلي آية السيف دون فاصل: " وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ " (التوبة:6)؛ فإن في هذه الآية أمرًا من الله عز وجل لرسوله بأن يجير من يستجير به من المشركين، ثم يدعوه إلى الإيمان بالله، ويبين له ما في هذا الإيمان من خير له، فإن هو ـ بعد هذا ـ أصر على ضلاله، واستمرأ البقاء على كفره بالله، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه المكان الذي يأمن فيه، فعلى الرسول أن يجيبه إلى طلبه، وأن يؤمنه حتى يصل إلى ذلك المكان.
هذا إلى تلك الآية التي تنفي جنس الإكراه في الدين نفيا صريحا قاطعا، وتعلل لهذا النفي حيث تقول: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) (البقرة: 256)، والآية الأخرى التي تستبعد أن يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم إكراه الناس على الإيمان، حتى لتحكم باستحالة هذا الإكراه إذا تقول: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (يونس: 99).
وإنما شرع القتال في الإسلام لتأمين الدعاة إليه، ولضمان الحرية التي تكفل لهم إبلاغ دعوته، ودرء الشبه عن عقيدته، بالمنطق السليم، والحجة المقنعة.
ومن أجل هذا خص أئمة الكفر بالأمر بقتالهم؛ لأنهم يحولون بالقوة بين الدعاة والشعوب التي يجب أن تدعى. ومن أجله علل الأمر بالقتال –ضمن ما علل به – بصد المشركين للناس عن سبيل الله، وقتالهم المؤمنين به. ومن أجله كذلك كان السبب في نبذ عهد فريق من المشركين إليهم أنهم نقضوه، فأعلنوا الحرب على الدعوة، وظاهروا أعداءها عليها!..
فإذا ما هيئت للدعاة وسائل الدعوة في أمن وحرية – فلا حرب ولا قتال؛ لأن دين الله حينئذ سيهدي بنوره كل ضال، ولأن بطلان الشرك بالله سيتضح يومئذ لكل مشرك، فلن يصر عليه إلا جاحد معاند مكابر في الحق، وهؤلاء قلة لا يؤبه لها، ولا بد منها في كل مجتمع؛ لتتحقق كلمة الله جل ثناؤه: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" (يونس:99)!.[16] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#16)انتهى.
ومما يذكر هنا: أن هناك من مفسري السلف من قال: أن آية السيف هذه منسوخة: نسختها آية أخرى في سورة محمد، وهي قوله تعالى: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها" (محمد: 4).
روى أبو جعفر النحاس هذا عن الحسن، وعن عطاء، وعن الضحاك، والسدي، فهم لا يجيزون قتل الأسير، لقوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء).
وروى نحو ذلك ابن جرير الطبري.
وروى الطبري عن الضحاك والسدي عكس ذلك، كما روى عن قتادة ومجاهد، بل ورد عن ابن عباس أيضًا: أن آية (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) نسخت آية : (فإما منا بعد وإما فداء).
وهناك قول ثالث روي عن ابن زيد: أن الآيتين جميعا محكمتان، وهو ما اختاره الطبري، حيث رد دعوى النسخ، لإمكان الجمع بين الآيتين، ولا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بينهما بوجه من الوجوه.
وكذلك قال النحاس في قول ابن زيد: وهو صحيح جيد بيّن، لأن إحدى الآيتين لا تنفي الأخرى.[17] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#17)
وهو ما أيده الإمام ابن عطية في تفسيره، معلقًا على قول ابن زيد: إن الآيتين محكمتان، قال: وقوله هو الصواب. والآيتان لا يشبه معنى واحدة معنى الأخرى.
ذلك بأن هذه الآية (فاقتلوا المشركين... وخذوهم واحصروهم): أفعال، إنما تتمثل مع المحارب المرسل المناضل، وليس للأسير فيها ذكر ولا حكم، وإذا أخذ الكافر (أسر) خرج عن درجات هذه الآية، وانتقل إلى حكم الآية الأخرى، وتلك الآية لا مدخل فيها لغير الأسير، فقول ابن زيد هو الصواب[18] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#18). انتهى.

Albayaan
12 Jan 2011, 10:46 PM
2 ـ آية (وقاتلوا المشركين كافة):
ومن الآيات التي قيل عنها: إنها آية السيف: قوله تعالى في سورة التوبة أيضًا: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين" (التوبة: 36).
وهي جزء من آية كريمة جاءت في سياق تعظيم الأشهر الحرم، التي لها حرمة خاصة، ينبغي أن تعظم، ويقدر قدرها، ومن ذلك: تحريم القتال فيها، فإنه من ظلم النفس الذي حرمه الله فيها. يقول تعالى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (التوبة:36).
فهذه الآية التي يزعمون أنها آية (قطع الرقاب) أو (آية السيف) تأتي في سياق تحريم القتال في الأشهر الحرم، أي فرض هدنة إجبارية على المسلمين إذا كتب عليهم القتال وهو كره لهم: أن يغمدوا السيوف، ويكفوا عن القتال أربعة أشهر في العام: ثلاثة سرد، أي متتابعة، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، أي منفرد وحده، وهو: رجب. أي يفرض عليهم ثلث العام هدنة للمسلم.
ثم يقول تعالى في الآية: "وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً" (التوبة:36)، فهي من باب المعاملة بالمثل، ومن عامل خصمه بمثل ما يعامله فما ظلمه.
وقد فسر الإمام الطبري الآية فقال: يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله –أيها المؤمنون– جميعا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعا، مجتمعين غير مفترقين، ونقل عن ابن عباس وقتادة والسدي ما يسند ذلك[19] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#19).
وواضح من هذا التفسير لشيخ المفسرين: أنه اعتبر كلمة (كافة) حالا من الفاعل، أي من واو الجماعة في قوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة). وهذا واضح من تفسيره، ومعناه: تجمعوا على قتال المشركين أيها المسلمون، كما يتجمع المشركون على قتالكم.
فهل تحمل هذه الآية بهذا المعنى أي دلالة من الدلالات التي يفهم منها قتال الناس كافة، من حاربنا منهم، ومن كف عنا وألقى إلينا السلم؟
وهناك احتمال آخر في الآية لم يذكره الطبري، وهو أن تكون (كافة) حالا من المفعول به[20] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#20) في الآية، وهو (المشركين) وضمير المفعول به في قوله: (يقاتلونكم) ويكون المعنى على ذلك: قاتلوا جميع المشركين كما يقاتلون جميع المسلمين. وحتى هذا ينبغي ألا يكون مثار كلام، لأنه معاملة بالمثل.
والعجيب أن نجد من العلماء من قال: إن هذه الآية – التي نسخت ما نسخت- منسوخة! ذكر ذلك ابن عطية – ونقله عنه القرطبي – عن بعض العلماء قال: كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان، ثم نسخ ذلك، وجعل فرض كفاية.
قال ابن عطية: وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ألزم الأمة جميعا النفر. وإنما معنى هذه الآية: الحض على قتالهم، والتحزب عليهم، وجمع الكلمة ثم قيدها بقوله: (كما يقاتلونكم كافة) فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا، يكون فرض اجتماعنا لهم.[ (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#21)

