المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بحث رادع صافع ملجم حول ثبوت الولاية وسقوطها عمن حكم بغير ما انزل الله



المنذر
22 Aug 2010, 04:49 PM
بحث رادع صافع ملجم حول ثبوت الولاية وسقوطها عمن حكم بغير ما انزل الله


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,,
هذه المسألة كثر حولها الجدل و المعارك والنزاع و مثل هذه المسائل من المسائل
الدقيقة التى يجب الرجوع فيها للعلماء المعتبيرين
فهذا بحث فى المسالة مدعم بالادلة من الكتاب و السنة والاجماع وكلام الائمة لحسم مادة النزاع و قطع نزغات الشيطان عن من يتكلم بدون علم
فإنه لمن الفتنة والابتلاء أن يؤخر الإنسان ليعيش في مثل هذا الزمان ، الذي انتشرت فيه الفتن بجميع أنواعها لبعده عن منهج النبوة فأطلت الفتنة برأسها ، ولم تعدم من يعجب بها ، بل ومن يتدين بها ، بل ومن يسعى في نشرها في أوساط المسلمين بأنها هي الصواب وما سواها باطل وضلال . هذه الطائفة قد تلاعب بها الشيطان ولبس عليهم
فضلوا وأضلوا كثير




وحملوا على عاتقهم فى العالم اثارة هذه القضية والكلام على اولياء الامور!!!!!!!! حتى غلا بعضهم وقال ان الدول التى احتلها الكفار اولياء الامور فيها هم الكفارالامريكان والروس واليهود اولياء الامور
اذا لابد ان تستأذنه فى الجهاد والمقاومة وتتجند فى جيشة ضد المقاومة
هذا شيء لا يوصف ليس.. ما له وصف من تلاعب الشيطان بهذه الطائفة وهذا شغلهم الشاغل
ما راينا منهم رد على اهل الكفر والزندقة والبدع والمعاصى...


بأسهم علينا فقط,,... خذلان والله
واذا ما وجهوا بما يفعله الحكام أخذوا يبرروا ما يصنعون
ناهيك عن فرح المخابرات الامريكية بهم والسعى لتصدرهم لهدم الدين
وتلقف حكومات النفاق لهم واستبشارهم بالفكر الجديد
فهذا بحث فريد أعده طالب علم من تلامذة الشيخ برهامى
وقد عرضه عليه وأقره الشيخ
وكون من جزئين اسماه شبهان حول الحكم بما انزل الله
اجتزأت منه خصوص الكلام على سقوط ولاية من يحكم بما انزل الله من رده على شبهاتهم العشر
وقبل ان يهجموا علينا باتهام
بين الباحث مرات ان من كان له عذر منهم فى عدم التكفير
اتبعناه لاشتراطنا ثبوت الشروط وانتفاء الموانع
كما ننبه على أن مطلق كلام الائمة المنقول فى البحث مقيد بمراعاة المصالح وعجز المسلمين
كما نبهالباحث
فنشير لشفافية الموضوع وخطرة فالنتأمل البحث جيدا
قال حفظه الله
الشبهة التاسعة :
قولهم بإمامة الحكام بغير ما أنزل الله ووجوب السمع والطاعة لهم حتى يكفروا عينًا .
بل إن بعضهم يبالغ فيوجب ذلك حتى مع الكافر عينًا .
والجواب عن ذلك :
أننا نؤمن أن من تولى بمقتضى الدساتير والقوانين الوضعية أنهم ليسوا ولاة أمور شرعيين ، مسلمين كانوا أو كفارًا ، أقيمت عليهم الحجة أو لم تُقم ، بل هم أنفسهم لا يقولون عن أنفسهم أنهم ولاة أمور شرعيون، ولم يدَّعوا يومًا أنهم أخذوا بيعة من أحد ، بل ما هو إلا قسم يقسم عليه أناس أغلبهم من الفسقة والمنافقين في تثبيت ملك كبيرهم ، يقسمون فيه على احترام الدستور وسيادة القانون ، فهل يقول عاقل فضلاَ عن عالم أن هذه بيعة ، بل وينسبها للشرع ؟؟!!
فلسنا هنا بصدد الحديث عن إسلام فلان أو كفر علان ، إنما نرد على من نصَّب محاربي الدين ولاية الأمر ، وألبس مغتصبي البلاد والعباد حلل الخلافة ، مستخدماً في ذلك النصوص على غير مرادقائليها ، ومُنـزلها على غير الواقع الذي قيلت فيه ، فنوضح له بالأدلة الشرعيةوالعقلية أن هؤلاء الحكام ليسوا من الإمامة الشرعية في شيء ، وأن إسلامهم وكفرهملا علاقة له بصحة إمامتهم في هذه الحالة ..
فإن المتغلب بالسيف تثبت له الولاية الشرعية ، مع أن هذه الطريقة ليست بالطريقة الشرعية، إذ إن العلماء حرموها ، ولكنهم قالوا أنه لو حدث وقهر ذو الشوكة المسلمين بالسيفنثبت له الولاية الشرعية لأجل مصلحة المسلمين من حفظ دينهم وأعراضهم ودمائهم ،فطالما أن هذا المتغلب ستتحقق منه المقاصد الشرعية من الإمامة من إقامة للدين وسياسة للدنيا به ، وطالما أنه سيقود الأمة بكتاب الله وسيقيم في الأمة الصلاة ؛لذلك ستثبت له الإمامة الشرعية بهذه الطريقة غير المأذون فيها شرعاً .
أماإن كان المتغلب قد تغلب وقهر المسلمين وليس في قهره لهم أي تحقيق لمقاصد الإمامة ،بل في قهره لهم تضييع لمقاصد الإمامة وتضييع لمصالح المسلمين وإبعادهم عن دينهموإجبارهم على التحاكم بشرع الكفار ، فهو يقود الأمة بأحكام الكافرين ، ولا يقيمفيهم الصلاة ، ويحملهم على البعد عن دين الله حملاً ، فلا يقول عالم بل عاقل بأن هذا المتغلب سنحكم له بالولاية الشرعية لا سيما أنه انتزعها بغير حق وبطريق غيرشرعي .
والعمدة في ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) (رواه مسلم) ، وفي رواية للترمذي وأحمد: ((ما أقام لكم كتاب الله)) . فشرط لصحة الإمامة أن يحكم بشرع الله وإن كان فاسقاً .
وعلى ذلك تحمل الأحاديث المطلقة الواردة في طاعة الأئمة مثل حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)). قال : قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) (رواه مسلم)


