أبو فراس
16 Sep 2004, 04:38 AM
<div align="center">فوائد الشدائد:
الحمدلله رب العالمين والصلاه والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.
فإن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين ليظهر ما في نفوسهم من الخير ويرفع درجاتهم عنده ويكفر عنهم سيئاتهم ويكون لهم عند الله به فضلا عظيما وهذه الشدائد التي تعتري المسلم وتعتري المسلمين هي خير لهم في الحقيقة ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) .
وعندما تنزل الشدائد بالمسلمين فإن الله سبحانه وتعالى ينزل من المعونة على قدر البلاء كما قال عليه الصلاة والسلام ( إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء ) وفي رواية (وإن الصبر يأتي من الله على قدر المصيبة ) . وتدور على المسلمين رحى الحروب وكيد الأعداء و يتجمع عليهم معسكر الشر ويكون في ذلك شدة ومصائب تنزل ولكن هذه الشدائد لا تخلو من فوائد ومن ذلك انتظار الفرج وترقب انكشاف الغمة من الله تعالى لأنه ليس لها من دون الله كاشفة وقال – عز وجل – ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) وهذا الترقب والانتظار لابد أن يكون مصحوبا من المسلمين ببذل الأسباب لكشف البلية و أخذ ما يمكن أخذه لدفع المصيبة و تخفيف آثارها و لكن ينبغي ألا يغيب عن بال المسلمين أن انتظار الفرج عباده بل عبادة عظيمة و باب أجر عظيم من الله – سبحانه وتعالى - .
عباد الله و هذه الشدائد تدفع العباد للتعاون على البر و التقوى أكثر من ذي قبل ، أكثر من حين لم تنزل من قبل فيظهر من صور الإيثار ما يظهر ، و لذلك حفظ لنا تاريخنا في قصة أولئك النفر في معركة من معارك الإسلام الخالدة لما طاف المُنقِذُ بالماء على الجرحى فرأى جريحا فأشار إليه انه يريد أن يشرب فلما أدنى منه الماء لمح الجريح جريحا مسلما آخر فأشار إلى هذا الحامل للماء أن يذهب إلى الثاني فلما قرب الماء من الثاني لمح ثالثا فأشار إليه أن اذهب إلى الثالث فلما ذهب إلى الثالث وجده قد فارق الحياة فلما رجع للأول إذا به قد مات و لما ذهب إلى الثاني إذا به قد مات – رحمهم الله – ( يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ).
في أوقات الحروب و الشدائد يظهر أنواع من بذل المعروف لم تكن معروفة عند الناس و لا منتشرة لكن الشدة التي تجمعهم في المصيبة تُقَرِّبُ بين نفوسهم و تظهر روح الاخوة بينهم بل تزيل كثيرا من العداوات الشخصية التي كانت في نفوسهم و تجعلهم متحدين أمام الخطر و العدو الذي نزل شره و هكذا يتوحد المسلمون في المصيبة ما لا يتوحدون في غيرها و يظهر من آثار البذل و التعاون و الإيثار ما لم يكن يظهر من ذي قبل ، و قد ظهر في المسلمين من الخير من حفر الخندق
و هذه القوة العجيبة التي عملوا بها يدفعهم في ذلك الإيمان و نصرة دين الإسلام و الدفاع عن حريم المسلمين و مدينة النبي – صلى الله عليه وسلم – فحفروا ذلك الخندق حفروه في أيام معدودات حفروه بالرغم من البرد القارس و المساحة الطويلة التي شقوا فيها ذلك الخندق كيلومترات بعمق يفترض أن لا تعبره الخيل وتقفز من فوقه وعرض ، وهكذا كان ذلك الخندق بين الحرتين .