Albayaan
12 Jan 2011, 10:48 PM
آية (انفروا خفافا وثقالا):
ومن الآيات التي ذهب بعض المفسرين قديما إلى أنها آية السيف: قوله تعالى في سورة التوبة: "انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله".
قالوا: هذه الآية لم تدع لأحد عذرا: أيا كان تفسير: (خفافا وثقالا) فقد وردت عدة تفسيرات لها: شبابا وشيوخا، عزابا ومتزوجين، ركبانا ومشاة، نشاطا وغير نشاط، أغنياء وفقراء.
والآية تحتمل هذه المعاني كلها، فكل منها، يحمل معنى الخفة والثقل بوجه من الوجوه.
فقد فهم بعض الصحابة من هذه الآية: أن الجهاد فرض عين في كل حال، ولا يجوز للمسلم أن يتركه، ما دام قادرًا عليه، وإن بلغ من الكبر عتيا.
روي ذلك عن أبي طلحة الأنصاري، وأبي أيوب الأنصاري، والمقداد بن الأسود[22] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#22). كما روى عن سعيد بن المسيب.
قال البغوي: قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب رحمه الله إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر! فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب، كثرت السواد وحفظت المتاع!
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند صحيح عن أنس: أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية، فقال: ألا أرى ربي يستنفرني، شابا وشيخا؟ جهزوني! فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فما تغير![23] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#23)
وقد ذكر الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: أن هذه الآية: "انفروا خفافا وثقالا.." خوطب بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه، بحيث لا يتخلفون عنه، قال رحمه الله: إن الله جل ثناؤه: أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد وفي سبيله خفافا وثقالا، مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفة والثقل[24] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#24). فهو يرى الآية خطابا خاصا لأصحاب النبي في حياته.
والمراد بالخفة – كما يقول الإمام البقاعي: كل ما تكون سببا لسهولة الجهاد والنشاط إليه. (أي مثل الشباب والعزوبة والغنى والركوب والنشاط ونحوها) وبالثقل: كل ما يحمل على الإبطاء عنه (أي مثل الشيخوخة والزواج والفقر وعدم الركوبة والكسل ونحوها).
وقال أبو حيان: والخفة والثقل هنا: مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة، ومن يمكنه بصعوبة. وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه، فخارج عن هذا[25] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#25). انتهى.
وهذا يطابق الآية الكريمة في نفس السورة: "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه" (التوبة: 120).
وكأنّ الإمام الطبري لا يقر ـ بتأويله الذي ذكرناه ـ ما ذهب إليه الصحابة الكرام الذين استنبطوا من الآية وجوب الجهاد عليهم بصفة دائمة، حتى بعد رسول الله، وحتى بعد كبر السن وثقل الجسم.
والواضح أن من تدبر الآية الكريمة، وقرأ سباقها وسياقها، تبين له بجلاء: أن هذه الآية جاءت في سياق من استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد، فلا يجوز أن يتقاعسوا عن الاستجابة له، ويثاقلوا إلى الأرض، ومثله إذا استنفرهم كل ولي للأمر بعده، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، إذا استنفرتم فانفروا".[26] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#26)
ولهذا ذكر الحافظ بن حجر في (الفتح) ردا على من استدل بآية (انفروا خفافا وثقالا) على أن الجهاد فرض عين على كل حال: أن الأمر في هذه الآية مقيد بما قبلها، لأن الله تعالى عاتب المؤمنين الذين يتأخرون، بعد الأمر بالنفير، ثم قال: (انفروا خفافا وثقالا)[27] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#27).
كأن القرآن يقول: إذا قيل لكم: انفروا في سبيل الله، فانفروا خفافا وثقالا، ولا تثاقلوا عن النفير، وإلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم، فالأمر بالنفير هنا مبني على الاستنفار قبله.
وقد رد العلامة ابن قدامة على من احتجوا بآية (انفروا خفافا وثقالا) على أن الجهاد فرض عين: بقوله تعالى: "فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء:95)، وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، كما استدل بقوله تعالى: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة، ولولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا" (التوبة: 122)، ولأن الرسول كان يبعث السرايا: ويقيم هو وسائر أصحابه. قال: ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي إلى غزوة تبوك، وكانت إجابته واجبة عليهم، ولهذا هجر النبي كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا، حتى تاب الله عليهم[28] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#28). انتهى.

Albayaan
12 Jan 2011, 10:49 PM
4 ـ آية قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية:
ومن الآيات التي زعموا أنها (آية السيف): آية سورة التوبة في قتال أهل الكتاب، وهي قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 29).
قالوا: هذه الآية تأمر بقتال أهل الكتاب الذين وصفتهم الآية بما وصفتهم به، من اليهود والنصارى، ولم تشترط لقتالهم: أن يكونوا قاتلوا المسلمين، وعلى الذين آمنوا أن يقاتلوا هؤلاء حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ومن الواضح لمن تدبر آيات القرآن، وربط بعضها ببعض: أن هذه الآيات نزلت بعد غزوة تبوك، التي أراد النبي فيها مواجهة الروم، والذين قد واجههم المسلمون من قبل في معركة مؤتة، واستشهد فيها القواد الثلاثة الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم على التوالي: زيد بن حارثه، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة.
فالمعركة مع دولة الروم كانت قد بدأت، ولا بد لها أن تبدأ، فهذه الإمبراطوريات الكبرى لا يمكن أن تسمح بوجود دين جديد يحمل دعوة عالمية، لتحرير البشر، من العبودية للبشر: "أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" (آل عمران: 64).
وهم الذين بدءوا المسلمين بقتل دعاتهم والتحرش بهم، وهو المعهود والمنتظر منهم، فهذه معركة حتمية لا بد أن يخوضها المسلمون، وهي كره لهم.
الرسول الكريم أقدم على غزوة تبوك حين بلغه أن الروم يعدون العدة لغزوه في عقر داره في المدينة، فأراد أن يغزوهم قبل أن يغزوه، ولا يدع لهم المبادرة، ليكون زمامها بأيديهم. وهذا من الحكمة وحسن التدبير.
فالآية الكريمة هنا تأمر باستمرار القتال لهؤلاء الروم الذين يزعمون أنهم أهل كتاب، وأنهم على دين المسيح، وهم أبعد الناس عن حقيقة دينه.
ولكن هذه الآية لا تقرأ منفصلة عن سائر الآيات الأخرى في القرآن، فإذا وجد في أهل الكتاب من اعتزل المسلمين، فلم يقاتلوهم، ولم يظاهروا عليهم عدوا، وألقوا إليهم السلم، فليس على المسلمين أن يقاتلوهم، وقد قال الله تعالى: في شأن قوم من المشركين: "فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً" (النساء:90).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوا الحبشة ما ودعوكم"[29] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#29) والحبشة نصارى أهل كتاب، كما هو معلوم.
وقال العلامة رشيد رضا: في تفسير قوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا من ذكر: عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم، أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم، كما فعل الروم، فكان سببا لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما، فالقيد الأول لهم، وهو: أن تكون صادرة عن يد أي قدرة وسعة، فلا يظلمون ويرهقون، والثاني لكم، وهو: الصغار المراد به كسر شوكتهم، والخضوع لسيادتكم وحكمكم، وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم، التي يرونها أقرب إلى هداية أنبيائهم منهم. فإن أسلموا عم الهدى والعدل والاتحاد، وإن لم يسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل، ولم يكونوا حائلا دونها في دار الإسلام.
والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينيا أولى بان ينتهي بإعطاء الجزية، ومتى أعطوا الجزية: وجب تأمينهم وحمايتهم، والدفاع عنهم، وحريتهم في دينهم بالشروط التي تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين، ويسمون (أهل الذمة) لأن كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله. وأما الذي يعقد الصلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق، يعترف كل منا ومنهم باستقلال الآخر فيسمون (أهل العهد) والمعاهدين.[30] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#30)
وقال العلامة الشيخ محمود شلتوت في رسالته (القرآن والقتال):
(وقد جاء في سورة التوبة بعد هذه الآيات آيتان ربما أوهم ظاهرهما خلاف ما تقرر هذه الآيات في سبب القتال، نسوقهما هنا، ونبين ما يدلان عليه في ضوء الآيات المتقدمة التي تعتبر ـ لكثرتها ووضوحها ـ أصلا في مشروعية القتال وسببه يجب أن يتحاكم إليه ويخرج ما سواه عليه.
أولا: قوله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 29).
ثانيا: قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين" (التوبة: 123).
فالآية الأولى تأمر المسلمين باستمرار مقاتلة طائفة هذه صفتها (لا يؤمنون بالله، : إلخ) قد ارتكبت من قبل مع المسلمين ما كان سببا للقتال من نقض عهد وانقضاض على الدعوة، ووضع للعراقيل في سبيلها، فهي لا تجعل عدم الإيمان وما بعده سببا للقتال، ولكنها تذكر هذه الصفات التي صارت إليهم، تبيينا للواقع، وإغراء بهم مع تحقق العدوان منهم؛ غيروا دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دونه، يحللون لهم بالهوى ويحرمون، غير مؤمنين بتحليل الله ولا تحريمه، وليس عندهم ما يردعهم عن نقض عهد، ولا مصادرة حق، ولا رجوع عن عدوان وبغي.
هؤلاء هم الذين تأمر الآية باستمرار قتالهم حتى تأمن شرهم، وتثق بخضوعهم، وانخلاعهم من الفتنة التي يتقلبون فيها، وجعل القرآن على هذا الخضوع علامة، هي دفعهم الجزية، التي هي اشتراك فعلي في حمل أعباء الدولة، وتهيئة الوسائل إلى المصالح العامة للمسلمين وغير المسلمين.
وفي الآية ما يدل على سبب القتال الذي أشرنا إليه وهو قوله تعالى: (وهم صاغرون)، وقوله: (عن يد) فإنهما يقرران الحال التي يصيرون إليها عند أخذ الجزية منهم، وهي خضوعهم، وكونهم بحيث يشملهم سلطان المسلمين؛ وتنالهم أحكامهم، ولا ريب أن هذا يؤذن بسابقية تمردهم، وتحقق ما يدفع المسلمين إلى قتالهم.
هذا هو المعنى الذي يفهم من الآية، ويساعد عليه سياقها، وتتفق به مع غيرها، ولو كان القصد منها أنهم يقاتلون لكفرهم، وأن الكفر سبب لقتالهم لجعلت غاية القتال إسلامهم، ولما قبلت منهم الجزية وأقروا على دينهم.
أما الآية الثانية: (قاتلوا الذين يلونكم...) فليست واردة مورد الآيات السابقة في بيان سبب القتال وما يحمل عليه، وإنما جاءت إرشادا لخطة حربية عملية تترسم عند نشوب القتال المشروع فعلا، فهي ترشد المسلمين إلى وجوب البدء عند تعدد الأعداء بقتال الأقرب فالأقرب عملا، على إخلاء الطريق من الأعداء المناوئين، وتسهيلا لسبل الانتصار.[31] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#31)
وهذا المبدأ الذي قرره القرآن من المبادئ التي تعمل بها الدول المتحاربة في هذا العصر الحديث، فلا تخطو دولة مهاجمة خطوة إلا بعد إخلاء الطريق أمامها، والاطمئنان إلى زوال العقبات من سبيلها.
وبهذا يتبين أنه لا صلة للآيتين بسبب القتال الذي تضافرت الآيات الأخرى على بيانه[32] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#32). انتهى.

