تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية :: الدرس الأول :: مرحلة ماقبل البعثة



قائد_الكتائب
19 Dec 2010, 02:40 AM
دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية




للشيخ العامل أبي سعد العاملي حفظه الله



الدرس الأول








مرحلة ماقبل البعثة





بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
من المفيد جداً قبل الخوض في أحداث السيرة بالتفصيل أن نلقي نظرة ولو مختصرة وخاطفة عن حالة الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية المباركة، وذلك لأسباب عديدة ولحكم كثيرة، أهمها هو الوقوف على الحكمة الربانية لاختيار جزيرة العرب دون غيرها من البلدان ، واصطفاء أهلها دون غيرهم من الشعوب لكي يكونوا مقراً وحاملي هذا الدين الأخير للعالمين.
لا نشك في أن رسالة الإسلام عظيمة وتبعاتها ثقيلة إلى حد عجزت عن حمله السماوات والأرض والجبال ، فأشفق الله عليها وحملها الإنسان ، فلابد أن يكون هذا الأخير على درجة عالية من الصفات والأخلاق والطاقات التي تمكنه من حمل هذه الأمانة العظيمة، وليكونوا بعد ذلك محررين للعالم أجمع من كل العبوديات والأديان الظالمة المنحرفة التي أثقلت كواهل الناس منذ قرون من الزمن، ساد فيها الفساد والظلم والانحراف عن الفطرة واتباع الشهوات والخضوع لشريعة الشيطان دون حسيب ولا رقيب.


الأصول والفصول


نبدأ بذكر أصل العرب وفصائلهم ، فالعرب في أصلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- العرب البائدة: وهم القدامى، مثل: عاد و ثمود و طسم و جديس و عملاق ..
2- العرب العاربة "القحطانية": وهم المنحدرون من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان .
3- العرب المستعربة "العدنانية": وهم المنحدرون من صلب إسماعيل .
والعرب العاربة مهدها اليمن، وقد تشعبت قبائلها وبطونها، فاشتهرت منها قبيلتان:
الأولى: حمير، وأشهر بطونها: زيد الجمهور ، و قضاعة ، و السكاسك .
والثانية: كهلان ، وأشهر بطونها: همدان، وأنمار، وطيء ، ومذحج ، وكندة ، ولخم ، وجذام ، والأزد ، والأوس، والخزرج ، وأولاد جفنة ملوك الشام.
ونتيجة الظروف الاقتصادية ، والصراع بين حمير وكهلان ، هاجرت بطون كهلان من اليمن قبيل سيل العرم ، وانقسموا إلى أربعة أقسام :
1- الأزد: وسيدهم عمران بن عمرو ، وسكنوا الحجاز ، وعُمان ، وتهامة.
2- لخم وجذام: وفيهم نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذرة بالحيرة.
3- بنوطيء: نزلوا بالجبلين أجا وسلمى في الشمال.
4- كندة: نزلوا البحرين ، ثم حضرموت ، ثم نجد ، التي كوَّنوا بها حكومة كبيرة.
أما بالنسبة للعرب المستعربة، فيرجع نسبهم إلى إسماعيل عليه السلام الذي ولد في فلسطين، ثم انتقل مع أمه إلى الحجاز، ونشأ بها وتزوج، واشترك مع أبيه إبراهيم عليه السلام في بناء الكعبة ، ورُزق إسماعيل من الأولاد اثني عشر ابناً ، تشعبت منهم اثنتا عشرة قبيلة ، سكنت مكة، ثم انتشرت في أرجاء الجزيرة وخارجها ، وبقي "قيدار" أحد أبناء إسماعيل في مكة ، وتناسل أبناؤه حتى كان منهم عدنان وولده معد، ومن هذا الأخير حَفظت العرب العدنانية أنسابها، وعدنان هو الجد الحادي والعشرون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تفرقت بُطون "معد" من ولده نزار، الذي كان له أربعة أولاد، تشعبت منهم أربع قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، والأخيران هما اللذان كثرت بطونهما، واتسعت أفخاذهما، فكان من ربيعة : أسد ، و عنزة ، و عبد القيس ، وابنا وائل - بكر و تغلب -، و حنيفة وغيرها.
وكان من مضر : شعبتين عظيمتين : قيس عيلان ، و إياس .
فكان من قيس عيلان : بنو سليم ، وبنو هوازن ، وبنو غطفان التي منها : عبس وذبيان وأشجع.
وكان من إياس : تميم بن مرة، و هذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة، و كنانة بن خزيمة التي منها قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة .
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، أشهرها : جمح ، وسهم ، وعدي ، ومخزوم ، وتيم ، وزهرة، وبطون قصي بن كلاب ، وهي: عبد الدار ، و أسد بن عبدالعزى، و عبد مناف .
وكان من عبد مناف أربع فصائل : عبد شمس ، و نوفل ، و المطلب ، و هاشم ، وهو الجد الثاني لنبينا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم .
وفي اصطفاء نسبه صلى الله عليه وسلم يقول : (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) [رواه مسلم] .
ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا، وانتشروا في بلاد العرب متتبعين سبل العيش، فتوزعوا في البحرين، واليمامة، والعراق ، وخيبر، والطائف ، وبقي بتهامة بطون كنانة ، وأقام بمكة بطون قريش.
وعلم الأحساب والأنساب مع أهميته ومكانته وقيمته، إلا أنه لا يرقى إلى أن يكون مجالاً للتفاضل ، وإنما الذي ينبغي أن يكون ميداناً للتفاضل والتسابق ، وخاصة بين المسلمين التقوى والصلاح كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات : 13) ، وفي الحديث : (إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) رواه الطبراني ، وصححه الألباني ، والله أعلم .


- حالة الجزيرة العربية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية


لاشك أن معرفة الحالة السائدة في جزيرة العرب وما حولها من الأهمية بمكان قبل التطرق إلى أحداث السيرة، ذلك أن معرفة الواقع القائم قبل الرسالة سيبين الحكمة من وراء ظهور النبي الخاتم في هذه المنطقة، وسيبين كذلك أهمية هذه الرسالة وأهدافها وغاياتها التي جاءت من أجل تحقيقها، وسوف نقارن تلكم الحالة مع الحالة التي نعيشها اليوم، لنجد الحاجة الملحة لعودة هذا الدين من جديد لكي يغير هذا الواقع المعيش، كما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعه من قبل.


ولكي نُقبل على دراسة السيرة النبوية بإرادة التغيير، تغيير النفوس والواقع معاً، فواقعنا أبعد ما يكون عن الواقع المطلوب وهو في الوقت ذاته أقرب ما يكون إلى الواقع الجاهلي قبل البعثة النبوية، بل نكاد نجزم أن واقعنا قد تجاوز بكثير – على مستوى فساد الأخلاق والقيم – وابتعد كثيراً حتى عن هذا الواقع الجاهلي سالف الذكر - ، ومن هنا يتوجب علينا أن ندرس السيرة النبوية ليس من أجل المتاع والترف الفكري بل نعتبر ذلك فرضاً عينياً لنتمكن من تغيير ما بنا ونعود إلى ممارسة دورنا وواجبنا الشرعي وأداء رسالتنا للعالمين.


الحالة الدينية


الوثنية


كانت الوثنية تسود شبه جزيرة العرب , رغم ظهور أفراد من الموحدين عرفوا بالأحناف في مكة , ورغم انتشار محدود لليهودية في اليمن والمدينة , وانتشار محدود للنصرانية في نجران والحيرة ودوحة الجندل وأطراف الشام . والوثنية العربية تؤمن بوجود الله , لكنها تتخذ الآلهة المصنوعة من الحجر والخشب والمعدن وسيلة للقرب إليه . والايمان بالله هو من بقايا دين إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - والديانات السماوية الأخرى المنزلة في مدن عربية قديمة مثل مدائن صالح وعاد وثمود . ولكن عقيدة التوحيد أصابها التحريف واتخذت عبادة الأصنام والأوهام التي كانت تنتشر في الحضارات القديمة حول شبه الجزيرة لدى الآشوريين والبابليين والسومريين والعموريين والآموريين في بلاد العراق والشام.
وكانت عبادة الآلهة المزعومة تنتقل بين تلك الأقوام , ومنها دخلت إلى شبه جزيرة العرب حيث عبدت اللاّت ومناة والعزّى وهبل وسواع وودّ , إلى جانب تقديس الأسلاف والحيوانات وعبادة النجوم والشمس والقمر والدبران والثريا والشعريان , وعبادة الجن والملائكة والنار , وكانوا ينكرون النبوة والبعث بعد الموت , وتظهر بينهم الكهانة والعرافة والسحر , وتشيع الأساطير والخرافات .
وقد اتخذ العرب أماكن خاصة لعبادة الأصنام التي اشتهرت منها الكعبة المكرمة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لعبادة الله الواحد فأحاطها المشركون بالأصنام التي بلغ عددها ثلثمائة وستين صنماً تعبدها القبائل التي تؤم البيت للحج وتقدم لها القرابين والنذر , ومن الأماكن الأخرى للعبادة ذو الخلصة وذو الشرى وذو الكفين.
وكان العرب يتخذون التمائم والتعاويذ والرقى, ويحملون أسنان ثعلب أو كعب أرنب ؛ ويعتقدون أن فيها قوى سحرية خفيّة , تجلب لحاملها الخير , وتبعد عنه الشر. وكانوا يستقسمون بالأزلام؛ وهي عيدان عليها رموز وعلامات يرمونها بالماء , وينتظرون خروجها , وبذلك يستشيرون آلهتهم فيما سيقدمون عليه من عمل.
وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام, وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم.
وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي, فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة.


اليهودية


لقد تعمدت تفصيل الحديث عن هذه الفئة لأهميتها وخطورتها على ديننا وعلى كل الأديان السماوية من قبل، وسوف نتطرق أكثر إلى أنواع المكر والكيد الذي كانوا يكيدونه لنبينا الكريم ولأصحابه ولديننا الحنيف على مختلف مراحل الدعوة .
أما العقائد الأخرى التي انتشرت بصورة محدودة كما سبق ذكره فمنها اليهودية التي تمثلها بعض القبائل في المدينة والأفراد في اليمن واليمامة وكانوا يستعملون في أدبياتهم الدينية اللغة العبرية والآرامية , ويتكلمون العربية فيما بينهم في حياتهم اليومية , وقد تأثروا بعادات العرب وتسموا بأسمائهم , وكانت لهم مدارس يتدارسون فيها التوراة والمشنا والتلمود , وتعرف بالمدارس التي هي موضع عبادة وصلوات وندوات لهم أيضاً . وكانوا يتعاطون السحر , ويحرمون العمل يوم السبت , ويصومون عاشوراء , ويلزمون بالأعياد اليهودية , ومعظمهم أميون كما وصفهم القرآن.
إن ما اتفق عليه أكثر المؤرخين هو أن قبائل اليهود فيالحِجاز هم عبرانيون نازحون من جراء الإضطهاد الروماني, في الفترة ما بين عامي 70 مو135 م. ولم يكونوا عرباً ، أي انهم هم الناجون من دمار أورشليم على يد تيطوس أوالذين تم إجلائهم (بني النضير وقريظة ) على يد الإمبراطور هادريان, ولِذا فهم يُطلقعليهم الكاهنين نسبة إلى هارون النبي أخو موسى عليهما السلام. وحين انتقلوا إلىالحِجاز في الجزيرة العربية ، فقد جاءوا على يهود سبقوهم (بنو قينُقاع), ويدعي يهودبني قينقاع أن أصلهم موغل في القدم بيثرِب و يعود لزمان موسى في الوجود كما تدعيالإسرائيليات التي حاول اليهود ترويجها ، ونقلها لنا المؤرخون المُسلِمون ، إلا أنقِدم تواجُدِهم لا دليل عليه ، فلا يُمكِن الإستِدلال على قِدم الوجود اليهودي ماقبل الميلاد فضلاً لزمان موسى عليه السلام ، لأن اليهود على مر التاريخ لاقوا منالإضطهاد مالم تلْقهُ أمة أخرى ، ولذا فلا يُمكِن نفي أن اليهود في يثرِب قد جاءواعلى فترات متقطِّعة ولكن لا يُمكِن تأكيد بحال من الأحوال فترات ما قبل الميلاد ،أما ما بعد الميلاد فالثابت هو نزوح بني النضير وقريظة إلى يثرِب . و تبقى هذهالإدعاءات ادعائات يهودية محضة رُبما عن قصد ألّفوها ونشروها بين المُسلمينليكتسِبوا شرعية في المكان الذي استقروا فيه ، وهذا حال اليهود دائماً ، و برغمأصالة وعبرية تلك القبائل مثل بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر وفدك ووادي القرى إلا أن هناك من قبائل العرب من اعتنق اليهودية أيضاً و ربما تقرباًلليهود.


القبائل العربية التي إعتنقتاليهودية


ذكر ابن قتيبة في حديثه عن أديان العرب في الجاهلية: أناليهودية كانت في حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة و بعض قضاعة. و ذكرنفس الأمر ابن حزم الأندلسي الظاهري في جمهرة أنساب العرب عند حديثة عن نفسالموضوع، و بالمثل ياقوت الحموي في معجمه.
أما صاعد البغدادي الأندلسي، صاحب المصنفات، والذي كانمن المقربين من محمد بن أبي عامر المعروف بالمنصور، فقد ذكر صاعد مجموعة من القبائلالتي تسربت إليها اليهودية مثل حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة. وذكرت مصادر أخرى أن اليهودية وجدت في بعض الأوس من قبائل الأنصار، و بني نمير و بعضغسان و بعض جذام. بل إن بعض المصادر تذكر أن الآية القرآنية { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [البقرة 256،]، نزلت بسببأن بعض الأنصار هودوا أولادهم قبل الإسلام و عندما جاء الإسلام أرادوا أن يقسرواأبنائهم على إعتناق الإسلام، فنزلت تلك الآية الكريمة التي تحرم الإكراه فيالدين.


طبيعة اليهودية في الجزيرة العربية


إن بني إسرائيل الوارد ذكرهم في التوراة والقرآن الكريمهم بإجماع أهل الاختصاص من نسل سيدنا يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم الخليل، عليهمالسلام جميعا. وإبراهيم هو أبو العرب المستعربة من الإسرائيليين والعدنانيين، الذينتنتمي قبيلة قريش إليهم. موطن العرب المستعربة بشقيها الإسرائيلي والعدناني هو غربشبه الجزيرة العربية، فيما يعرف بالحجاز وتهامة، حيث عاش سيدنا إبراهيم الخليل،عليه السلام في حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد وقام ببناء الكعبة مع ولدهإسماعيل.
يبدو أن شبه الجزيرة العربية قد عاشت في هذه الحقبةالتاريخية بالذات عصرها الذهبي وفردوسها المفقود، حيث كانت تحتضن أهم الطرقالتجارية العالمية البرية والبحرية. كان الخليج العربي في الشرق والبحر الأحمر فيالغرب والبحر العربي في جنوب الجزيرة العربية والموانيء والثغور البحرية العربيةالمطلة عليها تغص بالسفن، التي تنقل البضائع والتجارة العالمية آنذاك بين حوض البحرالأبيض المتوسط الخاضع للسيادة العربية الكاملة، الأشورية والبابلية والفينيقيةوالمصرية وبين موانيء الهند والصين. وفي موازاة هذا الممر المائي كان هناك خط بريللقوافل يربط بلاد الشام والعراق ومصر عبر نجد والحجاز باليمن وعمان. في ظل هذاالانتعاش الاقتصادي، الذي شهدته الجزيرة العربية في هذه الحقبة، إستقر البدووالرعاة وتطورت الزراعة وبنيت السدود. كذلك كثرت الأسواق وازدهرت المدن والثغوروأصلحت الطرق وشيدت المعابد. استمر هذا العصر الذهبي في جزيرة العرب أكثر من ألفعام. هذا العصر تمجده التوراة كثيرا وتخلده بالمزامير ويشير إليه القرآن الكريم فيقصص عاد وثمود وإرم وفرعون ومدين وسبأ. كذلك الأساطير العربية التي ربما تستنطقالذاكرة، تتحدث عن عصر غابر تتزاحم فيه الجنان، التي تتدفق فيها العيون وتظللهاالأشجار أو تفيض بالأنهار، التي "يسيل فيها الحليب والعسل"..
بسبب التنافس والنزاع المستمر بين الدول العربية القديمةمن الفينيقيين والأشوريين والبابليين والمصريين في السيطرة على هذا الممر التجاريوالبحري الهام، في القرون الثامن والسابع والسادس قبل الميلاد، ثم أخيرا صعودالإمبراطورية الفارسية وتدمير الدولة البابلية وإحراق عاصمتها بابل ثم غزو العاصمةالثانية تيماء عام 539 ق.م.، تعرضت الجزيرة العربية كسائر المشرق العربي القديمآنذاك لإضطرابات وكوارث اقتصادية وسياسية خطيرة، وظلت عقودا طويلة فريسة للسلبوالنهب والسبي، فدمرت القرى والمدن وبادت كثير من القبائل العربية أو وقعت في الأسرأو أضطرت إلى هجر مواطنها الأصلية. ربما كان أخطر هذه الأحداث هي حملة الملكالأشوري سرجون الثاني (721 ق.م)، حيث دمرت مملكة إسرائيل في الشمال ، ثم حملتاالملك البابلي نبوخذ نصر (597 ثم 587 ق.م، غزوة ذات عرق قرب مكة)، حيث تم تدميرمملكة يهودا في الجنوب وتخريب عاصمتها أورشليم (القدس القديمة في عسير، التي ربماهي اليوم قرية فرت الواقعة قرب مدينة الطائف، أنظر د. كمال الصليبي / التوراة جاءتمن جزيرة العرب) وأخذ كثير من كهنة وأعيان القبائل، ومن ضمنهم بنو إسرائيل (بنوإسرائيل كانوا آنذاك أقرب إلى تحالف قبلي يضم عددا من قبائل الحجاز في غرب الجزيرةالعربية) أسرى إلى نينوة وآشور وبابل. لعل بعض ما تحدثنا به التوراة، وما يرد فيالقرآن الكريم، وما يرويه المؤرخون المسلمون (مثل الطبري، تاريخ الملوك) عن العربالبائدة مثل عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق وانهيار سد مأرب، وكذلك حملة الملكالبابلي نبوخذ نصر (غزوة ذات عرق عام 587 ق.م. مثلا)، يرتبط بهذا التاريخ المضطرببالذات وبهذه الكوارث والمحن التي ألمت بهذا الجزء من غرب الجزيرة العربية. إن هذاالفصل من تاريخ العرب القدماء يعطي تفسيرا معقولا لاندثار حضارات الجزيرة العربيةولإختفاء بني إسرائيل ككيان سياسي واجتماعي وتحالف قبلي من الوجود واندثارهم (العربالبائدة). أما اليهودية، التي كانت في البداية دينا قبليا أو قوميا خاصا بالعرب منبني إسرائيل في الحجاز، فقد واصلت انتشارها وإعتنقها كثير من القبائل والشعوبالعربية الأخرى في وقت لاحق، فوصلت أولا إلى اليمن والحبشة، كما بلغت في القرنينالرابع والثالث قبل الميلاد شمال أفريقيا ومصر والشام والعراق. وقبل ظهور النصرانيةوالإسلام كانت اليهودية دينا سائدا في الوطن العربي بين جميع الشعوب العربية منالأشوريين والبابليين والكلدانيين والآراميين والمصريين والأحباش.
وعند ظهورالإسلام كان كثير من قبائل الجزيرة العربية وحواضرها تدين باليهودية، وكانت مدنتيماء ويثرب ونجران مراكز يهودية معروفة. كذلك كان الشاعر العربي الجاهلي السموألبن غريض بن عادياء الأزدي، من بطون قحطان، الذي يضرب به المثل في الوفاء عند العربيهودي الديانة ويسكن في خيبر القريبة من يثرب.


النصرانية


ومن العقائد الأخرى النصرانية التي دخلت بلاد العرب عن طريق التبشير الذي قام به الرهبان والتجار النصارى والرقيق المستورد من بلاد نصرانية وكانت الامبراطورية البيزنطية تشجع التبشير ، لأنه يمهد لسلطانها السياسي . وقد انتشر مذهب اليعاقبة من بلاد الشام والعراق إلى دومة الجندل وأيلة وبعض دياطيء , وأفراد بمكة ويثرب والطائف وخاصة من الأحابيش والرقيق .


لكن أهم مراكز النصرانية في بلاد العرب كانت في اليمن وخاصة نجران , كما انتشرت بصورة محدودة في البحرين وقطر وهجر . وكانت الآرامية هي لغة العلم والدين عند النصارى الشرقيين عامة، ولكن الإنجيل كان يكتب بالعربية أيضاً كما في خبر ورقة بن نوفل.


المجوسية :
وقد انتشرت المجوسية من إيران إلى بعض بلاد العرب , كالحيرة بحكم الجوار , واليمن لورود الحملة الفارسية عليها لطرد الأحباش, وحضرموت ومناطق أخرى شرق شبه جزيرة العرب لقربها من إيران , ولم يكن هذا الانتشار المحدود بدعوة من المجوس , لأنهم لا يحرصون على إدخال الغرباء في دينهم القومي.



- الصابئة :
وكان للصابئة انتشار محدود في العراق وحرّان , وقد انتشرت لفظة (صبأ) بمعنى الخروج من الدين في مكة والطائف حيث أطلقها المشركون على المسلمين لخروجهم من الشرك إلى الإسلام.
كانت تلك لمحات عن الحالة الدينية التي مرت بها الجزيرة الإسلامية عند ظهور الدين الإسلامي. والله أعلم


الحالة الاجتماعية


تعتبر القبيلة الوحدة الاجتماعية في بلاد العرب, وتتكون من:
الصليبية : وهم رجال القبيلة الذين تربطهم روابط الدم , فهم ينتمون إلى سلف واحد .
والحلفاء : وهم رجال أو قبائل صغيرة انتمت إلى القبيلة للاحتماء بها .
والعبيد : ومصدرهم أسرى الحرب أو الشراء .
ويرأس القبيلة شيخ يتصف بالحكمة والشجاعة والكرم , وعادة يكون كبير السن . ويجتمع أعيان القبيلة حول الشيخ في خيمته أو بيته لتدارس شؤون القبيلة ومصالحها , والتحكيم بين أفرادها عندما يقع بينهم خلاف , وبذلك تمارس الشورى بنطاق محدود . وقد تتحالف عدة قبائل كبيرة ضد قبائل أخرى , أو للقيام بمهمة ما ، كما حدث في مكة في حلف الفضول , أو تعقد بينها معاهدات " إيلاف " تضمن سلامة الطرق التجارية كما في إيلاف قريش مع القبائل العربية التي تسكن على امتداد تلك الطرق .
وقد استمرت الحروب بين القبائل العربية حتى غلب الإسلام عليها , مثل حروب الأوس والخزرج في المدينة , وبكر وخزاعة قرب مكة وكان العربي قبل الإسلام يتزوج عادة بامرأة أو أكثر دون تحديد , ولم يكن الحجاب شائعاً بين النساء , ووجد الاختلاط بين الرجال والنساء , ولكنهم سمّوا من يكثر من مخالطة النساء " بالزير ".
وكانت أنواع الزواج تأخذ صيغاً مختلفة منها الزواج بخطبة ومهر وهو الشائع بينهم وقد أقره الإسلام , ومنها صيغ أخرى حرمها الإسلام . وفي الغالب كان الأبوان يزوجان البنت دون أن يكون لها رأي, وقد منع الإسلام ذلك.
ويحب العربي إنجاب الأبناء ويكره البنات, لقدرة الذكر على القتال, وحماية القبيلة من أعدائها, والقيام بالغزو للآخرين. في حين لا تشترك النساء في الحرب, كما أنهن عرضة للسبي. وكانت بعض القبائل تمارس عادة وأد البنات بدفنهن عند الولادة, وهي عادة كانت تشيع في أمم أخرى عاصرتهم بنطاق واسع, وكان الدافعان الرئيسيان للوأد هما خوف العار والفقر. وقد عرف العربي قبل الإسلام بالكرم والشجاعة والصدق والصراحة والعفو عند المقدرة, وحب الحرية, والحفاظ على العرض, والذود عن الحمى, وقد أكد الإسلام على هذه الصفات و أثنى عليها, كما عرف بالتفاخر والغطرسة والكبرياء, وبالغزو وقطع طرق القوافل ونهبها وطلب الثأر مهما طال الزمن وشرب الخمور, وقد حرّم الإسلام ذلك. ويهتم العربي بنظافة بدنه ودهن شعره وتمشيطه وضفره وبخضاب الشيب بالحناء والوسمة والزعفران والتطيب بأنواع الطيب لكنه يهمل ذلك كله عند طلب الثأر.


وهذا العرض الإجمالي للأوضاع السائدة في شبه جزيرة العرب يوضح أحوال البيئة التي بزغ فيها فجر الإسلام وسطعت من خلاله أنوار الوحي على العالم كله وفي مقدمته بلاد العرب التي ظهر منها رسول الإسلام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام.


الحالة السياسية والاقتصادية


لقد كانت الجزيرة العربية عبارة عن قبائل متفرقة، لا يجمعها كيان سياسي موحد، بل كل قبيلة أو عشيرة لها أعرافها ومنهجها في تسيير أمورها الداخلية والخارجية، فكان على رأس القبيلة شيخ أو سيد، يرجع إليه القوم في النزاعات أو اتخاذ القرارات الحاسمة التي تهم مصالح القبيلة، كالحروب مثلاً أو في تحيد العلاقات الخارجية وبعض الاتفاقات مع بقية القبائل.
لم تكن هناك قوانين مكتوبة يرجع إليها عند الضرورة، بل كانت الأعراف والتقاليد هي السائدة، وجدوا عليها آباءهم فهم عليها سائرون.


أما حول الجزيرة العربية فقد كان هناك في الشمال الإمبراطورية الرومانية، وفي الجنوب الإمبراطورية الفارسية، وهما بمثابة القوتين العظميين المتنافستين، والساعيتين إلى بسط نفوذهما في المنطقة.


ومن هنا فقد كانت القبائل العربية تتعامل بحذر وخوف شديدين مع هاتين الإمبراطوريتين، حيث لم يكن لديها أي وزن سياسي يومئذ، كانوا في أعين الرومان والفرس مجرد أعراب متخلفين وبدو رحل ورعاة مشردون، لا قيمة لهم ولا اعتبار.
كانت شبه جزيرة العرب مفككة سياسياً لا توحدها دولة, ولا تديرها حكومة, وكانت الدول القديمة التي قامت في اليمن ونجد وأطراف العراق والشام قد اندثرت , وطغت البداوة على المدن الباقية في الحجاز , فكانت القبيلة هي الوحدة السياسية والإجتماعية, وكانت مكة تدار من قبل الملأ في دار الندوة.
والمدينة في حالة نزاع دائم بين الأوس والخزرج تمخض عن ذلك محاولة إنشاء حكم ملكي, لكن انتشار الإسلام فيها حال دون ذلك.
أما دولة المناذرة في الحيرة ودولة الغساسنة في الأردن والجولان فقد سمح الفرس والروم للدولتين بالنشوء لتكونا دولتين حاجزتين تصدان عنهما غزو القبائل العربية, وتتوليان حماية القوافل التجارية. وقد أسقط الفرس دولة المناذرة سنة 602م قبل البعثة المحمدية بثمان سنوات.


- أما الأحوال الاقتصادية في شبه جزيرة العرب, فقد كانت البادية تعتمد على الاقتصاد الرعوي, فالقبائل العربية تستقر في الأماكن التي يتوفر فيها الماء وتصلح لرعي الإبل والأغنام والماعز.