قال البغوي رحمه الله :
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا . (معالم التنزيل 2/240)
قال النووي رحمهالله :
فأمر صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر ولو كان بهذه الخساسة ما دام يقودنا بكتاب الله تعالى ، قال العلماء معناه ما داموا متمسكين بالإسلام والدعاءإلى كتاب الله تعالى على أي حال كانوا في أنفسهم وأديانهم وأخلاقهم . (شرح النووي على مسلم : 4/422)


وكذلك فإن الأنظمة المدنية الحديثة تقسم السلطات إلى تشريعية وقضائية وتنفيذية ، بخلاف النظام الإسلامي الذي يجعل لولي الأمر سلطات تشمل جوانب متعددة ولا قيد عليها إلا التزام شرع الله تعالى ، فمتى قلنا عن الأنظمة المدنية أنهم ولاة أمور بالمعنى الشرعي ، فهل يجوز لنا شرعًا مقاضاتهم -وهم يجيزون ذلك- ؟؟ أم أننا سنمتنع من مقاضاتهم شرعًا وإن سمحوا هم به ؟ ، كالذي رأى أن من يرشح نفسه للرئاسة خارج عن الإمام وإن كان النظام المدني يفتخر فيه رئيس الدولة بتطبيق الديموقراطية وخوض انتخابات تعددية !!
لذلك نقول أن المتغلب بالقهر لا تثبت الإمامة له بهذا التغلب المجرد، وإنما ينبغي أن تراعَى مقاصد الإمامة في ذلك ، وإلا للزمنا القول بإمامةقطاع الطرق الذين يقهرون الناس إمامة شرعية ، فلو أن عصابة قامت بالهجوم على قريةمن القرى النائية واستطاعوا أن يقهروا أهلها فإنهم سيكونون بهذا التغلب المجرد أئمةشرعيين تجب لهم الطاعة في أعناق أهل القرية ، وينبغي على أهل القرية أن يصبرواعليهم وإن أخذوا مالهم وجلدوا ظهورهم لأنهم متغلبين ، ولم يقل بذلك عاقل ، فماالفرق إذن بين هؤلاء وهؤلاء ؟!! الجواب : لا فرق ..
هذا هو محل الخلاف الحقيقي . فنحن لا نختلف في حكم إمامة المتغلب ، ولكن لا يجوز تعميمها على الذين استولوا على بلاد الله ليقودوا الناس إلى الهاوية لا بكتاب الله ،وهذا شرط واضح قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وشرحه العلماء .


ومما يؤكد ما قلناهما ذكره النووي رحمه الله في شرح حديث حذيفة في الفتن ، إذ قال رحمه الله :
قوله صلى الله عليه وسلم : ((دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، قال العلماء : هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة . (شرح صحيح مسلم : 6/37)
فتأمل كيف حكم على الخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة أنهم دعاة على أبواب جهنم لا يسمع لهم ويطاع ، مع ما كان فيه بعض هؤلاء من تغلب على بعض البلاد الإسلامية ، فتأمل حال مبتدعة زماننا ممن يظاهرون الدعاة على أبواب جهنم !!



...
ولنتأمل فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التتار ، إذ نقل الإجماع على وجوب قتالهم ، لعدم التزامهم ببعض الشرائع ، مع نطقهم للشهادتين ظاهرًا . مع التنبيه على أنه لم يحكم لجميعهم بالكفر بل نقل أن فيهم الفاسق والمبتدع والزنديق . وسيأتي بيان حكم الطائفة الممتنعة مفصلاً من كلام شيخ الإسلام رحمه الله ..