Albayaan
12 Jan 2011, 10:52 PM
بعض الآيات التي ادَّعوا نسخها بآية السيف:
لا يتسع المجال هنا لنتعرض للآيات الكثيرة والوفيرة التي زعموا أنها نسخت بآية السيف، فهذا ذكره يطول.
فإنهم لم يتركوا آية تدعو إلى الرفق واللين، أو العفو والصفح، أو الصبر والدفع بالتي هن أحسن، أو غير ذلك مما هو أساس في مكارم الأخلاق التي أعلن محمد عليه الصلاة والسلام أنه بعث ليتممها – إلا قالوا عنها: نسختها آية السيف.
فقوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن" (النحل: 125) قالوا : نسختها آية السيف.
وقوله تعالى: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (فصلت: 34) قالوا: نسختها آية السيف.
وقوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة: 256) قالوا: نسختها آية السيف.
وقوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" (الأعراف: 199) قالوا: نسختها آية السيف.
وقوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله" (الأنفال: 61) قالوا: نسختها آية السيف.
وقوله تعالى: "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا" (النساء: 90) قالوا : نسختها آية السيف.
وقوله تعالى لرسوله: "واتبع ما يُوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين" (يونس: 109) قالوا: نسختها آية السيف.
ومثلها كل ما أمر فيه الرسول بالصبر، مثل قوله تعالى: "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" (الروم: 60)، وقوله تعالى: "فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم" (الأحقاف: 35)، وغيرها.
وسنختار هنا بعض هذه الآيات مما يحتاج إلى بيان في موضوع الجهاد والقتال، لنلقي عليها شعاعا، يبين الصواب من الخطأ، ويميز الحق من الباطل.

Albayaan
12 Jan 2011, 10:56 PM
أـ آية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم):
ومن الآيات التي ادعوا فيها أنها نسختها (آية السيف) قوله تعالى في سورة البقرة: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 190). والمراد: نسخت مفهومها. إذ مفهوم المخالفة في قوله "قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم": ألا نقاتل من لا يقاتلنا.
قال أبو جعفر النحاس:
قال ابن زيد[33] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#33): هي منسوخة، نسخها: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" (التوبة: 36).
وعن ابن عباس: أنها محكمة، روى عنه ابن أبي طلحة: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" قال: لا تقتلوا النساء والصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده، فمن فعل ذلك فقد اعتدى.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين، من السنة والنظر.
فأما السنة، فحدثنا بكر بن سهل قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فكره ذلك ونهى عن قتل النساء والصبيان[34] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#34). وهكذا يروي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب: لا تقتلوا النساء والصبيان والرهبان في دار الحرب فتعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين.
قال أبو جعفر: والدليل على هذا من اللغة: أن (فاعَل) يكون من اثنين، فإنما هو من أنك تقاتله ويقاتلك، فهذا لا يكون في النساء ولا الصبيان، ولهذا قال من قال من الفقهاء[35] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#35): لا يؤخذ من الرهبان الجزية، لقول الله عز وجل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر..." إلى "..حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 23). وليس الرهبان ممن يقاتل، فصار المعنى: فقاتلوا في طريق الله وأمره: الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، فتقتلوا النساء والصبيان والرهبان، ومن أعطي الجزية، فصح أن الآية غير منسوخة[36] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#36). انتهى.
ونحن مع الإمام أبي جعفر النحاس في أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة، إذ الأصل في آيات القرآن هو الإحكام، وجاء حكمها ساريا نافذا، ولا نسخ إلا بدليل قاطع، ولا دليل. ونزيد على ما قاله أبو جعفر: أنها نهت بمفهومها عن قتال من لم يقاتلنا، ولم ينسخ هذا المفهوم أيضا.

Albayaan
12 Jan 2011, 10:58 PM
ب ـ آية: (لا إكراه في الدين):
ومن الآيات التي قالوا: إن آية السيف نسختها قوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة: 256).
والذي أراه: أن مثل هذه الآية لا تنسخ؛ لأنها معللة بعلة لا تقبل النسخ، فهي تبين أن الدين الحق –وهو دين الإسلام- لا يقبل الإكراه، ولا يجوز الإكراه، لعلة ظاهرة، وهو: أنه لا يحتاج إلى إكراه قط، لجلاء بنيانه، ووضوح دلائله، يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية: يقول تعالى: (لا إكراه في الدين): أي لا تكره أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره له، ونور بصيرته: دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاما. انتهى[37] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#37).
ومما يحتج به لهذا القول: ما ذكره أبو جعفر النحاس في (الناسخ والمنسوخ) بإسناده إلى زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق، قالت العجوز: أنا عجوز كبيرة، وأموت إلى قريب. فقال عمر: اللهم اشهد. ثم قال (لا إكراه في الدين)[38] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#38).
ورجح النحاس أن الآية مخصوصة بأهل الكتاب، لما رواه النسائي، بإسناده إلى ابن عباس قال: كانت المرأة تجعل على نفسها –إن عاش لها ولد- أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار! فقالت الأنصار: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
قال أبو جعفر: قول ابن عباس في هذا الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي، فلما خبر أن الآية نزلت في هذا، وجب أن يكون أولى الأقوال، وأن تكون الآية مخصوصة.[39] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#39)
ونحن مع أبي جعفر النحاس، ومع ابن عباس رضي الله عنهما في أن الآية نزلت فيما ذكره من قصة الأنصار، ولكن المقرر عند جمهور العلماء: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ الآية عام، يتناول السبب وغيره.
ومما يؤكد ما جاءت به هذه الآية من نفي الإكراه بصيغة مطلقة: ما جاء القرآن المكي من مثل قوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس:99) بهذا الاستفهام الإنكاري، وقوله تعالى على لسان نوح لقومه: "أَرَأَيْتُمْ إِن كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ" (هود:28).
ومما يؤيد ما دلت عليه الآية من النفي المطلق للإكراه في الدين: ما عللت به الآية ذلك. بقوله تعالى: (قد تبين الرشد من الغي) فلا حاجة إذن إلى الإكراه، ولا مبرر له.

Albayaan
12 Jan 2011, 11:00 PM
جـ ـ آية (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها):
يقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها...).
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما تخافن من قوم خيانة أو غدرا، فانبذ إليهم على سواء، وآذنهم بحرب، وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب: إما بالدخول في الإسلام، أو بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح، فاجنح لها، بقول: فمل إليها وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه.
ثم ذكر الطبري قول قتادة وابن زيد بأن هذه الآية نسختها آية براءة (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)... إلخ ثم رد عليه قائلا: فأما قول قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فنقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة، ولا فطرة عقل.
قال: وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره، على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخا[40] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#40). انتهى.