وعندما يشح الماء فإنها تضطر للانتقال مما يجعلها في حروب مع بعضها للحصول على المورد الأفضل. وتوجد في شبه جزيرة العرب واحات زراعية متناثرة يستقر فيها السكان لكنها عرضة لغزو البدو لها.
ويقوم في المدن نشاط تجاري وزراعي وصناعي, وقد يغلب عليها نوع من هذه النشاطات, فمكة كان يغلب عليها النشاط التجاري؛ لأنها تقع بواد غير ذي زرع, وتتحكم بطرق التجارة بين اليمن والشام حيث تمر القوافل محملة بالتوابل والبخور والعطور, وقد استفادت مكة من مكانة الكعبة الدينية عند العرب في حماية قوافلها التجارية وعقد " الإيلاف " مع القبائل التي تجتاز ديارها, واشتهرت برحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن.
أما المدينة - وكانت تعرف قبل الإسلام بيثرب - فكان يغلب عليها الاقتصاد الزراعي حيث اشتهرت ببساتين النخيل والأعناب والفواكه الأخرى والحبوب و الخضروات.
أما الطائف فقد غلبت عليها الزراعة وخاصة بساتين الأعناب والفواكه و الخضروات , وكذلك الصيد حيث تتوافر فيها الحيوانات البرية كالبقر الوحشي والحمار الوحشي والغزلان والظباء والأرانب.
وأما اليمامة فاشتهرت بزراعة القمح الذين كان يزيد عن حاجاتها فتصدر منه إلى الحجاز.


وأما اليمن ففيها زراعة واسعة ومناطق رعوية طبيعية إضافة إلى قيامها بالنشاط التجاري الكبير بنقل التوابل والبخور والعطور والأبنوس والعاج والحرير من الهند إلى بلاد العرب والشام.


وكانت السواحل الشرقية لشبه جزيرة العرب تربط تجارة الصين والهند بالهلال الخصيب (العراق وسوريا ) . وكانت شبه جزيرة العرب تستورد الدقيق والزيت والأقمشة من الشام , كما تستورد التمور والأُدم من العراق . وقد ساعدت أسواق العرب في الجاهلية على نشاط التبادل التجاري, واشتهرت منها أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز ودومة الجندل ونطاة - بخيبر - وبدر وحباشة.


واستعمل العرب الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي في التبادل التجاري, كما استعملوا المكاييل والموازين ومقاييس الطول في عمليات البيع والشراء.
أما الصناعة في شبه الجزيرة العربية, فقد اشتهرت اليمن بصناعة البرود اليمانية.
وعرفت المدينة بصياغة الحلي الذهبية والفضية؛ وصناعة السيوف والرماح والقسي والنبال والدروع والحراب, كما قامت في المدن العربية حرف التجارة والحدادة والصياغة والدباغة, والغزل والنسيج, والخياطة, والصباغة . ولكن معظم الحرفيين كانوا من الموالي والعبيد ولم يكونوا عرباً. وقد شاع التعامل بالربا في مكة والطائف ويثرب ونجران, ومارسه اليهود وانتقل منهم إلى العرب, وكان على نوعين:
ربا النسيئة؛ وهو زيادة المبلغ على المدين مقابل تأجيل الدفع.
وربا الفضل وهو الزيادة التي تترتب على بيع العينات المتماثلة بسبب اختلاف جودتها.
وكان الربا يؤخذ أضعافا مضاعفة, وقد حرمه الإسلام بنوعيه, قال تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (البقرة 275).
وكان العرب يعرفون أنواعاً من المعاملات المالية كالقراض والمضاربة والرهن, وكان الغرر يحيط بكثير من عقود البيع والشراء كالمنابذة والملامسة والنجش وبيع الحاضر للبادي. وكذلك كان الاحتكار يدخل في معاملاتهم التجارية, كما تفرض عليها المكوس الباطلة. وقد حرّم الإسلام البيوع التي فيها غرر أو ضرر كما حرم الربا والاحتكار تحقيقاً للعدل بين الناس. فعاش الناس في خير ورفاهية لما تمسكوا بهدي الإسلام في سياستهم واقتصادهم، وأصابهم الضنك والضيق لما تنكبوا الصراط المستقيم.
هذا باختصار شديد أهم المحطات في حياة العرب في جزيرة العرب وما حولها، وحالتهم المعيشية قبل البعثة النبوية، وبعد هذا ننتقل إلى مرحلة أخرى جديدة ومختلفة تبدأ بمولد النبي عليه الصلاة والسلام وتنتهي بموته، وما بين الحدثين سنعيش أحداثاً عظيمة غيرت مجرى التاريخ البشري ورسمت له معالم جديدة سترافقه حتى تقوم الساعة.


هذا والله تعالى أعلى وأعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الدنيا فناء
19 Dec 2010, 03:47 AM
اسال الله في هذة الساعه المباركه بمنه وكرمه وبعزته وعظمته

ان يجزيكم الفردوس وان يسقيكم من نهر الكوثر وان يظلكم في ظله يوم لا ظل الا ظله وان يبارك لكم ويفرج كربكم وان يجعلها في ميزانكم كالجبال الراسيه يوم القيامه انه سميع مجيب

قائد_الكتائب
19 Dec 2010, 11:26 PM
اسال الله في هذة الساعه المباركه بمنه وكرمه وبعزته وعظمته

ان يجزيكم الفردوس وان يسقيكم من نهر الكوثر وان يظلكم في ظله يوم لا ظل الا ظله وان يبارك لكم ويفرج كربكم وان يجعلها في ميزانكم كالجبال الراسيه يوم القيامه انه سميع مجيب

بارك الله فيك اخية على دعائك الطيب حفظك الله، ولك مثله لا حرمك الأجر

قائد_الكتائب
20 Dec 2010, 01:20 AM
الدرس الثاني





من المولد الى فترة رعي الغنم








ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيم الأب بعدما فقد أباه عبد الله بن عبد المطلب وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه، وقد مات في رحلة تجارية في قبيلة بني النجار وهم أصهاره بسبب مرض ألم به في الطريق.
فكانت بداية المحن لهذا الرسول الخاتم ولماَّ يصل بعد إلى هذه الدنيا.
فما أقسى وأصعب أن يولد المرء يتيم الأب في مجتمع قائم على العصبية أصلاً حيث تكون للأب قيمة كبرى ومكانة عالية في الأسرة العربية الأبية.


لكن الله تعالى يدبر أمره بحكمة لا يعلمها كثير من الناس، يحرم أفضل خلقه وسيدهم من حنان الأبوة، فلابد أن تكون هناك حكمة بالغة لا ندركها بعقولنا وعواطفنا الناقصة القاصرة.


كذلك الحال فيما يخص بقية الخلق من بعده، فلا ينبغي أن نفسر فقدان الأب بأنه حدث كارثي لبنيه من بعده وبأن حياتهم ستكون ناقصة أو جامدة وأنه لا يمكنهم تحقيق أي نجاح فيها كما يفعل غيرهم.


نعم، إن لوجود الأب أهمية كبرى في حياة أبنائه ولكنه ليس شرطاً لكي تتواصل الحياة أو عائقاً لهذه الحياة إن غاب هذا الأب عن مسرح الحياة. وهذا درس عظيم لنا جميعاً لندرك حكمة الله تعالى ونرضى بقضائه فلا تتوقف الحياة بموت الأب أو الأم، ولكي لا تتحول حياة الأبناء إلى كتلة من الأحزان واليأس والجمود، بل لابد من مواصلة هذه الحياة والسعي إلى تحقيق النجاح والاعتماد على الله تعالى ثم على النفس.


فالله سبحانه سُيسخّر لهؤلاء الأيتام الصغار من يعولهم ويقوم بواجباتهم حتى يبلغوا أشدهم .


وتحضرني في هذا المقام قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح " الخضر" وبالضبط في قصتهما مع جدار أهل القرية التي أبوا أن يضيفوهما.


كان في القرية البخيلة غلامين يتيمين، وكان أبوهما ( الجد السابع كما ورد في التفاسير) صالحاً، فأراد الله تعالى أن يكرمهما ويحفظ لهما رزقاً مدفوناً تحت ذلك الجدار، وقد ورد في التفاسير أنه عبارة عن لوح من الذهب كتب عليه حكم وعلم نافع إلى جانب مال وفير، فالعلم رزق سيرثه الغلامان ويجعلهما صالحين مثل أبيهما، وأما المال فهو رزق آخر يمكنهما من تغطية مصاريفهما دون الرجوع إلى مساعدة الآخرين، وتكون أيديهما عالية.
فالعلم والمال وجهان لعملة واحدة، فكلاهما رزق، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، فالعلم بدون مال يكون ناقصاً، وكذلك مال بدون علم من شأنه أن يقود صاحبه إلى التبذير وسوء التصرف، وربما إلى المعاصي وإلى الكفر والعياذ بالله.
هنا أيضاً تجلت رحمة الله تعالى بهذين الغلامين، وحفظ لهما رزقهما كما حفظه من قبل لأصحاب السفينة وللأبوين المؤمنين الصالحين، فالرزق قد يكون مالاً حلالاً وقد يكون علماً نافعاً وقد يكون ذرية صالحة، وفي كل الأحوال فهو محفوظ من قبل الله عز وجل ومضمون حينما يتوفر شرط الصلاح.


تماماً كما يسّر الله لرسوله الكريم من يعوله ويتكلف بشؤونه، حيث سخر له في بداية الأمر جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب من بعد وفاة جده، ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ) [الضحى:6-8]، فالله على كل شيء قدير ولا يمكن أن يضيع خلقه أبداً.




من السنة السادسة إلى السنة الثامنة


ألم يجدك يتيماً فآوى


ظل في كنف جده يعتني به ويتخذه في مقام ابنه العزيز عبد الله المفقود، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يفارق جده ويصحبه معه حتى في مجالسه الخاصة التي كان يعقدها مع كبراء القوم في دار الندوة، وهذه خاصية لم تُعط لأقرانه من الصبية.


وتذكرنا هذه المكانة بالتي كانت لسيدنا يوسف لدى أبيه سيدنا يعقوب عليهما السلام ، مكانة متميزة تليق بخاتم النبيين وسيد المرسلين حتى وهو في سن مبكرة، فالله تعالى يحيط رسله وأنبياءه بعناية خاصة تمهيداً لتحميلهم مهمة الرسالة، وفترة الطفولة من أهم المراحل التي تطبع حياة المرء وتظل راسخة في عقله وبإمكانها أن تؤثر على بقية عمره سلباً أو إيجاباً.


تعتبر هذه السن المبكرة من عمر الطفل بالغة الأهمية من أجل التلقين والتأثر بالبيئة التي تحيط به، لذلك وجب الاعتناء بأطفالنا في هذه المرحلة الحساسة جداً، ولا ينبغي القول بأن الطفل ما زال صغيراً وغير قادر على الاستيعاب والتعلم، بل بالعكس تماماً فهو يكون في حالة شغف شديد لالتقاط كل حركة وسكنة ممن يحيط به خاصة والديه، فلنحذر أن نضيع هذه الفترة من عمر أطفالنا فيما لا فائدة من ورائه، فنرمي أطفالنا في أحضان التلفاز أو ألعاب الفيديو المتعددة الأنواع والمخاطر أو في أحضان المربيات في دور الحضانة دون أن نشبعهم الحنان والحب والتوجيه المطلوب، كما ينبغي علينا أن نكون قدوة بأفعالنا وتكون حركاتنا هي الخطاب المناسب لتمرير ما نريده إلى عقول أطفالنا في هذه السن المبكرة.


توفي جده عبد المطلب وانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كنف عمه أبي طالب، وهو الذي خلف أباه عبد المطلب في زعامة بني هاشم وكان أكبر أولاده، كما كان كثير العيال وقليل الدخل مما قد يجعل من قدوم النبي إلى بيته عبءاً مادياً جديداً على كاهل عمه ولكن الله تعالى جعل قدوم محمد عليه الصلاة والسلام قدوم رحمة وبركة على بيت عمه، حيث عمَّت البركة في طعامهم وشرابهم وزاد الله عمه أبا طالب رزقاً وفتح عليه في تجارته.


كما طلب النبي من عمه أن يسمح له بمزاولة عمل يمكِّنه من التخفيف على عمه فكان أن اختار رعي الغنم لقريش مقابل أجر مادي.


ومهنة الرعي حرفة قام بها كل الأنبياء من قبله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "« ‏مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ » فقال: أصحابه: وأنت؟ قال: « نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى ‏ ‏قَرَارِيطَ ‏ ‏لِأَهْلِ مَكَّةَ » [البخاري] .


وسبحان الله العظيم الذي له حِكم كثيرة في هذا الأمر، حيث أن هذه المهنة تحيي وتربي النفوس على سمات كثيرة لابد أن تتوفر في الداعية والقائد على حد سواء، فهذا التوجيه الرباني لأنبيائه لم يكن سدى، بل لتحقيق هذه الغايات في نفوسهم ليكونوا أهلاً لتحمل أمانة الرسالة والدعوة والجهاد.فيمكننا القول أن مهنة الرعي تُعتبر مدرسة للدعاة، ترسخ في نفوسهم مجموعة صفات أهمها:




أولاً : الصبر والأناة
فالراعي ينبغي أن يتحمل القطيع منذ لحظة خروجه من الحظيرة وحرصه على أن يبقى متجمعاً كالجسد الواحد، دون أن يتيه أو يضيع رأس واحد، وهي عملية ليست باليسيرة.
أما في المرعى فلا بد للراعي أن يتسلح بالصبر حتى يشبع كل من في القطيع مع بطئ عملية الأكل وتنقل الأغنام من منطقة إلى أخرى بحثاً عن العشب المناسب لهم.


ثم في نهاية اليوم ينبغي على الراعي أن يصبر على شياهه وغنمه ويحرص على أن تعود كاملة وسالمة إلى الحظيرة. وكذلك الدعاة – ومن باب أولى الأنبياء والرسل – فإنهم أكثر الناس صبراً وتحملاً للناس، على أن يبقوا في دائرة التوحيد ويردوا كل شارد أو خارج عن هذه الدائرة إليها، وما أكثر أنواع التمرد لدى البشر وحبهم للشهوات واندفاعهم نحو سبل الشيطان، رغم أن الكثير منها يكون تحت غطاء شرعي، لكنها من باب لبس الذئب ثوب الواعظين.


ثانياً : الرحمة وحب الخير
من مهمات الراعي أن يرجع بالقطيع شبعاناً في آخر اليوم، ويحرص على أن يبقى سالماً من كل سوء، ويحرص كذلك عن دفع كل المخاطر المادية التي قد تهدد سلامته، بصرف النظر عن الأجر المادي الذي يتقاضاه مقابل هذه المهمة.


فلو شاء لما كلف نفسه عناء البحث عن المرعى المناسب والتنقل المستمر بحثاً عن الغذاء الغني لقطيعه، لكن دافع الرحمة وحب الخير لهذا القطيع يجعله أحرص على تلبية حاجيات قطيعه الغريزية والفطرية.


وهذه صفة نجدها في المرسلين جميعاً وفي الدعاة من بعدهم، الرحمة وحب الخير لكل الناس حتى للمخالفين لهم بل وللمحاربين أيضاً.وقد أراد الله تعالى أن يمارس الأنبياء هذه المهمة لفترة من الزمن لكي تُغرس في نفوسهم تلك الرحمة والشفقة التي سيسكبوها على أتباعهم أو خصومهم على حد سواء، طمعاً وحرصاً على هدايتهم، وقول الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )[الأنبياء 107]، أبلغ وأفضل دليل على أن صفة الرحمة صفة ملازمة لكل الأنبياء، ومن باب أولى للدعاة من بعدهم لكي يحرصوا على هداية الخلق ولا يتركوا جهداً إلا ويبذلوه في هذا السبيل.


ثالثاً : التواضع
ما أجمل أن يملك الإنسان نفسه وما أصعب أن يقهرها بهذه الصورة الفريدة، حيث يكون خادماً لهذه البهائم الضعيفة، ينظف مكان نومها ويقوم على توفير طعامها وشرابها ويداوم على هذا الأمر صباح مساء دون ملل أو فتور.


فهذا هو التواضع الحقيقي الذي يحتاجه الداعية المسلم ليكون خادماً لغيره دون ذل أو انكسار بل بدافع الحب والإيثار، وابتغاء ما عند الله، وتربية هذه النفس على التضحية والفداء أثناء الدعوة بوقته وماله وحظوظ نفسه لكي يصل في النهاية إلى آخر محطة من محطات التضحية وهو التضحية بالروح في سبيل الله.


فالمتواضع يكون بالضرورة كريماً وسخياً بينما يكون المتكبر بخيلاً وحريصاً على ما عنده من ماديات لكي يظل دوماً مترفعاً على غيره.


وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ‏لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ » فقال رجل: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ؟ فقال: « إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ ‏ ‏بَطَرُ ‏ ‏الْحَقِّ ‏ ‏وَغَمْطُ ‏ ‏النَّاسِ » .


ولا يمكن أن تتواجد صفة الكبر في نفوس الدعاة إلى الله، لأن ذلك يتناقض مع المهمة والرسالة التي يحملونها، حيث يتوجب على الداعية أن يتنازل عن رغباته وينزل من مستواه ليصطف مع مدعويه قصد الارتفاع بهم إلى حيث ينبغي أن يكونوا.
كما أن صفة الكبر تمنع الإنسان من العطاء وتجعله دوماً مترفعاً على غيره ويتمنى لو يبقى وحده في برجه العاجي بعيداً عن هموم الناس وحاجياتهم.




رابعاً: الشجاعة
من طبيعة عمل الراعي الاصطدام بالوحوش المفترسة، وقطاع الطرق دفاعاً عن قطيعه، مما يُكسبه خبرة في مواجهة الصعاب والتغلب عليها بعيداً عن الناس، وهذا من شأنه أن يُكسبه هيبة عند الناس وثقة في نفسه.


والداعية لابد أن يكون شجاعاً مقداماً ليكبر في أعين الناس ويمنحوه ثقتهم بل وليجعلوه إماماً لهم في السراء والضراء، فما بالك بالأنبياء والرسل وهم يتلقون عن الله تعاليم الشريعة الغراء، ومطالبون بأن يغيروا مجتمعات ونفوساً، وسيلقون في سبيل ذلك كل أنواع الرفض والإيذاء ، وصفة الشجاعة ضرورية في القائد لكي يواجه كل هذا بنجاح ويحافظ على دعوته ويحمي أتباعه.


ولاشك أن تربية أطفالنا منذ صغرهم على ركوب بعض المخاطر وغرس صفات البطولة والإقدام في نفوسهم من شأنها أن تساهم في تكوين رجال قادرين على حمل أمانة الدعوة والجهاد في سبيل الله، ونُبعدهم عن حياة الرغد والدعة ونُعوِّدهم على حياة الخشونة والتقشف المتعمد ليكسبوا هذه الخاصيات ويتعودوا عليها.


خامساً: الاعتماد على النفس في الكسب
من الحكمة أن يتعلم الإنسان منذ نعومة أظفاره كيف يبحث عن كسب عيشه، وفي هذا فوائد كبيرة وعظيمة جداً، أولها أنه يتعلم الاستعفاف في طلب الرزق وعدم الاعتماد على الغير ولو كانوا من أقرب الأقربين ، كما هو الشأن في حالة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان في كنف عمه أبي طالب وهو يعلم أنه كثير العيال كثير النفقة، لذلك سارع إلى البحث عن مهمنة تمكنه من التخفيف عن عمه ومد يد العون له بدلاً من أن يكون عالة زائدة وثقلاً إضافياً على عمه المثقل أصلاً .


من جهة أخرى يدرك المرء قيمة المال والجهد منذ صغره وذلك لكي يقدر جهود والديه ومن يقوم على رعايته، ولكي يقوم هو بدوره على أحسن وجه اتجاه من سيعولهم في هذه الحياة.


إن الله هو الرزاق وقادر على أن يرزق عباده دون أن يأخذوا بالأسباب خاصة نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولكنه سبحانه يريد لنا أن نتربى ولا نخرج عن سنن الله في الأخذ بالأسباب وعدم حرق المراحل قبل نضوج الثمرة لكي نقدر قيمة هذه الثمار ونحرص عليها.
ورد في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ‏مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ‏ ‏دَاوُدَ ‏ ‏عَلَيْهِ السَّلَام ‏ ‏كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ».
كما أن الذي يعتمد على نفسه في معيشته تكون له استقلالية وحرية في اتخاذ قراراته، ولا يرتبط بالطواغيت الذين يستغلون الجانب المادي لتركيع الناس لسياساتهم ولقوانينهم ، فيتحولوا إلى عبيد لهم بسبب هذا الترابط المادي.
فلا أفضل من أن يكون الداعية بعيداً عن هذه القيود لكي يتمكن من ممارسة دعوته وواجباته الدينية بمعزل عن كل الضغوط.


والمهن الحرة تعتبر اليوم من آخر وأهم الملاذات للمؤمنين والدعاة والمصلحين لكي يُبعدوا عن أنفسهم شبهات وضغوطات وإغراءات الجهات المخالفة ومن يسعون إلى محاربتهم في مجتمعاتهم.
هذه بعض الصفات التي يمكن أن نستخلصها وترسخها مهنة الرعي في نفوس الدعاة والمصلحين، ولا ينبغي أن يُفهم أنها دعوة لممارسة مهنة رعي الأنعام في كل مكان وزمان، ولكننا أردنا فقط أن نقف بعض الأسرار الكامنة وراء هذه المهنة الفاضلة التي مارسها كل الأنبياء بلا استثناء.
لكن بالمقابل نوجه دعوة لكل الدعاة والجماعات الدعوية أن يتدربوا على مهنة القيادة في إطار ضيق ومحدود في انتظار أن يخرجوا للناس فيكونوا أهلاً لمهنة الدعوة والإصلاح كما كان أنبياء الله ورسله من قبلهم.


ووجدك ضالاً فهدى
إن الله تعالى قد حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرك وعبادة الأصنام, روى الإمام أحمد في مسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قال: حدثني جار لخديجة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخديجة: « ‏أَيْ ‏خَدِيجَةُ ‏وَاللَّهِ ‏‏لَا أَعْبُدُ اللَّاتَ أَبَدًا وَاللَّهِ لَا أَعْبُدُ الْعُزَّى أَبَدًا »وكان لا يأكل ما ذبح على النصب، ولم يتعامل بربا قط كما يشرب خمراً ولا أتى زنا وغيرها من المحرمات التي كانت سائدة في مكة.

عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام أهله يرعاها: أبصر إليَّ غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة، كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء، وضرب دفوف، ومزامير، فقلت: ما هذا؟» فقالوا: فلان تزوج فلانة، رجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته».

[1] (http://www.shamikh1.net/vb/#_ftn1)

وهذا الحديث يوضح لنا بعض الحقائق التي ينبغي الوقوف عليها:


أولاً : أن للبيئة أهمية كبرى في تربية النشء ، فقد تكون سلاحاً ذو حدين في مجال التربية، إما معيناً للمربين من أجل بلوغ وتحقيق أهدافهم التربوية وإما سبباً في هدم كل جهودهم وتعطيل عامل الاستفادة لدى النشء الصاعد.
ومهما يبلغ المرء من درجات التقوى والصلاح فإنه معرض للفتنة والانحراف واتباع الشهوات ولا عاصم له من هذا كله سوى رحمة الله تعالى التي تتدخل في اللحظات الحاسمة لكي تبعد عنه السوء والفحشاء وتفادي السقوط فيهما.




ثانياً: ضرورة اختيار الصحبة الصالحة والابتعاد عن الرفقاء السوء حتى لو كان نتيجة ذلك خسران بعض المكاسب المادية.
فلئن يخسر المرء مادياً ويفوِّت منافع آنية خير من أن يخسر دينه وتكون هذه العلاقات سبباً في شقائه الأبدي. إذ ليس من السهل التخلص من شوائب الجاهلية التي تعلقت بالمرء في صغره، وعليه بالمقابل أن يتشبث بالرفقة الصالحة التي تعينه على دينه حتى لو لم يجد لديها بعض ما تشتهيه النفس من متاع الدنيا، فهذا خير له في دينه ودنياه.
وهذه دعوة للآباء والأمهات على حد سواء أن يختاروا لأبنائهم البيئة المناسبة التي ستساعدهم على تلقين أطفالهم تعاليم دينهم وينشئوهم على طاعة الله وعلى الأخلاق الفاضلة التي تؤهلهم بالتالي إلى بلوغ مراتب الدعاة والمصلحين.


ثالثاً: يظهر هنا حفظ الله ومدده لعباده الصالحين، حيث يصرف سبحانه عنهم السوء والفحشاء ويحبب إليهم الإيمان والصلاح دون أن يقوم المرء بأدنى جهد في ذلك.
إنه اصطفاء من الله واختيار لهذه الزمرة الطيبة التي يرى فيها سبحانه وتعالى بذور الخير فيسقي نفوسهم بالعمل الصالح وقلوبهم بالتقوى والبعد عن الفساد لكي ينصر بهم دينه. مثل ما فعل مع رسوله الكريم حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أدبني ربي فأحسن تأديبي" ومدحه سبحانه وتعالى في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )[ القلم:4]، ومن قبل ذلك مع كليم الله موسى عليه السلام في قوله تعالى: ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي )[ طه:39].، وقوله تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) [طه:41].
إلى أن نلتقي مع بقية الأحداث التي سبقت بداية البعثة وبدء نزول الوحي،أود أن أذكر إخوتي بأني حاولت تفادي سرد الأحداث بالتفصيل لأنه ليس الهدف والغاية من هذا البحث، حيث بإمكان الإخوة أن يجدوا ذلك في المراجع الأساسية للسيرة النبوية وكذلك في كتب التفسير وغيرها من أمهات الكتب، بينما حاولت أن أقف - ما وجدت إلى ذلك سبيلاً - على أهم الدروس والعبر والوقفات التربوية وراء كل حدث من سيرة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.



ليس هناك شك أن فترة ما قبل الوحي ليست غنية بما نريد من وقفات تربوية ومحاولة إنزال ذلك على واقعنا المعيش، إذ أن فترة التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم تبدأ أساساً من بدء الوحي الذي يشكل منطلق المسيرة الدعوة والجهادية للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه رغم ذلك حاولنا استخراج بعض الوقفات التي نأمل أن تفيدنا في حياتنا الدعوية والجهادية ونحاول تطبيقها على أبنائنا الذين يشكلون الجيل الصاعد وأمل هذه الأمة إن شاء الله.



هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



1- قال ابن حجر في المطالب العالية بعد أن ساق روايةإسحاق بن راهوية من طريق ابن إسحاق : " هكذا رواه محمد بن إسحاق في السيرة ، وهذه الطريق حسنة جليلة ، ولم أره في شيء من المسانيد الكبار إلا في مسند إسحاق هنا ،وهو حديث حسن متصل ورجاله ثقات" .



:::::::::::::::::::::::::::::::::::

رضى الناس غاية لا تدرك
20 Dec 2010, 12:31 PM
بارك الله فيكم ونفع بكم

قائد_الكتائب
21 Dec 2010, 02:04 AM
بارك الله فيكم ونفع بكم


وإيّاكم

قائد_الكتائب
21 Dec 2010, 02:43 AM
الدرس الثالث



آخر أهم الأحداث قبل البعثة






الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

تتمة لوقفاتنا التربوية على سيرة خير البرية، في فترة ما قبل النبوة، نواصل الحديث عن أهم الأحداث التي عاشها سيد البشرية والتي نرى لها أثراً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي بإمكاننا أن نقتبس منها بعض النور لينير لنا الطريق إلى الله، ونزداد إيماناً ويقيناً بصحة هذا الدين وبعصمة صاحبه عليه أفضل الصلاة والسلام.

نقف في هذا الدرس على آخر الأحداث قبل بدء الوحي، والدخول في أحداث السيرة الحقيقية التي سنجد فيها زخماً هائلاً من الدروس والعبر والمواقف التربوية بحول الله.
يتعلق الأمر تباعاً وعلى حسب الترتيب الزمني: لقاء النبي مع بحيرى الراهب – حرب الفجار – حلف الفضول – الاشتغال بالتجارة – زواجه بخديجة رضي الله عنها- إعادة بناء الكعبة – التعبد والخلوة في غار حراء.