سئل رحمه الله : ما تقول الفقهاء أئمة الدين في هؤلاء التتار الذين قدموا سنة تسع وتسعين وستمائة ، وفعلوا ما اشتهر من قتل المسلمين وسبي بعض الذراري والنهب لمن وجدوه من المسلمين ، وهتكوا حرمات الدين من إذلال المسلمين وإهانة المساجد لا سيما بيت المقدس) وأفسدوا فيه وأخذوا من أموال المسلمين وأموال بيت المال الحمل العظيم وأسروا من رجال المسلمين الجم الغفير وأخرجوهم من أوطانهم ، وادعوا مع ذلك التمسك بالشهادتين وادعوا تحريم قتال مقاتلهم لما زعموا من اتباع أصل الإسلام ولكونهم عَفَوْا عن استئصال المسلمين . فهل يجوز قتالهم أو يجب وأيما كان فمن أي الوجوه جوازه أو وجوبه ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم ، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه ، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة . وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما ، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة . وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج ، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله : ((تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم)) .
فعُلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال . فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة . فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب .
فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج ، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم ، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته - التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها - التي يكفر الجاحد لوجوبها ، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء . وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر والأذان والإقامة - عند من لا يقول بوجوبهما - ونحو ذلك من الشعائر . هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا ؟. فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها .
وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته ؛ كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته ، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام ؛ بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ولهذا افترقت سيرة علي رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة والشام وفي قتاله لأهل النهروان ، فكانت سيرته مع أهل البصرة والشاميين سيرة الأخ مع أخيه ومع الخوارج بخلاف ذلك . وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق وقتال الخوارج ، بخلاف الفتنة الواقعة مع أهل الشام والبصرة ؛ فإن النصوص دلت فيها بما دلت والصحابة والتابعون اختلفوا فيها . على أن من الفقهاء الأئمة من يرى أن أهل البغي الذين يجب قتالهم هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ ؛ لا الخارجون عن طاعته . وآخرون يجعلون القسمين بغاة . وبين البغاة والتتار فرق بين . فأما الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ؛ فلا أعلم في وجوب قتالهم خلافا .
فإذا تقررت هذه القاعدة فهؤلاء القوم المسئول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين ، وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهم جمهور العسكر - ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول ، وليس فيهم من يصلي إلا قليلًا جدا ، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة ، والمسلم عندهم أعظم من غيره ، وللصالحين من المسلمين عندهم قدر ، وعندهم من الإسلام بعضه وهم متفاوتون فيه . لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها ؛ فإنهم لا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه ؛ بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافرًا عدوا لله ورسوله ، وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين ، فلا يجاهدون الكفار ولا يلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار ، ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك ، بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح أو المتطوع في المسلمين ، والكافر عندهم بمنزلة الفاسق في المسلمين أو بمنزلة تارك التطوع . وكذلك أيضا عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم ؛ إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم أي لا يلتزمون تركها ، وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطانا لا بمجرد الدين . وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات ؛ لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك . ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله ؛ بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى . وإنما كان الملتزم لشرائع الإسلام الشيزبرون وهو الذي أظهر من شرائع الإسلام ما استفاض عند الناس . وأما هؤلاء فدخلوا فيه وما التزموا شرائعه . وقتال هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين ، وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام وعرف حقيقة أمرهم ؛ فإن هذا السِّلم الذي هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبدا . وإذا كان الأكراد والأعراب وغيرهم من أهل البوادي الذين لا يلتزمون شريعة الإسلام يجب قتالهم وإن لم يتعد ضررهم إلى أهل الأمصار فكيف بهؤلاء ؟.
نعم يجب أن يسلك في قتاله المسلك الشرعي من دعائهم إلى التزام شرائع الإسلام إن لم تكن الدعوة إلى الشرائع قد بلغتهم ، كما كان الكافر الحربي يدعى أولا إلى الشهادتين إن لم تكن الدعوة قد بلغته . فإن اتفق من يقاتلهم على الوجه الكامل فهو الغاية في رضوان الله وإعزاز كلمته وإقامة دينه وطاعة رسوله ، وإن كان فيهم من فيه فجور وفساد نية بأن يكون يقاتل على الرياسة أو يتعدى عليهم في بعض الأمور وكانت مفسدة ترك قتالهم أعظم على الدين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه : كان الواجب أيضا قتالهم دفعا لأعظم المفسدتين بالتزام أدناهما ؛ فإن هذا من أصول الإسلام التي ينبغي مراعاتها . ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر ؛ فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو مع عسكر كثير الفجور ، فإنه لا بد من أحد أمرين ؛ إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا ، وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين وإقامة أكثر شرائع الإسلام وإن لم يمكن إقامة جميعها . فهذا هو الواجب في هذه الصورة وكل ما أشبهها ؛ بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم)) ، فهذا الحديث الصحيح يدل على معنى ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : ((الغزو ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل)) وما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة)) إلى غير ذلك من النصوص التي اتفق أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف على العمل بها في جهاد من يستحق الجهاد مع الأمراء أبرارهم وفجارهم ؛ بخلاف الرافضة والخوارج الخارجين عن السنة والجماعة ، هذا مع إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه : ((سيلي أمراء ظلمة خونة فجرة ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض . ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه . وسيرد علي الحوض)) .
فإذا أحاط المرء علما بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد الذي يقوم به الأمراء إلى يوم القيامة وبما نهى عنه من إعانة الظلمة على ظلمهم ، علم أن الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد كهؤلاء القوم المسئول عنهم مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك ، واجتناب إعانة الطائفة التي يغزو معها على شيء من معاصي الله ، بل يطيعهم في طاعة الله ولا يطيعهم في معصية الله إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا . وهي واجبة على كل مكلف . وهي متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وإن لم يكونوا أبرارا . ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل . والله أعلم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . (مجموع الفتاوى : 28/502-508)


يتبين لنا من فتوى شيخ الإسلام هذه ما يلي :
1- أن التتار مع تغلبهم لم يعتبرهم أحد من أهل العلم ولاة أمور واجبي الطاعة .
2- الإجماع على وجوب قتال التتار ومن هم على شاكلتهم في الامتناع عن التزام بعض شرائع الدين كالعلمانيين .
3- أن قتالهم واجب حتى مع أئمة الجور ؛ لأنهم أولى بالإسلام منهم .
4- أن شيخ الإسلام رحمه الله جعل حكم هؤلاء المذكورين كحكم الخوارج ومانعي الزكاة ، وهم عنده ليسوا كالبغاة المتأولين وليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام ، بل هم نوع ثالث خارجون عن بعض شرائع الدين . وأنه لا يحكم بالكفر إلا لمن وقع منهم في الكفر فعلاً دون باقي أفرادهم بعد إقامة الحجة عليهم .



...
حكم الطائفة الممتنعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
واختلفوا في قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والتذفيف على جريحهم إذا كان لهم فئة يلجئون إليها . فجوز ذلك أبو حنيفة ومنعه الشافعي ، وهو المشهور في مذهب أحمد ، وفي مذهبه وجه أنه يتبع مدبرهم في أول القتال . وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يذفف على جريح كما رواه سعيد وغيره عن مروان بن الحكم قال : خرج صارخ لعلي يوم الجمل لا يُقتلن مدبر ولا يُذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن . فمن سلك هذه الطريقة فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من أهل البغي المتأولين ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام كما أدخل من أدخل في هذا الحكم مانعي الزكاة والخوارج . وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى .
والطريقة الثانية أن قتال مانعي الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين ، وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين ، وهو الذي يذكرونه في اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره . وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا في غير موضع حتى في الأموال . فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج ، وقد نص أحمد في رواية أبي طالب في حرورية كان لهم سهم في قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون فأرضهم فيء للمسلمين ، فيقسم خمسه على خمسة وأربعة أخماسه للذين قاتلوا يقسم بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين . فجعل أحمد الأرض التي للخوارج إذا غُنمت بمنزلة ما غُنم من أموال الكفار .
وبالجملة فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به ؛ فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا وسيرة علي رضي الله عنه تفرق بين هذا وهذا ، فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله وفرح بذلك ، ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة . وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر ، وقال في أهل الجمل وغيرهم : إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف وصلى على قتلى الطائفتين . وأما الخوارج ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب . قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة)) . وفي صحيح مسلم عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذي كانوا مع علي الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي : أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيَهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان محمد نبيهم لنكلوا عن العمل ، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض )) . قال فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام ويتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم . والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله . قال : فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب رئيسًا ، فقال لهم : ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من حقوتها فإني أناشدكم كما ناشدوكم يوم حروراء ، فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وسحرهم الناس برماحهم ، قال : وأقبل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان . فقال علي : التمسوا فيهم المخدج ، فالتمسوه فلم يجدوه ، فقام على سيفه حتى أتى ناسًا قد أقبل بعضهم على بعض ، قال : أخروهم ، فوجدوه مما يلي الأرض ، فكبر ثم قال : صدق الله وبلغ رسوله . قال : فقام إليه عبيدة السلماني . فقال : يا أمير المؤمنين . الله الذي لا إله إلا هو أسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ . قال : إي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له أيضا . فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا في تكفيرهم . على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد وفي مذهب الشافعي أيضا نزاع في كفرهم . ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى : أحدهما أنهم بغاة . والثاني أنهم كفار كالمرتدين ، يجوز قتلهم ابتداء وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل ، كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها ، هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها ؟ على روايتين ، وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعي الزكاة وقتال علي للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين . فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفارا كالمرتدين عن أصل الإسلام وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين بل هم نوع ثالث . وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم . (مجموع الفتاوى : 28 / 514)


