رحيق الحياة
10 Oct 2004, 03:52 PM
<span style='font-family:times'><div align="center">بسم الله الرحمن الرحيم ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أحس ماجد أنه لم يفهم شيئاً مما يقرأ وإن عينيه لتبصران الحروف وتريان الكلمات ولكن عقله لا يدرك معناها .. إنه يفكر في الدرس وفيما يقرأ إنما يفكر في هذه القاسية القلب زوجة أبيه وما جرت عليه من نكد وحزن وآلام وما سببت له من مصائب ونكبات ..
وكيف نغصت عليه وعلى أخته المسكينة حياتهما وجعلهما يعيشان في جحيماً مستعراً لقد ماتت أمه الحنون منذ فترة فقرر أبوه الزواج بتلك المرأة لتقوم على رعاية ماجد .. وأخته الصغيرة و العناية بشؤونها والسهر على راحتهما .
<span style='color:crimson'>نظر ماجد في التقويم فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد فقط ولابد له من قراءة والاستعداد للامتحان جيداً .
ولكن كيف يقرأ ؟ وكيف يستعد ؟
وأنّى له الهدوء والاستقرار النفسي في هذا البيت وهذه المرأة فاسية القلب تطارده وتؤذيه وتشفي غيظها منه تلتفت إلى المسكينة الصغيرة وتصب عليها ويلاتها .
وتصفها بأقبح الأوصاف وتسمها أبشع الكلمات .
وهنا يخاطب ماجد نفسه :
هل يمكن أن أرسب في أول سنة من سنين المراحل الثانوية وقد كنت في المرحلة الابتدائية والمتوسطة المتفوق على سائر طلاب الفصل والأول عليهم .
وبينهما هو يفكر إذ به يسمع صوت العاصفة وإن العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فتكسر الأغصان وتقصف الفروع ثم تجئ الأمطار فتروي الأرض ثم تطلع الشمس .
وإن عاصفة هذا البيت تهب كل ساعة فتكسر قلبه وقلب أخته الصغيرة ذات السنوات الست .
ثم لا تجبر هذا الكسر أبداً فعاصفة الحقل أرحم وأرق قلباً وأكثر أنسانية من هذه المرأة التي يرونها جميلة حلوةً تسبي القلوب وماهي في الحقيقة إلا الحية في لينها ونقشها والأفعى في سمّها ومكرها .
لقد سمع ماجد سبّها وشتمها لأخته الصغيرة وقرع أذنه صوت يدها .. يدها شلت .. وهي تقع على وجه أخته البريئة صاحبة القلب الذي يئن ولكن من يسمع أنين القلوب ؟..
فلم يستطيع ماجد القعود في غرفته ولم يكن يستطيع أن يقوم لحمايتها ودفع الظلم عنها خوفاً من أبيه . هذا الرجل الذي حالف امرأته الجديدة وعاونها .. بدون شعور منه .. على حرب هذه الطفلة المسكينة وتجريعها غصص الحياة وآلامها قبل أن تدري ما الحياة ووقف ماجد ينظر من شباك غرفته .
فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي منكسرة حزينة . وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب ، وإلى جانبها أختها الصغرى من أبيها طافحة الوجه صحة ، بارقة العينين ، مزهوة بثيابها الغالية . وشعر ماجد بقلبه يثب إلى عينيه ويسيل دموعاً .
أخذ ماجد يخاطب نفسه ما ذنب هذه الطفلة حتى تسام هذا العذاب ؟ أما كانت ذات يوم فرحة أبيها وزينة حياته ؟
أما كانت عزيزة عليه ؟
فما لها الآن صارت ذليلة بغيضة لا تسمع في هذا البيت إلا السب والنتهار أما التدليل فلأختها من أبيها .
كأنما هي البنت المفردة .
على حين قد صارت هي خادمة في بيت أبيها بل هي شر من خادمة .. فالخادمة قد تلقى أناساً لهم قلوب ، وفي قلوبهم دين فيعاملهم كأولادهم لقد كتب الله على هذا الطفلة الحزينة أن تكون يتيمة الأبوين .. إذ ماتت أمها فلم يبق لها أم ، ومات ضمير أبيها فلم يبق لها أب .
أفاق ماجد من شروده مع الأيام وتقبلها .
على صوت خالته .. زوجة أبيه .. وهي تنادي أخته الحزينة ويلك تعالي يا خنزيرة ..
لقد كان هذا هو اسمها عندها " الخنزيرة " لم تكن تناديها إلا به فإذا جاء أبوها فهي البنت ، تعالي يابنت ، وروحي يابنت ..
أما أختها الصغيرة فهي الحبيبة فهي تناديها أين أنت يا حبيبتي .. تعالي يا عيوني ..
وعاد صوت تلك الزوجة القاسية يزمجر في الدار ..