لقاء الراهب بحيرى بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو غلام

قال ابن إسحاق : ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام ، فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له وقال والله لأخرجن به معي ، ولا يفارقني ، ولا أفارقه أبدا ، أو كما قال . فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام ، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية ، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها - فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر . فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى ، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك ، فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام . فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا ، وذلك - فيما يزعمون - عن شيء رآه وهو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا ، وغمامة تظله من بين القوم . قال ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة ، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم عبدكم وحركم فقال له رجل منهم والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا نمر بك كثيرا ، فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى : صدقت ، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما ، فتأكلوا منه كلكم . فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة ، فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش : لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي ، قالوا له يا بحيرى ، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا ، فتخلف في رحالهم فقال لا تفعلوا ، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم قال فقال رجل من قريش مع القوم واللاتي والعزى ، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا ، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم . فلما رآه بحيرى ، جعل يلحظه لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء من جسده وقد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا ، قام إليه بحيرى ، فقال يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تسألني باللاتي والعزى شيئا ، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما " ، فقال له بحيرى : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه فقال له " سلني عما بدا لك " . فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده .

قال ابن هشام : وكان مثل أثر المحجم . قال ابن إسحاق :فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له ما هذا الغلام منك ؟ قال ابني . قال له بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ، قال فإنه ابن أخي ، قال فما فعل أبوه ؟ قال مات وأمه حبلى به قال صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغينه شراً ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده .

فقال وهو آخذ بيده : هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ، فقال أبو طالب : ما علمك بذلك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجداً، ولا تسجد إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا.
فخرج به عمه أبو طالب سريعاً ، حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام فزعموا فيما روى الناس أن زريراً وتماماً ودريساً - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرى ، وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه . [ سيرة ابن هشام]

يمكننا استخلاص بعض الحقائق والدروس من قصة بحيرى كالتالي:

1- أن اليهود من أشد الناس عداوة لهذا الدين حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه الكريم{لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}، وما زالوا مصدر عداء وتزوير لهذا الدين ، ومصدراً للمكر والكيد للمسلمين في كل زمان ومكان، وسيظلون كذلك حتى تقوم الساعة، حين سيقاتلهم المسلمون حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله، تعال إن ورائي يهودياً فاقتله.

2- أن النصارى أقرب إلى الإسلام من غيرهم لأنهم أرق قلباً وأقرب إلى الحق وبخاصة رهبانهم وقسيسيهم كما ذكر ذلك رب العزة في قوله : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) [المائدة-82] ، جاء في تفسير ابن كثير : { أَيْ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ نَصَارَى مِنْ أَتْبَاع الْمَسِيح وَعَلَى مِنْهَاج إِنْجِيله فِيهِمْ مَوَدَّة لِلْإِسْلَامِ وَأَهْله فِي الْجُمْلَة وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِي قُلُوبهمْ إِذْ كَانُوا عَلَى دِين الْمَسِيح مِنْ الرِّقَّة وَالرَّأْفَة كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَجَعَلْنَا فِي قُلُوب الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ رَأْفَة وَرَحْمَة وَرَهْبَانِيَّة " وَفِي كِتَابهمْ : مَنْ ضَرَبَك عَلَى خَدّك الْأَيْمَن فَأَدِرْ لَهُ خَدّك الْأَيْسَر وَلَيْسَ الْقِتَال مَشْرُوعًا فِي مِلَّتهمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ " أَيْ يُوجَد فِيهِمْ الْقِسِّيسُونَ وَهُمْ خُطَبَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ.
وَكَذَا رَوَاهُ اِبْن مَرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيق يَحْيَى بْن عَبْد الْحَمِيد الْخَانِيّ حَدَّثَنَا نَضِير بْن زِيَاد الطَّائِيّ حَدَّثَنَا صَلْت الدَّهَّان عَنْ جَاثِمَة بْن رِئَاب قَالَ سَمِعْت سَلْمَان وَسُئِلَ عَنْ قَوْله " ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا " فَقَالَ هُمْ الرُّهْبَان الَّذِينَ هُمْ فِي الصَّوَامِع وَالْخَرِب فَدَعُوهُمْ فِيهَا قَالَ سَلْمَان : وَقَرَأْت عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ فَأَقْرَأَنِي ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا فَقَوْله : " ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ " تَضَمَّنَ وَصْفهمْ بِأَنَّ فِيهِمْ الْعِلْم وَالْعِبَادَة وَالتَّوَاضُع ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ وَاتِّبَاعه وَالْإِنْصَاف } .
والناظر إلى الواقع يجد هذه الحقيقة واضحة جلية، حيث نشاهد يومياً إسلام الكثير من المسيحيين وبخاصة علماؤهم بخلاف ندرة إسلام عوام اليهود فضلاً عن علمائهم.

3- حدوث معجزات وكرامات كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة مثل سجود الشجر والحجر له، وتظليل الغمام له وميل فيء الشجرة عليه، وهي غير مستبعدة في حق خير البرية وخاتم النبيين وسيد المرسلين بل سيد ولد آدم أجمعين.

4-أن هذه الرحلات التجارية تكون مصدراً للكثير من الفوائد ومناسبات لاكتشاف البلدان من حوله وطبائع الناس الذين سيُبعث إليهم، فهي مراحل تمهيدية لابد منها قبيل بداية الدعوة. والدعاة إلى الله تعالى ينبغي أن يكونوا على دراية جيدة بالبلدان والمناطق المجاورة لهم والتعرف على تقاليد الناس وطباعهم ليتمكنوا من إيجاد المفاتيح اللازمة لفتح قلوبهم وهدايتهم إلى طريق الحق.

حرب الفِجَار

وقعت في سوق عُكاظ حرب بين قريش - ومعهم كنانة - وبين قَيْسعَيْلان، تعرف بحرب الفِجَار وسببها‏:‏ أن أحد بني كنانة، واسمه البَرَّاض، اغتال ثلاثة رجال من قيس عيلان، ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان، وكان قائد قريش وكنانةكلها حرب بن أمية؛ لمكانته فيهم سنا وشرفًا، وكان الظفر في أول النهار لقيس علىكنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كادت الدائرة تدور على قيس‏.‏ ثم تداعى بعض قريشإلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد‏.‏فاصطلحوا على ذلك، ووضعوا الحرب، وهدموا ما كان بينهم من العداوة والشر‏.‏
وسميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها، وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز لهم النبل للرمي‏.وسميت يوم الفجار بسبب ما استحل فيه من حرمات مكة التي كانت مقدسة عند العرب. وقد قال صلى الله عليه وسلم عن تلك الحرب: «كنت أنبل على أعمامي» أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.
وكان صلى الله عليه وسلم حينئذ ابن أربع عشرة أو خمس عشرة سنة، وقيل ابن عشرين، لكن الأرجح هو الأول بسبب أنه كان يناول عمه النبال ولم يرد عنه أنه شارك فيها مقاتلاً، مما يدل على حداثة سنه.
وبذلك اكتسب التجربة والشجاعة والمشاركة في الحرب ، وتمرن على القتال منذ ريعان شبابه، وقد انتهت هذه الحرب كمثيلاتها التي كانت تنشب بين القبائل العربية لأتفه الأسباب والتي كانت تدوم سنوات بل أجيالاً، إلى أن أذن الله لها أن تتوقف بظهور الإسلام ومجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ألف بين قلوبهم وجمعهم على كلمة سواء ليخرج بهم العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويقود بهم البشرية الحائرة إلى بر الأمن والأمان والهداية والصلاح، بدلاً من التشرذم والتقاتل لأتفه الأسباب.

حلف الفضول:

كان حلف الفضول بعد رجوع قريش من حرب الفجار، وسببه أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة ونادى بأعلى صوته:



يا آل فهر لمظلوم بضاعتـه * * ببطن مكة نائي الدار والنـفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته * * يا للرجال وبين الحِجر والحَجَر
إن الحـرام لم تمت كرامتـه * * ولا حرم لثوب الفاجر الغُـدر

فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه ما بل بحر صوفة، وما بقي جَبَلا ثبير وحراء مكانهما ، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه ، وسمت قريش هذا الحلف حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر.

وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب:


إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا ** ألا يقيم ببطن مكة ظالـم
أمر عليه تعاقدوا وتواثقـوا ** فالجار والمُعتـرّ فيهم سالم




وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف ، وسمي بحلف المطيبين ،وعنوانه نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم مهما كان شأنه وإعادة الحقوق المسلوبة إلى أصحابها ولو أدى ذلك إلى نشوب حرب طاحنة تأكل الأخضر واليابس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه »( صحيح ) . وزاد في رواية : قال : المطيبون : هاشم ، وأمية ، وزهرة ، ومخزوم . حلف المطيبين . قال في النهاية : اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان فيالجاهلية ، وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه ، وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم ، فسموا المطيبين .

وقال صلى الله عليه وسلم: « لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت » .[أنظر سيرة ابن هشام][1] (http://shamikh1.net/vb/#_ftn1)

ويذكرنا هذا الحلف بحلف المطيبين في عراق الإسلام حديثاً، والذي كان الأساس لدولة العراق الإسلامية المعاصرة، والذي كان من أهم المشاركين فيها تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين ومجموعة من الفصائل المجاهدة والكثير من رؤساء العشائر العراقية.

دروس وعبر تربوية

أولاً : إن العدل غاية سامية ومحاربة الظلم من أوجب الواجبات وعليه قامت السماوات والأرض، ومن أجله بعث الله الرسل، إحقاق الحق وإبطال الباطل ونشر العدل بين الناس بصرف النظر عن دينهم ومعتقدهم.، وقد أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعزازه وفخره بالمشاركة في هذا الحلف ولو كانت الأطراف التي تعاقدت عليه غير مسلمة أصلاً وما زالت غارقة في الجاهلية.

ثانياً: بالرغم من انتشار الظلم والفساد في تلك الجاهلية الجهلاء قبل البعثة النبوية إلا أنه كان هناك بعض الخير في نفوس الناس، وحرصهم على تحقيق العدل ورفضهم للظلم ولكل معالم هذه الجاهلية، نفوس أبية جُبلت على الكرم وحب الخير ، وهي بمثابة شموع مضيئة وسط ظلام دامس.
ومن هنا ينبغي على الدعاة أن يبحثوا على هؤلاء في مجتمعاتهم لكي ينضموا إلى صفوف الحق ويكونوا جنوداً للحق بدلاً من بقائهم طاقات ضائعة وجهوداً مهدورة لنصرة الباطل أو في أفضل الحالات في موقف الحياد اتجاه سنة التدافع بين الحق والباطل.

ثالثاً: على الدعاة والمجاهدين جميعاً أن يكون الحق هو شعارهم في مسيرة التغيير، ويكون نصرة المظلوم والضرب على يد الظالمين هو الغاية الكبرى، ولا ينبغي أن يدفعنا خلاف الآخرين معنا إلى ظلمهم والاعتداء عليهم ما لم يجاهرونا بالعداء أو يبدأونا بقتال أو يناصروا الطواغيت، فالعدل أساس النجاح وضمان للنصر والتمكين كما أن الظلم والحيف هما سبب رئيس للضعف والهزيمة.

رابعاً: يجوز للحركات الجهادية المعاصرة أن تعقد بعض الاتفاقيات أو المعاهدات المؤقتة مع مخالفيها أو الأطراف المحايدة الأخرى، أو تكون طرفاً في هذه التحالفات إن كان موضوعه هو نصرة المظلومين وضمان بعض الحقوق المتفق عليها وغير مناقضة لتعاليم ومبادئ ديننا الحنيف، وهو معنى قوله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )[المائدة: 2]، فأبواب الخير مفتوحة ولسنا نحن من يوصدها في وجه كل باغ للخير محارب للظلم.
وحلف الفضول هذا يُعتبر نموذجاً ومثلاً لما يمكن أن يشارك فيه المسلمون بعامة والمجاهدون بصفة خاصة مع الأطراف والطوائف المحيطة بهم في الساحة، والدليل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: « ما أحب أن لي به حمر النعم » لنظراً لما يحققه من عدل ورفع للظلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: « ولو دعيت به في الإسلام لأجبت »طالما أن يردع الظالم عن ظلمه ويحفظ للمظلوم حقوقه ويسترجعها له.

زواجه من خديجة رضي الله عنها

كانت خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - ذات شرف ومال، تستأجر الرجال ليتاجروا بمالها، فلما بلغها عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، عرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار. فقبل وسافر معه غلامها ميسرة ، وقدما الشام، وباع محمد - صلى الله عليه وسلم - سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد من السلع، فلما رجع إلى مكة وباعت خديجة - رضي الله عنها - ما أحضره لها تضاعف مالها .

رأت خديجة - رضي الله عنها - في مالها البركة ما لم تر قبل هذا، وأُخْبِرت بشمائله الكريمة، فتحدثت برغبتها في زواجه إلى صديقتها نفيسة أخت يعلى بن أمية .
يقول ابن حجر في كتابه الإصابة : " .. إن السيدة خديجة - رضي الله عنها - كانت ذات شرف وجمال في قريش، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في تجارة لها - رضي الله عنها - إلى سوق بصرى، فربح ضعف ما كان غيره يربح . قالت نفيسة أخت يعلى بن أمية : فأرسلتني خديجة إليه دسيساً (خفية)، أعرض عليه نكاحها، فقبل وتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، والذي زوجها عمها عمرو لأن أباها كان مات في الجاهلية، وحين تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت أيماً بنت أربعين سنة، وكان كل شريف من قريش يتمنى أن يتزوجها، فآثرت أن تتزوج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابت بذلك خير الدنيا والآخرة " ..

وقفات تربوية

* تعتبر التجارة من أفضل الوسائل التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا المسلمين إلى مزاولتها، حيث حدد بأن الله عز وجل جعل تسعة أعشار الرزق فيها. وهذا دليل على أن المسلمين بعامة والدعاة بخاصة مدعوون إلى إحياء هذه السنة والتركيز على هذه الحرفة الشريفة كمصدر رزق لهم ولذويهم، وكذلك مصدر تمويل لدعوتهم، حتى يحققوا نوعاً من الاكتفاء الذاتي، وعدم السقوط في التبعية لهذا الطرف أو ذاك، وبالتالي التحرر من كل القيود التي من شأنها أن تدفع إلى التنازل عن بعض المبادئ والسقوط في الطريق فريسة سهلة لأعداء الدعوة.

أقول بأن التجارة نوع من أنواع الكسب الحلال والمستقل للدعاة، في مرحلة الدعوة التي تستمر وتتواصل، بينما يكون مصدر الرزق الأكبر والأهم للدعوة وللجماعة المسلمة هي ما أحل الله من غنائم أو فيء، يحصل عليه المجاهدون أثناء مزاولتهم لعبادة الجهاد، حيث جاء في الحديث الصحيح : ( َجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْخَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وفي هذه الفترة من السيرة النبوية المطهرة لم يكن مفروضاً على رسوله ولا على المسلمين أموال الغنائم بعد، وسنقف على هذه المسألة في وقتها ومكانها المناسبين بإسهاب.

* كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق والأمانة في الأوساط التي يتحرك فيها، بل كان قدوة ومثلاً أعلى في هذا المجال، إلى درجة أنه كان محل ثقة وأمانة المجتمع كله، فكل الأمانات المادية كانت تودع في بيته، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على التمهيد الرباني لرسوله في المجتمع الذي سيُرسل إليه هادياً ورسولاً، وهي من الصفات الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها الدعاة إلى الله تعالى، ليكون لهم القبول في الأرض.

فالقدوة الحسنة لها عظيم الأثر في النفوس، قد لا يحتاج الداعية إلى كثير حديث وكلام لتبليغ دعوته، فالناس تتأثر بالفعل أكثر مما تتأثر بالقول، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )[فصلت 33] [ فالعمل الصالح يسبق القول ، بل لا قيمة لقول بلا عمل، وأدهى وأمر من ذلك وعيد من الله عز وجل لأصحاب هذا المذهب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )[الصف2-3].

هذه الصفات الحميدة والأخلاق الرفيعة دفعت بخديجة رضي الله عنها أن تضع أموالها في أيدي النبي لكي يتاجر بها وقد اطمأنت إليه قبل أن تجربه أصلاً، فعامل الثقة يبنيه المرء بتعاملاته اليومية مع الناس وهو يُعتبر رأس مالك الحقيقي في المجتمع الذي تتحرك فيه، فالناس لا تسعهم بمالك بقدر ما تسعهم بأخلاقك، لأن المال يزول وينقضي بينما الأخلاق تبقى وتدوم.


* لقد تعودنا في مجتمعاتنا أن يبادر الرجل إلى خطبة المرأة وليس هناك مكان للعملية المعاكسة، بمعنى أن والدي الفتاة أو أهلها لا يسعون للبحث عن الزوج الصالح لابنتهم ويعتبرون ذلك من صور الإهانة والتنقيص من قيمة الفتاة، بل قد تُثار شبهات كثيرة عن هذه الفتاة نفسها تصل في بعض الأحيان إلى إثارة شكوك حول عفتها وعرضها ما دام أن والديها هما اللذان يسعيان إلى عرضها بدلاً من انتظار الخاطبين في البيت، مما يقلل من حظوظ وقوع المرأة الصالحة على الرجل الصالح، وهذا ظلم في حق المرأة وتنقيص لكرامتها وقيمتها، فهي جزء لا يتجزأ من المشروع الإسلامي المرتقب، واللبنة الأساس في البناء القادم، وعليه فينبغي أن نبحث لبناتنا وأخواتنا عن الأزواج المناسبين لتستمر في عطائها لدينها وتطور كفاءاتها في طريق الدعوة والجهاد.


* على الشباب المجاهد أن يفقه أن سنة الزواج سلاح ذو حدين ، بإمكانه أن يوفر له الاستقرار والظروف المناسبة حينما يختار زوجة صالحة تربت على مبادئ الإسلام الحنيف وعلى التواضع والقناعة وحب الآخرة والزهد في الدنيا، بينما قد يكون هذا الزواج مصدراً للمتاعب وعقبة كبيرة في طريق الدعوة والجهاد حينما لا تتجاوب الزوجة مع طموحات وغايات زوجها.وفي هذه الحالة أنصح الشباب بأن يتحروا جيداً قبل الإقدام على الزواج ومن الأفضل أن يتأخر زواجهم بدلاً من أن يسارعوا إلى زواج فاشل يكون مثبطاً وعائقاً للداعية.

سنتطرق إلى دور الزوجة بالتفصيل في حينه وأهم صور الحياة الزوجية الناجحة والفاشلة، وأهمية دور المرأة المسلمة في المسيرة الجهادية إلى جانب الرجل، مع أحداث السيرة القادمة بحول الله تعالى.

إعادة بناء الكعبة

أهم حدث عرفته هذه الفترة هو مسألة إعادة بناء الكعبة المشرفة، حيث اختلف زعماء القبائل على الشخص الذي يعيد الحجر الأسود إلى مكانه الأصلي حتى كادت أن تنشب حرباً ضروساً بينهم.

قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوزوا وتحالفوا ، وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم . فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا .

فزعم بعض أهل الرواية أ ن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عائذ أسن قريش كلها ; قال يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا . فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا ، هذا محمد ; فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم هلم إلي ثوبا ، فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده . ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ، ففعلوا : حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه . [سيرة بن هشام].

وهذا دليل آخر يبين أن شخص رسول الله كان محل احترام وتقدير في مجتمعه، وكذلك ينبغي أن يكون كل داعية قبل الانطلاق بدعوته بين الناس. كما يبين أن الداعية عنصر إصلاح، ومصدر إلهام في مجتمعه، يلجأ إليه الناس للمشورة وتقديم الحلول المناسبة للمعضلات المطروحة في الساحة.

فالداعية يتميز عن غيره بالعطاء والتضحية، والسهر على راحة الآخرين وتقديم يد العون المناسب في الوقت المناسب. ولا ينتظر جزاء من أحد بل إن عمل الخير والسعي للإصلاح سمة ذاتية مصاحبة له أينما حل وارتحل، فتراه يجد سعادة كبرى في إنجاز ما يقوم به من عمل الخير والإصلاح بين الناس وهدايتهم.


الخلوة في غار حراء

في السنوات الأخيرة قبل نزول الوحي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصص فترة من السنة للخلوة في غار حراء، من أجل التعبد والتفكر في ملكوت الله، وكان هذا اهتمام بالجانب الروحي وإعداد رباني له لأداء المهمة الثقيلة التي ستأتي بعد حين.
كان يقضي فيه أياماً وليالي ذات العدد يتفكر في خلق الله، ثم ينزل ليتزود من الطعام والشراب ويعود ثانية إلى خلوته، وكان أكثر ما يخلو في شهر رمضان.

وغار حراء يوجد في مرتفع يُطِلٌ على مكة ومحيطها، وهو منظر وموقع يحتاج أن يقف فيه كل داعية اتجاه واقعه ومحيطه الذي يتحرك فيه، والذي يود أن يغيره من داخله. فمن حين لآخر يحتاج الداعية لأن يخرج من هذا المحيط ويرتفع عنه لا أن يترفع، بهدف اكتشاف مواطن الضعف والفساد في هذا المحيط، لكي يعود إليه داعياً ومغيراً ومصلحاً.

كما أن هذه الخلوة يمكننا اعتبارها فترة مراجعة وتخطيط، كلنا بحاجة إليها من حين لآخر، يجدد فيها المرء عزيمته ويراجع فيها حساباته ويسطر فيها برامج مستقبلية لمواصلة المسير، بعزيمة أقوى، وبرؤية أصوب وأوسع.

والأصل هو الابتعاد والانزواء إلى حين من أجل وضع خطط للتغيير والإصلاح، وليس الهروب من الواقع بحثاً عن السلامة وترك المسؤولية، أو الترفع عن الناس والبقاء في البروج العاجية ووضع حدود مصطنعة بينك وبين الناس بحجة أنك منشغل بما هو أهم.

فليس هناك ما هو أهم من هموم الناس ومشاكلهم ومعاناتهم اليومية لكي نبحث لها عن حلول، وبالتالي نأمل أن تكون سبباً وطريقاً لكسب قلوب الناس وتجنيدهم لخدمة دينهم.

فالمرء بحاجة دوماً إلى زاد روحي ومعنوي يستعين به على مواصلة مهام وواجبات الدعوة، ومن هنا نفهم أهمية ودور الاعتكاف في الإسلام وكذلك قيام الليل وغيرها من العبادات .

بهذا ننتهي من مرحلة ما قبل البعثة بما فيها من أحداث وننتقل بعون الله إلى الفترة الغنية بالدروس والعبر والتي تبدأ مع بدء الوحي، وهذا ما سنفصله في الحلقات المقبلة بحول الله.



والحمد لله رب العالمين



----------------------



1- رواه الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر

قائد_الكتائب
22 Dec 2010, 01:34 AM
دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

الدرس الرابع ... رائـــع


البعثة النبوية وبدء الوحي

الحمد لله على نعمه والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، بشيراً ونذيراً وداعياً بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وسار على نهجه، وبعد

نعم لقد أذن الله تعالى لنبيه أن يبدأ دعوته، فقد آن للبشرية أن تعرف طريق الحق والهدى بعدما تاهت وغرقت في طرق الباطل والضلال، ومن رحمة الله لها وبها أن أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم الخاتم أن يخرج بالرسالة الخاتمة، رحمة للعالمين، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، يعبدونه لا يشركون به شيئاً.
لقد طال انتظار البشرية لهذه النعمة المهداة، ولهذه الانطلاقة النورانية، ولكن لكل أجل كتاب، وحكمة الله فوق كل اعتبار.

وهذا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها تحكي فيه كيف نزل الوحي لأول مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العددقبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال‏:‏ اقرأ‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏،قال‏:‏ ‏(‏فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال‏:‏ اقرأ، قلت‏:‏ مـاأنـا بقـارئ، قـال‏:‏ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلـغ منـى الجهد، ثم أرسلني فقال‏:‏اقرأ، فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثـم أرسلـني فـقـال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏} (http://java******:openquran%2895,1,3%29/)‏‏[ ‏العلق‏:‏1‏،3‏ ]‏‏ ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال‏:‏ ‏(‏زَمِّلُونى زملونى‏)‏،فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة‏:‏ ‏(‏ما لي‏؟‏‏)‏ فأخبرها الخبر، ‏(‏لقدخشيت على نفسي‏)‏، فقالت خديجة‏:‏ كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم،وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجةحتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ـ فقالت له خديجة‏:‏ يا بن عم، اسمع من ابن أخيك،فقال له ورقة‏:‏ يابن أخي، ماذا ترى‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مارأي، فقال له ورقة‏:‏ هذا الناموس الذي نَزَّلَهُ الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا،ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو مخرجيّهم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِىَ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن توفي، وفَتَر الوحى‏.‏[ رواه البخاري ].
وفي رواية قال له ورقة بن نوفل: يا ليتني فيها جلداً فأنصرك ."

وقفات مع الحديث:
العلم قبل العمل


وأقصد أساساً ضرورة التسلح بالعلم الشرعي ليكون سلاحاً للداعية ليدعو إلى الله على بصيرة وليكون قادراً على دحض شبهات أهل الباطل التي تروج في الساحة والتي تحول دون وصول كلمة الحق إلى الناس.
فالكثير من الإخوة يستهينون بهذا الجانب استهانة واضحة، ولا يعيرون له كثير اهتمام بحجة أنهم على الحق وغيرهم على الباطل، ولكن هذا لا يكفي لأن على الدعاة أن يقتنعوا هم أولاً ويفهموا دينهم فهماً واسعاً ثم ينطلقوا بعد ذلك ليُقنعوا غيرهم وينشروا ما آمنوا به.
وهذا الأمر يتطلب دراية وفهماً وفقهاً للدين، وامتلاك الأدوات العلمية اللازمة لتحقيق ذلك. وكلمة "اقرأ" الواردة في صدر سورة العلق ترمز إلى هذا الحقيقة وهي أشمل وأوسع مما نتصور، إذ لا ينبغي حصر العلم في القراءة السطحية والاكتفاء بحفظ النصوص الشرعية حفظاً جافاً وسلبياً، بل لابد من القراءة المتأنية والمعمقة، وربطها بالواقع المراد تغييره، والسعي إلى فقه الواقع مع الفقه للنصوص الشرعية، فهما أمران متلازمان ووجهان لعملة واحدة لننجح في مهمة الدعوة إلى الله على علم وبصيرة.
القراءة تعني قراءة القرآن المقروء الذي هو كتاب الله تعالى المنزل على رسوله، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا، قراءة متأنية واعية بنية العمل والتطبيق، وأن يكون هذا الكتاب الحكيم الكريم منهاج حياة لنا في كل شيء، ومصدر إلهام لكل موقف نتعامل فيه مع من نحب ومن نبغض، من نوالي ومن نعادي.
ثم هي قراءة للقرآن المنظور وهو الكون الذي من حولنا وما فيه من أسرار ومكنونات خلقها الله كلها لخدمتنا وإسعادنا، والتي ينبغي أن نستغلها في الخير ولكن قبل ذلك يلزم علينا فهم ما فيها من أسرار وحكم، ونحاول بالتالي الحفاظ على الميزان الذي خلقه الله في هذا الكون ونحافظ على العلاقة الربانية الحكيمة التي تربطنا بهذه المخلوقات، { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[ الرحمن:9 ].