وقال رحمه الله :
وأما قتال الخوارج ومانعي الزكاة وأهل الطائف الذين لم يكونوا يحرمون الربا ؛ فهؤلاء يقاتلون حتى يدخلوا في الشرائع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فلا ريب أنه يجوز قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم ؛ فإن هؤلاء إذا كانوا مقيمين ببلادهم على ما هم عليه فإنه يجب على المسلمين أن يقصدوهم في بلادهم لقتالهم حتى يكون الدين كله لله . فإن هؤلاء التتار لا يقاتلون على دين الإسلام ؛ بل يقاتلون الناس حتى يدخلوا في طاعتهم ، فمن دخل في طاعتهم كفوا عنه وإن كان مشركا أو نصرانيا أو يهوديا ، ومن لم يدخل كان عدوا لهم وإن كان من الأنبياء والصالحين . وقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا أعداءه الكفار ويوالوا عباده المؤمنين . فيجب على المسلمين من جند الشام ومصر واليمن والمغرب جميعهم أن يكونوا متعاونين على قتال الكفار وليس لبعضهم أن يقاتل بعضا بمجرد الرياسة والأهواء . فهؤلاء التتار أقل ما يجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الكفار وأن يكفوا عن قتال من يليهم من المسلمين ويتعاونون هم وهم على قتال الكفار . وأيضا لا يقاتل معهم غير مكره إلا فاسق أو مبتدع أو زنديق كالملاحدة القرامطة الباطنية وكالرافضة السبابة وكالجهمية المعطلة من النفاة الحلولية ، ومعهم ممن يقلدونه من المنتسبين إلى العلم والدين من هو شر منهم ؛ فإن التتار جهال يقلدون الذين يحسنون به الظن وهم لضلالهم وغيهم يتبعونه في الضلال الذي يكذبون به على الله ورسوله ويبدلون دين الله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق . (مجموع الفتاوى : 28 / 551)


فمن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق ذكره يتبين لنا أن قتال الطائفة الممتنعة عن بعض شرائع الدين ليس من جنس قتال البغاة المتأولين ، وليس كذلك من جنس قتال المرتدين عن أصل الإسلام ، وإنما هم نوع ثالث يقاتلون عمومًا ، دون ثبوت حكم الكفر لجميع أفرادهم ، فإن منهم الفاسق والمبتدع والزنديق كما مر في كلام شيخ الإسلام رحمه الله .



..


ولكن قد ورد في كلام شيخ الإسلام رحمه الله إطلاق لفظ الردة عليهم ، مثل قوله : ( وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان ، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة ؛ فلهذا كانوا مرتدين ، وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله ) (مجموع الفتاوى : 28 / 519) . فما بيان كلامه ذلك ؟


نقول :
هذا الكلام محمول على من ثبتت ردته عن أصل الإسلام منهم ، فإن منهم الفاسق والمبتدع والزنديق كما سبق . وقد يحمل الكلام على ارتدادهم عن بعض الشرائع بمعنى امتناعهم عن أدائها . وقد ورد في كلام شيخ الإسلام رحمه الله ما يشهد له . وقد سبق كلامه في الحكم عليه بأنهم ليسوا كالبغاة وليسوا كالمرتدين ، بل هم نوع ثالث .


قال رحمه الله :
وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين ، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه ؛ ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار ويعلم أن المرتدين الذين فيهم من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم ، وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم ، وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارا ؛ فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالا ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع ، مثل مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق . وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقهاً أو متصوفاً أو تاجراً أو كاتباً أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع وأصروا على الإسلام . (مجموع الفتاوى : 28 / 535)
ففي كلامه السابق بيان لما قد يساء فهمه من بعض كلامه أنه يحكم على التتار بالكفر بالعموم ، بل قد سبق حكمه فيهم صريحًا أنهم ليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام ، وإن كان يطلق عليهم مرتدين عن بعض شرائعه ، ولكن ذلك لا يقتضي الحكم عليهم بالكفر بالعموم ؛ فالردة هنا بالمعنى اللغوي بمعنى امتناعهم عما كانوا يفعلونه –وسيأتي كلام الخطابي في ذلك- . وقد اتضح مقصود شيخ الإسلام رحمه الله هاهنا في تفرقته بين الردة عن أصل الدين وبين الردة عن بعض الشرائع ، وأيضًا في قوله ( المرتدين الذين فيهم .. ) فإن فيه إشارة إلى أنه ليسوا كلهم مرتدين ، بل بعضهم مرتد عن أصل الدين وبعضهم مرتد عن بعض شرائعه ، ليس حكمه كالأول .

المنذر
22 Aug 2010, 04:50 PM
قال الإمام الخطابي رحمه الله :
وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا ؛ منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره ، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها ، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا ؛ ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة . واستولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمدا الذي يدعى ابن الحنفية . ثم لم ينقضِ عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يُسبى . فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ، ولم يسموا على الانفراد منهم كفارا وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين ؛ وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتد عنه ، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق ، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا . (شرح صحيح مسلم : 1 /204)

فهذا الإمام الخطابي رحمه الله يحكم لهم بإطلاق اسم الردة وإن لم يكونوا مرتدين بالمعنى الشرعي الذي يعني الخروج من الإسلام ، وإنما معناه الخروج عن بعض الشرائع . إلا أنه جعلهم أهل بغي ، وقد بينا الراجح في ذلك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمها الله .



..
تنبيه مهم :
قتال الطائفة الممتنعة تابع للمصلحة والمفسدة والقدرة والعجز ، فلا يجب قتالهم على من تغلبوا عليه ولم تتحقق له القدرة لقتالهم ، بل هو كالأسير بالنسبة لهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع . وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة ، فينظر في المعارض له فإن كان الذي يَفُوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به ؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تُعْوِزَ النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام . (مجموع الفتاوى : 28/129)
وسيأتي بيان ذلك مفصلاً في الرد على الشبهة العاشرة إن شاء الله تعالى .