Albayaan
12 Jan 2011, 11:02 PM
د ـ من عجائب ما قالوا في النسخ:
ومن عجائب ما قالوا في النسخ في القرآن: ما قاله الإمام أبو بكر بن العربي: من أغرب آية في النسخ، قوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" (الأعراف: 199)، أول الآية منسوخ، وآخرها منسوخ، وأوسطها محكم[41] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#41)!! يعني قوله تعالى (خذ العفو) منسوخ، وقوله: (وأعرض عن الجاهلين) منسوخ. وطبعا الناسخ هنا: آية السيف فيما يزعمون.
وهذا مع أن هناك من المفسرين من قالوا: إن هذه الآية جمعت مكارم الأخلاق، فكيف تنسخ، والرسول عليه السلام قد قال عن نفسه "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" أو مكارم الأخلاق"[42] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#42).
فأما قوله: (خذ العفو) ففسر بأخذ العفو من المال، وقيل: نسخته الزكاة المفروضة. وفسر بأنه أخذ العفو من أخلاق الناس، يعني الأمر بالاحتمال، وترك الغلظة والفظاظة، كما قيل وجاء هذا التفسير عن عبد الله وعروة ابني الزبير بإسناد صحيح[43] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#43).
قال النحاس: وهذا أولى ما قيل في الآية، لصحة إسناده، وأنه عن صحابي يخبر بنزول الآية، وإذا جاء الشيء هذا المجيء لم يسع أحدًا مخالفته، والمعنى عليه: (خذ العفو): أي السهل من أخلاق الناس، ولا تغلظ عليهم، ولا تعنف بهم. وكذا كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم: أنه ما لقي أحدًا قط بمكروه في وجهه، ولا ضرب أحدًا بيده، وقيل لعائشة رضوان الله عليها: ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خلقه القرآن[44] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#44).
ورجح الطبري أن هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بالكفار، أمره بالرفق بهم بدلالة السياق[45] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#45).
وخالفه غيره، فقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بالأخلاق السهلة اللينة لجميع الناس، بل هذا للمسلمين أولى، وقد قال ابن الزبير – وهو الذي فسر الآية: والله لأستعملن الأخلاق السهلة ما بقيت، كما أمر الله عز وجل[46] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#46). فهو يراها محكمة باقية.
وفي الآية (وأمر بالعرف) والعرف: هو المعروف، وهو: أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وقد جاء هذا في الحديث.
ومنها: (وأعرض عن الجاهلين) زعم ابن زيد: أن هذا منسوخ بالأمر بالقتال، وقال غيره: ليست بمنسوخة، وإنما أمر باحتمال من ظلم. وما بعد هذه الآية يدل على ذلك: "وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله" (الأعراف: 200).
وقد فسر ابن القيم هذه الآية الكريمة تفسيرًا حسنًا في سياق حديثه عن جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان تعامله مع الناس.
قال رحمه الله في الهدي النبوي:
(فأمره -عز وجل- باتقاء شر الجاهلين بالإعراض عنهم، وباتقاء شر الشيطان بالاستعاذة منه، وجمع له في هذه الآيات مكارم الأخلاق والشيم كلها، فإن ولي الأمر له مع الرعية ثلاثة أحوال: فإنه لا بد له من حق عليهم يلزمهم القيام به، وأمر يأمرهم به، ولا بد من تفريط وعدوان يقع منهم في حقه، فأمر بأن يأخذ من الحق الذي عليه ما تطوعت به أنفسهم وسمحت به، وسهل عليهم، ولم يشق، وهو العفو الذي لا يلحقهم ببذله ضرر ولا مشقة، وأمر أن يأمرهم بالعرف، وهو المعروف الذي تعرفه العقول السليمة، والفطر المستقيمة، وتقر بحسنة ونفعه، وإذا أمر به يأمر بالمعروف أيضا لا بالعنف والغلظة. وأمره أن يقابل جهل الجاهلين منهم بالإعراض عنه، دون أن يقابله بمثله، فبذلك يكتفي شرهم.)[47] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#47)
ومن الخطأ البين، أن يعتبر كل أمر جاء به القرآن بالإعراض عن المشركين: منسوخًا بآية السيف، فهذا من التوجيه الخلقي، في القرآن، وتكوين الجانب الأخلاقي في الشخصية الإسلامية.
وقد جاءت عدة آيات تأمر بذلك، وذكر ابن كثير وغيره في تفسيرها: أنها محكمة غير منسوخة.
منها ما جاء في سورة الأنعام: "اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" (الأنعام: 106)، فهو مأمور أن يتبع وحي الله إليه، مؤتمرا بأوامره، منتهيا عن نواهيه، معرضا عن المشركين، غير مبال بهم، وفي سورة الحجر: "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" (الحجر: 94).
أمره أن يصدع بما أمره الله به، مبلغا رسالة ربه، ولا يبالي بالمشركين الذين يقفون في وجهه، ويصدون عن سبيله.
وفي سورة السجدة يقول تعالى: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ" (الآيات: 28 - 30).
يذكر القرآن هنا: أن المشركين يستعجلون يوم الفتح، وهو يوم القضاء والفصل بينهم وبين المسلمين. وهو: إما يوم القيامة، الذي يفصل الله فيها بين الخلائق جميعا، أو يوم العذاب الذي ينزل الله فيه بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وإن أي لم ينفع هؤلاء الإيمان لو آمنوا؛ لأنه إيمان المضطر الذي لم يعد له خيار، فلا يقبل كما قال تعالى: "فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا" (غافر:85).
فأمر الرسول أن يعرض عنهم، كما قال ابن كثير: أي أعرض عن هؤلاء المشركين، وبلغ ما أنزل إليك من ربك، وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعدك، سينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، وقوله: (إنهم منتظرون): أي أنت منتظر، وهم منتظرون، يتربصون بكم الدوائر، وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم... إلخ[48] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#48).
وفي سورة النجم يقول تعالى: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا. ذلك مبلغهم من العلم" (النجم: 29 - 30). والإعراض في الآية لا يخرج عن معناه في الآيات السابقة، وهو الذي مدح الله به جماعة من المؤمنين بقوله: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" (القصص: 55).
ومثل الأمر بالإعراض: الأمر بالتولي عن المشركين، كما قال تعالى: "فتولّ عنهم حتى حين" (الصافات: 171)، وقوله: "فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر" (القمر: 6)، وقوله: "فتولّ عنهم فما أنت بملوم" (الذاريات: 54).
وكما أمر الرسول الكريم أن يعرض عن المشركين: أمر أيضًا أن يعرض عن المنافقين، كما في قوله تعالى في سورة النساء: "أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا" (النساء: 63).
وفي نفس السورة يقول سبحانه عن هؤلاء المنافقين: "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً" (النساء:81).
فالإعراض عن المنافقين في الآيتين لا يتصور أن يدعى أنه نسخ بآية السيف، لأن المنافقين لا يجاهدون بالسيف، إذ هم في الظاهر مسلمون، تجري عليهم أحكام المسلمين، ولكن معنى الإعراض عنهم: ألا يبالوا بهم وبمكايدهم، ولا يجعل موقفهم عقبة في سبيل دعوته.
وروى البخاري في التفسير باب "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"... حديث ابن عباس: أن عيينة بن حصن ـ الزعيم البدوي القبلي المعروف ـ قدم المدينة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان ممن يدنيهم عمر ويستشيرهم.. فطلب منه عيينة أن يستأذن له ليدخل على عمر، ففعل، وأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! فغضب عمر حتى همّ به.. فقال له الحر: يا أمير المؤمنين: إن الله تعالى قال لنبيه (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وإن هذا من الجاهلين: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله.[49] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#49)
فانظر: كيف استدل الحر بالآية، وكيف قبلها عمر، ووقف عندها، ولم يقل: إن هذه الآية منسوخة، فهذا لم يقله أحد من هؤلاء، لا عمر ولا تاليها الحر بن قيس، ولا راويها ابن عباس رضي الله عنهم جميعا.

Albayaan
12 Jan 2011, 11:03 PM
آية السيف نسخ آخرها أولها
ومن غرائب ما قالوه في النسخ ما ذكره العلامة ابن العربي في قوله: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار، والتولي والإعراض والكف عنهم، فهو منسوخ بآية السيف وهي قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" (التوبة: 5)، نسخت مائة وأربعا وعشرين آية، ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهو قوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتو الزكاة فخلوا سبيلهم" (التوبة: 19).[50] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#50)
وقد زاد الأستاذ الدكتور مصطفى زيد في كتابه القيم (النسخ في القرآن الكريم) على ذلك مما قال المفسرون وبعضهم، فأوصلها إلى مائة وأربعين آية، زعموا أنها نسختها آية السيف، وهي الآية التي ذكرها بان العربي عند الأكثرين، أو غيرها كما سنبين.
ورد الدكتور زيد رحمه الله على هذه الأقوال كلها ردا علميا رصينا موثقا بالأدلة.