ثقل الرسالة


منذ بداية الوحي وهو بداية رسالة الإسلام، نلاحظ أن كلام الله كان ينزل ثقيلاً على رسوله وهو كذلك معنويا ومادياً، { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا }[ المزمل:5 ] ، وذلك ليعلم أصحاب الدعوة أن هذا الدين ثقيل، بما يحويه من تبعات وأوامر ونواهي، وكلنا ينبغي أن نتذكر لحظات الوحي الأولى، وغطات جبريل القوية لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فهي إشارة إلى أخذ أمر هذا الدين بجدية وعزم وقوة، وليس بالهزل والتميع والضعف.
ليس هذا فحسب، فرسالة الإسلام عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال حيث أَبيْنَ أن يحملنها بسبب ثقلها وكثرة تبعاتها، ولكن الله تعالى يعلم أنا قادرون على حملها والقيام بمهامها فاختصَّنا بهذه الرسالة الخاتمة، وخيرية هذه الأمة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بأهمية الرسالة وثقلها، فلا نستحق هذه الخيرية إلا إذا قمنا بواجبات الدعوة والتبليغ كما يريد الله عز وجل، تبليغاً كاملاً غير ناقص { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } [ الأحزاب:39 ] ..
ما دام الأمر كذلك فمن الواجب على المؤمن أن يعد نفسه إعداداً جيداً ( معنوياً وماديا) ليتمكن من تحمل مسؤولياته داعياً ومجاهداً في سبيل الله، فأوامر الله لا يقدر على تنفيذها مؤمن ضعيف فضلاً عن مؤمن لا مبالي لا يعرف من القرآن إلا رسمه ولا من الإسلام إلا اسمه، كما هو واقع غالبية المسلمين اليوم، حيث نراهم منغمسين في الشهوات ويعيشون من أجل مصالحهم وذواتهم، متخذين الإسلام غطاء وهواية لا أقل ولا أكثر، أو يجعلونه مجرد جسر يعبرون عليه لبلوغ أهدافهم التافهة الزائلة بدلاً من أن يكونوا هم جسراً ليعبر عليه الإسلام فيحرر العباد ويكسر القيود ويحطم السدود.

دور الزوجة
يبرز دور زوجة الداعية وأهميته في مسيرة الدعوة، وذلك منذ بدء المسيرة وبخاصة في مراحل الشدة والضيق، فالزوجة تعتبر السند الداخلي للداعية، ودورها يتمثل في تثبيت زوجها وتشجيعه والمشاركة معه فعلياً وليس قولاً فقط، حيث سنرى في الصفحات القادمة من هذا البحث، نماذج من هذه المشاركة على أرض الواقع، ووقوفها جنباً إلى جنب مع زوجها أو أبيها أو ابنها أو أخيها، في مختلف مراحل الدعوة.
كما سنخصص حديثاً مطولاً عن دور المرأة المسلمة إلى جانب أخيها المجاهد ( زوجاً كان أو أباً أو أخاً أو إبناً ).
ومواقف أمنا خديجة رضي الله عنها مع إمام الدعاة وسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، يعتبر النموذج والمثل الأعلى لما يجب أن تقوم به المرأة المسلمة تجاه دينها، وتجاه زوجها. فهي منذ الساعة الأولى لبدء الرسالة، سارعت إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وتشجيعه على المضي قدماً في قبول الرسالة، وليس التنكر لها ومحاولة إبعاده عنها وعن تبعاتها، خاصة وأنها تعلم أن التشبث بالدعوة سيحرمها من الكثير من مكتسباتها كزوجة تحب أن تنفرد بزوجها، وكامرأة تحب أن تتمتع بالحياة الرغيدة البعيدة عن المتاعب والتضحيات.
لم تقف هذا الموقف المثبط، بل سارعت إلى عرض هذا الأمر الخطير على ابن عمها ورقة بن نوفل، العليم والخبير بالديانات، لكي تتأكد من صحة ما نزل على زوجها، والاطمئنان على هذا الشرف العظيم، شرف الرسالة والنبوة.
ذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وهي متأكدة من صدق زوجها وادعائه، فقالت رضي الله عنها: " والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم،وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". وهذه هي الصفات المؤهلة لتحمل تبعات الدعوة والجهاد، والزوجة الصالحة تعين زوجها لاكتساب هذه الصفات والمحافظة عليها وتقويتها، وهذا يعني أن تضحي هذه الزوجة ببعض مصالحها وحقوقها وتعيش لغيرها بدلاً من احتكار الزوج لنفسها فقط.
الزوجة الصالحة هي التي تصدق زوجها الداعية المجاهد أنه على الحق، وأن طريق الجهاد هو الطريق الصحيح، طريق الولاء للمؤمنين ولو كانوا من أبعد الأبعدين والبراءة من المشركين ولو كانوا من أقرب الأقربين.
هي التي تعينه إذا خرج في مهمة جهادية أو دعوية، وتذكره إذا نسي واجباً من واجباته، تحرص على أن يكون زوجها في الصفوف الأولى وتدفعه إلى النفقة والعطاء وبذل الغالي والنفيس في سبيل نصرة دينه، لأنها تعلم يقيناً أنه إنما ينفقون لأنفسهم وسيجدون ذلك عند الله.

الدعاة أصحاب خلق رفيع


لقد رأينا أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم العالية والمتميزة، والسمعة الطيبة التي كان يتمتع بها في مجتمعه، وتكفي شهادة الله تعالى له بذلك { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم:4 ]، وإن الله تعالى كان يهيئه ويعده لمهمة النبوة بل لمهمة خاتم النبوة وهي مهمة لا يقوى عليها ولا يصلح لها إلا من كان في مثل خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلة الرحم،وحمل الكل، وكسب المعدوم، وإقرار الضيف، وإعانة على نوائب الحق، وهي صفات وخصال جامعة شاملة لكل أنواع الخلق الرفيع والطبع النبيل.
من هنا ينبغي على أصحاب الدعوة أن يُجَمّلوا أنفسهم بحسن الخلق، فهي الوسيلة المثلى للتأثير في الناس، لأن الداعية يكسب الناس بخلقه وتعامله أكثر مما يكسبهم بلسانه وفصاحته.
واليوم نرى أضواء الأقربين قبل الأبعدين مسلطة على الدعاة والمصلحين، تبحث عن أدنى هفوة أو أصغر زلة لكي يظهروها على الملأ فيكون مدعاة لإسقاط هؤلاء الدعاة وسبباً لتحجيم دعوتهم وحصار كلمتهم، فلا ينبغي أن نترك هذه الثغرات لأعدائنا وخصومنا ولضعاف النفوس، وليكن سلاحنا هو اليقظة الدائمة والاستقامة المتواصلة والتحلي بالخلق الرفيع الذي سيرفع دعوتنا ويزكي منهجنا ويجعلنا في أعلى مقامات الاحترام والتقدير.

تبعات الرسالة
بعدما أكد له صحة الرسالة وصدقيتها، بادر ورقة بن نوفل إلى إخبار رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ببعض ما ينتظره في الطريق، وذلك لكي يكون على علم مسبق ويتهيأ لذلك، فالدعوة عبارة عن سفر طويل، لابد للمسافر أن يعد الزاد المادي والمعنوي اللازمين.
ومن الزاد المعنوي أن يعرف الإنسان ما ينتظره في الطريق من مخاطر وعقبات لكي يحسب لها حساباً، فيصحب معه ما يلزم.
كما أن هناك زاداً علمياً يتمثل في فهم حقيقة الرسالة والإحاطة الدقيقة بتعاليم هذا الدين لنتمكن من تبليغه للناس على أكمل وجه، وهذا من الشروط الضرورية الواجب توفيرها في أتباع هذا الدين.

1- ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي
الإسلام دين جديد يدعو إلى توحيد الألوهية والربوبية، وإزالتها من مغتصبيها وأدعيائها بغير حق، وردها إلى صاحبها الحقيقي وهو الله، خالق كل شيء، الذي بيده الأمر كله، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
ولهذا فإن الذين يستعبدون العباد ويتخذونهم مطية لقضاء مآربهم، سوف يحاربون الدعاة ويقفون لهم بالمرصاد ليحولوا بينهم وبين الناس، كما سيمنعونهم من محاولة تغيير الأوضاع القائمة، والتضييق عليهم ومحاصرتهم وتشويه سمعتهم، لعزلهم وإبعادهم عن الساحة، لكي تستمر الأوضاع على ما هي عليه، يسيطرون على زمام الأمور في كل صغيرة وكبيرة.
سيكون رد فعل الطغاة قوياً أمام كل دين جديد يهدد ملكهم ومصالحهم بل وجودهم أصلاً، وسوف يبحثون عن أسماء وتهم جديدة يلصقونها بأصحاب الحق لكي يبرروا بها شرعية حربهم ومعاداتهم لهم، وسوف تطول المعركة بين الطرفين وسوف يحمي وطيسها ولن تتوقف إلا بهلاك أحد الطرفين، أما المؤمنون فيقاتلون في سبيل الله ويعلمون علم اليقين أن معية الله معهم فلا مجال للتراجع أو الخوف أو اليأس من مواصلة الصراع، وأما أصحاب الباطل فيقاتلون في سبيل نصرة باطلهم من أجل ترسيخ شريعة الشيطان، ولن تكون لديهم القدرة على مواصلة المعركة عندما تنقص الوسائل المادية أو تضعف، لأن رصيدهم المعنوي والروحي محدود أو منعدم في مقابل رصيد المؤمنين الذي لا ينفذ لأنه يستمد قوته من الله القوي العزيز.
وانظروا في أي بقعة ظهر فيها المصلحون ينشرون دين الحق، كيف يتعامل معهم الطغاة وأصحاب المصالح، إنها حرب شاملة وعداء شديد ومكر لا يتوقف، كل ذلك في مقابل إيقاف هؤلاء المصلحين عن أداء واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترسيخ عقيدة التوحيد في النفوس.
ولا تنقصهم المبررات والحجج في إصباغ الشرعية على هذه الحرب الضروس وهذا الكيد المستمر، تتعدد الشارات والعناوين والوسائل والغاية واحدة وهي استئصال شأفة هذا الدين ومحاولة إخماد جذوته في نفوس أصحابه .
وهذه حقيقة قرآنية لا ريب فيها {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } [ البقرة:217 ]، فلا نحتاج إلى مزيد من البينات والأدلة لكي نُقنع أنفسنا وغيرنا بها، بل ينبغي علينا أن نقنع غيرنا بضرورة الإعداد للمعارك القادمة مع أعدائنا وتحمل مسئولية انتمائنا لدين الله، والسعي إلى امتلاك قاعدة عريضة تكون قادرة على نشر هذا الدين في السراء والضراء وحين البأس.

2 - سيخرجك قومك


وعملية الإخراج تأتي تبعاً لما سبقها من تكذيب وعداء وحصار، فالأعداء يلجأون إليها كوسيلة أخيرة لحسم معركتهم مع الدعاة والمصلحين، فحينما يفشلون في إسكات صوتهم أو تكبيل حركتهم، فإنهم يختمون بالإبعاد والتهجير كحل أخير لفصل الدعاة عن المدعوين، وبذلك يخلو الجو للظالمين والمفسدين، لنشر فسادهم دون رقيب.
وسنة الإخراج أو الإبعاد سنة جارية طالت كل الأنبياء والمرسلين بدون استثناء، وهي ما تزال تطال كل الدعاة والمجاهدين في كل زمان ومكان، فأنعم بها من سنة وأنعم به من ابتلاء.
وحينما يكون الداعية على علم مسبق بما سيلاقيه في طريق الدعوة فإن ذلك مدعاة لأن يتهيأ ويعد نفسه لما ينتظره، بخلاف الذي يسير على غير هدى ولا كتاب منير، فإنه سرعان ما يُفاجئ ويُصدم وقد يتراجع أو يرتد عياذاً بالله من الخذلان.
وهذا ما ينبغي أن يفهمه أصحاب الحق في كل زمان ومكان، سوف يُخرجهم قومهم المعادون لدعوتهم من مناصبهم، ومن تجارتهم ومن مساكنهم، لا لشيء إلا لأنهم خالفوا ما عليه هؤلاء القوم من قوانين ونظم وأعراف.
وعلى ضوء هذا ينبغي على أصحاب الدعوة أن يخففوا من أثقال الدنيا وملذاتها، وأن لا يوثِّقوا أنفسهم بقيود التبعية لمنصب أو جاه أو مكان إلا بقدر ما يخدم ذلك مصالح دعوتهم، وأن يكونوا على أهبة هجرة وفقدان كل عزيز، مادياً كان أو معنوياً.
كما يجب إعداد الجنود وتربيتهم على هذا النهج، شعارنا هو الزهد في كل شيء في مقابل الحفاظ على ديننا، فلا يمكن أن نجمع بين رغبات النفس وبين مصالح ديننا، فالأولى تكون تبعاً للثانية وليس العكس.
كما ينبغي على أصحاب الدعوة أن يكونوا على أهبة دائمة للهجرة وترك متاع الدنيا الزائل من ورائهم، وليعدوا العدة من الآن لفريضة الهجرة المهجورة، والتي صارت أثقل على النفوس من جبل أحد.
فالداعية لا يرتبط بشيء من هذه الدنيا، بل على العكس فإنه يضحي بكل ما يملك في سبيل الحفاظ على دينه وإحياء سنة نبيه، ولا يرهبه شيء كما لا يرغبه شيء مهما علا شأنه وغلا ثمنه في عيون الناس.
نعم، سيُخرجنا قومنا وسوف يسجنوننا وقد يقتلوننا بسبب مخالفتنا لأعرافهم وتقاليدهم وكفرنا بطواغيتهم وقوانينهم، ولكنه ليس أمامنا غير هذا، فنحن نعي ما ينتظرنا ونستعد لذلك بأخذ كل الأسباب المادية والمعنوية لترك ما عليه قومنا إذا لم نجد حلاً غير الهجرة، لأننا إذا لم نهاجر سوف نُهجَّر، فعلينا أن نستعد لكلا الحالتين.

3 - ليتني فيها جلداً فأنصرك


تمر علينا الأيام والسنون وتنخر من عمرنا، تمر كأنها البرق ونحن في دثورنا ووراء الأماني، نحسب أنفسنا على ثغر مهم من ثغور الإسلام العديدة بينما الحقيقة غير ذلك، إلى أن نستفيق وعلى رأسنا ملك الموت يطلبنا، وقبل ذلك نمني أنفسنا أننا قدمنا خدمات عظيمة وجليلة لهذا الدين العظيم، وأننا من خيرة أنصاره بل وحتى مجاهديه.
وشتان بين الأماني والواقع، وواقعنا يشهد – وأيم الله – أننا مقصرون في حق هذا الدين، وبعيدون جداً عن المطلوب منا اتجاه أمتنا وعقيدتنا.
هناك فرق شاسع بين أن تعلن انتماءك لهذا الدين وبين أن تقوم لتحميه، وفرق أوسع بين أن تبدأ عملية الحماية هذه وبين أن تثبت عليها وتضحي بكل ما تملك في سبيل ذلك.
وهذا هو سر انتصار هذا الدين واستمراريته عبر القرون الماضية، فلو أن سلفنا اكتفوا بالأماني الكاذبة وقعدوا في بيوتهم ينتظرون المعجزات لما استطاع هذا الدين أن ينتشر ويسود العالمين، بل قاموا وشمروا عن سواعد العمل والتضحية، وواجهوا كل الصعاب وأزالوا كل العقبات ووقفوا في وجه كل ظالم ومغتصب وعملوا ليل نهار، فدعوا إلى الله وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فكانت لهم عاقبة الأمور.

فَتْرَةُ الوحي ( أي انقطاعه ) : فائدة جميلة
"أما مدة فترة الوحي فاختلفوا فيها على عدة أقوال‏.‏ والصحيح أنهاكانت أيامًا، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك‏.‏ وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفًا فليس بصحيح‏.‏
وقد ظهر لي شيء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العلم‏.‏ ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجاور بحراء شهرًا واحدًا، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة،وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنوات الثلاث، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحًا ـ أي لأول يوم من شهرشوال ـ ويعود إلى البيت‏.‏
وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحي الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل وهو صلى الله عليه وسلم راجع إلى بيته بعدإتمام جواره بتمام الشهر‏.‏
أقول‏:‏ فهذا يفيد أن الوحي الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعدالفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحي؛ لأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول الوحي كان في ليلةالإثنين الحادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أن فترة الوحي كانت لعشرة أيام فقط‏.‏ وأن الوحي نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى من النبوة‏.‏ ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف،وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد، والله أعلم‏.‏
وقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبًامحزونًا تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه‏:‏
وفتر الوحي فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوْفي بذِرْوَة جبل لكي يلقي نفسه منه تَبدَّى له جبريل فقال‏:‏ يا محمد، إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه،وتَقَرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفي بذروةالجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك‏".‏ [ نقلاً عن كتاب " الرحيق المختوم – للعلامة المباركفوري ].

يا أيها المدثر ..قم فأنذر
قال بن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر قم فأنذر...} إلى قوله {والرجز فاهجر}. فحمي الوحي وتتابع تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح وتابعه هلال بن رداد عن الزهري وقال يونس ومعمر بوادره. [ رواه البخاري ]

وقفات مع الحدث


هذه الآيات الأولى من صدر سورة المدثر تكاد تلخص محتوى هذا الدين كله، حيث تبدأ بنداء النهوض ووضع حد للنوم والقعود، والدعوة إلى إنذار الناس بما ينتظرهم من عذاب عند الله بسبب كفرهم وعنادهم لأمر ربهم، ثم تكبير الله عز وجل وهو رمز للوحدانية المطلقة التي ينبغي الإعلان عنها، ودعوة إلى الطهارة العامة وهي التطهير المادي والمعنوي وما يرافقه من تزكية للنفس وتحسين الأخلاق والتعامل مع المحيط الخارجي، وكذلك الأمر الرباني بترك الموبقات والرجز بجميع أنواعه ، وهو أمر غير مباشر بالابتعاد عن أماكن الفساد والمعصية والالتحاق بأماكن الطهر والطاعة، وكذلك دعوة إلى تصغير العمل وعدم العجب بما يقدمه المرء من أعمال يحسبها صالحة، ثم التسلح بالصبر كوسيلة أساسية من أجل أداء كل هذه الأوامر الربانية.
سأنقل هنا ما ورد في تفسير الظلال للشهيد بإذن الله سيد قطب رحمه الله، فإني لم أجد من يوفي هذه الآيات حقها غيره، فلنقبل على التزود بما قاله الشهيد كما نحسبه ، ولا نزكي على الله أحدا، ليكون لنا عوناً في طريقنا إلى الله.

يا أيها المدثر . قم فأنذر
إنه النداء العلوي الجليل , للأمر العظيم الثقيل . . نذارة هذه البشرية وإيقاظها , وتخليصها من الشر في الدنيا , ومن النار في الآخرة ; وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان . . وهو واجب ثقيل شاق , حين يناط بفرد من البشر - مهما يكن نبيا رسولا - فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والإلتواء والتفصي من هذا الأمر , بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود !
(يا أيها المدثر . قم فأنذر). . والإنذار هو أظهر ما في الرسالة , فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون . وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد , وهم لا ينقصون في ملكه شيئا حين يضلون , ولا يزيدون في ملكه شيئا حين يهتدون . غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة , ومن الشر الموبق في الدنيا . وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله !
ثم يوجه الله رسوله في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره:

وربك فكبر
يوجهه إلى تكبير ربه:(وربك فكبر). . ربك وحده . . فهو وحده الكبير , الذي يستحق التكبير . وهو توجيه يقرر جانبا من التصور الإيماني لمعنى الألوهية , ومعنى التوحيد .
إن كل أحد، وكل شيء ، وكل قيمة ، وكل حقيقة . . صغير . . والله وحده هو الكبير . . وتتوارى الأجرام والأحجام ، والقوى والقيم ، والأحداث والأحوال ، والمعاني والأشكال ، وتنمحي في ظلال الجلال والكمال لله الواحد الكبير المتعال .
وهو توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم ليواجه نذارة البشرية , ومتاعبها وأهوالها وأثقالها ، بهذا التصور , وبهذا الشعور ، فيستصغر كل كيد ، وكل قوة ، وكل عقبة ، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة ، هو الكبير . . ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور وهذا الشعور .

وثيابك فطهر
ويوجهه إلى التطهر:(وثيابك فطهر). . وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل . . طهارة الذات التي تحتويها الثياب , وكل ما يلم بها أو يمسها . . والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى . كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة . وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذار والتبليغ , ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب ; وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب , تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث , وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس . . وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتى الأوساط , وشتى البيئات , وشتى الظروف , وشتى القلوب !

والرجز فاهجر
ويوجهه إلى هجران الشرك وموجبات العذاب:(والرجز فاهجر). . والرسول صلى الله عليه وسلم كان هاجرا للشرك ولموجبات العذاب حتى قبل النبوة . فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف , وهذا الركام من المعتقدات الشائهة , وذلك الرجس من الأخلاق والعادات , فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية . ولكن هذا التوجيه يعني المفاصلة وإعلان التميز الذي لا صلح فيه ولا هوادة . فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان . كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز - والرجز في الأصل هو العذاب , ثم أصبح يطلق على موجبات العذاب - تحرز التطهر من مس هذا الدنس !

ولا تمنن تستكثر
ويوجهه إلى إنكار ذاته وعدم المن بما يقدمه من الجهد , أو استكثاره واستعظامه:(ولا تمنن تستكثر). . وهو سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء . ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمتن به . . وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها . فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه . بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه . فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله لا المن والاستكثار .

ولربك فاصبر
ويوجهه أخيرا إلى الصبر . الصبر لربه:(ولربك فاصبر). . وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت . والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة، معركة الدعوة إلى الله، المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب، ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات وتدفعهم شياطين الأهواء ! وهي معركة طويلة عنيفة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله، ويتجه به إليه احتسابا عنده وحده. [ في ظلال القرآن – الجزء الثلاثون – سورة المدثر- طبعة إلكترونية ] .

إلى هنا ينتهي هذا الدرس الذي يعتبر بداية الدعوة التي ستنطلق من شعاب مكة بل من غار حراء في ليلة من ليالي رمضان، لتنتشر بعد ذلك وتصل كل الآفاق بعون العلي القدير ثم بجهود أولئك الرهط المتتابعين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهانحن اليوم ننعم بنور هذا الدين العظيم ونستظل تحت ظلاله الوارفة الواسعة، وبقي علينا أن نحافظ على الامتداد ونكون سبباً ووقوداً لمعاركه المتتالية مع طوائف الباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


والحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قائد_الكتائب
06 Jan 2011, 01:31 AM
دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية


الدرس الخامس ... رائـــع


مرحلة الدعوة السرية


السنوات الثلاثة الأولى



الحمد لله رب العالمين، منزل الكتاب وهازم الأحزاب، معز المؤمنين ومذل الكافرين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد



مواصلة لما بدأناه من دروس ووقفات تربوية على محطات سيرة نبينا العطرة، نقف في هذا الدرس الخامس على مرحلة مهمة جداً من عمر الدعوة، ويتعلق الأمر بالثلاث سنوات الأولى ، وهي فترة يمكننا تسميتها بفترة تأسيس النواة للقاعدة الصلبة ، ذلك أن من التحق بالإسلام في هذه الفترة المبكرة بقي شامخاً وثابتاً على دينه، وكان هذا الجمع المبارك بمثابة الأعمدة والركائز الأساسية لدولة الإسلام القادمة، فلا ريب أن نخصص لها درساً مستقلاً نسلط فيه الأضواء على أهم المحطات التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم لينجح في تكوين هذه القاعدة وإعدادها الإعداد اللازم والمطلوب.

دعوة الأقربين

لاشك أن الداعية ينبغي أن يبدأ بالأقرب فالأقرب، بدءاً من أهله وأولاده لكي يكون المحيط الأقرب له مساعداً وسنداً على أداء رسالته، ومنه ينطلق إلى المحيط الخارجي لكي يؤدي دوره بهمة عالية وراحة بال وقلب مطمئن.

فكان الخطاب القرآني في هذا الاتجاه حيث أنزل الله تعالى أمره إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾‏‏[ ‏الشعراء‏:‏214 ]‏‏ , لما سيكون في ذلك من منعة وقوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حال استجابت عشيرته لدعوته، ذلك أن قوة الإيمان ستعزز قوة الرابطة والقرابة الموجودة أصلاً، ومن شأن ذلك أن يعطي دفعة قوية للدعوة وهي ما تزال في مهدها أو في بدايتها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد للداعية أن يلقي الحجة على أقرب الناس إليه حتى لا يبقى هناك ثمة عذر لهم في حال رفضهم للدعوة وعدم نصرتهم للداعية.
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة أقربائه في بادئ الأمر ثم عشيرته في الخطوة الثانية حيث جمعهم ودعاهم إلى الله عز وجل وإلى مبادئ الإسلام العامة.[سنفصل ذلك في الورقات التالية].


وينبغي أن نفرق هنا بين الدعوة العامة والدعوة الخاصة، أما العامة فهي دعوة إلى مبادئ الإسلام العامة وهي دعوة كل الناس على مختلف مشاربهم ومستوياتهم ، ومحاولة إخراجهم من دائرة الشرك إلى دائرة التوحيد ، وهو تجسيد لقوله تعالى ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾‏‏[ ‏البقرة‏:‏256 ]‏‏ ، أن ننجح في تفريغ قلوب العباد من حب الطاغوت والتبعية له ثم ملئ قلوبهم بحب الله وحده والانقياد له.





فالكفر بالطاغوت مقدم على الإيمان بالله في عملية الدعوة إذ لابد من بيان بطلان ما عليه القوم من ضلال وشرك، ثم تفريغ قلوبهم من حب هذه المعبودات المادية والمعنوية، وبعدها تأتي عملية الشحن الإيمانية للقلوب والنفوس بأن نملأها بحب الله ومعرفة صفاته وأسمائه، لكي يتحول هذا الإنسان إلى شحنة من العمل والطاعة والانقياد لله رب العالمين.

هذه هي دعوة الأنبياء والرسل ومهمتهم الأساسية اتجاه العباد ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾‏‏[ الأعراف‏:‏59 ]‏‏ ، وستظل هذه الدعوة هي الشعار الأساسي لكل الدعاة من بعدهم حتى تقوم الساعة.

أما الدعوة الخاصة فتأتي بعد الدعوة العامة على مستوى الترتيب والمراحل، لأنها تتطلب من الفرد المدعو أن يتحمل مسئوليات أكبر وأوسع من مجرد الانتماء وممارسة بعض العبادات الفردية أو الجماعية لكي ينفع نفسه فقط، بل لابد أن يتعداه إلى أن يكون عنصراً معطاءاً لغيره ومساهماً بوقته وماله ونفسه لكي ينشر هذا الدين وما يتطلبه هذا من إزالة للعقبات المادية والمعنوية التي تقف في سبيل تحقيق هذه الغايات العظمى.وهذا يتطلب فترة تكوين وتدريب تمهيدية يستوعب فيها الفرد الكثير من مبادئ الدين وأساسياته ويتمرن على اكتساب أساليب الدعوة قبل الانتقال إلى مرحلة الدعوة الخاصة.

فالدعوة الخاصة تكون مكلفة أكثر للفرد على مستوى أمنه وماله وحتى نفسه، لأنه سيدخل في صراع مباشر مع أعدائه وهذا سيتطلب منه حذراً وتضحية، وتحدياً للمحيط الذي يريد تغييره، فلاشك أنها أكثر خطورة من الانتماء العام إلى الإسلام.
وديننا اليوم بحاجة إلى الدعوة الخاصة التي ستبني القواعد المتينة والصلبة التي سيقوم عليها البناء الإسلامي المرتقب، وعدم الاكتفاء بالانتماء العام ومحاولة إسقاط الواجب بممارسة بعض الواجبات الصغيرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تعود بالنفع إلا على أصحابها.





الانتقاء في الدعوة

لاشك أن أمر الدعوة الجديدة عظيم ومخالف لأعراف القوم وما هم عليه من شرك وعبادة للأوثان وتبرك بالمخلوقات التي لا تنفع ولا تضر، ودعوة جديدة كالتي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جديرة بأن يُدعى إليها في بداية الأمر الناس الثقات ومن لديه قابلية كتمان الأمر إلى أن يمتلك المؤمنون القوة اللازمة لمواجهة محيطهم ويكون لديهم الوقت الكافي والظروف المناسبة لاستيعاب مبادئ هذه الدعوة الجديدة على الأقل من الناحية النظرية.