وهي تخاطب أخت ماجد الحزينة قائلة :
ألا تسعمين أحتك تبكي ؟
انظري الذي تريده فهايته لها ؟ ألا تجاوبين ؟ هل أنت خرساء ؟ قولي .. تكلمي ماذا تريدين ؟
فأجبت المسكينة بصوت خائف : إنها تريد الشوكولاته !
فصاحت فيها زوجة الأب ، ولماذا بقيت واقفة مثل الدبة ! ؟
إذهبي فأعطيها ما تريد .. إذهبي !
فوقفت المسكينة حائرة ، ولم تدرك كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها ..
لقد اشترى أبوها البارحة قطعة من الشوكولاته ، وأعطاه لابنته الصغيرة بنت الزوجة الثانية فأكلته والمسكينة تنظر إليها قرمت إليها قطعة منها ، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرة التي تحدق فيها وهو يأكل .
وأخذت المسكينة القطعة فرحةً بها ولم تجرؤ أن تأكلها على الرغم من اشتياهها إياها ، فخبأتها ، وجلعت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها وغلبتها شهوتها مرةّ فقطمت منها قطعة بطرف أسنانها فرأتها أختها المدللة فبكت طالبة الشوكولاته .
صاحت الزوجة الأب في الطفلة المسكينة الويل بك يا ملعونة فين الشوكولاته ؟؟
فسكتت أخت ماجد ولم تتكلم .
ولكن الصغيرة المدللة قالت : هناك يا ماما عندها ، لقد أخذتها مني .
واستاقت المرأة ابنتها وابنة زوجها كما يساق المتهم إلى التحقيق فما ضبطت المكسينة متلبسة بالجرم المشهود ورأت زوجة أبيها الشوكولاته معها حلّ بها البلاء العظيم ..
أخذت زوجة أبيها تصيح في وجه المسكينة قائلة : ياسارقة .. يا سارقة هكذا علمتك أمك ؟
تسرقين ما لي لك ؟
وكان ماجد يتحمل كل شيء ، إلا الإساءة إلى ذكر امه ، فلما سمعها ، تذكرها لم يتمالك نفسه أن صاح بها قائلا : أنا لا أسمح لك أن تتكلمي عن أمي هكذا .
فتشمرت له واستعدت وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائماً فكان يتحمل صامتاً صامداً لا يبدو عليه أنه يحفل بها أو يأبه ، فكان ذلك يغيظها ، وتتمنى أن تجد سبيلاً إلى شفاء غيظها منه وها هي ذي قد وجدت فرصة .
فصاحت فيه قائلة : لا تسمح لي ! أرجوك يا سعادة " قلبك " اسمح لي ألا يكفي أني أتعب وأنصبّ لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود .
ولكن ليس بعجيب أنت ابن امك .
فقال لها ماجد : قلت لك : كفذى عن ذكر أمي ، وإلا أمسكتك واقترب منها فصرخت زوجة الأب القاسية وولت وأسمعت الجيران وأخذت تردد تريد أن تضربني يا ماجد ؟ .. آه يا خائن ، يا منكر الجميل ، ياناس يا عالم ، ألحقوني ، أدركوني ، أنقذوني وجمعت الجيران ، وتسلل ماجد إلى غرفته أو الزاوية الصغيرة التي سموها غرفة وخصصوها له ، لتتخلص سيدة الدار زوجة أبيه من رؤيته دائماً في وجهها .
وفي المساء عاد الأب إلى البيت وكان على عادته عابساً لا يبتسم في وجوه أولاده ، لئلا يتجرؤوا عليه فتسوء تربيتهم وتفسد أخلاقهم ولم يكن كذلك قبل زواجه من هذه القاسية ولكنه استنّ لنفسه هذه السنة من يوم حضرت هذه الأفعى إلى الدار وصبّت سمها في جسمه ووضعت في ذهنه أن ماجداً وأخته المسكينة مدللان فاسدان لا يصحلهما إلا الشدة والقسوة .
وكانت هذه الزوجة الأفعى إذا دنا موعد عودة زوجها إلى الدار ، تخلع ثيابها وتلبس ثياباً جديدة ، كما تخلع عنها ذلك الوجه الشيطاني القبيح وتلبس وجهاً فيه سمات الطهر والطفولة ، صنعه لها مكرها وخبثها وقبل ذلك لا تنسى أن تنظف البنتين ابنتها وابنة زوجها وتلبسهما ثياباً متشابهه كيلا يحس الأب بأنها تفضل ابنها على ابنه .
دخل الأب المنزل فاستقبلته استقبال المحبّة الجميلة ، والمشوقة المخلصة .
ولكنها وضعت في وجهها لوناً من الألم البرئ فبدت معه كأنها المظلومة المسكينة ، ثم لحقته إلى غرفة النوم تساعده على إبدال ثيابه .
وهناك روت له قصة مكذوبة فملأت صدره غضباً على أولاده فخرج وهو لا يبصر ما أمامه .
ودعا بالبنت المسكينة فجاءت تمشي مشية من يساق إلى الموت ووقف أمامه كأنها الحمل المهزول بين يدي النمر .
