تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ما الحكمة من الابتلاء؟



أبوسعود المكي
02 Jan 2011, 11:19 AM
السؤال:

أسمع كثيرا عن أن هناك حِكَماً عظيمة لوقوع الابتلاء على الناس ، فما هي هذه الحكم ؟.

الجواب:

الحمد لله

نعم للابتلاء حكم عظيمة منها :

1- تحقيق العبودية لله رب العالمين

فإن كثيراً من الناس عبدٌ لهواه وليس عبداً لله ، يعلن أنه عبد لله ، ولكن إذا ابتلي نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين , قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) الحج/11 .

2- الابتلاء إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض

قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة ، فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن .

3- كفارة للذنوب

روى الترمذي (2399) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) رواه الترمذي (2399) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2280) .

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . رواه الترمذي (2396) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1220) .

4- حصول الأجر ورفعة الدرجات

روى مسلم (2572) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) .

5- الابتلاء فرصة للتفكير في العيوب ، عيوب النفس وأخطاء المرحلة الماضية

لأنه إن كان عقوبة فأين الخطأ ؟

6- البلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل

يطلعك عمليّاً على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف ، لا حول لك ولا قوة إلا بربك ، فتتوكل عليه حق التوكل ، وتلجأ إليه حق اللجوء ، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء ، والعجب والغرور والغفلة ، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه ، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه .

قال ابن القيم :

" فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه " انتهى .

" زاد المعاد " ( 4 / 195 ) .

7- الابتلاء يخرج العجب من النفوس ويجعلها أقرب إلى الله .

قال ابن حجر : " قَوْله : ( وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ ) رَوَى يُونُس بْن بُكَيْر فِي " زِيَادَات الْمَغَازِي " عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَالَ : قَالَ رَجُل يَوْم حُنَيْنٍ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم مِنْ قِلَّة , فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ الْهَزِيمَة .."

قال ابن القيم زاد المعاد (3/477) :

" واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم ليضع رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته " انتهى .

وقال الله تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) آل عمران/141 .

قال القاسمي (4/239) :

" أي لينقّيهم ويخلّصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس . وأيضاً فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم. .........ثم ذكر حكمة أخرى وهي ( ويمحق الكافرين ) أي يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنّة الله تعالى إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم ... وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر جميعاً " انتهى .

8- إظهار حقائق الناس ومعادنهم . فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن .

قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه " .

ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلائِل" عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ : اُفْتُتِنَ نَاس كَثِير - يَعْنِي عَقِب الإِسْرَاء - فَجَاءَ نَاس إِلَى أَبِي بَكْر فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّهُ صَادِق . فَقَالُوا : وَتُصَدِّقهُ بِأَنَّهُ أَتَى الشَّام فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , إِنِّي أُصَدِّقهُ بِأَبْعَد مِنْ ذَلِكَ , أُصَدِّقهُ بِخَبَرِ السَّمَاء , قَالَ : فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الصِّدِّيق .

9- الابتلاء يربي الرجال ويعدهم

لقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد الذي تتخلله الشدائد ، منذ صغره ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال ، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها ، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها .

نشأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيماً ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى ماتت أمه أيضاً .

والله سبحانه وتعالى يُذكّر النبي صلّى اللّه عليه وآله بهذا فيقول : ( ألم يجدك يتيماً فآوى ) .

فكأن الله تعالى أرد إعداد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تحمل المسئولية ومعاناة الشدائد من صغره .

10- ومن حكم هذه الابتلاءات والشدائد : أن الإنسان يميز بين الأصدقاء الحقيقيين وأصدقاء المصلحة

كما قال الشاعر:

جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقـي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي

11- الابتلاء يذكرك بذنوبك لتتوب منها

والله عز وجل يقول : ( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ ) النساء/79 ، ويقول سبحانه : ( وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ ) الشورى/30 .

فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة ؛ فإنَّ الله تعالى يقول : ( وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ) السجدة/21 ، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها وما يصيب الإنسان من سوء وشر .

وإذا استمرت الحياة هانئة ، فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ويظن نفسه مستغنياً عن الله ، فمن رحمته سبحانه أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه .

12- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور

وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا ، في حياة لا مرض فيها ولا تعب ( وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ ) العنكبوت/64 ، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ : ( لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ ) البلد/4 .

13- الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية

فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان معنى الصحة والعافية التي كنت تمتعت بهما سنين طويلة ، ولم تتذوق حلاوتهما ، ولم تقدِّرهما حق قدرهما .

المصائب تذكرك بالمنعِم والنعم ، فتكون سبباً في شكر الله سبحانه على نعمته وحمده .

14- الشوق إلى الجنة

لن تشتاق إلى الجنة إلا إذا ذقت مرارة الدنيا , فكيف تشتاق للجنة وأنت هانئ في الدنيا ؟

فهذه بعض الحكم والمصالح المترتبة على حصول الابتلاء وحكمة الله تعالى أعظم وأجل .

والله تعالى أعلم .


الإسلام سؤال وجواب

طيف المدينة
02 Jan 2011, 02:41 PM
جزاكم الله خير وبارك فيكم

عبدالله الكعبي
03 Jan 2011, 09:00 PM
جزاك الله خيرا اخي ابو سعود المكي جزاك الله خيرا في الموضوع

فهذا كتاب عن مفهوم الابتلاء عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الذي أمضى سيرته الحياتية في ابتلاءات

متعددة ومنها السجن في أمكنة متعددة من مصر إلى الشام حتى وافته المنية في السجن مظلوما ومن ثم فأمثال

هؤلاء العظماء عندما يتكلمون عن هذا الجانب فإنهم يحلقون في سماء عالية لأنهم يحسون ويشعرون ويتذوقون

معنى الابتلاء والحكمة منه ولذلك تجدهم يرتقون إلى مدارج الصفاء والرفعة

اسمعوا إليه عندما يقول عليه شآبيب الرحمة والرضوان :

قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه

وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم

والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن

ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والأيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر

والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان

الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من

الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى ‏{‏الم‏.‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا

وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ‏.‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ‏.‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ

أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏1‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن

مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد

في سبيله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا

بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14، 15‏]‏‏.‏

وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا

يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ

عَلَى حَرْفٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏،

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد 31‏]‏

وأخبر ـ سبحانه ـ أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ

بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏45‏]‏‏.‏

وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن

قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا

وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ

وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى

الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144-148‏]‏‏.‏

فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله

عليه وسلم‏:‏ ‏( ‏لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له‏.‏ إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته

ضراء فَصَبر كان خيرًا له‏)‏‏.‏ والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه‏.‏

ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل،

فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان،

والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان‏.‏

فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله‏.‏

والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة

والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين‏.‏

وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور‏.‏ وشأن هذه ‏[‏القضية‏]‏ وما يتعلق بها أكبر مما يظنه

من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت‏:‏ هذه ‏

[‏القضية‏]‏ ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين،

ولا أنكس راية المسلمين‏.‏ ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان‏.‏

نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا

كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له‏:‏ الضرر في هذه ‏[‏القضية‏]‏ ليس عليَّ، بل عليكم، فإن

الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من

التتار ونحوهم‏.‏

وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره،

ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك

ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال‏:‏ يا مولانا، إلا تسمى لي أنت

أحدًا‏؟‏ فقلت‏:‏ وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح‏.‏

لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى

في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف ـ إن شاء الله ـ ينكشف الأمر‏.‏

قلت له‏:‏ وإلا فأنا على أي شيء أخاف‏!‏ إن قتلت كنت من أفضل الشهداء‏!‏ وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم

القيامة‏!‏ وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة‏!‏ ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن

قتلت لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في

هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه‏!‏ لا أقطاعي ‏!‏ ولا مدرستي‏!‏ ولا مالي‏!‏ ولا رياستي وجاهي‏.‏

وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا

كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة‏.‏

****************

قال تعالى مبينا أن الابتلاء أمر مبرم لا مفر للمؤمن منه :

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } (155) سورة البقرة

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ

وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (186) سورة آل عمران

لا بد من تربية النفوس بالبلاء , ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد , وبالجوع ونقص

الأموال والأنفس والثمرات . .

لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة , كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف .

والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي

الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها , وكلما

بذلوا من أجلها . . كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها

وصبرهم على بلائها . . إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم:لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به

وأكبر ما قبلوا هذا البلاء , ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها , مقدرين لها , مندفعين

إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا . .

ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ; وتفتح

في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما

كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون , والران عن القلوب .