فكان من الطبيعي أن يبدأ النبي عليه الصلاة والسلام بدعوة أقرب الناس إليه ليضمن قبولهم لهذه الدعوة أو على الأقل يكتموا أمره في حال رفضهم لها.

يقول صاحب كتاب " الرحيق المختوم" : (وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاهزيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وابن عمه علي بن أبي طالب ـ وكان صبيًا يعيش فيكفالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل بناته عليه الصلاة والسلام ـ وصديقه الحميم أبو بكر الصديق‏.‏ أسلم هؤلاء فيأول يوم الدعوة‏.‏
البيت النبوي : البيت القدوة
فأول ما بدأ به النبي عليه الصلاة والسلام هو البدء بدعوة زوجته وبناته ومولاه زيد بن حارثة وابن عمه الصغير علي بن أبي طالب الذي كان يكفله، وكان من الطبيعي أن يركز النبي على أهل بيته ليتحول هذا البيت إلى أول ميدان لتطبيق تعاليم هذا الدين الجديد، وليكون قدوة لبقية البيوت من بعده.
فعلى كل الدعاة أن يولوا اهتماماً خاصاً لبيوتهم وأهل بيتهم ولا تشغلنهم هموم الدعوة عن أقرب الناس إليهم وأول ميادين دعوتهم، فحينما ينجح الداعية في ترتيب أمور بيته واستمالة أهله إلى جانبه ليعينوه على أمور الدعوة، فإن ذلك من شأنه أن يعطيه دفعة قوية وشحنة متواصلة ليقوم بدعوته على أحسن وجه، ويكون ذلك مدعاة لينجح في دعوته الخارجية بعد أن يكون قد أرسى دعائم الدعوة الداخلية.
هناك ظاهرة غريبة وعجيبة لدى المسلمين عامة وحتى لدى بعض الدعاة بصفة خاصة، وهي قلة صبرهم وعطائهم في الداخل مقارنة مع عطائهم الخارجي، حيث نلاحظ أن لديهم نفس قصير في ممارسة الدعوة مع أهل بيتهم بينما تجد لديهم طول نفس وتضحيات كبيرة وصبر واسع حينما يتعلق الأمر بمن هم خارج بيته، وهذه لعمري قسمة ضيزى ينبغي أن تزول من قاموس هؤلاء الدعاة.
قد يتعلل البعض منهم على كون هؤلاء الأهل يشكلون لهم عقبات في طريق الدعوة ويعتبرون مثبطات لهم قد يفتنوهم على أمور دعوتهم، وقد يستدل البعض منهم ببعض النماذج القرآنية في هذا المجال، ككفر والد سيدنا إبراهيم الخليل وامرأة سيدنا لوط وابن سيدنا نوح على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ولكن هؤلاء قد نسوا أن هؤلاء الأنبياء كانوا يدعون أقوامهم ليل نهار ولا يفترون عن ذلك قيد أنملة، هل قمنا نحن بمعشار ما قاموا به من جهد وسلكنا ما سلكوه من سبل في سبيل هداية أهلهم وذويهم؟
أم أننا قصرنا تقصيراً عظيماً وتركنا أهلنا وذويناً لقمة سائغة لأتباع الباطل ولأصحاب النفوس الضعيفة لكي يفتحوا عليهم أبواب الشيطان ؟
حتى صرنا نرى مشاهد داخل بيوت بعض الدعاة ومن ينسبون أنفسهم إلى الدعوة، بعض المشاهد المخزية يندى لها جبين كل مؤمن صادق، حتى كأنك تظن نفسك داخل بيت من بيوت الساقطين والعياذ بالله ، وقد تعلل أحدهم بقوله: " تعبنا من دعوتهم إلى الحق فأبوا وحينما فعلوا ذلك اتبعناهم على باطلهم".
نحن لا ننكر أن من أهلنا وأولادنا عدو لنا كما أقر بذلك ربنا عز وجل في كتابه الكريم﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾‏‏[التغابن‏:‏14 ]‏‏ ، ولكن هذا ليس مدعاة لنا لأن نتبعهم ونخضع لأهوائهم، بل هو تحذير رباني لكي نضاعف من جهدنا ويقظتنا في سبيل هدايتهم وكبح جماح شهواتهم.


المؤمن يصبح داعية



ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلًا مؤلفًا محببًاسهلًا ذا خلق ومعروف،وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته،فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعوته عثمان بن عفانالأموي [الرابع والثلاثين من عمره]، والزبير بن العوام الأسدي [ الثانية عشرة من عمره]، وعبد الرحمن بن عوف [الثلاثين من عمره]، وسعد بن أبي وقاص الزهريان [السابعة عشرة من عمره]،وطلحة بن عبيد الله التيمي [الثالثة عشرة من عمره]‏.‏ فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس همالرعيل الأول وطليعة الإسلام‏.‏
ثم تلا هؤلاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بنيالحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وامرأته أم سلمة، والأرقم بن أبيالأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجُمَحِىّ وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بنالحارث ابن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوى، وامرأته فاطمة بنت الخطابالعدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت التميمي، وجعفر بن أبي طالب، وامرأتهأسماء بنت عُمَيْس، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي، وامرأته أمينة بنت خلف، ثم أخوهعمرو بن سعيد بن العاص، وحاطب بن الحارث الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المُجَلِّلوأخوه الخطاب بن الحارث، وامرأته فُكَيْهَة بنت يسار، وأخوه معمر ابن الحارث،والمطلب بن أزهر الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف، ونعيم بن عبد الله بن النحامالعدوي، وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش‏.‏
ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش‏:‏ عبد الله بن مسعودالهذلي، ومسعود بن ربيعة القاري، وعبد الله بن جحش الأسدي وأخوه أبو أحمد بن جحش،وبلال بن رباح الحبشي، صُهَيْب بن سِنان الرومي، وعمار بن ياسر العنسي، وأبوه ياسر،وأمه سمية، وعامر بن فُهيرة‏.‏
وممن سبق إلى الإسلام من النساء غير من تقدم ذكرهن‏:‏ أم أيمن بركةالحبشية، وأم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب،وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما‏.‏
هؤلاء معروفون بالسابقين الأولين، ويظهر بعد التتبع والاستقراء أنعدد الموصوفين بالسبق إلى الإسلام وصل إلى مائة وثلاثين رجلًا وامرأة، ولكن لا يعرفبالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها‏).‏[انتهى- من كتاب الرحيق المختوم -المباركفوري].

من خلال ما سبق يمكننا تسجيل بعض الوقفات على نوعية الأعضاء الجدد وطريقة دعوتهم إلى الدين الجديد.
أولاً: كما سبق الإشارة إليه، يبدأ الداعية بأقرب الناس إليه ليكونوا له عوناً وسنداً، فهذه فطرة ربانية لا يختلف عليها إثنان، كما أن على الدعاة أن يستغلوا قرابة الدم والعشيرة والصحبة لتكون وسيلة لتقوية الدعوة، فكما أن غيرنا يستغلونها في الجاهلية والباطل فعلى أصحاب الحق أن يوظفوا هذه القرابات لنصرة الحق الذي يحملونه.
ثانياً: نلاحظ أن دور المؤمن لا يتوقف عند التأييد وقبول الحق فحسب، بل يتعداه إلى نشر هذا الحق ودعوة الناس الجدد إلى الصف المؤمن، وهذا عين ما قام به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حيث كان سبباً في دعوة أغلب السابقين الأولين وعلى رأسهم المبشرون بالجنة، وهي النواة التي تشكلت منها القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة الأولى.
هذه هي طبيعة هذا الدين العظيم ينتشر بطريقة عجيبة، فلا تلبث أن تستقر هذه العقيدة في نفوس أصحابها حتى ينطلقوا لنشرها بين الناس، حباً لهؤلاء وطمعاً في هدايتهم بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان وآثروا أن يقاسموها مع غيرهم.
ثالثاً: نقف على اختلاف مستويات المدعوين الجدد وأجناسهم، حيث نجد فيهم الغني والفقير والمولى والمرأة والطفل، كما نجد أيضاً اختلافاً في المستويات الفكرية وليس هناك نخبة معينة يركز عليها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، بل هو يدعو ويقبل الجميع ليكونوا أعضاء في الدين الجديد، لأن الجميع سيكون عبداً لله طائعاً خاضعاً ومتبعاً لتعاليم هذا الدين، متساوين في الحقوق والواجبات، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود ولا لسيد على مولى إلا بالتقوى.
رابعاً: نلاحظ عامل السن الملفت للنظر لدى بعض الصحابة السباقين للإسلام، حيث نجد من كبار الصحابة من لا يتجاوز عمره ثلاثة عشر سنة مثل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وزيد بن حارثة رضي الله عنهم أجمعين.
بينما نرى اليوم صعوبة كبيرة في إيجاد مثل هذه النماذج في صفوف الحركات الإسلامية المعاصرة إلا ما ندر، وذلك راجع إلى غياب السياسة التربوية الإيمانية في أغلب البيوت المسلمة، وبُعد المسلمين – عوامهم ودعاتهم – عن البيئة الإيمانية الحقيقية وتأثرهم الكبير بالبيئة الجاهلية التي فرضت نفسها عليهم وسلبتهم كل القيم الراقية وصاروا منغمسين في الأعراف الجاهلية، وما زال أغلب رجالنا أطفالاً على مستوى تفكيرهم وتكوينهم واهتماماتهم اليومية، فماذا نقول عن أطفالنا يا ترى سوى أنهم كتلة من العقد ومصدر هموم وعقبات كبيرة في طريق النهوض، بحاجة إلى برامج جبارة وطويلة من التربية وإعادة التكوين لتكون مؤهلة لخوض غمار المعارك المفتوحة والمتنوعة مع أعدائنا.




أهم معالم هذا الدين

أود أن أقف الآن على أهم الأسس التي يدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تجعله في مفرق الطرق مع المجتمع الجاهلي من حوله، ويجعله بالتالي يتميز عنه هو وأتباعه ممن آمنوا بدعوته وآثروا القيام بهذه النقلة الإيمانية النوعية، وترك كل العادات والتقاليد التي تربوا عليها منذ نعومة أظفارهم ودخلوا في دين جديد لم يعهدوه من قبل لما لذلك من عظيم الأثر في نفوس الناس من حولهم.

أولاً: الوحدانية المطلقة

هي أول هذه المعالم وأعلاها قيمة وشأناً، ولا غرو في ذلك إذا علمنا أن الله واحد في أسمائه وصفاته وأفعاله، ولا يرضى لعباده الكفر ، وأغنى الشركاء عن الشرك، لأنه هو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، ورزق عباده بسؤال وبغير سؤال، وبأسباب وبغير أسباب.

فلابد أن يكون أقل الشكر في حق هذا الإله الجواد الكريم هو الاعتراف بألوهيته وربوبيته على حد سواء، وأن لا ينازعه أحد حق التشريع والحكم كما لا يستطيع أن ينازعه أحد حق الخلق والضر والنفع والرزق والموت والحياة.

فلا معبود بحق سوى الله تعالى، وبالتالي ينبغي ترك ونبذ كل الآلهة المدعاة من قبل المجتمع القرشي في مكة وغيرها من القبائل المجاورة، فهذا المجتمع كان معروفاً بتعدد الآلهة وتقديم القرابين لها حتى أن جوف الكعبة - وهي رمز التوحيد- كان مليئاً بهذه الأصنام، حيث أن لكل قبيلة صنمها المعبود تتبرك به وتتقرب به إلى الله زلفى كما كانوا يزعمون.

فجاء الإسلام لينسف كل هذه الأوثان ويقيم الحجة على العباد بأنها سبب في شقائها في الدنيا وعذابها في الآخرة، ومن ثم رد العباد إلى خالقهم وبارئهم لكي يطيعوه في السراء والضراء فيفوزوا بسعادة الدارين.والآيات في هذا الباب كثيرة ومتواترة منها على سبيل المثال لا الحصر:





1.﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ ‏‏[ الأعراف‏:‏59 ]‏‏
٢. ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ ‏‏[ الأعراف‏:‏56 ]‏‏
٣.﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾‏‏[ الأعراف‏:‏73 ]‏‏
٤.﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾‏‏[ الأعراف‏:‏85 ]‏‏.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾‏‏[ الأنبياء‏:‏25 ]‏‏.
﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾‏‏[ البقرة‏:‏163 ]‏‏.
﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾‏‏[ القصص‏:‏70 ]‏‏.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾‏‏[ الزمر‏:‏6 ]‏‏.
﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾‏‏[غافر‏:‏65 ]‏‏.


ثانياً: تزكية النفس





إذا رجعنا إلى صدر سورة المدثر نجد توجيهات ربانية في هذا المجال في قوله تعالى ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾‏‏[المدثر‏:‏5,4 ]‏‏ ، وقد سبق الإشارة إلى أن تطهير الثياب رمز ودليل على ضرورة تطهير النفس والجسد معاً، فلا ينفع أن تكون ثيابك طاهرة نقية بينما جسدك متسخاً ونفسك قد دنستها الذنوب والمعاصي والأمراض النفسية مثل الحسد والحقد والكبر.

يقول رب العزة في هذا المقام ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾‏‏[الجمعة‏:‏2 ]‏‏.


فأول ما ينبغي البدء به في الدعوة هو تصفية النفوس وتنقيتها من كل الشوائب والترسبات الجاهلية، ومن ثم الترفع بها نحو معالي الأمور ومحاسن الأخلاق، مثلما كان رسول الله صلى عليه وسلم في أوساط الجاهلية قبل البعثة النبوية، متميزاً ومثلاً أعلى في الخلق الرفيع حتى أنه كان يُلقب بالصادق الأمين.

المطلوب من الداعية أن يكون قدوة بأعماله قبل أقواله وذلك لكي يؤثر في نفوس الناس من حوله، فتأثير الفعال أقوى وأبلغ من تأثير الكلام.

وليعلم الإخوة أن الاستقامة على النهج القويم والخلق الرفيع بحاجة إلى صبر ومراقبة مستمرة ومحاسبة دائمة وحس يقظ لا يفتر.
وبهذا تتم عملية تزكية النفوس وابتعادها عن كل أنواع الفتور فضلاً عن التفكير في المعاصي والذنوب.

لقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول ومثلاً أعلى لمن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة، فهم قد شكلوا نموذجاً خالداً وفريداً لا يمكن أن يصل إليه قوم من بعدهم، ولم يصلوا إلى هذا المستوى الرفيع إلا بعد أن زكوا أنفسهم ونقوها من كل المعوقات والشوائب التي تمنع التقدم في هذا الاتجاه، وما كان لهم أن يبلغوا هذا السمو لولا كبحهم لجماح نفوسهم وتخلصهم من حظوظ هذه النفوس في كل حركة وسكنة من حياتهم.

وما دمنا لا نستطيع أن نقترب من هذا المستوى في التحكم بأنفسنا وكبح شهواتها فإننا سنظل بعيدين كل البعد وضعفاء جداً عن أداء الواجبات المنوطة بنا.


إن المعركة الأولى التي ينبغي الانتصار فيها ابتداءاً هي معركتنا مع النفس وأهوائها المختلفة، وما لم نستطع أن نمسك بزمام أمور هذه المعركة فلن نتمكن بالتالي من تحقيق أي تقدم في معاركنا مع أعدائنا الخارجيين.

هذه حقيقة ينبغي على كل مسلم أن يستوعبها ويعد لها العدة اللازمة حتى لا يخدع نفسه وغيره ويدَّعي أنه على ثغر من ثغور الإسلام بينما هو في الحقيقة ثغرة كبرى سيؤتى الإسلام من قبله.

وتزكية النفس تتم عن طريق برامج عملية ومجموعة ممارسات يومية يقوم بها المسلم في يومه وليله، وقد فرض الله على المسلمين منذ بداية الدعوة وفي فترتها الأولى فرائض وواجبات تربطهم بخالقهم لكي ينتهوا إلى معرفته حق المعرفة، ولكي يتمكنوا من ترويض هذه النفس والارتقاء بها إلى المستوى اللائق لكي تكون قادرة على ممارسة واجباتها الشرعية.





دور الصلاة في تزكية النفس



ومن أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، قال ابن حجر‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلى قطعًا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل فرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏.‏[ انتهى]‏.
‏ وروى الحارث بن أبي أسامة من طريق ابن لَهِيعَة موصولًا عن زيدابن حارثة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه أتاه جبريل،فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه، وقد رواه ابن ماجه بمعناه، وروى نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس، وفي حديث ابن عباس‏:‏ وكان ذلك من أول الفريضة‏.‏
وقد ذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذاحضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وعليّا يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولما عرف جلية الأمر أمرهمابالثبات‏.‏
تلك هي العبادة التي أمر بها المؤمنون، ولا تعرف لهم عبادات وأوامرونواه أخرى غير ما يتعلق بالصلاة، وإنما كان الوحي يبين لهم جوانب شتى من التوحيد،ويرغبهم في تزكية النفوس، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويصف لهم الجنة والنار كأنهمارأي عين، ويعظهم بمواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذي الأرواح، وتحدو بهم إلى جو آخر غيرالذي كان فيه المجتمع البشرى آنذاك.
‏ فقد كانت الصلاة ولا تزال الباب الذي لا يُغلق أبداً والجسر الأمثل للتواصل مع الله عز وجل. فمن شاء أن يناجي ويكلم ربه لجأ إلى الصلاة، ولاشك أنها من أفضل وسائل تزكية النفوس مما شابها من شوائب، كما أنها معراج لروح المؤمن يسمو بها إلى أعلى مقامات العبودية.





ثالثاًً: التعلق بالله واليوم الآخر

منذ اليوم الأول من الانتماء إلى الإسلام، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يربط المسلمين بربهم وخالقهم، ولم تكن هناك أية إغراءات مادية يعرضها عليهم لكي يقبلوا هذا الدين ويكونوا من أتباعه وأنصاره، بل بالعكس، فقد كانوا يعلمون أنهم محاصرون ومهددون من قبل كفار قريش وحتى من قبل عشائرهم نفسها، بسبب تركهم لأعراف أقوامهم والكفر بآلهتهم.
فسوف نرى في الدروس القادمة أن كل قبيلة كانت تتكلف بتعذيب أبنائها الخارجين عن دينهم أو الصابئين كما كانوا يسمونهم.





لذلك لم يكن هناك ثمة مصلحة مادية يتعلق بها المؤمنون في بداية الالتزام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لهم معالم الطريق ، ومن خلال الآيات التي نزلت في تلك الفترة، كانت ترسخ هذا المعنى الكبير، وهي الارتباط بالله عز وجل وحده والتوكل عليه ورد الأمر إليه في كل شيء، وانتظار الجزاء الأخروي كثواب على صبرهم وتحملهم لمشاقّ وتبعات هذا الانتماء.

السور التي نزلت في هذه الفترة كانت تتحدث عن سير الأنبياء والأمم السالفة، وتذكر أهم مراحل هذه المسيرة الدعوية المتكررة، دعوة وتضحية وثبات من طرف الأنبياء والمرسلين، يتبعه تكذيب واستهزاء ومحاربة لهؤلاء الأنبياء من طرف أقوامهم، ثم يأتي بعد ذلك عذاب الله وانتقامه بالمكذبين ونصرته لعباده المؤمنين.
هذه هي أهم المحطات الخالدة لمسيرة الدعوة من لدن نوح عليه السلام وإلى آخر الرسل سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

يتميز الانتماء إلى الإسلام بنقلة نوعية فريدة يقوم بها المسلم بين ماضيه الجاهلي وحاضره الإسلامي، فيغير ولاءه للعائلة والعشيرة إلى ولائه للتجمع الإيماني الذي صار حُضناً وحِصناً منيعاً يتلقى فيه تعاليم الدين الجديد ويرضع منه المبادئ والقيم التي ستقوم عليها حياته الجديدة. فيترك المؤمن كل القيم والارتباطات التي تحاول تكبيله عن أداء واجباته اتجاه ربه، ويضحي بكل شيء من أجل الوفاء بعهده مع الله.


التربية والتحصين

تميزت هذه الفترة الممتدة من بدء الوحي إلى الإذن بالجهر بالدعوة بما يمكن أن نسميه ب" السرية في الدعوة والسرية في التنظيم".
فقد رأينا أن الدعوة كانت تتم بسرية تامة وعبر انتقاء الأعضاء المدعوين بطريقة سرية قائمة على عنصر الثقة بين الداعي والمدعو، وانتشار هذه الدعوة كانت تتم هي الأخرى بطريقة سرية للغاية بحيث لا ينبغي إثارة انتباه المجتمع القرشي إليها إلى حين الإذن الرباني بإعلان الدعوة على الملأ.





وكان المسلمون يجتمعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم [ وهو فتى لا يزال ]من أجل تلقي تعاليم الإسلام ومبادئه الأساسية وترسيخ أمور العقيدة التي ستكون الأساس للبناء الإسلامي العظيم. وأيضاً لتكوين القاعدة الصلبة والكوادر الأساسية لدولة الإسلام المرتقبة، تلك القاعدة التي سيفتح الله على أيديها قلوب العباد وسيفتحون البلدان ويحررون العالمين من قيود الجاهلية وظلماتها إلى عدل الإسلام وأنواره.

ولعل الواحد منا يتساءل لماذا يا ترى اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون دار هذا الفتى مقراً رئيسياً لعملية التكوين والتربية في هذه المرحلة الحساسة جداً من عمر الدعوة، ولكن حينما نعلم الأسباب سندرك حكمة النبي البالغة وحنكته العميقة في التسيير والأخذ بالأسباب المادية إلى جانب التوكل على الله لنجاح الدعوة.
فقد كان اختيار دار الأرقم لعدة أسباب منها:
1- أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداره.
2- أن الأرقم بن الأرقم رضي الله عنه من بني مخزوم, وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم. فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره؛ لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.

3- أن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، فهل يشك أحد من أعداء الدعوة أن يتم لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في دار فتى مجهول أمام الجمع الغفير من أصحابه الكبار ؟.

وهنا أود أن أركز على أهمية الجانب الأمني في مرحلة الدعوة السرية حتى بحضور النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إشارة وتأكيد على وجوب أخذ الحيطة والحذر في تحركاتنا والاستعانة على قضاء الحوائج بالسر والكتمان واعتبار ذلك جزء من مواد التربية والتكوين الواجب الالتزام بها وتنفيذها في كل حال. وهل قصم ظهور المسلمين المؤمنين غير تلك الهفوات والثغرات الأمنية في كل زمان ومكان؟

لذلك نجدد الدعوة إلى التحلي بالحذر والتركيز على إدخاله في مراحل التربية كمادة أساسية يصحبها الفرد في كل حركة يخطوها، ومن باب أولى حينما يكون التجمع في مرحلة الضعف والتكوين الأولى، لأنها مرحلة إعداد وبناء القاعدة الصلبة التي ستحمل البناء بعدئذ، ومن الطبيعي أن يكون الحذر وسيلة وحضن لحماية هذه القاعدة وإعطائها الوقت المناسب للتكوين والنضج بعيداً عن مخاطر الأعداء.

فليس عيباً أن يتستر التجمع الإيماني من أعدائه ريثما يعد العدة اللازمة لمواجهته، ولكن العيب والنقص هو في عدم مراعاة الأولويات والموازنات في ساحة العمل ومحاولة استعجال المواجهة قبل الأوان، فيكون الهدم أكثر من البناء.





فالمواجهة والتدافع لابد كائن، أحب من أحب وكره من كره، وإن لم نبادر نحن إلى ذلك فسوف يفاجئنا العدو به عاجلاً أم آجلاً، وليس أمامنا خيار آخر غير الاستعداد الجيد والتنظيم المحكم والتحرك الموزون لكي نكون عند ساعة المواجهة قادرين على تحمل تبعات المعركة ومواصلتها حتى يحكم الله بيننا وبين أعدائنا بالحق وهو خير الحاكمين.






وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
:::::::::::::::::::::::::::::::::::

قائد_الكتائب
09 Jan 2011, 03:27 AM
دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

الدرس السادس



(مرحلة الجهر بالدعوة)





دعوة الأقربين

بعد فترة الدعوة السرية التي سمحت للدعوة أن توسع فيها قاعدتها وتبني فيها أسسها بعيداً عن أعين كفار قريش، ولحكمة يعلمها العليم الخبير، حان الوقت لتبدأ الدعوة مرحلة جديدة تتسم بالإعلان عن نفسها ولكن في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، بينما يواصل بقية المسلمين كتمانهم لإيمانهم ومواصلة ممارسة الدعوة في السر إلى أن يأذن الله غير ذلك.
أنزل الله تعالى قوله {وَأَنْذِرْ عَشِيَرتَكَ الْأَقْرَبِينْ} [الشعراء -214] لتكون الأمر المباشر للجهر بالدعوة، ومن الطبيعي والموافق للفطرة البشرية أن يبدأ الأمر بعرض الدعوة على الأقربين قبل الأبعدين.
"دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلًا‏.‏ فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهب وقال‏:‏ هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس‏".[الرحيق المختوم – للمباركفوري].
أود أن أسجل وقفة في هذا المقام، حيث أن نجاح الدعوة تحتاج إلى دعائم عديدة منها الجو العام أو المحيط الذي يتحرك فيه الداعية، فلا بد من توفير كل الشروط والدعائم لإنجاح عملية الدعوة، وفي حال غياب شرط أو عنصر من هذه العناصر فإنه من الصعب تحقيق نجاح أو تقدم في ميدان الدعوة، لهذا ينبغي على الدعاة أن يختاروا الوقت والمكان المناسبين لممارسة دعوتهم مع الناس، وتكون لديهم ملكة وحدس الإقدام أو الإحجام في الوقت المناسب .
فقد تجتمع عناصر ايجابية كثيرة يظن الداعية أنها قادرة على خلق النجاح ولكنه قد يغفل عن عنصر سلبي واحد قد يكون سبباً في نسف كل تلك العناصر الإيجابية وبالتالي قد يصاب‏ الداعية بالإحباط كما أن الدعوة تصبح رخيصة ويزهد فيها الناس.
فلابد من تحين فرص النجاح ومحاولة خلقها وتفادي كل عوامل الفشل والتثبيط التي من شأنها أن تضعف الداعية والدعوة على حد سواء.
وعنصر التريث والتأني من أهم عناصر النجاح فينبغي أن يروض الداعية نفسه على الصبر ويمتلك طول النفس حتى لا يستعجل قطف ثمار دعوته قبل أوانها فيعاود الكَرََّة تلو الكَرَّة إلى أن يحين الوقت المناسب كما أراد الله عز وجل، وليس كما نريد نحن، فكل شيء بقدر ولكل أجل كتاب.
ثم دعاهم ثانية وقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا‏)‏‏.‏
فقال أبو طالب‏:‏ ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك‏.‏ وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به‏.‏ فوالله ، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب‏.‏
فقال أبو لهب‏:‏ هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب‏:‏ والله لنمنعه ما بقينا‏.‏
وفي هذا المقام المختلف عن المقام الأول، بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإعلان عن غايات دعوته أمام أعمامه وأبناء عمومته، وركز على الوحدانية المطلقة [وذلك في قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وقوله : والله الذي لا إله إلا هو]، ثم ركز أيضاً على عالمية رسالته صلى الله عليه وسلم ، ثم ختم قولته بالحديث عن الموت والبعث والنشور والحساب ثم حقيقة الجنة والنار كمعاد حقيقي لبني البشر بعدما يقضون حياتهم الدنيا الفانية.
وقد تعمد النبي صلى الله عليه وسلم التركيز على هذه الدعائم لينسف بها دعائم دين كفار قريش ، الذي يقوم على تعدد الآلهة والكفر بالمعاد واليوم الآخر ثم الجزاء الأخروي ( جنة أو نار) المخالف لعقيدتهم القائمة على العبث وأن الدهر هو الذي يهلكهم وكذلك إيمانهم باستحالة البعث بعد الموت. كما صور ذلك رب العزة في كتابه الكريم {بل قالوا مثل ما قال الأولون ، قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون} [المؤمنون – 82] وقوله سبحانه {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما نحن بمبعوثين} [المؤمنون 37].