Albayaan
12 Jan 2011, 11:07 PM
تأويل الزركشي لآية السيف ومعنى النسخ فيها:
وذهب الإمام الزركشي في (البرهان) مذهبا مغايرا لمن قبله في تأويل معنى النسخ الذي ذكروه بآية السيف، وتفسيره تفسيرا جديدا، بحيث لا يلغي حكم النص المنسوخ بالكلية، بل هو يبقى على سبب يرتفع بارتفاعه، ويعود بعوده وهو ما ذكره في بيان النوع الثالث من أنواع النسخ:
الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء[51] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#51) الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء؛ كما قال تعالى (أو ننسها) فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.
قال الزركشي:
وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف: أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا. وإلى هذا أشار الشافعي في (الرسالة) إلى النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة[52] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#52)، ثم ورد الإذن فيه، فلم يجعله منسوخا، بل من باب زوال الحكم لزوال علته؛ حتى لو فاجأ أهلَ ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي.
ومن هذا قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم…" (المائدة: 105)، كان ذلك في ابتداء الأمر[53] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#53)، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه. ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" عاد الحكم، وقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت هوى متبعا، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك"[54] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#54).
وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه: ما يليق بتلك الحال، رأفة بمن تبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة؛ فلما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره، أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من طالبة الكفار بالإسلام، أو بأداء الجزية – إن كانوا أهل كتاب- أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب.
ويعود هذان الحكمان – أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة (استخدام السيف) عند القوة – بعود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته[55] (http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2003/07/article04c.shtml#55). انتهى.
وقد نقل السيوطي في (الإتقان) معنى هذا النص، وإن لم يشر إلى أنه أخذه من الزركشي رحمه الله، كعادته فيما ينقل.
وهذا التفسير من الزركشي للنسخ بآية السيف يحسن أن يقبل إذا أخذناه في حالة الجهاد الواجب، مثل جهاد العدو إذا احتل أرضا وعجز المسلمون عن مقاومته، كما في حالة احتلال روسيا للجمهوريات الإسلامية، وضمها قسرا إلى الاتحاد السوفيتي، وإدخالها رغم أنفها وراء الستار الحديدي. فهنا نقول: الجهاد لمقاومة هذا العدو (منسأ) ومؤجل حتى تتاح الفرصة، وتواتي القوة لمقاومته، والتحرر من نيره، أما تفسير الإنساء هنا بأنه في حالة الضعف نكف أيدينا عن الناس، وفي حالة القوة نقاتل العالم كله: من قاتلنا ومن كف يده وألقى إلينا السلام، فهذا ما نرفضه؛ لأنه ينافي الآيات الأخرى في سورة البقرة وفي سورة النساء، وفي سورة الأنفال، وفي سورة الممتحنة وغيرها. بل في سورة التوبة نفسها، حتى بعض الآيات التي قيل فيها: إنها آية السيف، مثل قوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) لأن الآية هنا تأمر بالرد بالمثل. وهذا من العدل المشروع الذي لا يختلف في شرعيته اثنان.
وهل من المنطق أن نقول للناس (الأمريكان وأمثالهم): نحن لا يجب علينا أن نقاتلكم الآن، لأننا ضعفاء عسكريا، ولا نملك من الأسلحة ما تملكون، ولكن حين نملك مثل ما تملكون أو قريبا منه: سنقاتلكم جميعا؟!
هل يسوغ أن نقول هذا للناس: إننا تركنا قتالكم لضعفنا، ويوم نقوى ففرض علينا أن نغزوكم في عقر داركم حتى تسلموا أو تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون؟
إننا إذا قلنا هذا، فقد أغرينا العالم كله بحربنا، والوقوف ضد أطماعنا وتوسعنا، والتضامن لصد خطرنا، وإيقاف زحفنا!!.
وسيقول الناس عنا: إن أخلاقيات المسلمين غير ثابتة، فهم يبيحون لأنفسهم في حالة القوة ما لا يبيحون لها في حالة الضعف. ولا يمكننا أن نطمئن إلى المسلمين في معاهدة أو مصالحة، لأنهم يحترمون ذلك ما داموا عاجزين، فإذا قدروا تغير الحكم، وأباح لهم دينهم ما كان محظورا عليهم في التعامل مع الآخرين.
وهذه ـ ولا شك ـ سمعة سيئة للإسلام وأهله، تضر بهم وبدعوتهم، وتجعلهم أشبه بما كنا نعيبه على الغربيين، الذين يقولون: إن الغاية تبرر الوسيلة، وإن المعاهدات إنما هي حجة على الضعيف.



[1] تفسير ابن كثير (1/149) طبعة الحلبي.
[2] إعلام الموقعين (1/28، 29).
[3] الموافقات (3/75).
[4] انظر : تفسير ابن كثير (1/149) طبعة الحلبي.
[5] انظر : تفسير ابن كثير (1/149) طبعة الحلبي.
[6] انظر : تفسير المنار (1/414) وما بعدها. الطبعة الرابعة لدار المنار.
[7]
[8] في الأصل: بما نسخ الله من التوراة بالقرآن والإنجيل، وأعتقد أن في العبارة تقديما وتأخيرا. وقع سهوا من ناسخ أو طابع، فإن التوراة والإنجيل هما المنسوخان، وهما متلوان، وإلا لقال: وهي متلوة.
[9] البرهان: (2/30).
[10] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (4/84، 83).
[11] الموافقات (3/64). وقد أشار إلى أبي جعفر النحاس صاحب كتابـ(الناسخ والمنسوخ) وما أشار إليه من كتابه مذكور في ص761-764 طبعة مكتبة الفلاح. بتحقيق د. محمد عبد السلام محمد.
[12] انظر : تفسير الطبري : (14/40-42). والنسخ في القرآن (2/564، 565) .
[13] انظر السيوطي في الإتقان : (3/71، 72).
[14] انظر تفسير الطبري في الآيات 1- 5 في السورة : 14/ 95، 137.
[15] انظر تفسير الطبري في الآيات 6 – 15 في السورة : 138-162.
[16] انظر: النسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد (2/504، 507).
[17] انظر: تفسير الطبري (14/140) طبعة دار المعارف – والناسخ والمنسوخ للنحاس (494-496).
[18] انظر: المحرر الوجيز (6/412) طبعة قطر.
[19] تفسير الطبري (14 / 241، 242)
[20] في الكشاف في تفسير الآية: حال من الفاعل أو المفعول به (2/ 188، 189) .
[21] انظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية (6/486) طبعة مؤسسة دار العلوم بدولة قطر، وانظر : تفسير القرطبي (8/136) ، طبعة دار الكتب المصرية.
[22] انظر: تفسير الطبري (14/269) طبعة دار المعارف بتحقيق محمود محمد شاكر.
[23] انظر: نظم الدرر للبقاعي (8/478) طبعة العثمانية –حيد آباد – الهند.
[24] انظر : تفسير الطبري (14/ 260 – 270)
[25] نظم الدرر للبقاعي (8/477، 478) .
[26] متفق عليه، وقد تقدم عن ابن عباس. اللؤلؤ والمرجان (859و1219).
[27] الفتح (7/400) طبعة دار ابن حيان.
[28] المغني (13/6، 7).
[29] رواه النسائي في الجهاد في حديث طويل في قصة حفر الخندق. عن أبي سكينة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وتمامه: "واتركوا الترك ما تركوكم"، وحسنه الألباني في صحيح النسائي برقم (2976) وحسنه أيضا في صحيح الجامع الصغير (3384) وفي سلسلة (الصحيحة): (772).
[30] انظر: تفسير المنار (10/ 278، 279) .
[31] قد وقف بعض من يقصد الكيد للإسلام عند ظاهر هذه الآية: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) وزعم أن الدين الإسلامي يأمر بقتال الكفار عامة، حصل اعتداء منهم أم لم يحصل، حتى يؤمنوا ويدينوا بالإسلام – قال: وقد استقر الحكم في الشريعة على هذا. والواقع أن المراد من كلمة الكفار في الآية ونظائرها، المشركون المحاربون الذي قاتلوا المسلمين واعتدوا عليهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، ووقفوا فتنة للناس في دينهم وهم الذين تحدثت عن أخلاقهم أوائل سورة التوبة.
وكذلك المراد في كلمة (الناس) الواردة بحديث (أمرت أن أقاتل الناس)، فإن الذي يتوقف انتهاء قتاله على ما ذكر في الحديث بالإجماع هم مشركو العرب خاصة. أما غيرهم فيكفي في انتهاء قتالة أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وبهذا تتفق الآيات بعضها مع بعض، ويجمع بينها وبين الأحاديث ويسقط مثل ذلك الزعم الباطل. شلتوت.
[32] انظر: القرآن والقتال ص37- 78 طبعة دار الفتح ـ بيروت.
[33] هو محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ.
[34] الحديث متفق عليه، وقد تقدم.
[35] هكذا يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة وغيرهم، بخلاف الشافعية، فهو يرى أخذها من الرهبان، انظر: الأم: 4/98، المغني : 9/341.
[36] الناسخ والمنسوخ (107، 108) .
[37] تفسير ابن كثير (1/310) طبعة الحلبي.
[38] الناسخ والمنسوخ للنحاس (259) .
[39] المصدر السابق.
[40] انظر: تفسير الطبري (14/ 40-43) بتحقيق محمود محمود شاكر.
[41] انظر: أحكام القرآن : (1/338) والبرهان للزركشي (2/41) وقبل ابن العربي قاله هبة الله الضرير في كتابه.
[42] رواه ابن سعد في الطبقات والحاكم وصححه.
[43] رواه البخاري في التفسير. (4643، 4644) . وأبو جعفر النحاس في (الناسخ والمنسوخ) ص448.
[44] رواه مسلم في صلاة المسافرين باب صلاة الليل والوتر.
[45] انظر: جامع البيان (9/155) .
[46] انظر: الناسخ والمنسوخ (449).
[47] زاد المعاد (3/162) طبعة الرسالة.
[48] تفسير ابن كثير (3/464، 465) طبعة الحلبي.
[49] رواه البخاري في التفسير 4642).
[50] انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/41) ، والإتقان للسيوطي (3/69) وأحكام القرآن لابن العربي.
[51] إشارة إلى الآية 14 من سورة الجاثية.
[52] في الأصل (الرأفة) وهو تحريف ناسخ أو طابع يقينا. والدافة : القوم الذين دفوا أي دخلوا على المدينة من خارجها.
[53] هذا غير مسلم، فهذه الآية في سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن، فلا يعتبر ما نزل فيها (في ابتداء الأمر) .
[54] رواه أبو داود في الملاحم (4341) والترمذي في التفسير (3060) وقال: حسن غريب وابن ماجة في الفتن (4014) والحاكم وصححه (4/322) ووافقه الذهبي.
[55] البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 42، 43) طبعة عيسى الحلبي، بتحقيق أبو الفضل إبراهيم.

Albayaan
27 Jan 2011, 11:59 PM
إن الدين للعقلاء فقط: «كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون».

عبدالله الكعبي
29 Jan 2011, 12:49 AM
إن الدين للعقلاء فقط: «كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون».