وأهم من هذا كله , أو القاعدة لهذا كله . . الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها , وتتوارى الأوهام وهي

شتى , ويخلو القلب إلى الله وحده . لا يجد سندا إلا سنده . وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات , وتتفتح البصيرة ,

وينجلي الأفق على مد البصر . . لا شيء إلا الله . . لا قوة إلا قوته . . لا حول إلا حوله . . لا إرادة إلا إرادته . . لا ملجأ

إلا إليه . . وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح . .

*************

وقال تعالى مبينا أن الجنة لها ثمن لا بد من دفعه :

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ

وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214) سورة البقرة

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (142) سورة آل عمران

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا

وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) سورة العنكبوت

إن الإيمان أمانة الله في الأرض , لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة , وفي قلوبهم تجرد لها

وإخلاص . وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة , وعلى الأمن والسلامة , وعلى المتاع والإغراء . وإنها لأمانة

الخلافة في الأرض , وقيادة الناس إلى طريق الله , وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة ; وهي أمانة

ثقيلة ; وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ; ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .

ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ; ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه , ولا يملك النصرة

لنفسه ولا المنعة ; ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان . وهذه هي الصورة البارزة للفتنة , المعهودة في الذهن حين

تذكر الفتنة . ولكنها ليست أعنف صور الفتنة . فهناك فتن كثيرة في صور شتى , ربما كانت أمر وأدهى .

هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه , وهو لا يملك عنهم دفعا . وقد يهتفون به

ليسالم أو ليستسلم ; وينادونه باسم الحب والقرابة , واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك . وقد أشير

في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .

وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين , ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين , تهتف لهم الدنيا , وتصفق لهم

الجماهير , وتتحطم في طريقهم العوائق , وتصاغ لهم الأمجاد , وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ,

ولا يحامي عنه أحد , ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا .

وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة , حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في

تيار الضلالة ; وهو وحده موحش غريب طريد .

وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام . فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة , وهي مع

ذلك راقية في مجتمعها , متحضرة في حياتها , يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان . ويجدها

غنية قوية , وهي مشاقة لله !

وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض , وثقلة اللحم والدم ,

والرغبة في المتاع والسلطان , أو في الدعة والاطمئنان . وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على

مرتقاه , مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس , وفي ملابسات الحياة , وفي منطق البيئة , وفي تصورات أهل الزمان !

فإذا طال الأمد , وأبطأ نصر الله , كانت الفتنة أشد وأقسى . وكان الابتلاء أشد وأعنف . ولم يثبت إلا من عصم الله .

وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان , ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى , أمانة السماء في الأرض ,

وأمانة الله في ضمير الإنسان .

وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء , وأن يؤذيهم بالفتنة . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي

في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ; وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات , وإلا بالصبر

الحقيقي على الآلام , وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه , وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .

والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ; وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع . وتطرقها بعنف

وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل . وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات , فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا ; وأقواها

طبيعة , وأشدها اتصالا بالله , وثقة فيما عنده من الحسنيين:النصر أو الأجر , وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في

النهاية . مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار .

وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن ; وبما بذلوا لها من الصبر على

المحن ; وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات . والذي يبذل من دمه وأعصابه , ومن راحته واطمئنانه , ومن

رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان ; يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ; فلا يسلمها

رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .

فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله . وما يشك مؤمن في وعد الله . فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ,

فيها الخير للإيمان وأهله . وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة , ويقع

عليهم البلاء , أن يكونوا هم المختارين من الله , ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة

فهو يختارهم للابتلاء:

جاء في الصحيح:" أشد الناس بلاء الأنبياء , ثم الصالحون , ثم الأمثل فالأمثل , يبتلى الرجل على حسب دينه , فإن

كان في دينه صلابة زيد له في البلاء " . .

***************

نسال الله تعالى أن يعيننا على محن وفتن هذه الدنيا وأن يتوفنا وهو راض عنا فكم من أناس عندما ابتلوا سقطوا على الطريق .

قصواء
04 Jan 2011, 12:51 AM
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبا لامر المؤمن ان امره كله له خير ليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان اصابته سراء شكرا فكانت خيرا له وان اصابته ضراء صبر فكانت خير له.
موضوع قيم ومهم
جزاكم الله خيرا
نسال الله تعالى أن يعيننا على محن وفتن هذه الدنيا وأن يتوفنا وهو راض عنا
آمين