فقعد الأب على الكرسي عال ، كأنه كرسي المحكمة وأوقفها أمامه ، كالمتهم الذي قدمت الأدلة على إجرامه ، وأفهمها قبح السرقة وعنّفها وزجرها .
وهو ينظر إلى ولده ماجد نظرة الافتراس متوعده منذراً بالشر ولم يسع ماجد السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة ، وهي بريئة منها .
فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر ويوضح له الموقف فتعجل بذلك الشرّ على نفسه ؟
وهنا انفجر البركان وزلزلت الدار زلزالها ، وأرعد فيها صوت الأب الغاضب الهائج قائلاً :
أتريد أن تضرب خالتك ياقليل الحياء !! ، يا معدوم التربية ، لقد حسبتك رجلاَ إنني سأكسر يدك التي تريد أن تضرب به خالتك !.
فقال ماجد : والله يا والدي هذا الكلام غير صحيح .
فقال الأب : يا وقح أما بقي عندك أدب ؟ أتكذّب خالتك ؟
فقال ماجد : أنا لا أكذبها ولكنها تقول أشياء ليست صحيحة ؟؟
عند ذلك وثب الوحش من كرسيه وانحط بكل قوته وقسوته على ابنه وأخذ يكيل له الضربات ويركله ويصفعه كالمجنون ، ولم يكتف بذلك ، بل أخذ دفتره الأسود الذي كتب فيه كل دروسه ومزقه تمزيقاً ثم تركه هو وأخته المسكينة بلا عشاء عقوبة لهما .
وتناول العشاء الزوجان وابنتهما المدللة وأويا إلى الفراش .
جثم ماجد مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه وعاف لأجله طعامه ومنامه ، والذي وضع فيه نور عينيه وربيع عمره ، وبنى عليه أمله ومستقبله ، ثم قام المسكين يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوّحت به قنبلة هائلة ، فإذا هي تالفة لا سبيل إلى جمعها ولن تعود دفتراً يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشلاء بشراً سوياً يتكلم ويمشي .
فأيقن أنه قد رسب في الامتحان ، وقد ضاع سنته الدراسية .
وكبر عليه الأمر ، ولم تعد أعصابه تحتمل هذا الظلم .
وأحس كأن الدنيا تدور به وزاغ بصره ، وجعلت أيامه المنصرفة تكر راجعة أمام عينيه كما يكر فيلم السينما ويا له من فيلم حزين .
فيلم يئن القلب أنيناً ليشق الصدر كل من يقف على مشهد من مشاهده وهاهو يرى ذلك الوجه الحبيب ، وجه أمه ، وابتسامتها التي كانت تنسيه آلام الدنيا ، وصدرها الذي كان يفزع إليه من خطوب الدهر رآها في صحتها وشبابها ، ورأى أباه أباً حقيقياً تفيض به روح الأبوة من عينيه الحانيتين ويديه الممتلئتين أبدا بالطّرف واللطف ، ولسانه الرطب بكل جميل من القول محبب من الكلام .
ويكر الفيلم ويرى أمه مريضة فلا يهتم بمرضها ، ويحسبه مرضاُ عارضاُ ثم يرى مشهداً آخر ، الدار والاضطراب ظاهر فيه ، والحزن باد على وجوه أهله ويسمع البكاء والنحيب ، ويجدهم يبتعدون به ، ويخفون النبأ عنه ولكنه يفهم أن أمه قد ماتت .. ماتت .
وكان قد سمع بالموت وقرأ عنه في الكتب ، ولكنه لم يرى من قريب ولم يدخل داره ، لم يذقه في حبيب .
غير أن الأيام سرعان ما علمته ماهو الموت .
حين رأى أخته تصيح وتبكي تريد الأم الحنون وهناً فتح عينيه فلم يجد أمه إلى جانب أخته لترضعها وتضمها إلى صدرها .
واشتد البكاء البنت ، وصاح الولد ينادي : أماه ... أماه أين أنت ؟
ثم نهض عن فراشه وقام يبحث عنها .
فوجد أباه وجمعاً من قريباته ، يبكون هم أيضاً .
فسألهم : أين أمي ؟ فم يجيبوه .
وحين أراد الذهاب إلى المدرسة نادى أمه كعادته كل يوم فلم تأت لتعدّ له حقيبته وتلبسه ثيابه وتناوله طعامه ولم تقف لوداعه وراء الباب ولم تقبله وتوصه ألا يخاصم أحداً من أصحابه .
وألا يلعب في الشارع ، ثم إذا ابتعد عادت تناديه لتكرر تقبيله وتوصيه وحين عاد من المدرسة وجد امرأة غريبة ترضع أخته .
لماذا ترضع أختي امرأة غريبة ؟ وأين أمي ؟
ويكر الفيلم وينتقل ماجد إلى مشهد آخر والقلب يزداد أنينه ويرى أباه رفيقاً به حانياً عليه ويحاول أن يكون له ولأخته أماً وأباً ولكن هذا الأب تبدل من ذلك اليوم .