الدعوة العامة على جبل الصفا

وبعد أن ضمن النبي صلى الله عليه وسلم وقوف عمه أبي طالب وتعهده بحمايته وهو يبلغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على جبل الصفا، فاعتلى أعلى قمة فيه ثم هتف‏:‏ ‏(‏يا صباحاه‏)‏
وكانت هذه كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم‏.‏
ثم جعل ينادي بطون قريش، ويدعوهم قبيلة قبيلة ‏:‏ ‏(‏يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب‏)‏‏.‏
فلما سمعوا قالوا‏:‏ من هذا الذي يهتف‏؟‏ قالوا‏:‏ محمد‏.‏ فأسرع الناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما الخبر، فجاء أبو لهب وقريش‏.‏
فلما اجتمعوا قال‏:‏ ‏(‏أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَ‏؟‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العَدُوّ فانطلق يَرْبَأ أهله‏)‏‏(‏ أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو‏)‏ ‏(‏خشي أن يسبقوه فجعل ينادي‏:‏ يا صباحاه‏)‏
ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله، فخص وعم فقال‏:‏
‏(‏يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا‏.‏
يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا‏.‏
يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا معشر بني قصي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا‏.‏
يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا‏.‏
يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ماشئتم، لا أملك لكم من الله شيئًا‏.‏
يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا‏.‏
يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، لا أغنى عنك من الله شيئًا‏.‏
يا فاطمة بنت محمد رسول الله ، سليني ما شئت من مالي، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنك من الله شيئًا‏.‏
غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبلاَلها‏)‏ أي أصلها حسب حقها‏.‏
ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يذكر عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال‏:‏ تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏سورة المسد‏:‏1‏]‏‏.‏
نقف الآن على بعض العبر والدروس التربوية فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: لابد للداعية أن يبحث عن منبر عال وموقع معروف لكي يمارس عليه دعوته ويحاول الوصول إلى قلوب الناس، وجبل الصفا هنا رمز لهذا العلو والارتقاء لكي يكون الداعية في موقع مريح يلقي من خلاله كلمته وهو يغلب على ظنه أنها ستبلغ أكبر عدد ممكن من الناس.
وجبل الصفا اليوم قد يكون عبارة عن القيمة الاجتماعية والأخلاقية والتربوية للداعية وسط المحيط الذي يتحرك فيه، لابد أن يصنعه يوماً بعد يوم بتعاملاته الطيبة ووقوفه إلى جانب المحتاجين وحكمته في التعامل مع غيره، حتى إذا حان موعد نشر دعوته لقي آذاناً صاغية واحتراماً وقبولاً من طرف المدعوين.
فهذا المنبر يصنعه ويبنيه الداعية بعمله المتواصل الدءوب في محيطه وانغماسه وسط الناس والاختلاط بهم وبهمومهم ، وعدم الاستعلاء على الناس والانزواء في ركن بعيد عنهم بحجة أنك أعلم منهم أو أن مستواك دون مستواهم، كما يفعل الكثير ممن يحسبون أنفسهم دعاة وهم في حقيقة الأمر أقرب منهم إلى تنفير الناس من هذا الدين بسبب ما فيهم من غرور وكبر وتميز مذموم عن الآخرين.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان حكيماً في طريقة استدراج القوم ولفت انتبهاهم لما سيأتي من كلام: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَ‏؟‏‏)‏‏.‏
فما وراء الجبل خاف عن أعين القوم ولا يراه إلا هو صلى الله عليه وسلم، كذلك الكثير من أمور الدعوة وغاياتها لا تكون واضحة في بداية الأمر في أعين الناس، ولابد من إيجاد سبل واضحة وسهلة لإيصالها لهم وإقناعهم بها.
ولاشك أن الإخبار عن هجوم مباغت للعدو أمر مهول يثير اهتمام الجميع ويخلق حالة استنفار قصوى في النفس وتجعلها متنبهة ويقظة إلى أبعد حد، ولله المثل الأعلى ، حيث أن الداعية يكون نذيراً للناس لما هو أخطر من العدو المباغت ، فهو نذير بين يدي عذاب أليم إن لم يؤمنوا بربهم ويعبدوه حق عبادته ، وأسلوب الترهيب من أهم الأساليب التي تؤثر على النفوس إلى جانب أسلوب الترغيب، فالله هو الذي خلق هذه النفس وهو أعلم بما يناسبها { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخْبَيِرْ } [الملك -14].
فالناس بحاجة دوماً إلى من ينتشلهم من هذه الجاهلية ويأزُّهم أزاً لكي يفيقوا من غفوتهم ويرجعوا إلى فطرتهم، فيقرروا مصيرهم قبل فوات الأوان، فإما طريق النجاة وإما طريق الخسران.
والدعوة تكون عامة وخاصة، يبدأ الداعية بأقرب الأقربين ثم ينتقل إلى الآخرين ويختار الأسلوب الأنسب ولكنه يعرض كل ما في دعوته دون أن ينقص منها شيئاً خوفاً من تكذيب الناس له أو طمعاً في استدراجهم بعرض ما يوافق أهواءهم فقط، فهذا الأسلوب يضر أكثر مما ينفع وليس مما يرضاه الله ويباركه لأنه يعود على الدعوة والداعية بالضرر الكبير والخسران المبين ويتسبب في تمييع الدعوة وانتكاستها.
فالمطلوب منا أن نعرض مبادئنا كلها ونبين معالم الطريق بكل وضوح كما ينبغي أن نبين تبعات الدعوة ومشقات الطريق منذ البداية ليعلم الناس ما ينتظرهم فيؤمن من يؤمن عن بينة أو يكفر من يكفر عن بينة، وإن الله لسميع عليم .
إن طريق الدعوة مليء بالأشواك والعقبات ولا يظنن الداعية أن الأمور ستسير دائماً كما يتمنى، بل قد يفاجأ بمعارضة أقرب الناس إليه ومعاداتهم لدعوته، كما فعل أبو لهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان الوحيد المعارض من بين الناس جميعاً في لقاء جبل الصفا.
والواقع يعزز هذه الحقيقة في كل زمان ومكان حيث نرى تكذيب الكثير من الدعاة والمصلحين ومحاربتهم من قبل ذويهم وعشائرهم، فيسخر الله لهم أنصاراً من الأبعدين لينصروهم ويآزروهم ويؤووهم.

فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نثر بذور دعوته من على جبل الصفا، ولكل زمان جبله المناسب للمحيط الذي يتحرك فيه الدعاة وكذلك المناسب لنفوس الناس من حوله، والداعية لا يأبه كثيراً بردود أفعال الناس بقدر ما يهمه أنه قد بلَّغ كل ما جعبته ولم يُبق شيئاً خوفاً من تكذيب الناس له أو رفض بعض ما سيعرضه عليهم، { يَا أَيُّهَا النَبِيُّ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة - 67]، فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفي شيئاً من أمور دعوته أبداً.

وهذا هو الدرس الأكبر والأهم الذي ينبغي استيعابه من طرف الدعاة اليوم، حيث نراهم ينتقون من أمور الدعوة ويحاولون عرض ما يناسب أهواء الناس ويتحاشون الاصطدام معهم ومع أعرافهم وعاداتهم حتى يُقبلوا على دعوتهم ويَقبلوها فيصبحوا من أنصارهم ويوسعون حلقات علمهم وإن كان في ذلك تنقيص للدعوة وتبعيضها.
(يراجع في هذا المقام تفصيل هذه النقطة في مقالنا:" ودوا لو تدهن فيدهنون").

تصعيد وتيرة الدعوة

بعد لقاء جبل الصفا الذي كان بمثابة المواجهة الأولى مع قريش، وبعد أن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الصرخة الإيمانية المدوية في مكة ليسمعها القاصي والداني وتكون هي نقطة البدء في مسيرة دعوية طويلة مدتها ثلاث وعشرون سنة، أنزل الله تعالى على نبيه الأمر بمواصلة الصدع بدعوته دون أن يبالي بقريش وردود أفعالها، وذلك في قوله تعالى { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينْ } [الحجر- 94]، وقد كانت هذه الآية إيذاناً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يبدأ مرحلة تحدي لكفار قريش وهو يمارس دعوته وعبادته جهراً نهاراً بل حتى في جوف الكعبة دون أن يبالي بكفار قريش.

وقد بدأت هذه الدعوة تؤتي بعض ثمارها بدخول العديد من الناس في الإسلام وما صحب ذلك من تصادم بينهم وبين ذويهم وعشائرهم بسبب مخالفتهم لدين آبائهم واعتناق دين جديد يدعو إلى نبذ آلهتهم المـُدَّعاة وتسفيه أحلامهم.

بينما وقف كبراء قريش موقف الدهشة والارتباك أمام هذه الدعوة الجديدة وما زالوا كذلك يبحثون عن موقف موحد لمجابهة هذا الواقع الجديد، خوفاً من تطور الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه، فتفلت زمامها من بين أيديهم أمام انتشار هذا الدين الجديد وما يُحدثه من تغييرات جذرية على مستوى النفوس والعلاقات القائمة وأسس حياتهم كلها.

إجماع قريش لصد الدعوة

اجتمع كبراء قريش في شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم للبحث عن وسيلة يصدون بها للدعوة حتى لا يكون لها أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة في هذا الشأن ، فقال لهم الوليد‏:‏ أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا،ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا‏:‏ فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به‏.‏ قال‏:‏ بل أنتم فقولوا أسمع‏.‏ قالوا‏:‏ نقول‏:‏ كاهن‏.‏ قال‏:‏ لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ مجنون، قال‏:‏ ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته‏.‏
قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ شاعر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ ساحر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم‏.‏ قالوا‏:‏ فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ والله إن لقوله لحلاوة، ‏[‏وإن عليه لطلاوة‏]‏ وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا‏:‏ ساحر‏.‏ جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك‏.‏
قالوا‏:‏ أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم‏:‏ أمهلونى حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفًا‏.‏ [سيرة ابن هشام بتصرف].
وأنزل الله تعالى في الوليد ست عشرة آية من سورة المدثر‏{ ‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر َ* فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏ }‏ ‏[‏المدثر - 11 إلى 26‏]‏ وصور الله تعالى كيفية تفكيره في قوله‏:‏ ‏{ ‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏ } ‏[‏المدثر‏:‏18‏إلى‏ 25‏]‏ .
وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا يعترضون الناس في الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا له أمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذي المَجَاز، يدعوهم إلى الله ، وأبو لهب وراءه يقول‏:‏ لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب‏.
حينما تكون حجة أصحاب الحق أقوى من حجج خصومهم – وهي دوماً كذلك –
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }‏[‏الأنبياء – 18 ‏]‏، { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }‏[‏ الإسراء – 81 ‏]‏، وحينما لا يجد أصحاب الباطل ما يدافعون به عن باطلهم يلجأون إلى وسائل خسيسة لمحاولة صد الناس عن هذا الحق، ويضعون حواجز مادية ومعنوية بين الدعاة وبين الناس ، وأهم هذه الأساليب هو الكذب ونشر الإشاعات من أجل تشويه سمعة الدعاة والدعوة فيُنَفِّرُوا الناس منها ويعزلوا الدعاة ليظلوا ضعفاء وقليلون، ليقولوا كما قال الأولون { إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُون * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونْ }[الشعراء 54-55].
وتأتي وسائل الإعلام وكذلك المجال التربوي والثقافي على رأس القائمة لمواجهة الحق وأهله، فسخَّر الطواغيت جنوداً مجندة من الإعلاميين والكتاب والمثقفين والمربين لينشروا تعاليم باطلهم ويركزوا جهودهم على تشويه المنهج الرباني.

هكذا إذن يتوارث الطغاة والكفار هذه الأساليب قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل كأنهم يتواصون بها إلى أن تقوم الساعة، إذ أنه لابد للباطل أن يحمي كيانه المزيف ويحافظ على أسسه الهشة بمزيد من الكذب والبطش حتى تتوارى حقيقته عن أعين الناس فينخدعوا به.

استغل رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم الحج لهذا العام ليطوف على الوفود المختلفة فيبلغهم الرسالة ويدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الأصنام والآلهة المدعاة، فقد قام بدور المبلغ كما أمره ربه عز وجل أما نتائج هذا الجهد وثماره فإنها بيد الله وحده، فقلوب العباد بين أصبعيه يقلبها كيف يشاء فيهدي من يشاء إلى الإيمان ويظل من ختم الله على قلبه في ظلمات الجاهلية والكفر إلى حين.

الثمرة الكبرى في هذا الموسم هو انتشار خبر الدعوة إلى خارج مكة عن طريق الحجيج الذين قدموا إلى البيت في هذا العام، فهذه في حد ذاتها نتيجة عظيمة تحتاج إلى أسفار وجهود كبيرة لإيصالها إلى القبائل المجاورة والبعيدة من مكة.

أهم وسائل الحرب النفسية

نقف الآن على أهم هذه الأساليب التي كان يستعملها الكفار للحيلولة دون وصول الدعوة إلى أسماع الناس ومن ثم محاولة تحجيمها وتهميشها لتتلاشى مع الزمن، ظانين أنها دعوة مبتورة لا أصل لها ولا قرار كما هي عادة الدعوات والمذاهب البشرية الناقصة الزائلة، ولكنهم نسوا أنها مرتبطة بالله تعالى وبحبله المتين، فمهما حاولوا إطفاء نورها فلا يزيد إلا توهجاً ومهما حاولوا حصارها فلا تزيد إلا توسعاً وانتشاراً، هذه هي أهم سمات هذه الدعوة الربانية الخالدة.

أولاً : - السخرية والاستهزاء والتكذيب

كما سبق الإشارة إليه فإن كفار قريش قد اختاروا مجموعة من النعوت والصفات يصفون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الساحر والمجنون والكاهن والشاعر وغيرها، ‏{ ‏وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏ }‏ ‏[‏ الحجر‏:‏6 ‏]‏، ‏{‏ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏ }[ص – 4 ]. وهي كلها صفات من شأنها أن تؤثر على نفسية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبطه عن أداء واجبات الدعوة، {‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏ }‏ ‏[‏الحجر‏:‏97‏]، فأنت حينما تُواجَهُ بالسخرية والاستهزاء من قبل من تريد أن توصل لهم رسالة ملؤها الخير والصلاح، وتريد أن تهديهم إلى طريق الحق والفلاح، حينما تجد تواجه بهكذا أسلوب فإنه حتماً سيؤثر على معنوياتك وسيضع سدوداً وحواجز بينك وبين هؤلاء المدعوين، وقد يدفعك إلى إيقاف جهودك الدعوية وترك الدعوة من أساسها.

لذلك وجب على الدعاة إلى الله أن يتسلحوا بإيمان قوي جداً وبثقة كبيرة في وعد ربهم لهم لكي يتمكنوا من مواصلة الدعوة رغم التكذيب والاستهزاء والسخرية.
وأنبياء الله ورسله الكرام يحتاجون مثل غيرهم إلى توجيهات ربانية تسليهم وتقذف في قلوبهم الأمل بأنهم منصورون وأن دعوتهم لابد ستنتشر وتسود رغم التكذيب والعناد، ومن هذه الأساليب الربانية أن الله تعالى يُنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص الأمم الغابرة مع أنبيائهم، حيث أن سنة الدعوات واحدة لم تتغير ولم تتبدل، تكذيب واستهزاء وسخرية وتعذيب وتقتيل للرسل وأتباعهم ثم يكون صبر وثبات واستقامة من طرف أصحاب الدعوات فيأتي بعد ذلك نصر الله وتمكينه لهم وانتقامه من المكذبين عبر آيات عديدة ومختلفة.
من هذه الآيات نسرد على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى

{‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ‏ }‏ ‏[‏الأنعام‏:‏10‏]‏‏.‏

‏{ ‏إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ الله ِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ‏ }‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 95، 96‏]‏،

واليوم تعود هذه السُّنَّة من جديد إلى عالم الدعوة فنجد المكذبين من أصحاب السلطة والجاه ومؤسسات الإفساد في الأرض يشنون حملات تشويه واسعة ومتواصلة على أصحاب الدعوة بالتكذيب تارة وبالاستهزاء تارة وبالسخرية تارة أخرى، نلمس ذلك في وسائل إعلامهم الخبيثة الواسعة الانتشار أو عبر كُتَّابهم ومفكريهم أو عبر برامج التربية والتعليم التي تتلقاها الأجيال الصاعدة.

ثانياً : - إثارة الشبهات والدعايات الكاذبة

وهذه مرحلة وأسلوب جديد يوازي أسلوب التكذيب والاستهزاء حيث يلجأ الكفار إلى إثارة الشبهات حول شخص النبي صلى الله عليه وسلم ذاته، إما بنعته بالمرض أو الجنون أو التخريف أو ارتباطه بالجن أو جهات خارجية تملي عليه هذا القرآن وهذه الدعوة الغريبة على بيئتهم كما يزعمون، وهذه تهم باطلة وشبهات داحضة لا أساس لها ولا قرار، إذ أن القرآن الكريم كان يتنزل ويفندها واحدة تلو الأخرى.

من ذلك قوله تعالى {‏ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏ }‏ وقالوا‏:‏ ‏{ ‏إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏ }‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه‏.‏ ‏{‏ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏ }‏ ‏[‏الفرقان‏:‏5‏]‏،
‏{‏ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏ }‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221، 222‏].

هذا بالإضافة إلى التشكيك في شخص النبي وتكبرهم عليه وقولهم بأنه لا يستحق أن يكون رسولاً مختاراً من عند الله عز وجل، إما بسبب بشريته ‏{ ‏مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ‏ }‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، وقالوا‏:‏ إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر،و ‏{‏مَا أَنزَلَ الله ُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏- 19]، ‏ .فكان الرد من الله تعالى في قوله ‏:‏‏{‏ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ‏}‏، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر‏.‏ ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على رسالتهم‏:‏ ‏{ ‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏ }‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏10‏]‏، فـ ‏{‏ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ الله َ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏ }‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 11‏]، فالرسل تنزل لتبليغ الرسالة وهداية الناس ولا يفرقون بين غني وفقير أو سيد وعبد ، بل إن الناس عندهم سواسية .

أو بسبب تدني مستواه المادي والاجتماعي { ‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏ }‏ ‏[‏الزخرف‏:‏31‏]، ويقصدون أحد وجهاء مكة والطائف، فكان الرد من الله تعالى في قوله ‏:‏‏{ ‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏32‏]‏، يعنى أن الوحي والرسالة رحمة من الله‏{ ‏الله ُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏ }‏ ‏[‏الأنعام‏:‏124‏]‏‏.‏ فالله تعالى هو الذي يختار الأنسب لهذه الرسالة ومقاييس الدعوة والآخرة الباقية ليست هي مقاييس الهوى والدنيا الفانية.
فيا من يتكبر على القيادات الصالحة الراشدة بحجة أنهم لا يملكون المال الكافي والجاه المناسب والشهرة المادية، إلى هؤلاء نقول بأن مركز القيادة اختيار من الله تعالى وتوفيق منه سبحانه، فضلاً عن أنها مسؤولية وأمانة ينبغي على المؤمن الكيس أن يفر منها فراره من الفتن، فالعاقل لا يتمنى أن يُحمِّل نفسه ما لا تطيق من أعباء الدعوة والتسيير والتربية، إنما يتمنى أن يكون فرداً عادياً يقوم بواجباته خير قيام وينفذ أوامر قيادته بلا إبطاء.
فنحن نعلم وندرك المخاطر التي تلاقيها هذه القيادات في طريق الدعوة والجهاد، فالمسألة ليست تشريفاً بقدر ما هي تكليف في الدنيا والآخرة. فاحرص يا عبد الله أن يكون حسابك يسيراً وتبعاتك خفيفة وابحث عن طاعة ربك بطاعة أولي أمرك في اليسر والعسر وفي المنشط والمكره لكي تنال رضا ربك وتفوز بأجر عظيم.
أما أعداؤنا – الذين يسعون إلى تشويه سمعة قياداتنا – فنقول لهم: موتوا بغيظكم فلن تنالوا منا سوى الخيبة والحسرة، واعلموا أن إشاعاتكم وأكاذيبكم لن تزيدنا إلا يقيناً بربنا ووعده لنا بالنصر عليكم تحت قيادة هؤلاء الأمراء الربانيين الزاهدين في فتات الدنيا والرافضين لعروضكم المادية الدنيئة والمحاربين لقيمكم ومناهجكم الكفرية، الثابتين على نهج ربهم القويم الصابرين على كيدكم ومكركم، فهم من سينصر الله بهم دينه ويعلي رايته وينصرهم عليكم ويشف صدور قوم مؤمنين.
فكل ما تنفقونه من قناطير مقنطرة من الذهب والفضة لمحاربة أهل الحق والصد عن سبيل الله سوف تذهب سدى وستكون عليكم حسرة ثم تُغلبون بإذن الله .

ثالثاً: - مواجهة القرآن الكريم بأساطير الأولين

هذا أسلوب جديد استعمله كفار قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما لم تفلح الأساليب سالفة الذكر، فكانوا يتهمون القرآن نفسه ويشككون في صدقيته، حينما علموا خطورة تأثيره على النفوس واستمالتها إلى الحق بعدما كانت مغيبة في عالم الخرافة والبدعة والشرك المختلف ألوانه وأشكاله.
قال تعالى‏:‏ ‏{ ‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏ }‏ ‏[‏فصلت‏:‏26‏]، فالخوف كل الخوف من ترك القرآن يصل إلى آذان الناس، وقد كان النضر بن الحارث أحد الذين يتولون هذه المهمة الشيطانية، حيث كان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول‏:‏ أنا و الله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول‏:‏ بماذا محمد أحسن حديثًا مني‏.‏
لقد دأب قادة الكفر على تخدير الناس وإبعادهم عن الحق والصواب بنشر مذاهبهم الباطلة المختلفة ولا يهمهم في أي واد سقط هؤلاء ولا أي تيار فاسد جرفهم مادام أن ذلك يبقيهم في منأى عن تهديد مصالحهم.

أما اليوم فنحن نشاهد انتشار هذه المذاهب المنحرفة والأفكار الهدامة المنتشرة عبر وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والأنشطة الثقافية والفكرية المتعددة، فيعرضوا عقائد باطلة يناهضون بها عقيدة التوحيد وينفرون الناس من تبعات هذا الدين العظيم، وذلك باللعب على بعض الأوتار الحساسة لدى الناس وإثارة بعض الشبهات الداحضة وعرض الكثير من الشهوات وتقريبها لهم وتعبيد الطرق للوصول إليها لصرفهم عن دينهم، فيكون الإقبال كبيراً على هذه البضاعة المغرية ويغفل الناس عن نداء ربهم ولا يلتفتون إلى الدعاة بل تراهم يحتقرونهم ويزدرونهم بحجة أنهم متزمتون أو متشددون أو مخالفون لأعراف الناس وعاداتهم.

هذا في الوقت الذي تُنشر فيه مذاهب الباطل وأفكاره في قوالب مزركشة وميسورة مثل الأفلام والمسلسلات وبعض الروايات فضلاً عن المئات من القنوات الفضائية الفاسدة والمواقع المخلة بالحياء والحشمة والأخلاق على الشبكة العنكبوتية، كل هذا يلقى إقبالاً لا نظير له من طرف الشباب في الوقت الذي تشدد السلطات الطاغوتية الرقابة على المواقع النافعة ومنها المواقع الجهادية ثم تضرب الحصار على بعض الدعاة المخلصين وتغلق القنوات الهادفة وتعتبر كل من ينشرها أو يشارك فيها متهماً ومجرماً ينبغي محاربته.

هذه هي بعض صور المواجهة التي يلاقيها الدعاة إلى الله وأصحاب الحق في طريق دعوتهم وسيرهم إلى الله، قد تختلف الأطر والأساليب ولكن الجوهر واحد والغاية لم تتبدل على مدار السنين، محاولة إيقاف المد الإسلامي الجارف بتقديم بدائل لباطلهم وأنـَّى لهم ذلك.

فكما تخطَّت الدعوات الأولى على أيدي أنبياء الله ورسله كل عقبات الباطل وحواجزه فإن الدعوة اليوم قادرة بإذن الله على نسف كل الحواجز الجديدة رغم كثرتها وإيصال كلمة الحق إلى قلوب الناس وتجنيدهم ليصبحوا أنصاراً للحق ومعاول هدم لصروح الباطل ولو بدت لأصحابها أنها شامخة ، لكنها في حقيقة الأمر لا تعدو أن تكون سراباً يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، أو كشجرة خبيثة لا تلبث أن تُجتثَّ من فوق الأرض لأنها بلا قرار.



http://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gif



وإلى أن نلتقي مع الدرس السابع من هذه السلسلة التربوية مع وقفات جديدة، نسأل الله أن يُثَبِّتَنَا على دينه ويُصَرِّفَ قلوبنا على طاعته ويوفقنا لما فيه رضاه ويُبعد عنا نزوات الشيطان وشرور خلقه ويحفظنا من الزلل في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.






http://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gifhttp://shamikh1.net/vb/images/smilies/orange-pullet.gif

قائد_الكتائب
10 Jan 2011, 01:47 AM
دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

الدرس السابع

مرحلة التـــرغيب والتـــرهيب

لفضيلة الشيخ : أبي سع العاملي / حفظه الله






أولاً: أساليب التعذيب والإيذاء

بعدما فشل كفار قريش في إيقاف مسيرة الدعوة أو التأثير فيها عن طريق أساليب الاستهزاء والتكذيب والتشويه المختلفة، وبعدما ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على دين التوحيد بل زاد عدد هؤلاء الأتباع ، وباتت الدعوة الجديدة تمثل خطراً على مصالح قريش وتهدد سلطتهم، قرر كبراء قريش اللجوء إلى أسلوب التعذيب والإيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه لعله يوقف هذا المد المتواصل للإسلام ويكون وسيلة للمحافظة على ما تبقى لهم من هيبة وسمعة، وقبل أن تصبح ديانتهم في خبر كان فيهجرها الناس جماعات وأفراداً.

لقد أدرك كفار قريش خطورة الوضع فسارعوا إلى سياسة كتم الأنفاس ومحاولة الإجهاز على المؤمنين لعلهم يحققون بعضاً من أهدافهم في إسكات صوت الحق وإعادة شريان الحياة إلى باطلهم.

ونود التركيز على أن موجة التعذيب والإيذاء قد طالت كل المسلمين بدون استثناء بدءاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة وذو المنعة والشوكة بدرجات متفاوتة طبعاً حيث أن الذين كانت لهم منعة نالوا من الإبتلاء على قدر مكانتهم الاجتماعية، ذلك لنعلم أن سنة الابتلاء والأذى لا تفرق بين المؤمنين ولابد أن تطالهم كجزء من ضريبة الحق التي لابد من دفعها لتترسخ العقيدة في النفوس وتصبح غالية لدى أصحابها فيكون ذلك مدعاة لمزيد من الثبات والتضحية في سبيل الحفاظ عليها وعدم التفريط في جزء ولو صغير منها.