بارك الله فيكم أخي الكريم البيان، وهذا جهد تشكر عليه

وحيث إني بعد لم أقرأ لنفاة النسخ، والأسماء التي ذكرتها فوق الرأس والعين، فلا تعليق لدي...
ولكني أود سؤالك، هل ثمة مفسدة تترتب على القول بالنسخ غير ما تعرض له القرآن الكريم من تشكيكات المستشرقين والعلمانيين مستغلين في ذلك موضوع النسخ خصوصا في موضوع آية السيف ونسخها ما سبقها؟ هل شكل هذا الاستغلال لباب النسخ باعثا ـ ولو في اللاوعي ـ لدى منكري النسخ من المعاصرين لتبني هذا الرأي مع أنه مهجور أصوليا، ولم يذكره العلماء إلا رأيا لليهود وبعض الشيعة وأبي مسلم الأصفهاني المعتزلي (على خلاف في تصوير مذهبه هل هو نفي للنسخ حقيقة أو للتسمية فقط)؟

ألا يُلقي مثل هذا الأمر لو ثَبت ظلالا من عدم الموضوعية على أبحاث نفاة النسخ، فأبحاثهم ربما تكون دفاعية مؤدلجة لا وصفية موضوعية وإن بدت في الظاهر كذلك.

واسمح لي بسؤال آخر ما هي الثمرة الفقهية المترتبة على مثل هذا الرأي؟ أعني قولهم هذا هل سيؤدي إلى تغيير بعض الأحكام التي قيل إنها منسوخة أم ماذا؟

عبدالله الكعبي
29 Jan 2011, 01:18 AM
أولا : اخي الكريم البيان وفقني الله وإياك لكل خير قولك : ( أما النسخ فهناك من ينكره ,وهناك من ضيق القول به . والقائلين به يقصرونه على الأحكام ) جانبت فيه الصواب فالنسخ جائز عقلا وشرعا بإجماع أهل العلم ولا أحد ينكره بل بإجماع أهل الشرائع وقد نقل الإجماع جل الأصوليين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية ولم ينكره إلا الشمعونية من اليهود وحكي ذلك عن أبي مسلم الأصبهاني المعتزلي وبعضهم يرى أنه لا يخالف في جوزاه وإنما يسميه تخصيصا فخلافه لفظي كما قال ابن دقيق العيد وابن السبكي وابن السمعاني والجلال المحلي وغيرهم .
وكيف يوجد من ينكره وهو بنص الكتاب : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )

ثانيا : اخي الكريم البيان وفقني الله وإياك :
عندنا أخي الكريم تقسيم يخص دلالات الفاظ من جهة الظهور والخفاء وهو تقسيمه قسمين ( عند الحنفية ) :
1 - الواضح ويدخل فيه أربعة أقسام : ( الظاهر والنص والمحكم والمفسر )
2 - والمبهم ويدخل فيه أربعة اقسام : ( الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه ) .
أما عند الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة فهم يقسمونه ثلاثة أقسام ( نص وظاهر ومجمل ويدخلون المتشابه ضمن المجمل وبعضهم يجعله قسماً مستقلاً )

والذي يهمنا الآن أن نعرف ما المراد بالمحكم والمتشابه من جهة اللفظ عند الحنفية :
المحكم هو ( اللفظ الذي دل على معناه دلالة واضحة قطعية لا تحتمل تاويلاً ولا تخصيصا ولا نسخاً )
وعليه فالمحكم عندهم مخصوص بأمور :
1 - أصول الدين التي لا تتغير كتوحيد الله والإيمان بالرسل والملائكة والكتب واليوم الآخر والإيمان بالقدر .
2 - قواعد الأخلاق وأصولها التي لا تتغير كالعدل والصدق وبر الوالدين والوفاء بالعهد ونحو ذلك .
3 - الأحكام الجزئية التي ورد التصريح فيها بالتأبيد اي أنه غير قابل للنسخ ومن امثله ذلك :
- قوله تعالى : (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما )
- وقوله في القذف : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً )
- قوله صلى الله عليه و سلم : " يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " رواه مسلم من حديث سبرة الجهني رضي الله عنه .
وهم يرون الأقسام الأربعة من الواضح كلها بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم من المحكم لكنه محكم لغيره والأول محكم بذاته .
والجمهور عندهم المحكم يشمل النص والظاهر هذا من جهة الوضوح في اللفظ .

أما المتشابه فله عندهم تعريفان :
- تعريف المتقدمين كالكرخي والجصاص وهو : ( ما يحتمل وجهين فأكثر ) وهو بمعنى المجمل عند الجمهور .
- تعريف المتأخرين ما بعد القرن الرابع كالدبوسي والبزدوي والسرخسي والنسفي : ( هو اللفظ الذي خفي معناه المراد خفاء من نفسه ، ولم يفسر بكتاب أو سنة فلا ترجى معرفته في الدنيا لأحد من الأمة أو لا ترجى معرفته إلا للراسخين في العلم )
وعرفه الآمدي من المتكلمين بقوله : ( ما تعارض فيه الاحتمال إما بجهة التساوي كالألفاظ المجملة أو لا على جهة التساوي كالأسماء المجازية .. )
ما حكم المتشابه ؟
حكمه عندهم أن يحمل على المحكم أي الواضح كما سبق .

ما هو مجال المتشابه ؟
مجاله عندهم ما لا يتعلق به تكليف .

التقسيم الأخر تقسيم النص من جهة الثبوت والزوال ينقسم قسمين ( محكم ومنسوخ ) فالمحكم هنا المراد به النص الذي بقي حكمه سواء كان نصا أو ظاهرا أو مجملاً أو متسابهاً .
والمنسوخ هو النص الذي رفع حكمه سواء كان نصا أو ظاهرا أو مجملاً أو متشابها .

وعليه فقد يكون اللفظ محكما أي واضحا في المعنى من نص أو ظاهر وينسخ وقد يكون محكما ولا ينسخ فيبقى محكما من جهة المعنى ومحكما من جهة الثبوت .
وقد يكون اللفظ متشابها فينسخ بمحكم وقد يكون متشابها ولا ينسخ .

بقي أن أوضح أمرا وهو أن النسخ كان عند السلف أعم منه عند المتأخرين فكانوا يطلقون النسخ على رفع الحكم كليا وهو النسخ عند المتأخرين ويطلقونه على تخصيص العام وتقييد المطلق وبيان المجمل .
والله أعلم

Albayaan
29 Jan 2011, 02:29 PM
وزعموا: أن آيات الصبر على التحامل والأذى والاستخفاف من مثل قوله سبحانه: «فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون».. «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل».. «فاصبر صبرا جميلا». زعموا أن هذه الآيات منسوخة بآية السيف.. وهذا زعم باطل مردود بحجج ثلاث:
الحجة الأولى هي: أن من منهج الرسل السابقين: أن يصبروا. وأن الرسول الخاتم مأمور بالاقتداء بمن سبقه من الرسل في منهج الصبر.. وشرع من قبلنا ملزم للرسول وأمته إذا جاء أمر بالتزامه..
والحجة الثانية: أن الصبر (سنة اجتماعية) بمعنى: أن التكاليف والعلوم والأعمال لا تنجز إلا بالصبر. وما كان سنة اجتماعية لا ينسخ..
والحجة الثالثة: أن الصبر قيمة اخلاقية عالية وعظيمة من صميم الاخلاق التي اجتمعت لنبي الإسلام، والادعاء بنسخ الصبر يتضمن الادعاء بنسخ قول الله لنبيه: «وانك لعلى خلق عظيم».

6 ـ وقالوا: إن آية السيف هي الناسخة للعهود والمواثيق، والمشخصة الناس للجهاد، أي الدافعة والمسيرة لهم لكي يقاتلوا..
وهذا كلام يتناقض مع منهج الإسلام في التعامل والعلاقات مع غير المسلمين.
ومن هنا فهو مردود ببراهين ثلاثة كذلك:
برهان: أن مطلع سورة المائدة نص على الوفاء بالعقود: «يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود».. وسورة المائدة آخر القرآن نزولا. أي نزلت بعد سورة التوبة ويستحيل أن ينسخ السابق اللاحق.. وبرهان: أن الوفاء بالعهود والعقود من عزائم الأخلاق. والأخلاق لا تنسخ، وإلا لقال الرسول ـ حاشاه ـ: إنما بعثت لأنقض مكارم الأخلاق..
وبرهان: أن سورة التوبة نفسها انتظمت آية تلزم بالوفاء بالعهود المبرمة مع المشركين غير المعتدين: «إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين»..
فمن تقوى الله ـ التي هي جماع الديانة ـ: أن يوفي المسلمون المتقون بالعهود على كل حال، ما دام الطرف الآخر موفيا بها.. وعلى الضد فإن صفة التقوى تنزع عمن ينقض الميثاق، ويخيس بالعهد.

هكذا.. بادعاء نسخ آيات:
نفي الإكراه في الدين.. والتسامح.. والبر.. والقسط.. والصبر.. والوفاء بالعهود، بآية السيف، وبتأويل هذه الآية تأويلا خاطئا..
بذلك انحرف مفهوم الجهاد عن موضعه عند فريق من المسلمين، فنشأت تصورات مضطربة جدا لعلاقة المسلمين بغير المسلمين.