يوم قال له أبوه : ستأتيك يا ماجد أم جديدة ..... أم جديدة ؟
وهنا اندهش ماجد هذا الشيء لم يسمع به من قبل .
وانتظر ماجد وجاءت الأم الجديدة ، وكانت حلوةً وثيابها جميلة لكن ماجد لم يحبها وكانت في أيامها الأولى رقيقة لطيفة ، كالفراشة الصغيرة فلما مرت الأيام واستقرت في الأرض ومدّت فيها جذورها صارت يابسة كجذع الدوحة وإن كانت تخدع الرائين بورقها الطريّ وزهرها الجميل .
ولما حملت وانجبت طفلتها انقلبت شيطانة على صورة أفعى مختبئة في جلد امرأة جميلة ، وانطمست صورة الماضي وانتهى الفيلم ، ولم يبق منه إلى هذه الصورة البشعة المقيتة .
هنا انتبه ماجد من ذكرياته على صوت قهقهة تلك المرأة القاسية مع ضحكات أبيه .
وأنصت ماجد فإذا هو يسمع بكاء خافتاً حزيناً مستمراً ، إنه بكاء أخته المسكينة قد باتت بلا عشاء ، ولعلها بلا غذاء أيضاً فهذه المجرمة تشغلها طول النهار في خدمتها وخدمة بنتها وتحجب عنها الطعام ولا تعطيها إلا كسرة من الخبز وإلى جانب الآخر تطعم ابنتها أشهى الأطعمة .
فإذا جاء الأب في المساء ، أرتدت أمامه قناع الرحمة والحنان .
وشكت إليه مرض ابنته وضعفها .
وتقول له : مسكينة هذه البنت ، إنها لا تتغذى انظر إلى جسمها أذهب بها إلى الطبيب .. ولكن ماذا سيفعل معها الطبيب ، أن ابنتك عنيدة ، أقدم لها الطعام فلا تأكل ، وعنادها سيقضي على صحتها فيناديها أبوها ويقول لها : لماذا يابنت هذا العناد ؟ كلي وإلا كسرت رأسك ؟
فتتقدم لتأكل ، فترى المرأة الخبيثة تنظر إليها من وراء ظهر أبيها نظرة الوعيد ، وترى وجهها قد انقلب حتى صار كوجه الضبع فتخاف وتتراجع وترتد ولا تأكل .
فتقول المرأة لزوجها ، ألم أقل لك ، إنها عنيدة تحتاج إلى تربية .
فيهز الأب رأسه ، ويكتفي من تربيتها بضربها على وجهها ، وشد أذنها وطردها من الغرفة ، ويكون ذلك عشاها كل يوم .
تذكر ماجد أخته فقام إليها فرفعها وضمها إلى صدره .
وقال لها : مالك يا حبيبتي ؟ لماذا تبكين ؟ اسكتي يا حبيبتي ..
فتقول له : إني جائعة يا أخي .
جوعانة يا أختي ، ولكن من أين آتيك من الطعام ؟
وقام ماجد يفتش في البيت ، وكانت دائماً زوجة أبيه تحكم غلق باب الطعام ولكنه وجد بقايا العشاء على المائدة ، فحمله ماجد إلى أخته المسكينة فأكلتها وفرحت به .
وهنا عادت ذكريات الماضي تتدفق عليه وعادت صورة أمه الحبيبة أمام عينيه ، وسمعها تناديه وتهتف به ؟
ونسى ماجد دفتره الممزق ومستقبله الضائع وحياته المرّة وطفق يصغي إلى نداء الماضي في أذنه إلى صوت أمه الحبيبة .
فقال لأخته الصغيرة : قومي ياحبيبتي ، ألا تسمعين صوت أمك تعالي نروح عند ماما .
ارتجفت البنت المسكينة ، لأنها لم تكن تعرف لها أماً إلا هذه المرأة المجرمة .
وخافت منها وأبت أن تذهب إليها ، لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوّهت في نفس الطفلة الصغيرة أجمل صورة عرفها الإنسان صورة الأم ..
فأخذ ماجد يقول لأخته ويكرر : تعالي نروح عن ماما الحلوة أمك الجميلة إنها في الجنة .. ألا تسمعين صوتها ؟.
وحمل ماجد أخته بين يديه ، وفتح الباب ومضى بها في اتجاه الصوت الذي يرنُ في أذنيه .
وفي اليوم التالي ، قرأ الناس في الجرائد أن رجال المقابر وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة في السادسة من عمرها ، وولداً في الرابعة عشر قد حملا إلى المستشفى ، لأن البنت مشرفة على الموت ، قد نال منها الجوع والبرد والفزع ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر . أما الغلام فهو يهذي في حمًاه يذكر الامتحان ، والدفتر الأسود ، وأمه التي تناديه ، والمرأة التي تشبه الأفعى !!..