بعض صور التعذيب والإيذاء

كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبَهُ وأخْزَاه، وأوْعَدَهُ بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به‏.‏
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته‏.‏
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، فقال لأمه يا أماه والله لو كانت لي مائة روح فخرجت واحدة بعد الأخرى على أترك دين محمد ما تركته، وحينما تيقنت من عدم رجوعه عن دينه، أخرجته من بيتها، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية‏، فكان رضي الله عنه يأكل يوماً ويجوع أياماً، كل ذلك تحملاً في سبيل دينه.‏

وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول‏.‏
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول‏:‏ أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يـشده شـدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع‏.‏ وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول‏:‏ لا والله لا تـزال هكـذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك‏:‏ أحد، أحد، ويقـول‏:‏ لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها‏.‏ ومر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل‏:‏ بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه‏.‏

وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها‏.‏ ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال‏:‏ ‏(‏صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة‏)‏، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية ـ أم عمار ـ في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة‏.‏ وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه‏.‏ وقالوا له‏:‏ لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأنزل الله ‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ بِالله ِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ‏}‏ ‏
وكان أبو فُكَيْهَةَ ـ واسمه أفلح ـ مولى لبني عبد الدار، وكان من الأزد‏.‏ فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد، وفي رجليه قيد من حديد، فيجردونه من الثياب، ويبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله‏.‏

وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكان حدادًا، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وكان المشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره‏.‏

وكانت زِنِّيرَةُ أمَةً رومية قد أسلمت فعذبت في الله ، وأصيبت في بصرها حتى عميت، فقيل لها‏:‏ أصابتك اللات والعزى، فقالت‏:‏ لا والله ما أصابتني، وهذا من الله ، وإن شاء كشفه، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش‏:‏ هذا بعض سحر محمد‏.‏

وأسلمت أم عُبَيْس، جارية لبني زهرة، فكان يعذبها المشركون، وبخاصة مولاها الأسود بن عبد يغوث، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المستهزئين به‏.‏

وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ـ وهو يومئذ على الشرك ـ فكان يضربها حتى يفتر، ثم يدعها ويقول‏:‏ والله ما أدعك إلا سآمة، فتقول‏:‏ كذلك يفعل بك ربك‏.‏

وممـن أسلمـن وعـذبن مـن الجـوارى‏:‏ النهدية وابنتها، وكانتا لإمـرأة من بني عبد الدار‏.‏

وممن عذب من العبيد‏:‏ عامر بن فُهَيْرَة، كان يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول‏.‏

واشترى أبو بكر رضي الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهن أجمعين، فأعتقهم جميعًا‏.‏ وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال‏:‏ أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالًا جلدًا لمنعوك‏.‏ قال‏:‏ إني أريد وجه الله ‏.‏ فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ ‏ هو أمية بن خلف، ومن كان على شاكلته ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ وهـو أبـو بـكـر الصديـق رضي الله عنه‏.‏

وأوذي أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا‏.‏ فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما في حبل واحد، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين فلم يجيباه، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان؛ ولذلك سميا بالقرينين، وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه‏.‏

والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيما العبيد والإماء منهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمن أسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومهم، ولذلك قلما كان يجتريء عليهم إلا أشراف قومهم، مع الكثير من الحيطة والحذر‏.‏
من خلال ما سبق يمكننا الوقوف على بعض الدروس والعبر المهمة في هذه الفترة الزمنية من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

أولاً: سنة الابتلاء المتمثلة في الإيذاء الجسدي والمعنوي للمسلمين سنة ثابتة وماضية في الدعوات على مر العصور، ولا يمكن لأحد أن يدّعي عكس ذلك فيقول بأن دعوته لم تتعرض لأذى مخالفيه لأنه كان كيساً فطناً وتصرف مع خصومه بحكمة وروية فاستطاع أن يتفادى هذه المحن ولم يتعرض لأي أذى مهما كان نوعه.

فالدعوات كلها من لدن آدم عليه السلام وإلى قيام الساعة تتميز بل تتشرف أن تلقى هذا الأذى على أيدي خصومها ومخالفيها كعنوان ودليل على صدقها وبعدها عن الشبهات، بخلاف من يدّعي العكس فإنه يكون عرضة للشبهة، ويكون ذلك دليلاً على انحرافه عن النهج القويم إذ لا يمكن أن يلتقي الحق والباطل ولا أن يتوافقا أبداً، فالتدافع لابد منه وفي بداية الأمر غالباً ما ينال أهل الحق أذى كثيراً وابتلاء طويلاً من أهل الباطل ثم يكون صبر وتحمل واستقامة على الطريق ثم يأتي الفتح والتمكين بعد ذلك كثمرة طبيعية ربانية على هذا التحمل.
وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله حينما سألوه: أيبتلى المرء أولاً أم يمكَّن ، فقال: لا يمكن المرء حتى يُبتلى . فهذه كلمة جامعة لما سبق قوله في مسألة الابتلاء والتعذيب الذي يطال المؤمنين قبل تمكينهم في الأرض وظهور دينهم على كل الأديان.

ثانياً: أن الكفار وأعداء الدين لا يفرقون بين سيد أو عبد ولا بين غني أو فقير ما دام أنه يخالفهم في العقيدة و يكفر بدينهم وقوانينهم ولو كان من أقرب الأقربين إليهم، فقد رأينا أن الأب يعذب ابنه والأخ أخاه والأم ابنها والعشيرة أبناءها بسبب تركهم لدين آبائهم واتباع دين الإسلام الجديد والمخالف لأعرافهم، بينما يرضون عمن يطيعهم ويتبع ملتهم ولو كان من أبعد الأبعدين.
وهذه السنة ماضية إلى يوم القيامة، وقد عاشها المسلمون الموحدون في كل عصر ومصر، ولن نكون نحن اليوم استثناء، لذلك وجب علينا فقه هذه الظاهرة والتعامل معها بحكمة وبمزيد من الصبر والمصابرة حتى لا نفقد عقيدتنا ونزهد فيها بسبب تغليب رابطة القرابة والدم على رابطة الدين فنكون من الخاسرين.
لتكن نماذج سلفنا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضوان الله عليهم، قدوة لنا ومرجعاً نضعه أمام أعيننا على طول مسافة الطريق لكي نثبت ونستقيم على أمر ديننا الحنيف، فلن نكون أفضل منهم عند الله وهم من اختارهم ربهم ليكونوا أنصاراً لرسوله ولدينه الخاتم.

ثالثاً: في هذه الفترة التي تتسم بالتعذيب والاضطهاد المتواصل والمتنوع لم يكن يُقبل على هذا الدين إلا المخلصون والصادقون، والدليل على ذلك أنه لم نعرف أحداً ارتد عن دينه وعاد إلى دين قريش بالرغم من شدة التعذيب وقلة النصير.
ومن هنا يمكننا القول أن ظاهرة النفاق لم تكن موجودة أصلاً خلال هذه الفترة من عمر الرسالة، وهذه نقطة قوة وبيئة نقية للتجمع الإيماني أن ينمو بعيداً عن كل المثبطات وعلى رأسها آفة النفاق لكي تتقوى الجماعة ويتكون المسلمون في كنف الإسلام يتلقون تعاليمه وسط بيئة الابتلاء والاضطهاد لتنشأ القاعدة الصلبة والنواة القوية للدولة الإسلامية القادمة.
ومن هنا أيضاً ينبغي أن ننظر إلى ظاهرة الابتلاء ونزول الأذى على الجماعة المسلمة على أنها ظاهرة صحية وبيئة مناسبة لتكوين الجنود الأكفاء الذين سيحملون هذا الدين ويتحملوا تبعات هذا الانتماء بنفوس قوية وإيمان راسخ، وهذا سيمكنهم من الثبات على دينهم والحفاظ عليه ودفع كل المخاطر التي تهدده، فأنت كلما ضحيت في سبيل أمر ما إلا وستعلو قيمته في نفسك وسيغلى ثمنه ولن تستطيع التفريط فيه ولو بملئ الأرض ذهباً.

رابعاً: ضرورة الصبر على الابتلاءات المتنوعة من تعذيب جسدي واستهزاء ونقص من الأموال والمأكل والمشرب والمسكن في سبيل نصرة دين الله، وعدم مؤاخذة القيادة المسلمة أو التجمع الإيماني إذا عجز عن رفع هذا الأذى عن أتباعه بسبب ظروفه الصعبة، فالفرد المؤمن ينبغي أن يتحمل مسؤوليته كاملة أمام ما يلاقيه في سبيل التمسك بدينه، ولا يعتقدن أن ما أصابه إنما بسبب سوء تخطيط من قيادته، فيكون لسان حاله كلسان بني إسرائيل لموسى عليه السلام حينما لقوا الأذى من فرعون وجنده {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} .


ثانياً : أسلوب الترغيب والتهديد

وقد كان بين كفار قريش وأبي طالب حيث تم الاتصال بأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكلموه في شأن ابن أخيه والخطورة التي يشكلها على دين آبائهم وسمعتهم التي باتت في مهب الريح.

قال ابن إسحاق‏:‏ مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا‏:‏ يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسَفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه‏.‏ ولكن لم تصبر قريش طويلًا حين رأته صلى الله عليه وسلم ماضيًا في عمله ودعوته إلى الله ، بل أكثرت ذكره وتذامرت فيه، حتى قررت مراجعة أبي طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق.[ الرحيق المختوم – للمباركفوري].

‏ وعاد كبراء قريش إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له‏:‏ يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين‏.‏

عَظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ يا بن أخي، إن قومك قد جاءونى فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال‏:‏ ‏(‏يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته‏)‏، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فلما أقبل قال له‏:‏ اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فو الله لا أُسْلِمُك لشىء أبدًا وأنشد‏:‏



والله لن يصلوا إليك بجَمْعـِهِم ** حتى أُوَسَّدَ في التـراب دفيـنًا
فاصدع بأمرك ما عليك غَضَاضَة ** وابْشِرْ وقَـرَّ بذاك منك عيونـًا



الله أكبر ، لا إله إلا الله، أرأيتم ثمرة الاستقامة على أمر الله، أرأيتم هيبة الله ومعيته لعباده الصادقين، يكفي أن يكون العبد صادقاً مع ربه، ثابتاً على دينه، مسترخصاً ما يملكه في سبيل مرضاة ربه، لكي تتدخل العناية الربانية ويرسل الله جنوده الأخفياء فيسخرهم لخدمة دينه ونصرة عباه حتى لو لم يكونوا مؤمنين أصلاً ، وقد أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ينصر الله هذا الدين برجل ليس من أهله" وفي رواية:" بأقوام لا خلاق له"، فالله تعالى هو الذي سخرهم ويمكننا اعتبارهم جنوداً لله عز وجل يقضي بهم قدره ويُتم بهم أمره ولو لم يكونوا مؤمنين.

وسوف نلاقي نماذج عديدة في صفحات هذا الكتاب، رجال أو نساء نصروا دين الله عز وجل وهم خارج دائرته، فكان لهم الفضل الكبير والمساهمة البينة في أن تتقدم مسيرة الدعوة وتبلغ غاياتها بفضل من الله وحده. فالدين دين الله وهو سبحانه من يتكفل بحمايته ونصرته بنا أو بغيرنا، وفق سنن ربانية لا تتخلف ولا تتبدل.

نعود لنقف مع موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مطالب قريش لعمه أبي طالب وتهديداتهم لبني هاشم بسبب احتضانهم ودفاعهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان الموقف واضحاً وصريحاً وحازماً أن لا تنازل عن بعض ما يدعو إليه ولا توقف عن بيان الحق وكشف زيف الباطل الذي يتمثل في تسفيه أحلام المشركين وعيب آلهتهم.

فالنبي عليه الصلاة والسلام مأمور من ربه أن يبلغ رسالته ويعرض عن المشركين، فلا مجال هنا للخوف أو الإجتهاد بتوقيف الدعوة بسبب تهديد أو وعيد، أو حرصاً على مكاسب موهومة بتعطيل الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يفعل الكثير ممن يُحسب على الإسلام أفراداً وجماعات، وهم يلهثون وراء سراب لن يبلغوه أبداً، ويسعون إلى إرضاء أعداء الله من الكفار والمرتدين وضعاف النفوس من الخونة والمنافقين لكي يفوزوا ببعض الفتات على موائد اللئام.

إن الموقف الشرعي من صاحب الدعوة وخاصة القيادات والعلماء هو الثبات على دينهم ومواصلة الصدع بالحق ونشره بين الناس مهما كانت التهديدات والإغراءات، فليس هناك ما هو أصعب من وضع الشمس والقمر في أيدي الدعاة مقابل التخلي وترك أمر الدعوة، ورغم ذلك حتى لو أتى المشركون ومخالفو الدعوة بالشمس والقمر بين أيدي أصحاب الحق فلا ينبغي ولا يجوز التوقف عن مسيرة الدعوة.

قريش بين يدى أبي طالب مرة أخرى

ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماض في عمله عرفت أن أبا طالب قد أبي خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة وقالوا له‏:‏ يا أبا طالب، إن هذا الفتى أنْهَدَ فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسْلِمْ إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال‏:‏ والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه‏؟‏ هذا والله ما لا يكون أبدًا‏.‏ فقال المطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف‏:‏ والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا،

فقال‏:‏ والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك‏.‏

ولما فشلت قريش في هذه المفاوضات، ولم توفق في إقناع أبي طالب بمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفه عن الدعوة إلى الله ، قررت أن تختار سبيلا قد حاولت تجنبه والابتعاد منه مخافة مغبته وما يؤول إليه، وهو سبيل الاعتداء على ذات الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

يظهر لنا مدى تخبط قريش وكأنهم قد فقدوا عقولهم حينما عرضوا على أبي طالب أن يسلم لهم ابن أخيه وفلذة كبده نبي الله عليه الصلاة والسلام وهو أحب إليه من أولاده جميعاً لكي يقتلوه ويعطوه بدلاً منه عمارة بن وليد لكي يحفظه ويتخذه ولداً.

ذلك لكي نعلم أن كفار قريش قد وصلوا إلى طريق مسدود في تعاملهم مع دعوة الإسلام ورسولها الكريم، فلا مجال لأنصاف الحلول أو أرباعها أو أقل أو أكثر مع أعداء الدعوة، ولابد أن نصل معهم إلى مرحلة المواجهة الحامية الوطيس حيث تختفي لغة المداهنة والمودة وتأخذ مكانها لغة التدافع والشدة وسعي كل طرف إلى استئصال شأفة الطرف الآخر لكي لا يبقى هناك ثمة تنافس بين هذين الطرفين، فهي حرب وجود وسيادة مطلقة.

رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ينال القسط الأكبر من الإيذاء

حتى لا يقول قائل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في منأى عن هذه الحملة المسعورة والإيذاء المتنوع على أصحابه، نعرض هنا بعض النماذج من إيذاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت صعدت وتيرتها وحدتها مباشرة بعد اللقاء الثاني مع أبي طالب لكي يمنع النبي عن تبليغ دعوته بالتوقف عن التعرض لآلهة قريش ودينها الباطل .

"اخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة، فقد صعب على غطرستها وكبريائها أن تصبر طويلًا، فمدت يد الاعتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء والتشويه والتلبيس والتشويش وغير ذلك‏.‏ وكان من الطبيعي أن يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنه كان أحد رؤوس بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، وكان عدوًا لدودًا للإسلام وأهله، وقد وقف موقف العداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول، واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش، وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا‏.‏

وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما‏.‏

ولما مات عبد الله ـ الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ استبشر أبو لهب وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدًا صار أبتر‏.‏

وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه، وقد روى طارق بن عبد الله المحاربي ما يفيد أنه كان لا يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه‏.‏

وكانت امرأة أبي لهب ـ أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان ـ لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تحمل الشوك، وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب‏.‏

ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ ‏[‏أي بمقدار ملء الكف‏]‏ من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت‏:‏ يا أبا بكر، أين صاحبك‏؟‏ قد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة‏.‏ ثم قالت‏:‏



مُذَمَّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَلَيْنا




ثم انصرفت، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، أما تراها رأتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني‏)‏‏.‏

وروى أبو بكر البزار هذه القصة، وفيها‏:‏ أنها لما وقفت على أبي بكر قالت‏:‏ أبا بكر، هجانا صاحبك، فقال أبو بكر‏:‏ لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت‏:‏ إنك لمُصدَّق‏.‏

كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، كان بيته ملصقا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى ـ وكانوا جيرانه ـ لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول‏:‏ ‏(‏يا بني عبد مناف، أي جوار هذا‏؟‏‏)‏ ثم يلقيه في الطريق‏.

وازداد عقبة بن أبي مُعَيْط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض‏:‏ أيكم يجىء بسَلاَ جَزُور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم ‏[‏وهو عقبة بن أبي معيط‏]‏ فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي وضع على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغنى شيئًا، لو كانت لي منعة، قال‏:‏ فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعضهم ‏[‏أي يتمايل بعضهم على بعض مرحًا وبطرًا‏]‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال‏:‏ ‏[‏اللهم عليك بقريش‏]‏ ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، قال‏:‏ وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى‏:‏
‏(‏اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط‏)‏ ـ وعد السابع فلم نحفظه ـ فوالذي نفسى بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القَلِيب، قليب بدر‏.‏

وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه‏.‏ وفيه نزل‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ ‏‏ قال ابن هشام‏:‏ الهمزة‏:‏ الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به‏.‏ واللمزة‏:‏ الذي يعيب الناس سرًا، ويؤذيهم‏.‏

أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين‏.‏ وجلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبيًا أنبه وعاتبه، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، وأبي بن خلف نفسه فت عظمًا رميمًا ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكان الأخنس بن شَرِيق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى‏:‏‏{‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ ‏‏

وكان أبو جهل يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، ويؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله ، ثم يذهب مختالًا بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشر، كأن ما فعل شيئًا يذكر، وفيه نزل‏:‏ ‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏31‏]‏، وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلى في الحرم، ومرة مر به وهو يصلى عند المقام فقال‏:‏ يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ لــه رسـول الله صلى الله عليه وسلم وانتـهره، فقال‏:‏ يا محمد، بأي شىء تهددنى‏؟‏ أما والله إني لأكثر هذا الوادى ناديًا‏.‏ فأنزل الله ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏17، 18‏]‏‏.‏ وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه، وهو يقول له‏:‏‏{‏أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏34، 35‏]‏ فقال عدو الله ‏:‏ أتوعدنى يا محمد‏؟‏ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئًا، وإني لأعز من مشى بين جبليها‏.‏

ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد‏.‏ أخرج مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ يعفر محمد وجهه بين أظهركم‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم، فقال‏:‏ واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، فقالوا‏:‏ ما لك يا أبا الحكم‏؟‏ قال‏:‏ إن بينى وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا‏)‏‏.‏ "

هذه بعض المحطات من مرحلة الأذى الجسدي والمعنوي التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم كجزء من الضريبة لهذا الدين ، وكنموذج أعلى وأسمى للداعية الذي يصبر على تبعات الطريق ويتحمل شتى أنواع الضرر من قِبَل مخالفيه وأعدائه وهو صابر محتسب لا يصده ذلك عن دينه ولا يشككه في مبادئه ولا يدفعه للتخلي عن جزء ولو يسير من عقيدته ، وبهذا تصبح هذه العقيدة من أغلى ما يملك الداعية ومن شأن هذا العذاب المتنوع الأشكال والألوان أن يجعله يتمسك بهذه العقيدة ولا يفرط فيها مهما كانت الإغراءات أو التهديدات فيما تَبَقَّى من مسيرته إلى الله.

إلى أن نلتقي مع الدرس الثامن بحول الله وقوته نسأل الله جل وعلا أن يحفظنا بعنايته ويرزقنا الإخلاص والثبات على ديننا وأن يمدنا بمزيد من الصبر لتحمل أذى مخالفينا وأعدائنا، فلا نُفتن في ديننا ولا نفرط فيه قيد أنملة، لعل الله يرحمنا ويعلي درجاتنا في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عبدالله الكعبي
10 Jan 2011, 12:14 PM
الدرس الثاني










من المولد الى فترة رعي الغنم









احسنت وبارك الله فيك اخي الحبيب القائد و جزاك الله خيرا بس فقط اضيف لك بعض المعلومات عن الرسول صلى الله عليه و سلم واعلم انك قراءة في الولادة ولاكن انا حبيت اضع في بداية المولد الرسول صلى الله عليه و سلم




ولـد سيـد المرسلـين صلى الله عليه وسلم بشـعب بني هاشـم بمكـة في صبيحـة يــوم الاثنين التاسع مـن شـهر ربيـع الأول، لأول عـام مـن حادثـة الفيـل، ولأربعـين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك عشرين أو اثنين وعشرين من شهر أبريل سنة 571 م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان ـ المنصورفورى ـ رحمه الله ‏ و المحقق الفلكي محمود باشا محاضرات الأمم الإسلامية للخضري1/62 ورحمة للعلمين 1/38، 39 واختلافهم في تعين تاريخ أبريل فرع للاختلاف في تقويمات الميلادية .‏


وروى ابــن سعــد أن أم رســول الله صلى الله عليه وسلم قالــت ‏:‏ لمــا ولـدتــه خــرج مــن فرجـى نــور أضــاءت لـه قصـور الشام‏.‏ وروى أحمد والدارمى وغيرهمـا قريبـًا مـن ذلك‏ انظر مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم للشيخ عبد الله النجدي ص12 وابن سعد 1/63.



وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك الطبرى والبيهقى انظر في فقه السيرة لمحمد الغزالي ص46 ‏.‏ وليس له إسناد ثابت، ولم يشهد له تاريخ تلك الأمم مع قوة دواعى التسجيل‏.‏


ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده،فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له‏.‏ واختار له اسم محمد ـ وهذا الاسم لم يكن معروفًا في العرب ـ وخَتَنَه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون‏.‏


وأول من أرضعته من المراضع ـ وذلك بعد أمه صلى الله عليه وسلم بأسبوع ـ ثُوَيْبَة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له‏:‏ مَسْرُوح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي‏.‏


في بني سعد


وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعادًا لهم عن أمراض الحواضر؛ ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربى في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المراضع، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر، وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث، وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة‏.‏
وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة ‏:‏ عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث ‏[‏وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسمها‏]‏ وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعًا في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهو عند أمه حليمة،فكان حمزة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهتين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية‏.‏


ورأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قضت منه العجب، ولنتركها تروى ذلك مفصلًا ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ كانت حليمة تحدث ‏:‏ أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء‏.‏ قالت ‏:‏ وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئًا، قالت ‏:‏ فخرجت على أتان لى قمراء، ومعنا شارف لنا، والله ما تَبِضّ ُبقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديى ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذَمَّتْ بالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفًا وعجفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها‏:‏ إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول‏:‏ يتيم‏!‏ وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيرى، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى‏:‏ والله ، إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه‏.‏ قال ‏:‏ لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة‏.‏ قالت‏:‏ فذهبت إليه وأخذته،وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره، قالت‏:‏ فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته في حجرى أقبل عليه ثديأي بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، قالت‏:‏ يقول صاحبى حين أصبحنا‏:‏ تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت‏:‏ فقلت‏:‏ والله إنى لأرجو ذلك‏.‏ قالت‏:‏ ثم خرجنا وركبت أنا أتانى، وحملته عليها معى، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شىء من حمرهم، حتى إن صواحبى ليقلن لى‏:‏ يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك‏!‏ أرْبِعى علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها‏؟‏ فأقول لهن‏:‏ بلى والله ، إنها لهي هي، فيقلن‏:‏ والله إن لها شأنًا، قالت‏:‏ ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح علىَّ حين قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنـًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم‏:‏ ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمى شباعًا لبنًا‏.‏ فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا‏.‏ قالت‏:‏ فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها‏:‏ لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت‏:‏ فلم نزل بها حتى ردته معنا‏.



شق الصدر


وهكذا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سعد، حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحاق، وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققين وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه ـ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى ظئره ـ فقالوا‏:‏ إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون ـ أي متغير اللون ـ قال أنس‏:‏ وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره‏.‏

قائد_الكتائب
14 Jan 2011, 12:34 AM
بارك الله فيك أخي اليزيدي على مرورك الطيّب والزيادة الطيبة في سيرته العطره صلى الله عليه وسلم التي تفضلت بها ، لكن هدف الشيخ في هذة الوقفات التربوية التي على الدعاة الوقوف عليها وإستخلاص العبر منها وإستأناس القلوب بها لما يتعرضُ له الداعية خاصة من مِحَنٍ وإبتلاءات في دعوته .

قائد_الكتائب
14 Jan 2011, 01:55 AM
دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

- الدرس الثامن -

وقفات تربوية مع الهجرة إلى الحبشة


لفضيلة الشيخ : أبي سع العاملي / حفظه الله




http://i56.tinypic.com/2r7bkm0.jpg


الحمد لله رب العالمين الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

نواصل مع أحداث السيرة النبوية المطهرة ونواصل وقفاتنا التربوية على أهم محطات الدعوة الخاتمة بقيادة نبينا الكريم وصحابته الأخيار وهم يواجهون شتى أنواع الترغيب والترهيب لكي يتنازلوا عن بعض دينهم أو يطيعوا الذين كفروا في بعض ما يطلبون {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}، حيث أن كفار قريش ينتظرون أدنى تنازل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يوفروا له كل مطالبه المادية ويكفوا أذاهم له ولأصحابه.



الهجرة إلى الحبشة



حينما تمادى كفار قريش في تعذيب المسلمين وأذاهم حتى بلغ ذروته في منتصف السنة الخامسة من البعثة النبوية ، بدأ المسلمون يفكرون في مخرج يخفف عنهم هذا التعذيب أو يرفعه عنهم ، وحينما ثبتوا على دينهم وصبروا على ما أوذوا ، أنزل الله سورة الزمر في هذه الأحداث لتأذن للنبي وللمسلمين وتلمح لهم بالهجرة كحل أنسب وأمثل لما هم فيه من ضيق وحصار، وأن أرض الله واسعة فليست مكة قدَرٌ لابد منه بل هناك أراضي أخرى يمكن للمسلمين أن يسيحوا فيها ، وذلك قوله تعالى ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله ِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏.‏ فأشار النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه المستضعفين أن يهاجروا من مكة طلباً لأرض يجدون فيها أماناً لعبادة ربهم، فوقع اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرض الحبشة لمَّا علم أن أصْحَمَة النجاشى ملكها ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إليه فرارًا بدينهم من بطش كفار قريش .



بعض مفاهيم الهجرة في الإسلام



ونود أن نسجل وقفة قبل إتمام مشاهد الهجرة إلى الحبشة، نقف عند مفهوم الهجرة في الإسلام ومتى وكيف تتم‏ ؟ وما هي تبعاتها؟ وهل هي غاية أم وسيلة؟ وما هي مردوديتها على الدعوة؟

أنزل الله سبحانه وتعالى هذا الدين على عباده ليطبقوه على أرضه ويكون مصدر هداية وسعادة للخلق أجمعين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} والمؤمن حينما يعتنق هذا الدين فلابد أن يجسده واقعاً وعملاً كمنهاج حياة، يستبدل كل تقاليده وأعرافه الجاهلية بالقيم والمبادئ الإسلامية ، ولا يمكن أن يظل حبيساً ومعلقاً بين ماضيه الجاهلي وحاضره الإسلامي ، يعيش تناقضاً بيناً بين ما يؤمن به ويعتقده وبين ما يقترفه من أعمال تناقض معتقده، بل تراه يحرص على الانفصال التام والنهائي بهذا الماضي السلبي الجامد والبحث عن المجال المفتوح والواسع لتطبيق تعاليم دينه طاعة لربه وإتباعا لسنة نبيه.

وحينما يكون المجال مسدوداً والأفق ضيقاً أمام المسلم ويتعذر عليه تنفيذ أوامر ربه في بيئة ما، فإنه يسعى تلقائياً إلى البحث عن مكان آخر يكون فيه حراً طليقاً لينفذ هذه الأوامر وينتهي عما نهاه الله عنه لأن البيئة القديمة قد تكون مليئة بالفتن فضلاً عن وجود عوائق وعقبات لتحقيق العبودية لله عز وجل.

فالهجرة إذن هي أن تهجر ما حرم الله وتبحث عن المكان الآمن لدينك ولنفسك ولمالك ولعرضك ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

من هنا نعلم أن الهجرة المقبولة شرعًا هي التي تكون لله ورسوله بمعنى أن ينتقل المسلم من مكان المعاصي إلى مكان الطاعات، إذا غلب عليه أنه لن يستطيع تغيير هذه المنكرات وليس بمقدوره تهيئ بيئة يعبد فيها الله حق عبادته.

المطلوب أن تكون الهجرة -كما سبق القول – وسيلة للبحث عن مكان يُتزود فيه بالقوة وعناصر البقاء للفرد وللجماعة المسلمة على حد سواء، حينما يتحقق ذلك يتعين عليهم العودة إلى موطنهم الأصلي لكي يقوموا بما عليهم من واجبات الدعوة والحسبة وتطبيق لشرع الله في الأرض كاملاً غير ناقص.