...
باقي أقوال العلماء في بيان مقاصد الإمامة الشرعية
قال الماوردي رحمه الله في بيان ما يجب على الإمام :
والذي يلزمه (أي الإمام) من الأمور العامة عشرة أشياء :
أحدها : حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة ، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ، ليكون الدين محروسًا من خلل والأمة ممنوعة من زلل .
الثاني : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة ، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم .
الثالث : حماية البيضة والذب عن الحريم ؛ ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال .
والرابع : إقامة الحدود ؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك ، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك .
والخامس : تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة ؛ حتى لا تظفر الأعداء بغِرة ينتهكون فيها محرمًا ، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا .
والسادس : جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يُسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله .
والسابع : جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف .
والثامن : تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير .
التاسع : استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال ، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة .
العاشر : أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة ، فقد يخون الأمين ويغش الناصح ...... إلخ (الأحكام السلطانية : 26-30)

قال النووي رحمه الله:
(قال القاضي : فلو طرأ عليه كفر وتغييرللشرعأو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليهوخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيامبخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحققوا العجز لميجب القيام ، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه . قال : ولا تنعقد لفاسق ابتداء ، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب ، وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين : لا ينعزل بالفسقوالظلم وتعطيل الحقوق ، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفهللأحاديث الواردة في ذلك . قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذاالإجماع ، وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بنيأمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث ،وتأول هذا القائل قوله : (أن لا ننازع الأمر أهله) في أئمة العدل ،وحجةالجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق بل لما غير من الشرع وظاهر منالكفر . قال القاضي: وقيل أن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منعالخروج عليهم . والله أعلم . (شرح النووي على مسلم : 6/314)
قال القرطبي رحمه الله :
قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب . هذا ما لا خلاف فيه . وقد مدح الله المؤمنين بقوله: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) ، قال أعرابي: ما غُبنت قط حتى يُغبن قومي؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئا حتى أشاورهم . وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها . وكان يقال: ما ندم من استشار . وكان يقال: من أعجب برأيه ضل . (تفسير القرطبي : 4/250)
قال الشوكاني رحمه الله :
لما أمر الله سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق أمر الناس بطاعتهم هاهنا ، وطاعة الله تعالى هي امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه ، وأولو الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية ، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله .. (فتح القدير: 2/166)

وقال رحمه الله رحمه الله :
والحاصل أن الغرض المقصود للشارع من تنصيب الأئمة هو أمران ؛ أولهما وأهمهما إقامة منار الدين وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه طوعا وكرها ، وثانيهما تدبير المسلمين في جلب مصالحهم ودفع المفاسد عنهم ، وقسمة أموال الله فيهم وأخذها ممن هي عليه وردها فيمن هي له ، وتجنيد الجنود ، وإعداد العدة لدفع من أراد أن يسعى في الأرض فسادا من بغاة المسلمين وأهل الجسارة منهم من التسلط على ضعفاء الرعية ونهب أموالهم وهتك حرمتهم وقطع سبلهم ، ثم القيام في وجه عدوهم من الطوائف الكفرية إن قصدوا ديار الإسلام ، وغزوهم إلى ديار الكفر إن أطاق المسلمون ذلك ووجدوا من العدد والعدة ما يقوم به .
فهذا هو موضوع الإمام الذي ورد الشرع بنصبه . وعلى المسلمين إخلاص الطاعة له في غير معصيةالله وامتثال أوامره ونواهيه في المعروف غير المنكر ، وعدم منازعته وتحريم نزع أيديهم من طاعته إلا أن يروا كفرا بواحا ، كما وردت بذلك الأدلة المتواترة التي لا يشك في تواترها إلا من لا يعرف السنة المطهرة . (السيل الجرار : 3/332)

ويقول العلامة ابن حجر آل بوطامي رحمه الله في كتابه القيم (العقائد السلفية)
ولكن ينعزل الإمام ولا تكون له ولاية على مسلمإذا أتى بما يلي :
فذكر 1- الكفر والردة بعد الإسلام . واستدلالشيخ رحمه الله بالقرآن والسنة وكلام أهل العلم ، وهذه الحالة مُجْمَععليها .
ثم ذكر 2- ترك الصلاة والدعوة إليها . وذكر حالين : إما بالجحود وهذا كفر ، وإما تهاونًا وكسلًا ؛ فذكر الخلاف في كونها كبيرةمن الكبائر أم كفرًا .
ثم قال : ( فعلى أي الحالين يجب عزل الإمام الذي يترك الصلاة عملًا بالأحاديث الواردةفي ذلك ، والتي نهت عن منابذة أئمة الجور ، ونقض بيعتهم ، وعن مقاتلتهم بشرطإقامتهم الصلاة ) . وذَكَرَ الشيخ ذِكْرَ القاضي عياض إجماع العلماء على عزل الإمام لو تركإقامة الصلاة والدعوة إليها .
ثم ذكر الحالة الثالثة: 3- ترك الحكم بما أنزل الله .
ثمقال الشيخ رحمه الله تحت هذا العنوان :
(ويشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيته بكتاب الله . أما إذا لم يُحكم فيها شرع الله، فهذا لا سمع له ولا طاعة ، وهذا يقتضي عزله ، وهذا من صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة ،أما المكفِّرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة) .. انتهى (العقائد السلفية ص726)



...
بل إنه قد ذهب بعض أهل العلم إلى بطلان الإمامة بالفسق الطارئ :
قال الجصاص في قوله تعالى ((قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) :
فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة ، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته . (أحكام القرآن : 1/170)

قال الماوردي رحمه الله :
(فصل) وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم ، ووجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله . والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان : أحدهما جرح في عدالته والثاني نقص في بدنه . فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين : أحدهما ما تابع فيه الشهوة . والثاني ما تعلق فيه بشبهة ، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى ، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها ، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد . وقال بعض المتكلمين : يعود إلى الإمامة بعوده إلى العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة لعموم ولايته ولحوق المشقة في استئناف بيعته . (الأحكام السلطانية ص30)

قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله :
ويقال لهم : ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده ، وألزم المسلمين الجزية ، وحمل السيف على أطفال المسلمين ، وأباح المسلمات للزنا ، أو حمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم ، وأعلن العبث بهم ، وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة ؟. فإن قالوا : لا يجوز القيام عليه ، قيل لهم : أنه لا يدع مسلماً إلا قتله جملة ، وهذا إن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه ، فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه ، وإن قالوا : بل يقام عليه ويقاتل -وهو قولهم- قلنا لهم : فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحداً وسبى من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك ، فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا ، وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ، ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة ، أو على أخذ مال أو على انتهاك بَشَرة بظلم ، فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل ، وهذا ما لا يجوز ، وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق . (الفِصَل : 2 / 15)

ثم قال رحمه الله :
قال أبو محمد : والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يُكلم الإمام في ذلك ويُمنع منه ، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البَشَرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه ، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه . فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق ؛ لقوله تعالى : ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) ، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع . وبالله تعالى التوفيق .