وهكذا .. رحلا عن الدنيا .. رحلا إلى والديهما .. </div></span></span>
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أحس ماجد أنه لم يفهم شيئاً مما يقرأ وإن عينيه لتبصران الحروف وتريان الكلمات ولكن عقله لا يدرك معناها .. إنه يفكر في الدرس وفيما يقرأ إنما يفكر في هذه القاسية القلب زوجة أبيه وما جرت عليه من نكد وحزن وآلام وما سببت له من مصائب ونكبات ..
وكيف نغصت عليه وعلى أخته المسكينة حياتهما وجعلهما يعيشان في جحيماً مستعراً لقد ماتت أمه الحنون منذ فترة فقرر أبوه الزواج بتلك المرأة لتقوم على رعاية ماجد .. وأخته الصغيرة و العناية بشؤونها والسهر على راحتهما .
<span style='color:crimson'>نظر ماجد في التقويم فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد فقط ولابد له من قراءة والاستعداد للامتحان جيداً .
ولكن كيف يقرأ ؟ وكيف يستعد ؟
وأنّى له الهدوء والاستقرار النفسي في هذا البيت وهذه المرأة فاسية القلب تطارده وتؤذيه وتشفي غيظها منه تلتفت إلى المسكينة الصغيرة وتصب عليها ويلاتها .
وتصفها بأقبح الأوصاف وتسمها أبشع الكلمات .
وهنا يخاطب ماجد نفسه :
هل يمكن أن أرسب في أول سنة من سنين المراحل الثانوية وقد كنت في المرحلة الابتدائية والمتوسطة المتفوق على سائر طلاب الفصل والأول عليهم .
وبينهما هو يفكر إذ به يسمع صوت العاصفة وإن العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فتكسر الأغصان وتقصف الفروع ثم تجئ الأمطار فتروي الأرض ثم تطلع الشمس .
وإن عاصفة هذا البيت تهب كل ساعة فتكسر قلبه وقلب أخته الصغيرة ذات السنوات الست .
ثم لا تجبر هذا الكسر أبداً فعاصفة الحقل أرحم وأرق قلباً وأكثر أنسانية من هذه المرأة التي يرونها جميلة حلوةً تسبي القلوب وماهي في الحقيقة إلا الحية في لينها ونقشها والأفعى في سمّها ومكرها .
لقد سمع ماجد سبّها وشتمها لأخته الصغيرة وقرع أذنه صوت يدها .. يدها شلت .. وهي تقع على وجه أخته البريئة صاحبة القلب الذي يئن ولكن من يسمع أنين القلوب ؟..
فلم يستطيع ماجد القعود في غرفته ولم يكن يستطيع أن يقوم لحمايتها ودفع الظلم عنها خوفاً من أبيه . هذا الرجل الذي حالف امرأته الجديدة وعاونها .. بدون شعور منه .. على حرب هذه الطفلة المسكينة وتجريعها غصص الحياة وآلامها قبل أن تدري ما الحياة ووقف ماجد ينظر من شباك غرفته .
فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي منكسرة حزينة . وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب ، وإلى جانبها أختها الصغرى من أبيها طافحة الوجه صحة ، بارقة العينين ، مزهوة بثيابها الغالية . وشعر ماجد بقلبه يثب إلى عينيه ويسيل دموعاً .
أخذ ماجد يخاطب نفسه ما ذنب هذه الطفلة حتى تسام هذا العذاب ؟ أما كانت ذات يوم فرحة أبيها وزينة حياته ؟
أما كانت عزيزة عليه ؟
فما لها الآن صارت ذليلة بغيضة لا تسمع في هذا البيت إلا السب والنتهار أما التدليل فلأختها من أبيها .
كأنما هي البنت المفردة .
على حين قد صارت هي خادمة في بيت أبيها بل هي شر من خادمة .. فالخادمة قد تلقى أناساً لهم قلوب ، وفي قلوبهم دين فيعاملهم كأولادهم لقد كتب الله على هذا الطفلة الحزينة أن تكون يتيمة الأبوين .. إذ ماتت أمها فلم يبق لها أم ، ومات ضمير أبيها فلم يبق لها أب .
أفاق ماجد من شروده مع الأيام وتقبلها .
على صوت خالته .. زوجة أبيه .. وهي تنادي أخته الحزينة ويلك تعالي يا خنزيرة ..
لقد كان هذا هو اسمها عندها " الخنزيرة " لم تكن تناديها إلا به فإذا جاء أبوها فهي البنت ، تعالي يابنت ، وروحي يابنت ..
أما أختها الصغيرة فهي الحبيبة فهي تناديها أين أنت يا حبيبتي .. تعالي يا عيوني ..
وعاد صوت تلك الزوجة القاسية يزمجر في الدار ..
وهي تخاطب أخت ماجد الحزينة قائلة :
ألا تسعمين أحتك تبكي ؟
انظري الذي تريده فهايته لها ؟ ألا تجاوبين ؟ هل أنت خرساء ؟ قولي .. تكلمي ماذا تريدين ؟
فأجبت المسكينة بصوت خائف : إنها تريد الشوكولاته !