زين العابدين الركابي

عبدالله الكعبي
29 Jan 2011, 03:11 PM
تعقيب على الأستاذ(زين العابدين الركابي)
حول مقاله(تحريف مفهوم الجهاد) في كتابه:الأدمغة المفخخة

وقد اطلعت مؤخراً على مقالة كتبها الأستاذ / زين العابدين الركابي ، بعنوان (تحريف مفهوم الجهاد /عصم الله النص القرآني من التحريف فعمد الغلاة إلى تحريف المعنى) وفيها من المغالطات الفقهية،والمجازفات السلوكية ما لو قرأها المنصف لخرج بذلك،ولا غرابة فنحن في زمن.

خلا لك الجو فَبِيْضِي واصْفُرِي ونَقِّرِيْ ما شئت أن تنقِّرِي
ولكن... ليس على كل حال ، فالمراقبون للكتابات في الأوساط الفكرية كُثُر، ويقع بعضها في الشباك (فلابد يوماً أن تصادي فاصبري) .

والعبث الفكري لا ينجح كل مرة ، وتبيين الحق أمر واجب وفرض علينا ، حتى نحفظ تراثنا الإسلامي من تشكيك المشككين، والحمد لله.. فإن:

الحق شمس والعيون نواظر لكنها تخفى على العميان

وبداية... فإني لا أريد من الأستاذ الركابي أن يتشنج معي ، في تقبل هذا التعقيب كما تشنج مع غيري، ومنهم رأي الداعية الذي بثه في مقاله (تحريف مفهوم الجهاد)، والذي سأذكره بعد قليل .

إنني أتمنى للركابي كل خير وبر وتوفيق ... فلست من دعاة الفرقة والاختلاف، بل من دعاة السنة والجماعة والائتلاف، و ليتنا جميعاً إن بدا قولنا خطأً مغايراً للكتاب والسنة بالفهم الصحيح الموافق لمراد الله ورسوله، أن نتراجع كما تراجع بعض علمائنا ـ رحمهم الله ـ عندما وقعوا في بعض الأخطاء فبان لهم أن قولهم خلاف الصواب... ، والله من وراء القصد.

* كثيراً ما يدعو الأستاذ /الركابي إلى تبني المنهج الموضوعي ، والتفكير العلمي الرصين مع الإنصاف والاعتدال، وقد ذكر شيئاً من ذلك في كتابه (( الأدمغة المفخخة)) قائلاً : ( تعالوا نبني هذا العالم الهادئ الآمن بما قل وكثر من العمل والتفكير والتعبير بالفكرة الرضية الندية...وبالكلمة الداعية إلى الله اللطيف الودود السلام، وإلى العدل والإنصاف والاعتدال.. وبالسلوك المتسامح.. وبالفعل الرفيق المسالم ، وبالأدمغة النظيفة.. من التفكير في الإثم والعدوان الملأى بمفاهيم السلام والأمن والمرحمة ومحبة الخير والأمن للإنسان..كل إنسان) انظر( صـ 13) .

ويحاول الركابي أن يطرح رؤيته الفكرية مع الكفار حيث علق على قوله تعالى :

(( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (الممتحنة:7) .

بقوله : (فهذه الآيات دعوة صريحة إلى الإيناس والإيلاف وفتح باب الاحتمالات الحسنة..) انظر( صـ 63) .

والحاصل أن الإنسان سيخرج بخلفية معينة عن هذا الكاتب بأنه متزن في الطرح، متوافق مع ما كتب آنفاً.

والآن... بين يدي مقالة الأستاذ الركابي: (تحريف مفهوم الجهاد) والتي ضمنها في كتابه الأخير(الأدمغة المفخخة) من (صـ 28إلى صـ 35) وفي هذا المقال اختيارات موفقة ، وتحليلات طيبة ، ومعالجة جيدة لبعض مظاهر العنف، إلا أن فيه من الأخطاء الواضحة والمغايرة للصواب ما هو ظاهر، كما أنَّ فيه الاستخفاف ببعض آراء العلماء ـ وإن لم يذكرها في ثنايا مقاله ويَعْزُهَا لأصحابها ـ ما يقف له شعر القارئ مستغرباً عمَّا انطبع في ذهنه بأن الركابي يناقش المسائل التي يخالفها بكل موضوعية وأدب ، مع الفهم الصحيح.

وفي هذا التعقيب لن أناقش جميع ما يؤخذ على الركابي في مقاله حيث أتى بمغالطات عدة كان من ضمنها تنصله من ذكر جهاد الطلب (انظر ص 32 ـ 33 ـ 34 في مقاله آنف الذكر) واشتراطه بأن يكون الجهاد للدفاع فقط ، ولا شك أنَّ هذا غلط ظاهر، وقول غير صحيح فإنَّ أئمة الإسلام قد أطبقوا على استنكار هذه الدعوى وأفردوها بكتب ومؤلفات عدَّة فلتراجع في مواطنها.

وسأقتصر في هذا التعقيب على مناقشة رأيٍ طرحه الركابي كان متشنجاً في نقاشه،ونصه ـ :

(( ومنذ قريب سمعت رجلاً داعية يقول : معنى الفيء : أن الأصل في المال هو للمسلمين ولذلك يجب أن ينتقل من الطارئين عليه، أي غير المسلمين إلى أصحابه الأصلاء وهم المسلمون) وهذه جهالة، بل حمق، بل جنون. فالله ليس هو رب هذا المتكلم فحسب، بل هو رب غير المسلمين كذلك : رب اليهودي والنصراني والوثني والملحد، رب كل إنسان، ولقد تجلى الرب على البشر الذين خلقهم بصفة الربوبية فأمدهم جميعاً بعطائه الجزيل : (( كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)) (الاسراء:20).

وبمقتضى مقولة : إن أصل الأموال والخيرات للمسلمين وإنها يجب أن تفيء أو تعود إليهم ، يجوز أو يحل نهب أموال غير المسلمين وسرقتها واغتصابها ومصادرتها، وعلى هذا يمكن لمسلم حاسد طامع ـ مثلاً ـ أن يستولي على بيت فخم جميل لإنسان غير مسلم، وحين يقاضيه صاحب البيت يدعي : أن أصل الملكية له هو لا لصاحب البيت!!.أي تفكير تافه..أي جنون.. أي انحطاط خلقي هذا؟!...ا.هـ ( انظرصـ31ـ32 )

وفي هذا الكلام السابق يتضح منه التهكم بهذا الداعية حين ذكر السبب الذي سُمِّيَ به الفيء بهذا الاسم، ولي معه عدة وقفات:

الوقفة الأولى : أما ما نقله الركابي عن هذا الداعية ، فإنه كلام صحيح لا غبار عليه، وهو عين ما ذكره الفقهاء في كتبهم فهذا الداعية لم يأت بجديد، أو أنه عارض الكتاب والسنة،وما ذكره فهو استنباط من ظاهر الآية وأحاديث المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد قعّدَ الفقهاء قاعدة فقهية جليلة وذكرها الإمام أبو الحسن الكرخي ـ رحمه الله ـ في أصوله بقوله : (الأصل أنَّ من ساعده الظاهر فالقول قوله والبينة على من يدعي خلاف الظاهر) أصول الكرخي صـ110 بواسطة الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للشيخ/البورنو صـ180 ، فلا عبرة بقول الركابي ما لم يستدل على نقده بدليل واضح وبرهان قاطع يدفع ذلك الظاهر ويرده.

ولو ذكر الركابي حقيقة أخرى علَّل بها سبب تسمية الفيء بذلك فقد يكون له وجه بالقبول ، إلَّا أنه قد تحمس برد ذلك السبب بكل سخرية وتهكم ، بل بنى على ذلك التعليل أحكاماً ألزم بها مخالفه، لم يقلها ولم تخطر على باله، وسيأتي بيانها ـ إن شاء الله ـ.

الوقفة الثانية : في هذه السطور سأذكر ـ بعون الله ـ شيئاً من كلام الفقهاء الذين سبقوا هذا الداعية بهذا التأصيل والتعليل من مئات السنين وأبين بأنه لم يفتئت على دين الله ـ عز وجل ـ، بل لم يأت بجديد في ذلك إلا أنه قد قال بمثل ما قالوا به، وحيث أنَّ كلامهم في ذلك كثير، وقد يطول ذكره فإني سأقتصر في النقل على كلام لأحد الأئمة 4المجتهدين ثم أعقبه بالعزو إلى أحد علماء كل مذهب ذكر ذلك ، ذاكراً المرجع ورقم المجلد والصفحة، ومن أراد مراجعة ذلك فليرجع إلى مدوناتهم ، ليتبين للركابي أنَّ هذا القول قال به أئمة المذاهب، وعلماء الإسلام ، ولم يقل به هذا الداعية المسكين فقط!

فلنعط القوس باريها ، ولنخل بين المطي وحاديها، ولنذكر كلام العلماء ورأيهم في الذي اعتبره الركابي (جهالة ـ بل حمق ـ بل جنون) !! والله المستعان.