..
والجواب عما ذكره هؤلاء العلماء من بطلان الإمامة بالفسق :
1- قد قدمنا أن بعض العلماء نقل الإجماع على عدم بطلان الإمامة بالفسق .
2- ما ذكره ابن حزم من وجوب القيام على الأئمة لأدنى شيء من الجور ، فنقول : إن الحد الذي يفرق به بين وجوب الصبر على الجور ولزوم القيام عليهم هو ما إذا زادت مفسدة الظلم والغَشَم على مفسدة الخروج كما بين ذلك الإمام النووي رحمه الله .
قال النووي رحمه الله :
قال إمام الحرمين رحمه الله : ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة وإن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح . فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان . قال : وإذا جار والي الوقت ، وظهر ظلمه وغَشَمُه ، ولم ينزجر حين زُجر عن سوء صنيعه بالقول ، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب . هذا كلام إمام الحرمين . وهذا الذي ذكره من خلعه غريب ، ومع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه . (شرح صحيح مسلم : 2/25)
والكلام على المصالح والمفاسد سيأتي تامًا في الرد على الشبهة العاشرة إن شاء الله تعالى .
3- ادعى ابن حزم نسخ الأحاديث القاضية بوجوب الصبر على أئمة الجور مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ((تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) (رواه مسلم) .
والجواب عن ذلك أن بعض هذه الأحاديث فيها الإخبار عن أمور مستقبلية في الفتن ، مثل الإخبار عن الدعاة على أبواب جهنم ، وكسر باب الفتن بمقتل عمر ، وغيرها ، فهذه الأحاديث لا تنسخ ، خاصة مع ثبوت الإجماع بموافقتها .
4- كلام ابن حزم رحمه الله يصدق على من علم من حاله أنه قتل المسلمين لأجل إسلامهم ، فإن هذا كفر وردة ولو قتل مسلمًا واحدًا ، بخلاف ما لو ظلم مسلمًا أو أكثر ، أو أخذ أموالهم أو ضربهم أو قتلهم ، مع تعظيمه للإسلام جملة وإقامته للدين .



...

وبعد ذلك ، حُق لنا أن نتساءل ؛
بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كلام العلماء رحمهم الله فيما يجب على الإمام وما تصح به ولايته وما ينقضها ، هل لأحد أن يقول بصحة ولاية من تغلب رافعًا الراية الجاهلية العلمانية المعاندة للإسلام ؟؟
وإذا كان ما ذكره العلماء رحمهم الله هو في انتقاض ولاية من كان يقيم الشرع وينفذ الحدود ، فكيف بمن تغلب وهو غير مبال بأحكام الله وحدوده ولا معظم لدماء المسلمين وأعراضهم . كيف يصح أن تُنسب تلك الولاية للشرع مع ما يقوم به هؤلاء من إبطال للشرع ؟؟ ..



...
فإن قيل
: فما الواجب على المسلمين في حال عدم وجود الإمام الشرعي الذي يقود الأمة بكتاب الله ؟
نقول :
إن الأمة الإسلامية مطالبة بالأوامر الشرعية التي يسميها العلماء فروض الكفاية ، وهى في أكثرها لا يمكن لفرد ولا لأفراد متفرقين القيام بها ، بل الأمة في مجموعها مطالبة بها ، والأئمة وكلاء عنها في إقامتها ، وهى تشمل إقامة الجمع والجماعات والحسبة والإمارة والخلافة والجهاد بنوعيه الدفع والطلب ونظام القضاء والحكم بين الناس بمقتضى الشريعة الإسلامية ، وتنفيذ هذه الأحكام من حدود وحقوق وتعزيرات وغيرها ، ونظام المال الإسلامى القائم على سد حاجات المسلمين وخاصة فقراءهم وأراملهم وأيتامهم وغيرهم ، ووجود أنواع المهن والصناعات التي يحتاج إليها المسلمون وغير ذلك مما بينه أهل العلم . وأدلة ذلك كتاباً وسنة وإجماعاً من أوضح الأدلة .
وهى كما يرى كل منصف مضيعة في واقعنا الحاضر جزئياً أو كلياً في الأقطار المختلفة ، إما واقعياً في البلاد التي يتولى حكامها زمام الأمور باسم الإسلام ، أو واقعياً ورسمياً معاً في البلاد التي يتولى حكامها زمام الأمور باسم القانون والدستور ويقسمون على احترامه وحمايته ، فالعقد بينهم وبين ممثلى الأمة في زعمهم لم يتم على إقامة هذا الدين .
فهل تسقط هذه الفروض عن المسلمين ؟ أم هل يمكن للأفراد المتفرقين القيام بها ؟
ونحن بلاشك لا ننكر إمكانية القيام ببعض هذه الصور دون قيادة كغسل ميت وتكفينه ، ولكن هل يتصور إقامة الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة الخلافة إلا باجتماعٍ وطاعةٍ وقيادة . ولاشك أن هذه الأمور لا توجد في الأمة بين يوم وليلة ، بل هى من أشق الأمور في التربية والتنشئة ، ولابد من السير على مبادئها للوصول إلى غاياتها . ومن يتصور الوصول إلى الغايات وهو يهدم المبادئ وينكرها فلا شك أنه يتناقض .
والصورة المثلى لعودة الخلافة من غيبتها أن يكون أهل الحل والعقد من أهل السنة والجماعة مجتمعين على مطاع هو أمثل أهل العلم منهم للقيام بالمقدور عليه من فروض الكفاية ، فإن تعذر ذلك استقل كل أهل بلد بعالمهم إلى أن يتيسر جمعهم ، وإن كان لابد لهم أن يأخذوا بالأسباب التي تؤدى إلى جمعهم لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . (بتصرف من بحث العمل الجماعي/ مجلة صوت الدعوة)
ودليل ما ذكرناه :
1- قول الله عز وجل : ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة : 2)
2- قول الله عز وجل : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) . (النساء : 59)
وأولو الأمر هم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله كما ذكره ابن كثير في تفسيره (2/345) ، والطبري في تفسيره (8/495) ، والبغوي في تفسيره (2/239) . وسيأتي بيانه في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
3- حديث غزوة مؤتة . قال الحافظ ابن حجر : قال الطحاوي : هذا الأصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامة إلى أن يحضر . (فتح الباري : 7 / 513)
4- ما رواه أبو داود في سننه عن عقبة بن مالك قال : بعث النبي صلي الله عليه وسلم سرية ، فسلحت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال : لو رأيت ما لامنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ((أعجزتم إذا بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضى لأمري)) (حسنه الألباني)