فصاحت فيها زوجة الأب ، ولماذا بقيت واقفة مثل الدبة ! ؟
إذهبي فأعطيها ما تريد .. إذهبي !
فوقفت المسكينة حائرة ، ولم تدرك كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها ..
لقد اشترى أبوها البارحة قطعة من الشوكولاته ، وأعطاه لابنته الصغيرة بنت الزوجة الثانية فأكلته والمسكينة تنظر إليها قرمت إليها قطعة منها ، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرة التي تحدق فيها وهو يأكل .
وأخذت المسكينة القطعة فرحةً بها ولم تجرؤ أن تأكلها على الرغم من اشتياهها إياها ، فخبأتها ، وجلعت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها وغلبتها شهوتها مرةّ فقطمت منها قطعة بطرف أسنانها فرأتها أختها المدللة فبكت طالبة الشوكولاته .
صاحت الزوجة الأب في الطفلة المسكينة الويل بك يا ملعونة فين الشوكولاته ؟؟
فسكتت أخت ماجد ولم تتكلم .
ولكن الصغيرة المدللة قالت : هناك يا ماما عندها ، لقد أخذتها مني .
واستاقت المرأة ابنتها وابنة زوجها كما يساق المتهم إلى التحقيق فما ضبطت المكسينة متلبسة بالجرم المشهود ورأت زوجة أبيها الشوكولاته معها حلّ بها البلاء العظيم ..
أخذت زوجة أبيها تصيح في وجه المسكينة قائلة : ياسارقة .. يا سارقة هكذا علمتك أمك ؟
تسرقين ما لي لك ؟
وكان ماجد يتحمل كل شيء ، إلا الإساءة إلى ذكر امه ، فلما سمعها ، تذكرها لم يتمالك نفسه أن صاح بها قائلا : أنا لا أسمح لك أن تتكلمي عن أمي هكذا .
فتشمرت له واستعدت وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائماً فكان يتحمل صامتاً صامداً لا يبدو عليه أنه يحفل بها أو يأبه ، فكان ذلك يغيظها ، وتتمنى أن تجد سبيلاً إلى شفاء غيظها منه وها هي ذي قد وجدت فرصة .
فصاحت فيه قائلة : لا تسمح لي ! أرجوك يا سعادة " قلبك " اسمح لي ألا يكفي أني أتعب وأنصبّ لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود .
ولكن ليس بعجيب أنت ابن امك .
فقال لها ماجد : قلت لك : كفذى عن ذكر أمي ، وإلا أمسكتك واقترب منها فصرخت زوجة الأب القاسية وولت وأسمعت الجيران وأخذت تردد تريد أن تضربني يا ماجد ؟ .. آه يا خائن ، يا منكر الجميل ، ياناس يا عالم ، ألحقوني ، أدركوني ، أنقذوني وجمعت الجيران ، وتسلل ماجد إلى غرفته أو الزاوية الصغيرة التي سموها غرفة وخصصوها له ، لتتخلص سيدة الدار زوجة أبيه من رؤيته دائماً في وجهها .
وفي المساء عاد الأب إلى البيت وكان على عادته عابساً لا يبتسم في وجوه أولاده ، لئلا يتجرؤوا عليه فتسوء تربيتهم وتفسد أخلاقهم ولم يكن كذلك قبل زواجه من هذه القاسية ولكنه استنّ لنفسه هذه السنة من يوم حضرت هذه الأفعى إلى الدار وصبّت سمها في جسمه ووضعت في ذهنه أن ماجداً وأخته المسكينة مدللان فاسدان لا يصحلهما إلا الشدة والقسوة .
وكانت هذه الزوجة الأفعى إذا دنا موعد عودة زوجها إلى الدار ، تخلع ثيابها وتلبس ثياباً جديدة ، كما تخلع عنها ذلك الوجه الشيطاني القبيح وتلبس وجهاً فيه سمات الطهر والطفولة ، صنعه لها مكرها وخبثها وقبل ذلك لا تنسى أن تنظف البنتين ابنتها وابنة زوجها وتلبسهما ثياباً متشابهه كيلا يحس الأب بأنها تفضل ابنها على ابنه .
دخل الأب المنزل فاستقبلته استقبال المحبّة الجميلة ، والمشوقة المخلصة .
ولكنها وضعت في وجهها لوناً من الألم البرئ فبدت معه كأنها المظلومة المسكينة ، ثم لحقته إلى غرفة النوم تساعده على إبدال ثيابه .
وهناك روت له قصة مكذوبة فملأت صدره غضباً على أولاده فخرج وهو لا يبصر ما أمامه .
ودعا بالبنت المسكينة فجاءت تمشي مشية من يساق إلى الموت ووقف أمامه كأنها الحمل المهزول بين يدي النمر .