(أ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ما نصه:

( وسمي الفيء فيئاً ، لأن الله أفاءه على المسلمين ، أي رده عليهم من الكفار؛ فإن الأصل أن الله ـ تعالى ـ ، إنما خلق الأموال إعانة على عبادته ، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها ، وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه ، وأفاء إليهم ما يستحقونه ، كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك) مجموع الفتاوى(28/276)

وهنا ـ تأمل ـ فإن ابن تيمية يعتبر أن الكافر كأنه غصب المال من المسلمين باستشهاده و تشبيهه بما لو غصب من الرجل ميراثه ثم عاد إليه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك.

وقال كذلك ـ يرحمه الله ـ ( وما لم يقاتلوا عليه فهو فيء ،لأن الله أفاءه على المسلمين ، فإنه خلق الخلق لعبادته ، وأحل لهم الطيبات ، ليأكلوا طيباً ، ويعملوا صالحاً ، والكفار عبدوا غيره، فصاروا غير مستحقين للمال، فأباح للمؤمنين أن يعبدوه وأن يسترقوا أنفسهم ، وأن يسترجعوا الأموال منهم ، فإذا أعادها الله إلى المؤمنين منهم فقد فاءت ، أي رجعت إلى مستحقيها) مجموع الفتاوى (28/562)
وبمثله قال ابن القيم في عدة الصابرين (صـ312ـ 313) ، ووافقهم الزركشي ـ الحنبلي ـ في شرحه على مختصر الخرقي (4/145)، والشربيني ـ الشافعي ـ في مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (4/145)، وأبو العباس القرطبي ـ المالكي ـ في المفهم شرح صحيح مسلم(3/557)،والقاضي ابن العربي ـ المالكي ـ في أحكام القرآن(4/1770) ـ (2/855)، والقاضي أبو السعود ـ الحنفي ـ في إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم(8/227) فليرجع إليها في مواضعها.

وليعلم أن هذا كله في المحاربين من الكفار للمسلمين بأن آذوهم كما آذى بنو النضير محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فخرج لقتالهم، أومن أرادهم المسلمون بجهاد الطلب ليحرروا الناس من عبودية الطاغوت ويزيلوا العوائق التي تحول بينهم وبين سماع دين الحق ، ويهدوهم إلى عبودية الله ـ عز وجل ـ فلو فر الكفار ولم يقاتلوا المسلمين فإن مالهم يرجع فيئاً للمسلمين، فتأصيل العلماء لهذا المبدأ جارٍ على هذه الأطر والضوابط ، ولهذا ذكر العلماء أنَّ الكافر إذا أسلم فإنَّ تملكه صحيح ولا يجبر بالخروج عنه، و لم يقل أحد منهم بأنه يجوز للمسلم أن يسرق أو ينهب مال الكافر إذا كان ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً، كما فهم ذلك الأستاذ الركابي ـ هداه الله ـ وجعله لازماً ومقتضى لمن يقول بأن الفيء أصله للمسلمين فإذا انتقل من الكفار فقد رجع إلى من يستحقه وهم المسلمون ، وعلى هذا فعندما ذكر الركابي أنه بمقتضى هذا القول (يمكن لمسلم حاسد طامع أن يستولي على بيت فخم جميل لإنسان غير مسلم ، وحين يقاضيه صاحب البيت يدعي أن أصل الملكية له هو لا لصاحب البيت... لأن أصل الأموال والخيرات للمسلمين) فهذا الذي ذكره الركابي هو في الحقيقة فهم ساقط ، وقول لم يقله أحد لا من المتقدمين ولا من المعاصرين ، فهولازم لا يلزم ، وقول يستسفهه من كان قليل العلم والمعرفة فضلاً عن علماء أفذاذ ، فلتتق الله أيها الأستاذ، ولا تلبس الحق بالباطل، وصدق من قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
واعلم أنك ستسأل يوم الدين عما كتبت:

فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
* والآن فقد بان واتضح أن هذا القول الذي قذفه الأستاذ بأبشع الألفاظ وأقذع العبارات؛ هو عين قول الفقهاء المتمكنين ومن مذاهب شتى، ليعلم الجميع أن الأقوال التي رماها الركابي في نقد هذا القول يدل على مقدار عقل صاحبه، وكيف أنه يناقش الكلام السابق ذكره بهذه العقلية المتشنجة ـ ويا للأسف ـ وهذا عين ما ابتلينا به في هذا العصر حيث يطلق كثير من المفكرين الكلام على عواهنه جزافاً بلا تأصيل أو ربط، لأنها فكرة دندنت في رؤوسهم فصبوها في مقالاتهم دون مراجعة لكلام العلماء المتخصصين ولم يلقوا بالاً في خاطرهم ، بأنه قد يعتريها الخطأ والانحراف ، وهذا ما ابتلي به الركابي فأطلق هذه العبارات الشديدة والتي خرجت عن حيز العقلانية (والسلوك المتسامح) و(فتح باب الاحتمالات الحسنة)التي يبني بدعواه مقالاته عليها!

ولو كلف الدكتور نفسه بأن يجهد عينيه قليلاً للجولان بالنظر في بطون الكتب الفقهية لوجد ما يسند قول هذا الداعية ولوجد له سابقاً من مئات السنين.
خاصة أني ومن خلال مطالعتي لكتابات الأستاذ الركابي، وجدت أنه إذا رأى قولاً يراه الصواب فإنه يأتي بما يسند قوله ذاك،من آراء العلماء المتقدمين مثل/ ابن تيمية، وابن المُنَيِّر، والقرافي، وابن كثير، فلم لا يبحث عمن يسند قوله من العلماء السابقين بأن من قال هذا القول فإنه صاحب جهالة وحمق وجنون، ويقيني أنه لن يجد ما يعزز فكرته التي طرحها في مقاله.

فإن زعم الأستاذ بأنه لم يكن يدري بأن العلماء السابقين قالوا بمثل هذا القول الذي نقده أو قريباً منه، فإن هذه رزية ؛ فكيف يتحدث في مسألة شرعية فقهية،ولم يقلب صفحات التراث الفقهي الضخم الذي خلفه لنا علماؤنا.

ورحم الله أبا العباس بن تيمية ـ حين قال ـ ( العلم إما نقل مُصَدَّق،أو استدلال مُحَقَّق، وما سوى ذلك فباطل مزَوَّق) مجموع الفتاوى.

وليت أن الأستاذ الركابي عرض نقده ذاك على بعض الفقهاء المتخصصين،حتى يعلم جرم ما قاله وأن فهمه كان مخالفاً للصواب، ومن جميل كلام ابن المقفع قوله:
( لا ينبغي للمرء أن يعتد بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذووا الألباب ، و لم يجامعوه عليه، فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد) الأدب الصغير(صـ73) .

و يؤسفني ـ والله ـ أن يفحش الأستاذ الركابي بالنقد للكلام السابق بعبارات يظن أنه إذا قالها فسيفرض رأيه بالقوة ، ويقتنع الناس بكلامه ذاك لأنه قول (جنون)،وأخشى أن يكون الركابي قد أخذ منزع (الإسبارطيين) والذين يحققون أفعالهم وأقوالهم بالقوة والعنف، بغض النظر عن البحث في مسائل الدين ، وعقلانية السلوك والأخلاق!! والله المستعان.

الوقفة الثالثة : وأما عن استدلال الركابي بقوله تعالى : (( كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)) (الاسراء:20) .

فإنه استدلال في غير موضعه....

نعم ؛ تكفل الله بالرزق والعطاء لكل أحد من بني الإنسان بل حتى الحيوانات تكفل برزقها ـ عز وجل ـ ،ودليله قوله تعالى : (( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) (هود:6) .

ولكن العطاء والإمداد والرزق كله من الأبواب الكونية القدرية العامة ، والتي تعطى للمسلم والكافر، فإذا جاءنا حكم بمقتضى الأمر الشرعي الديني بأخذ أموال الكفار إذا لم يثبتوا لقتال المسلمين، فإنّه لا تعارض عندئذٍ بين الأوامر الكونية القدرية وبين الأوامر الشرعية الدينية ، وكذلك بين العطاء الكوني القدري (مثل أن يرزق الكافر المال) وبين العطاء الشرعي الديني (مثل الأمر بأخذ أموال الكفار المحاربين إذا قهرناهم وأخذنا منهم مالهم ولم يثبتوا لقتالنا) وهذه مسألة شرحت بإسهاب في كتب التوحيد والعقائد ، فليرجع إليها من أراد تفصيلها .

وختاماً / فما أجمل ما قاله الإمام ابن حجر العسقلاني:

(( العبد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف)) فتح الباري (13/67)

ولعل الأستاذ الركابي يراجع ما كتبه في ذلك فإنَّ (الرجوع إلى الحق من جملة الدين) كما قال الإمام العيني ـ رحمه الله ـ في عمدة القاري (1/66) وكثيراً ما يركز الركابي بأنه( يفتح باب الاحتمالات الحسنة ولو مع الكفار)فليت ذلك كان مصروفاً إلى إخوانه الدعاة المسلمين قبل غيرهم من ملل الكفر.
سائلاً المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يغفر لي ، وللركابي، ولجميع منْ نبَّه على خطئي وتقصيري ، ومن الله الحول والطول ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.