...
وإليك أقوال العلماء في بيان ما قلناه
قال الإمام البغوى في شرح السنة :
إن الأمور الموكولة إلى الأئمة إذا غابوا عنها ، فإنه يتولاها من وجد من المسلمين ، من غير إمرة من الأئمة والخلفاء . اهـ

قال أبو المعالي الجوينى رحمه الله :
فإذا شغر الزمان عن الإمام ، وخَلِيَ عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية ، فالأمور موكولة إلى العلماء . وحقٌ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم ، فإن فعلوا ذلك فقد هُدوا إلى سواء السبيل ، وصار علماء البلاد ولاة العباد ، فإن عَسُر جمعهم على واحد استبد أهل كل صُقع وناحية باتباع عالمهم ، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم ، وإن فُرض استواؤهم -وفرضهم نادر لا يكاد يقع- فإن اتفق فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال ، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم ، فإن تنازعوا وتمانعوا وأفضي الأمر إلى شجار وخصام ، فالوجه عندي في قطع النزاع الإقراع ، فمن خرجت له القرعة قُدم . (غِيَاث الأمم ص391)

وقال رحمه الله :
أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ، ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعةَ ذوي الأمر ومراجعةَ مرموق العصر ؛ كعقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف ، فيتولاه الناس عند خلو الدهر .
ولو سعى عند شغور الزمان طوائفُ من ذوي النجدة والبأس في نقض الطرق والسعاة في الأرض بالفساد ، فهو من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما ينهى آحاد الناس عن شهر الأسلحة استبدادًا إذا كان في الزمان وَزَرُ قَوَّام على أهل الإسلام .
فإذا خلى الزمان عن السلطان وجب البَدَار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان .
ونَهْيُنا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل الاستحثاث على ما هو الأقرب إلى الصلاح والأدنى إلى النجاح ؛ فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجح وأدفع للتنافس وأجمع لشتات الرأي . وفي تمليك الرعايا أمور الدماء وشهر الأسلحة وجوه من الخبل لا ينكره ذوو العقل .
وإذا لم يصادف الناس قَوَّامًا بأمورهم يلوذون به ، فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد ؛ فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد ، وإذا أُمروا بالتقاعد في قيام السلطان كفاهم ذو الأمر المهمات ، وأتاها على أقرب الجهات .
وقد قال العلماء : لو خَلِيَ الزمان عن السلطان ؛ فحق على قُطان كل بلده وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحِجَى من يلتزمون امتثال إشارته وأوامرِه وينتهون عن مناهيه ومزاجِرِِه ، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات ، وتبلدوا عند إظلال الواقعات .
ولو انتُدب جماعة في قيام الإمام للغزوات وأوغلوا في مواطن المخافات ؛ تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه ؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك تَهَوًّوْا في ورطات المخافات ، ولم يستمروا في شيء من الحالات . اهـ (غِيَاث الأمم ص387)

قال العز بن عبد السلام رحمه الله :
لا يتصرف في أموال المصالح العامة إلا الأئمة ونوابهم . فإذا تعذر قيامهم بذلك وأمكن القيام بها ممن يصلح لذلك من الآحاد ، بأن وجد شيئا من مال المصالح ، فليصرف إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العدل أن يصرفه فيه ، بأن يقدم الأهم فالأهم ، والأصلح فالأصلح ، فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها فأهمها ، ويصرف ما وجده من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها ؛ لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها ، ولأثم أئمة الجور بذلك وضمنوه ، فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها . وإن وجد أموالا مغصوبة، فإن عرف مالكيها فليردها عليهم، وإن لم يعرفها فإن تعذرت معرفتهم بحيث يئس من معرفتهم صرفها في المصالح العامة أولاها فأولاها، وإنما قلنا ذلك لأن الله قال: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)) , وهذا بر وتقوى . وقال صلى الله عليه وسلم : ((والله في عون العبد ما كان في عون أخيه)) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((كل معروف صدقة)) ، فإذا جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف ، مع كون المصلحة خاصة ، فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى ، ولا سيما عند غلبة الظلمة للحقوق . ولا شك أن القيام بهذه المصالح أتم من ترك هذه الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها ، ويصرفونها إلى غير مستحقها . ويحتمل أن يجب ذلك على من ظفر به ، كمن وجد اللقطة في مضيعة ، وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده إذا ظفر به إن كان من جنسه ، وأن يأخذه ويبيعه إن كان من غير جنسه ، مع أن هذه مصلحة خاصة ، فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى . وقد خير بعض أصحاب الشافعي واجد ذلك بين أن يصرفه في مصارفه ، وبين أن يحفظه إلى أن يلي المسلمين من هو أهل يصرف ذلك في مصارفه . وينبغي أن يتقيد بما ذكره بعض الأصحاب بوقت يتوقع فيه ظهور إمام عدل . وأما في مثل هذا الزمان المأيوس فيه من ذلك فيتعين على واجده أن يصرفه على الفور في مصارفه ، لما في إبقائه من التغرير به وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه ، ولا سيما إن كانت الحاجة ماسة إليه بحيث يجب على الإمام تعجيلها. (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص70)