فقعد الأب على الكرسي عال ، كأنه كرسي المحكمة وأوقفها أمامه ، كالمتهم الذي قدمت الأدلة على إجرامه ، وأفهمها قبح السرقة وعنّفها وزجرها .
وهو ينظر إلى ولده ماجد نظرة الافتراس متوعده منذراً بالشر ولم يسع ماجد السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة ، وهي بريئة منها .
فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر ويوضح له الموقف فتعجل بذلك الشرّ على نفسه ؟
وهنا انفجر البركان وزلزلت الدار زلزالها ، وأرعد فيها صوت الأب الغاضب الهائج قائلاً :
أتريد أن تضرب خالتك ياقليل الحياء !! ، يا معدوم التربية ، لقد حسبتك رجلاَ إنني سأكسر يدك التي تريد أن تضرب به خالتك !.
فقال ماجد : والله يا والدي هذا الكلام غير صحيح .
فقال الأب : يا وقح أما بقي عندك أدب ؟ أتكذّب خالتك ؟
فقال ماجد : أنا لا أكذبها ولكنها تقول أشياء ليست صحيحة ؟؟
عند ذلك وثب الوحش من كرسيه وانحط بكل قوته وقسوته على ابنه وأخذ يكيل له الضربات ويركله ويصفعه كالمجنون ، ولم يكتف بذلك ، بل أخذ دفتره الأسود الذي كتب فيه كل دروسه ومزقه تمزيقاً ثم تركه هو وأخته المسكينة بلا عشاء عقوبة لهما .
وتناول العشاء الزوجان وابنتهما المدللة وأويا إلى الفراش .
جثم ماجد مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه وعاف لأجله طعامه ومنامه ، والذي وضع فيه نور عينيه وربيع عمره ، وبنى عليه أمله ومستقبله ، ثم قام المسكين يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوّحت به قنبلة هائلة ، فإذا هي تالفة لا سبيل إلى جمعها ولن تعود دفتراً يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشلاء بشراً سوياً يتكلم ويمشي .
فأيقن أنه قد رسب في الامتحان ، وقد ضاع سنته الدراسية .
وكبر عليه الأمر ، ولم تعد أعصابه تحتمل هذا الظلم .
وأحس كأن الدنيا تدور به وزاغ بصره ، وجعلت أيامه المنصرفة تكر راجعة أمام عينيه كما يكر فيلم السينما ويا له من فيلم حزين .
فيلم يئن القلب أنيناً ليشق الصدر كل من يقف على مشهد من مشاهده وهاهو يرى ذلك الوجه الحبيب ، وجه أمه ، وابتسامتها التي كانت تنسيه آلام الدنيا ، وصدرها الذي كان يفزع إليه من خطوب الدهر رآها في صحتها وشبابها ، ورأى أباه أباً حقيقياً تفيض به روح الأبوة من عينيه الحانيتين ويديه الممتلئتين أبدا بالطّرف واللطف ، ولسانه الرطب بكل جميل من القول محبب من الكلام .
ويكر الفيلم ويرى أمه مريضة فلا يهتم بمرضها ، ويحسبه مرضاُ عارضاُ ثم يرى مشهداً آخر ، الدار والاضطراب ظاهر فيه ، والحزن باد على وجوه أهله ويسمع البكاء والنحيب ، ويجدهم يبتعدون به ، ويخفون النبأ عنه ولكنه يفهم أن أمه قد ماتت .. ماتت .
وكان قد سمع بالموت وقرأ عنه في الكتب ، ولكنه لم يرى من قريب ولم يدخل داره ، لم يذقه في حبيب .
غير أن الأيام سرعان ما علمته ماهو الموت .
حين رأى أخته تصيح وتبكي تريد الأم الحنون وهناً فتح عينيه فلم يجد أمه إلى جانب أخته لترضعها وتضمها إلى صدرها .
واشتد البكاء البنت ، وصاح الولد ينادي : أماه ... أماه أين أنت ؟
ثم نهض عن فراشه وقام يبحث عنها .
فوجد أباه وجمعاً من قريباته ، يبكون هم أيضاً .
فسألهم : أين أمي ؟ فم يجيبوه .
وحين أراد الذهاب إلى المدرسة نادى أمه كعادته كل يوم فلم تأت لتعدّ له حقيبته وتلبسه ثيابه وتناوله طعامه ولم تقف لوداعه وراء الباب ولم تقبله وتوصه ألا يخاصم أحداً من أصحابه .
وألا يلعب في الشارع ، ثم إذا ابتعد عادت تناديه لتكرر تقبيله وتوصيه وحين عاد من المدرسة وجد امرأة غريبة ترضع أخته .
لماذا ترضع أختي امرأة غريبة ؟ وأين أمي ؟
ويكر الفيلم وينتقل ماجد إلى مشهد آخر والقلب يزداد أنينه ويرى أباه رفيقاً به حانياً عليه ويحاول أن يكون له ولأخته أماً وأباً ولكن هذا الأب تبدل من ذلك اليوم .