ففي البداية تكون هجرة الكثير لله ورسوله فراراً بدينهم وبحثاً عن موطن آمن، وحينما يتحقق لهم ذلك تجدهم يركنون إلى متاع الدنيا وينسلخون عن مبادئهم وتخبو فيهم جذوة الدعوة ونصرة الدين ، فتتحول الهجرة إلى الغاية الأولى والأساسية في حياتهم وإلى قيد ناعم تكبل همتهم وتقلص من عطاءاتهم للدين الذي تركوا ديارهم من أجله.

ولا يفوتني أن أنبه على أن الشيطان يجتهد على المهاجر أكثر مما يجتهد على غيره، ذلك أن الهجرة تعتبر نجاحاً عظيماًً للمؤمن وتجاوزاً لعقبة كبيرة من عقبات الشيطان حيث يترك موطنه وأهله وماله فراراً بدينه وإيثاراً لما عند الله.

ينطلق إلى عالم مجهول عبر طريق مليء بالمخاطر تاركاً وراءه حياة الاستقرار والراحة والأمان المشروط بالعيش كما يعيش الناس من حوله والرضا بالواقع الذي يريده قومه ويفرضه عليه النظام القائم ، لكنه رغم كل هذه المعاناة والتغييرات الجذرية التي ستطال حياته ومستقبله، فإنه يصر على المضي قدماً بخطى واثقة وقلب راض بما سيقدره الله له، يمضي نحو المستقبل المجهول لكنه مضمون ومأمون من رب العالمين في قوله تعالى (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) وقوله عز من قائل ( ‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله ِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ‏.

يقول الشهيد – نحسبه كذلك – سيد قطب رحمه الله معلقاً على هذه الآية وعلى مكبلات الهجرة وقيودها للنفوس كلاماً نفيساً يُكتب بماء الذهب: " فلا يقعد بكم حب الأرض , وإلف المكان , وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها , إذا ضاقت بكم في دينكم , وأعجزكم فيها الإحسان . فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان ; ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان .

وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري , في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه , تنبىء عن مصدر هذا القرآن . فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به , العليم بخفاياه .

والله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس , وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق , وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان:ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (http://www.saaid.net/female/m170.htm)}.

فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب , ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي , وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة . ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب . . فسبحان العليم بهذه القلوب, الخبير بمداخلها ومساربها, المطلع فيها على خفي الدبيب .

سيكون لنا عودة وتفصيل لموضوع الهجرة في بابه بحول الله حينما نتطرق إلى الهجرة إلى المدينة.



الهجرة الأولى إلى الحبشة



فالهجرة إلى الحبشة تمت على مرحلتين مختلفتين، وإن كان الكثير منا لا يعطي أهمية للأولى بينما يركز فقط على الثانية، رغم أن الهجرة الأولى إلى الحبشة لها أهميتها وقيمتها التاريخية والإيمانية مثل ما للثانية بل أراها أكثر أهمية وقيمة من الثانية، ذلك أن المبادرة الأولى تكون أقسى على النفس، وهذا الرهط الذي انتصر على مثبطات النفوس واستطاع أن يترك كل شيء وراءه ليفر بدينه في أول تجربة من نوعها لهو أجدر بالاحترام والتقدير، ويكفيهم شرفاً أنهم أول من سيفتتح فريضة الهجرة في التاريخ الإسلامي.

وهذه هي سنة الله في خلقه، يظل الكثير ممن يصنعون التاريخ ويؤثِّرون في مجرياته في طي الكتمان ولا تُسلط عليهم الأضواء كما تُسلط على الكثير من التافهين والمنحرفين، ولكن الله يعلم هؤلاء ويحصي أعمالهم ويكتبها عنده، كما يبارك في جهود هؤلاء الأخفياء ويجعلهم جسوراً تمر عليهم قوافل الدعوة حتى قيام الساعة.

وصفت أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحدث فقالت : (لما ضاقت علينا مكة، و أوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا ، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله عليه وسلم إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً - أي جماعات - حتى اجتمعنا بها ، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً) .

وهكذا هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة، وكان هذا الفوج مكوناً من اثني عشر رجلاً و أربع نسوة، كان في مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحيلهم تسللاً تحت جنح الظلام حتى لا تشعر بهم قريش، فخرجوا إلى البحر عن طريق جدة، فوجدوا سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، ولما علمت قريش بخبرهم خرجت في إثرهم وما وصلت إلى الشاطئ إلا وكانوا قد غادروه في طريقهم إلى الحبشة، حيث وجدوا الأمن والأمان، ولقوا الحفاوة والإكرام من ملكها النجاشي الذي كان لا يظلم عنده أحد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

فكفار قريش لم يألوا جهداً في التصدي لهذه الهجرة رغم قلة عدد المهاجرين، فالطغاة على مر التاريخ لا يريدون للمؤمنين أن يتميزوا بعقيدتهم ولا أن يمارسوها بمعزل عنهم وتكون لهم حرية الاعتقاد والممارسة، بل إنهم يحرصون كل الحرص على قمع هذه العقيدة ووأدها في مهدها، وتكبيل المؤمنين وحصارهم حتى لا تنتشر هذه العقيدة في الآفاق فتكون وبالاً على دين الطغاة ودنياهم.



حادثة سجود المشركين مع المسلمين



في رمضان من السنة الخامسة من البعثة النبوية، حدث أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة للطواف والصلاة وقد صادف ذلك تواجد جمع كبير من مشركي قريش وفيهم بعض كبرائها وساداتها فقام فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم سورة النجم، فانبهر القوم وشدَّهم وقع الآيات البينات وكأن على رؤوسهم الطير، فلما ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاوة السورة بآية السجدة {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}، سجد عليه الصلاة والسلام فسجد كل من كان حوله معه دون أن يشعروا، فلما أفاقوا ورجعوا إلى أنفسهم ندموا وتعجبوا كيف تم ذلك ، فتوالى عليهم العتاب والحساب من قبل من لم يحضر ذلك الموقف خاصة من كبراء قريش، ولكي يخرجوا من ورطتهم هذه كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعوا أن محمداً قد مدح آلهتهم في وسط ما تلاه من قرآن، وذلك قولهم : " وتلك العرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى".

وهذه فرية وبهتان آخر يضاف إلى أكاذيبهم وافتراءاتهم على هذا الدين العظيم وعلى رسوله الكريم، وقد عمت هذه الإشاعة في مكة ومحيطها حتى صدقها الناس ووصلت إلى أسماع المهاجرين في الحبشة محرفة ومبالغ فيها، مفادها أن مشركي قريش قد أسلموا جميعاً ، فاجتهدوا فيما بينهم وقرروا العودة إلى مكة معتقدين أن العداوة القائمة بينهم وبين المشركين قد زالت وأنه لم يعد هناك حاجة للهجرة وترك الديار ما دام أن قومهم قد آمنوا كلهم أجمعين. ولكن سرعان ما تبين زيف هذه المسألة ولمجرد وصول المهاجرين إلى مداخل مكة علموا أن الخبر مجرد كذب وافتراء، فعاد منهم من عاد إلى الحبشة ودخل بعضهم إلى مكة مستخفياً أو في جوار أحد من قريش.



الهجرة الثانية إلى الحبشة



استمر إيذاء المشركين للمؤمنين خاصة بعد محاولة الهجرة الأولى إلى الحبشة، فدفع هذا المسلمين إلى معاودة محاولة الهجرة للمرة الثانية ولكن هذه المرة على نطاق أوسع وأشمل، حيث بلغ عدد المرشحين حوالي ثلاث وثمانون رجلاً وثماني عشر امرأة من مختلف القبائل ، خرجوا على شكل جماعات صغيرة ومتفرقة نحو الشاطئ وأفلتوا من قبضة ومتابعة قريش لهم، خاصة أن هذه الأخيرة كانت على علم مسبق برغبتهم في الهجرة وقد حاولت منعهم من ذلك لكن الله تعالى أراد غير ذلك، فالتحق المسلمون بأرض الحبشة حيث وجدوا الأمن والأمان كما وجده المهاجرون الأوائل من قبلهم.

مثلت هذه الهجرة ضربة موجعة لكفار قريش، فقد نقل المسلمون قضيتهم إلى بلاد مجاورة لجزيرة العرب لها أهميتها الجغرافية والسياسية ولها أيضاً علاقات اقتصادية هامة مع قريش، بإمكان هذه النقلة أن تؤثر سلباً على هذه العلاقات وتكشف الوجه القبيح لقريش أمام الرأي العام الداخلي للحبشة وأمام السلطة الحاكمة هناك وعلى رأسها ملكها العادل " النجاشي".

وهذا ما يحدث اليوم للكثير من المؤمنين الفارين بدينهم من بطش أنظمتنا المرتدة الظالمة حينما يلجأون إلى البلدان الغربية رغم كفرها ولكن تجد فيها بعض العدل الذي يستغله المؤمنون ليأمنوا به مكر وشر الطغاة ولو إلى حين.

يطلب هؤلاء المهاجرون ما يسمى باللجوء السياسي أو يفضل بعضهم العيش متخفياً ومطارداً يبحث مستغلاً هوامش الحرية الموجودة في هذه البلدان، فليس في هذا أي حرج أو مخالفات شرعية ما دام هؤلاء المؤمنون محافظون على عقيدتهم وغير مهددين في أرواحهم.

سنة الهجرة والمطاردة والبحث عن المكان الآمن، سنة جارية تسري على أتباع هذا الدين الخاتم، فقد بدأ هذا الدين غريباً وهاهو قد عاد غريباً كما بدأ، فطوبى لهؤلاء المهاجرين الغرباء، القابضين على دينهم كأنهم قابضين على الجمر.

أحست قريش بخطورة هذه الهجرة وحرصت على إرجاع المهاجرين إلى بلادهم بأي وسيلة كانت،فأرسلت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، واستطاعا أن يعرضا الحجج المقنعة لطرد المهاجرين إلى مكة، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بطردهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه فقالا له‏:‏

أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه‏.‏

وقالت البطارقة‏:‏ صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم‏.‏

والبطارقة وهم وزراء ومستشارو الملك، يمثلون البطانة السوء التي تحيط بالملك أو الحاكم والتي لا يهمها سوى مصالحها الذاتية ولو على حساب عرق ودماء وأمن الناس جميعاً، مثلها كمثل الشيطان تزين للحاكم سوء عمله ولا تأمره إلا بما يخدم مصلحتها ويحقق مآربها.

وهذه الفئة يقع عليها جزء كبير من مسئولية ما نحن فيه اليوم من فساد عريض وبعد عن الدين وانتشار للظلم وتقنينه
ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعًا‏.‏ وهذه من سمات الحاكم العادل، لابد من الاستماع إلى أطراف القضية جميعاً ليتمكن من إصدار الحكم العادل، فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًا ما كان‏.‏

كما أنها نفس الحجج التي يرفعها أعداء المسلمين في كل زمان ومكان كأنهم تواصوا بها:



غلمان سفهاء:



وقد ورد هذا كثيراً في كتاب الله عز وجل وبعبارات مختلفة وبنفس المعنى {فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأْيِ } و {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النّاسُ قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السّفَهَآءُ} ، و {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} ، وهو تنقيص من قيمة المؤمنين وتصويرهم في أحط صورة لينفر منهم الناس ، كما يحاولون أيضاً التأثير على صاحب الدعوة نفسه لكي يشك في دعوته ويحس بضعف السند فيفتر في دعوته.

فارقوا دين قومهم:

وهو الوتر الحساس الثاني الذي يلعب عليه أعداء الحق، مفارقة دين الآباء والأجداد والقوم والعشيرة، وهم يقصدون أساساً عاداتهم الجاهلية وكفرياتهم وأهواءهم، هذا ما يسمونه ديناً، بينما تجدهم هم لا يلتزمون ببند واحد من بنود هذا الدين إن وُجد.
همهم فقط هو إشباع شهواتهم وتلبية حاجياتهم الشخصية ولا يريدون من يعكر عليهم صفو أجوائهم هذه، فيسارعون ساعة الخطر والتهديد إلى التحدث باسم الدين واحترامه بل وحتى الدفاع عنه وهم من يخالفونه صباح مساء ولا يمنحونه أدنى قيمة، فصار اليوم – بعد أن ظهر دين الحق – عزيزاً ومصوناً ويستحق كل هذا الاهتمام.

ولم يدخلوا في دينك:

وهي محاولة استفزاز النجاشي وتأليبه على المهاجرين، فهم فوق مفارقتهم لدين قومهم خالفوا حتى دينك، وكأن دين الملك صار محبباً لديهم ومقبولاً ، لأن المطلوب من المطرود والهارب إلى أرض معينة – لكي يكسب عطف مضيفه ومجيره – أن يدخل في دين هذا الأخير اتقاءً لشره وضماناً لحمايته، ولكن أعداءنا لا يفهمون أن الهجرة أصلاً في الإسلام إنما تكون بسبب الحفاظ على هذا الدين وليس رغبة في دنيا أو متاع زائل.
فالدنيا قد تركوها وراء ظهورهم وضحَّوا بها كلها وفَرُّوا من أجل الحفاظ على هذا الدين، ثم يأتوا إلى النجاشي ليدخلوا في دينه طمعاً في بعض ما فاتهم من هذه الدنيا ؟!! كيف يستقيم هذا ويسقط المسلمون في هذا التناقض بهذه السهولة.

وجاءوا بدين ابتدعوه

هكذا يتهمنا الأعداء أننا نحن من نخترع ديننا ونخالف به دين الآباء، حتى صار الحق باطلاً والباطل حقاً، والبدعة صارت سنة والسنة صارت بدعة.
هكذا قلبٌ للموازين وطمسٌ للحقائق وتزيين للباطل واتهام بدون بينة لكي يتحول المؤمنون إلى متهمين ومدافعين عن أنفسهم حتى لا تكون لديهم القدرة ولا الجرأة على نشر هذا الدين كما يفعل أعداؤهم.

فأنت حين تبادر خصمك وتتهمه بالابتداع فإنك تضعه في حرج وفي موقف الدفاع بدلاً من أن يكون في موقف الهجوم، كما أنك تألب عليه الناس وتحاول أن تعزله عنهم، وهذه سنة الطواغيت في كل مكان وآن، وقد قالها فرعون من قبل لبني إسرائيل لعزل موسى عليه السلام {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} ، وهذه تهمة خطيرة من شأنها أن تهدد مستقبل الدعوة أو على الأقل تؤخرها بصد الناس عنها وفتح معارك هامشية بين الدعاة والشعوب، يجد هؤلاء الدعاة والمصلحين أنفسهم مضطرين لدفع شبهات عديدة قبل التفكير في عرض دعوتهم الجديدة على الناس .



الحوار الخالد بين جعفر وعمرو بن العاص والنجاشي



قدم المسلمون جعفر بن أبي طالب ليتكلم باسمهم لأنه كان أفصحهم لساناً وأقواهم حجة وأكثر قدرة على إيجاد مخرج مناسب عند كل حرج بالرغم من صغر سنه، وهذا درس كبير لنا على ضرورة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب حرصاً على الدعوة وعلى المسيرة الجهادية بشكل عام، ولكل ميدان فرسانه فلا يحقرن مسلم نفسه كما لا ينبغي على القيادة المسلمة أن تُحرم التجمع الإيماني من خبرات وكفاءات أعضائه، حيث ينبغي لها أن تُقدم الأكفأ والأكثر نفعاً بصرف النظر عن الأسبقية إلى الانتماء أو لتوفر عامل السن.

وقد أشار الله تعالى إلى هذه المسألة في قصة موسى عليه السلام حينما أمره ربه جل وعلا أن يذهب إلى فرعون ليبلغه رسالة التوحيد، فما كان من موسى عليه السلام إلا أن طلب من ربه سبحانه أن يأذن له بصحبة أخيه هارون الأصغر منه سناً وشأنا عند الله بسبب أنه أفصح منه لساناً ، فقال {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}

فقال لهم النجاشي‏:‏ ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل ‏؟‏

قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين‏:‏ أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدَّدَ عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنَّا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نُظلم عندك أيها الملك‏.‏
فقال له النجاشي‏:‏ هل معك مما جاء به عن الله من شيء‏؟‏ فقال له جعفر‏:‏ نعم‏.‏ فقال له النجاشي‏:‏ فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي‏:‏ إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم‏.‏ فقال له عبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه‏.‏

فلما كان الغد قال للنجاشي‏:‏ أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر‏:‏ نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول‏.‏

فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال‏:‏ والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال‏:‏ وإن نَخَرْتُم والله ‏.‏

ثم قال للمسلمين‏:‏ اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي ـ والشيوم‏:‏ الآمنون بلسان الحبشة ـ من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دَبْرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم ـ والدبر‏:‏ الجبل بلسان الحبشة‏.‏

ثم قال لحاشيته‏:‏ ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله منـي الرشـوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس في فأطيعـهم فيه‏.‏

قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة‏:‏ فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار‏.‏

هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين‏.‏ ولكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا، ثم إن تلك الأسئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي‏.‏



وقفات تربوية مع الحوار



أعود لأقف بعض الوقفات على هذا الحوار الرائع بين النجاشي وجعفر وعمرو بن العاص، وهي أشبه بمعركة كلامية سيتحدد فيه مصير تلك العصبة المهاجرة، إما تستقر في الحبشة محتفظة بدينها في امن وأمان وإما تعود مكبلة إلى كفار قريش ليفتنوها في دينها.

بدأ النجاشي حواره بالسؤال عن هذا الدين الجديد المبتدع الذي لا يعرفه لا هو ولا بقية الملل، فالمسألة الأولى التي ينبغي أن ننتظرها خلال تحركنا بهذا الدين هو تساؤلات الناس المتنوعة عن حقيقة ديننا وغاياته وننتظر أيضاً الشبهات العديدة التي يلقيها أعداؤنا وحتى بعض العوام جهلاً أو بحسن نية، وهذا يتطلب بالتالي أن يكون المسلم ملماً بدينه، قادراً على عرض تعاليم دينه بأسلوب ميسر وواضح .

وهذا ما فعله جعفر رضي الله عنه بكل ذكاء وحكمة، حيث عرض في البداية مساوئ الجاهلية التي كانوا فيها قبل الإسلام ومدى بعدهم عن الفطرة والقيم الإنسانية ومخالفتهم لها عبر الأعمال والأعراف التي كانت سائدة حينئذ، ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف أصل وحسب النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه الرفيع حتى قبل ادعائه للنبوة، ثم سرد ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد ونبذ الشرك وترك كل المنكرات الجاهلية وحثنا على مكارم الأخلاق وصلة الأرحام وحسن الجوار ورفع الظلم ، كما ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة،و هذه الفرائض كلها موجودة في دين المسيحية وكان يعرفها النجاشي وبطارقته جيداً، مما أثر عليهم إيجاباً ولم يجد النجاشي بدّاً في الإعجاب بهذا الدين والاهتمام به منذ أول وهلة.

بعد هذا ركز جعفر رضي الله عنه على ردود أفعال كفار قريش اتجاه هذا الدين الجديد وطريقة تعاملهم مع أتباعه، حيث قهروهم وظلموهم وضيقوا عليهم وعذبوهم، وحالوا بينهم وبين دينهم الجديد، وهذا التعامل قد لقي مثله أتباع عيسى عليه السلام على أيدي الوثنيين واليهود من قبل، فهو إثارة لجرح قديم وضرب على وتر حساس لا يمكن أن يبقى النجاشي أمامه سلبياً، بل بالعكس تماماً فقد دفعه هذا الكلام للتعاطف مع المسلمين والحقد على كفار قريش ووضعهم في نفس الخانة مع الذين عذبوا عيسى عليه السلام وأتباعه قبل قرون.ثم إن جعفراً قد مدح النجاشي ووصفه بالعدل وبغضه للظلم وإنصافه للمظلوم بناءً على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين وهم بعد في مكة: إذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملك لا يُظلم عنده أحد.

وهذه الكلمة كان لها وقع خاص على نفس النجاشي وذكَّرته بأهم صفة فيه حتى لا ينساها في خضم الشبهات والاتهامات التي حاول عمرو بن العاص إلصاقها بالمسلمين وكذلك تأثير تلك الهدايا التي قدمها للملك ولوزرائه التي لا يمكن نفي تأثيرها على نفوس القوم.
ولكن الطبع يغلب التطبع كما يُقال، والرجل الشريف لا يمكن أن ينسى أصله وكرمه مهما تعرض له من ضغوط آنية.

لا ننسى أيضاً تأثير تلك الآيات البينات التي تلاها جعفر رضي الله عنه من صدر سورة مريم، وهي آيات لها ما لها من وقع إيماني على نفس الملك وكل من حوله من بطارقته ومستشاريه، حقائق مذهلة ونادرة عن حياة زكريا ويحيى عليهما السلام كما تطرقت أيضاً إلى ذكر مريم عليها السلام ومعجزة حملها وميلاد عيسى عليه السلام.

كل هذه الحقائق التاريخية والعقدية كانت سبباً مباشراً في تأثر الملك من دين الإسلام وكتابه الحكيم، وقد صدّق القرآن الكريم ما جاء في الإنجيل حول أنبياء الله السابقين ومنهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، مما دعاه إلى الاعتراف أمام الملأ كلهم بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام يخرج من مشكاة واحدة، وهو يقصد أن القرآن والإنجيل كلاهما كلام الله المعجز، مع تسجيل تحفظنا على حقيقة النسخة الموجودة آنذاك من الإنجيل، ولكننا نقصد النسخة الأصلية بلا شك.

عندئذ أمر النجاشي المهاجرين بالمكوث في أرضه آمنين ومن سبهم غرم، كما رفض تسليمهم لعمرو بن العاص وصاحبه عبد الله بن أبي ربيعة ولو بجبل من ذهب.

هذه هي قيمة المؤمن في دنيا الناس، خاصة لدى الذين يدركون حقيقة الإيمان وما يفعله في النفوس، وإلا فإن قيمة المؤمن عند الله أكثر من هذا بكثير، فحرمته تفوق حرمة بيته الحرام، ومن أجله خلق وسخر السماوات والأرض وما فيهن، فكيف يزهد هؤلاء الحكام المرتدون في هؤلاء المؤمنين، بل كيف يسومونهم سوء العذاب ويجندون شياطين الإنس والجن لفتنتهم عن دينهم وصدهم عن السبيل، ولو علموا حقيقتهم لملكوا بهم الدنيا بحذافيرها، شرط أن يؤمنوا بالله وحده ويحكموا شرعه، ولكنهم قوم لا يفقهون.

لم يستسلم عمرو لهذا الواقع ولم يرض بهذه الهزيمة، بل إنه وعد صاحبه عبد الله بن أبي ربيعة بأن يأتي للنجاشي بما يبيد خضراءهم.

شبهة حول حقيقة عيسى يحسب أنها ستكون القاصمة على المسلمين، ليُخْبِرَنَّ الملك أن المسلمين يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ من عباد الله وليس ابنه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

صار المسلمون أمام أمر واقع وبين خيارين لا ثالث لهما، الأول : الاعتراف أمام الملك وأتباعه بحقيقة عبودية عيسى بن مريم عليهما السلام وأنه لا يعدو كونه نبياً ورسولاً مخالفين بذلك معتقد النصارى في كون عيسى ابن الله، وهذا موقف مبدئي يؤيدون به ما جاء في القرآن الكريم على لسان نبيه الكريم، وهو خيار من شأنه أن يقلب كل الموازين السابقة ويهدم كل المكتسبات التي حصلوا عليها بالأمس فينقلب عليهم الملك ويسلمهم لكفار قريش، أو الخيار الثاني وهو نفي ذلك والتستر وراء الكذب ومخالفة النصوص الشرعية من أجل النجاة وتفادي احتمال الطرد والتسليم.

وهذا لعمري امتحان صعب ومتكرر قد يصادفه كل موحد في هذه الحياة وبخاصة في صراعه مع أعدائه وحتى مع مخالفيه.

المؤمن الداعية له غايات عديدة، أسماها هي رضا الله عز وجل ونصرة هذا الدين بكل ما يملك {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}، فالعقد الذي بيننا وبين الله يحتم علينا في كثير من الأحيان أن نضحي بأنفسنا كحد أقصى وأموالنا كحد أدنى، وفي الوقت ذاته يتمنى المؤمن أن يكون سبباً في هداية الخلق أجمعين لكنه لابد من سلك السبل الصحيحة واستعمال الوسائل الشرعية لبلوغ هذه الغايات.

وحينما يُعرض على المؤمن أمران فإنه يضعهما في ميزان الشرع ثم يقوم بعملية الاختيار بعد ذلك، فما وافق الشرع أخذ به ومضى في تنفيذه ولو تطلب منه تضحيات جسيمة تصل إلى حد إزهاق النفس في سبيل تحقيقه، وما خالفه ضرب به عرض الحائط ولو كان سبباً في كسب الدنيا بحذافيرها ما دام لا يرضي الله عز وجل.

هذه هي القاعدة التي يتبعها المؤمن ويلتزم بها في أمور دينه ودنياه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }
فليس أمام المؤمن الصادق خيار غير طاعة الله ورسوله، وليس مطالباً للبحث عن حلول وسط مخالفة للشرع ليحقق بها بعض المصالح التي قد تبدو له نافعة للدين. لأن مصلحة الدين تكمن في طاعة الله ورسوله وما عدى ذلك فكله خراب ومفسدة.

والله سبحانه يبتلينا أحياناً بسد كل الأبواب الشرعية في وجوهنا ويترك لنا أبواباً أخرى كلها مشبوهة لينظر كيف نعمل، أنصبر ونحتسب لله عز وجل حتى نُفَوِّتَ هذه المصالح جميعاً لأنها مخالفة لما أمر الله به ورسوله؟ أم ترانا نسقط في الامتحان الأول فنلهث وراء تحقيق مصالح موهومة على حساب مبادئنا وقيمنا ؟

لقد قرر جعفر وأصحابه – بعد مشاورة مسبقة – أن يقولوا الحق في مسألة عيسى عليه السلام وليكن ما يكون بعد ذلك، ما دام أن ذلك هو الحق وهو الموافق لكتاب الله وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم هنا في بلاد الحبشة سفراء وممثلون لهذا الدين، جاءوا فراراً بدينهم ليحافظوا عليه وليس رغبة في دنيا يصيبونها، وعليه فإن كل عمل من شأنه أن يُخِلُّ بهذه الغايات وهذه المبادئ يُعتبر باطلاً، ومن شأنه أن يكون سبباً لسخط الله عز وجل وسبباً لجلب الأضرار أو المفاسد التي يهربون منها وذهاب المصالح أو المنافع التي يطلبونها.

وهذا ما تم بالفعل حيث اعترف النجاشي وخضع للحق الذي نزل من عند الله، وخرج على معتقدات النصارى المحرفة في حقيقة عيسى عليه السلام، رغم معارضة البطارقة لهذا الموقف لكنه أصر عليه وتحداهم، فرد على عمرو بن العاص وصاحبه هداياهم ورجعا خائبين إلى مكة وقد خسرا معركة استرداد المهاجرين كما خسرا العلاقة الوطيدة والسياسية التي كانت تربط قريش بالنظام الحاكم في أرض الحبشة، وهذه تُعد خسارة كبرى لأنها ذات بعدين.

فنصر الله النجاشي على مخالفيه ومعارضيه وثبت ملكه كما نصر المهاجرين وفتح عليهم دار الحبشة لتكون موطن أمن وأمان لهم وللدعوة الإسلامية إلى أن يشاء الله.

وللحديث بقية مع أصداء هذه الهزيمة المزدوجة لكفار قريش في الحلقة القادمة بحول الله وقوته، نسأله سبحانه أن يثبتنا على الحق ويصرف قلوبنا على طاعته ويستعملنا ولا يستبدلنا، والحمد لله رب العالمين.