وقال رحمه الله في ذكر أمثلة تعارض المصالح والمفاسد :
المثال السابع والعشرون: تصحيح ولاية الفاسق مفسدة ، لما يغلب عليه من الخيانة في الولاية ، لكنا صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق ؛ لما في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة ، ونحن لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ينفذ من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين ، فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد ، إذ لا يترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل . والذي أراه في ذلك أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق مع عدم ولايتهم لضرورة الرعية ، كما نصحح تصرفات إمام البغاة مع عدم إمامته ؛ لأن ما ثبت للضرورة تقدر بقدرها ، والضرورة في خصوص تصرفاته ، فلا نحكم بصحة الولاية فيما عدا ذلك ، بخلاف الإمام العادل فإن ولايته قائمة في كل ما هو مفوض إلى الأئمة .
المثال الثامن والعشرون: تولي الآحاد لما يختص بالأئمة مفسدة ، لكنه يجوز في الأموال إذا كان الإمام جائراً يضع الحق في غير مستحقه ، فيجوز لمن ظفر بشيء من ذلك الحق أن يدفعه إلى مستحقيه ؛ تحصيلًا لمصلحة ذلك الحق الذي لو دفع إلى الإمام الجائر لضاع ، ولكان دفعه إليه إعانة على العصيان ، وقد قال الله تعالى: ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) . (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص91)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وأما إذا كان الذنب لحقِّ الله كالكذب والفواحش والبدع المخالفة للكتاب والسنة أو إضاعة الصلاة بالتفريط وواجباتها ونحو ذلك فهذا لا بد فيه من التوبة . وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح في العمل ؟ على قولين للعلماء . وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصي بحسب ذنبه تعزيرا يليق بمثله أن يفعله بمثله ، مثل هجره مدة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة المخلفين . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون : يسوسون الناس في دينهم ودنياهم ، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور ، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر ، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين . وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التي هم أولو أمرها . وهو كذلك فسر أولو الأمر في قوله : ((أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) بأمراء الحرب : من الملوك ونوابهم وبأهل العلم والدين الذين يعلمون الناس دينهم ويأمرونهم بطاعة الله ؛ فإن قوام الدين بالكتاب والحديد كما قال تعالى : ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)) . وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق كان تقويمهم على رؤسائهم ، وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه إذا لم يقم به غيرهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وهو أضعف الإيمان)) (مجموع الفتاوى : 11/551)
وقال رحمه الله :
خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطاباً مطلقاً ، كقوله تعالى : ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ)) ، وقوله تعالى : ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)) ، وقوله تعالى : ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ)) ، وكذلك قوله تعالى : ((وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً)) . لكن قد عُلم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادراً عليه ، والعاجزون لا يجب عليهم ، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد ، بل هو نوع من الجهاد ، فقوله : ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ)) ، وقوله : ((وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)) ، وقوله : ((إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ)) ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين ، والقدرة هي السلطان ؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه .
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه . فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة ، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق ؛ ولهذا قال العلماء : إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل . وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا ، لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم . فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم . وكذلك لو لم يتفرقوا ، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة ، فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامَهم بذلك لم يُسقط عنهم القيامَ بذلك ، بل عليهم أن يقيموا ذلك . وكذلك لو فُرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق ، أو إضاعته لذلك ، لكان ذلك الفرض على القادر عليه . وقول من قال : (لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه) إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل ، كما يقول الفقهاء : (الأمر إلى الحاكم) إنما هو العادل القادر . فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها ، لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه . وكذلك الأمير إذا كان مضيعًا للحدود أو عاجزًا عنها ، لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه . والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه ، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها ؛ فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه . والله أعلم . (مجموع الفتاوى : 34 / 175)

قال الشوكاني رحمه الله :
وينبغي أن تعلم أن تنصيب الأئمة الثابت في هذه الشريعة ثبوتا لا ينكره من يعرفها من أقواله صلى الله عليه وسلم ثم وقوعه بالفعل بعد موته صلى الله عليه وسلم من الصحابة فمن بعدهم ليس فيه ما ينفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أفراد المسلمين ، وإن كان الأئمة هم المقدمون في ذلك والأحقَوْن به ، لكن إذا فعلوا كان ذلك مسقطا لهذا الفرض المعلوم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والمجمع عليه من جميع الأمة ، وإن لم يفعلوا أو لم يطلعوا على ذلك فالخطاب باق على أفراد المسلمين لا سيما على العلماء ؛ فإن الله سبحانه قد أخذ عليهم البيان للناس فقال : ((وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)) ، وقال في الآية التي بعدها : ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) . فإذا كان البيان لا يتم إلا بإيقاع حكم الله بالحكم مع التمكن من ذلك ؛ فما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه .
ثم قال رحمه الله : وإذا كان الأمر هكذا فليس ها هنا ما يسقط وجوب الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر والقيام ببيان حجج الله والإرشاد إلى فرائضه والزجر عن مناهيه ، ولا يصلح وجود الإمام مسقطا لذلك ، لكنه إذا قام بشيء منه وجب على المسلمين معاضدته ومناصرته ، وإن لم يقم به فالخطابات المقتضية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين على العموم باقية في أعناقهم ، معدودة في أهم تكليفاتهم ، لا خلوص لهم عنها إلا بالقيام بها على الوجه الذي أمر الله به وشرعه لعباده ، وهكذا العلماء ؛ فإنه بعد دخولهم في هذا التكليف دخولا أوليا مخاطبون بتكليف البيان على الوجه الذي ذكرناه وإذا تقرر لك مجموع ما ذكرناه عرفت الصواب ولم يبق بينك وبين دركه حجاب . اهـ (السيل الجرار : 3/331)

قال ابن قدامة رحمه الله :
وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك .... فإن عُدم الإمام لم يؤخر الجهاد ؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره . وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع . (المغنى : 10 / 368)

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
وفي بكرة يوم الجمعة المذكور ؛ دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات ، فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور ، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ، ففرح الناس بذلك . (البداية والنهاية : 14 / 13)

وقال رحمه الله :
وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر -وكان يوم السبت- إلى نائب الشام في المرج ، فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم ، ووعدهم النصر والظفر على الاعداء ، وتلا قوله تعالى : ((وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)) ، وبات عند العسكر ليلة الأحد ، ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجئ ، فَسَاقَ وراء السلطان -وكان السلطان قد وصل إلى الساحل- فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال ، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة ، وقال لهم فيما قال : إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن . (البداية والنهاية : 14 / 18)


مدحت ابو العبادله