يوم قال له أبوه : ستأتيك يا ماجد أم جديدة ..... أم جديدة ؟
وهنا اندهش ماجد هذا الشيء لم يسمع به من قبل .
وانتظر ماجد وجاءت الأم الجديدة ، وكانت حلوةً وثيابها جميلة لكن ماجد لم يحبها وكانت في أيامها الأولى رقيقة لطيفة ، كالفراشة الصغيرة فلما مرت الأيام واستقرت في الأرض ومدّت فيها جذورها صارت يابسة كجذع الدوحة وإن كانت تخدع الرائين بورقها الطريّ وزهرها الجميل .
ولما حملت وانجبت طفلتها انقلبت شيطانة على صورة أفعى مختبئة في جلد امرأة جميلة ، وانطمست صورة الماضي وانتهى الفيلم ، ولم يبق منه إلى هذه الصورة البشعة المقيتة .
هنا انتبه ماجد من ذكرياته على صوت قهقهة تلك المرأة القاسية مع ضحكات أبيه .
وأنصت ماجد فإذا هو يسمع بكاء خافتاً حزيناً مستمراً ، إنه بكاء أخته المسكينة قد باتت بلا عشاء ، ولعلها بلا غذاء أيضاً فهذه المجرمة تشغلها طول النهار في خدمتها وخدمة بنتها وتحجب عنها الطعام ولا تعطيها إلا كسرة من الخبز وإلى جانب الآخر تطعم ابنتها أشهى الأطعمة .
فإذا جاء الأب في المساء ، أرتدت أمامه قناع الرحمة والحنان .
وشكت إليه مرض ابنته وضعفها .
وتقول له : مسكينة هذه البنت ، إنها لا تتغذى انظر إلى جسمها أذهب بها إلى الطبيب .. ولكن ماذا سيفعل معها الطبيب ، أن ابنتك عنيدة ، أقدم لها الطعام فلا تأكل ، وعنادها سيقضي على صحتها فيناديها أبوها ويقول لها : لماذا يابنت هذا العناد ؟ كلي وإلا كسرت رأسك ؟
فتتقدم لتأكل ، فترى المرأة الخبيثة تنظر إليها من وراء ظهر أبيها نظرة الوعيد ، وترى وجهها قد انقلب حتى صار كوجه الضبع فتخاف وتتراجع وترتد ولا تأكل .
فتقول المرأة لزوجها ، ألم أقل لك ، إنها عنيدة تحتاج إلى تربية .
فيهز الأب رأسه ، ويكتفي من تربيتها بضربها على وجهها ، وشد أذنها وطردها من الغرفة ، ويكون ذلك عشاها كل يوم .
تذكر ماجد أخته فقام إليها فرفعها وضمها إلى صدره .
وقال لها : مالك يا حبيبتي ؟ لماذا تبكين ؟ اسكتي يا حبيبتي ..
فتقول له : إني جائعة يا أخي .
جوعانة يا أختي ، ولكن من أين آتيك من الطعام ؟
وقام ماجد يفتش في البيت ، وكانت دائماً زوجة أبيه تحكم غلق باب الطعام ولكنه وجد بقايا العشاء على المائدة ، فحمله ماجد إلى أخته المسكينة فأكلتها وفرحت به .
وهنا عادت ذكريات الماضي تتدفق عليه وعادت صورة أمه الحبيبة أمام عينيه ، وسمعها تناديه وتهتف به ؟
ونسى ماجد دفتره الممزق ومستقبله الضائع وحياته المرّة وطفق يصغي إلى نداء الماضي في أذنه إلى صوت أمه الحبيبة .
فقال لأخته الصغيرة : قومي ياحبيبتي ، ألا تسمعين صوت أمك تعالي نروح عند ماما .
ارتجفت البنت المسكينة ، لأنها لم تكن تعرف لها أماً إلا هذه المرأة المجرمة .
وخافت منها وأبت أن تذهب إليها ، لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوّهت في نفس الطفلة الصغيرة أجمل صورة عرفها الإنسان صورة الأم ..
فأخذ ماجد يقول لأخته ويكرر : تعالي نروح عن ماما الحلوة أمك الجميلة إنها في الجنة .. ألا تسمعين صوتها ؟.
وحمل ماجد أخته بين يديه ، وفتح الباب ومضى بها في اتجاه الصوت الذي يرنُ في أذنيه .
وفي اليوم التالي ، قرأ الناس في الجرائد أن رجال المقابر وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة في السادسة من عمرها ، وولداً في الرابعة عشر قد حملا إلى المستشفى ، لأن البنت مشرفة على الموت ، قد نال منها الجوع والبرد والفزع ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر . أما الغلام فهو يهذي في حمًاه يذكر الامتحان ، والدفتر الأسود ، وأمه التي تناديه ، والمرأة التي تشبه الأفعى !!..
وهكذا .. رحلا عن الدنيا .. رحلا إلى والديهما .. </div></span></span>