عباد الله و ظهر من آثار التعاون في مواجهة شدة يأجوج و مأجوج بين ذي القرنين ومن معه وتشغيله للقوم الذين لا يكادون يفقهون قولا ، تعاون كذلك حَمَلَ عليه الشدة التي كانت تعانا من أولئك القوم ( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا – نحاسا مذابا – فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي ) تواضع لله بعد الإنجاز ( هذا رحمة من ربي ) ، الشدائد تجعل الناس يتقاسمون فيما بينهم أموالهم و قال النبي – صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري
( أن الاشعريون – وهم قوم أتوا مسلمين من اليمن – إذا أرملوا في الغزو – أي فني زادهم وكان الواحد قد التصق بالرمل من القلة – أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد – كل المدخرات تخرج وتجمع – ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسوية فهم مني وأنا منهم ) وهكذا المواساة في الشدائد والإيثار في أوقات المحنة .
عباد الله في الشدائد يَفْزَع الناس إلى الله و يؤوبوا إليه و يتوبوا إليه و يتضرعوا إليه ( فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ) و لذلك حكت لنا كتب التاريخ الإسلامي عند خروج النار بقرب المدينة في الحجاز وهي من أشراط الساعة ورأى الناس بِبُصْرَى الشام بعيدا عن المدينة أعناق ابلهم على ضوء نار الحجاز ،بل إن بعضهم كتب الرسائل في الليل على ضوء تلك النار خرجت هذه النار العظيمة على مسيرة أربع فراسخ من المدينة ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال ودامت خمسة عشر يوما لم تنقطع وسالت إلى جهات ترمي بشرر ، كانت تُحْرِقُ الحجارة وتذيبها لما حصل هذا صاحبها زلزال عظيم ورجفة شديدة وفزع الناس وخافوا خوفا عظيما ودخلوا كلهم الحرم ، المسجد النبوي واستغفروا وأنابوا إلى الله ولهجت الألسن بالدعاء وأمير المدينة أعتق جميع مماليكه وخرج من جميع المظالم ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة إلا أن النار لم تنقطع ، وهكذا استمرت آية عظيمة و إشارة صحيحة إلى أشراط الساعة ، وصفها الواصفون أنها كانت بالرغم من أنها كانت بأرض ذات حجر لا شجر ولا نبت تأكل بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله وتُحرق الحجارة وتذيبها حتى تجعلها كالطين المبلول ثم خمدت بأمر الله و انطفأت و الشاهد كيف أن الناس فزعوا إلى ذكر الله و دعائه و دخلوا الحرم و اجتمعوا فيه يلهجون إلى الله بلسان المضطر أن يذهب عنهم الضر .
وكذلك من الآثار العظيمة بالنسبة للشدائد أنها تربي جيلا قويا قادرا على المواجهة بعد أن تُذْهِب جيلا فيه الميوعة و الانحلال و الذل و المهانة ليس قويا قادرا على المواجهة فلما رفض بنو إسرائيل دخول الأرض المقدسة و قالوا بكل و قاحة ( يا موسى أنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال ربي إني لا املك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأسى على القوم الفاسقين )
و لذلك مكث بنو إسرائيل في صحراء التيه يخرجون من الصباح للبحث عن مخرج و منفذ فلا يأتي عليهم غروب الشمس إلا و يجدون أنفسهم في ذات المكان الذي بدؤوا منه البحث أربعين سنة يتيهون في الأرض لا يجدون مسلكا يخرجون منه و لا يهتدون إلى طريق يخرجهم من ذلك التيه و كان من الحكم في هذه الشدة التي نزلت بهم أن يذهب ذلك الجيل يموت الذي رفض دخول الأرض المقدسة وتقاعس عن قتال الجبارين ذلك الجيل الذي كان تربى في ظل فرعون على الذل و المهانة و الاستعباد و الطغيان لم يكن يصلح للفتح العظيم و الأمر الجليل و لذلك فسدت فطرتهم فشاء الله أن يبقى في هذه الصحراء ليموت فيها و يخرج جيل جديد ، أربعين سنة كفيلة بذهاب جيل ومجيء جيل آخر قد تربى في شدة الصحراء و هذه الظروف الصعبة ليكون فيما بعد أهلاً لأن يدخل الأرض المقدسة ، عاشوا في جو الخشونة صلب عودهم و جاءوا على غير النموذج الذي كان عليه آباؤهم فكانوا أهلاً للفتح بأمر الله .
فمن فوائد الشدائد إذا أنها تربي جيلا جديدا جيل المحنة المؤهل للنصر لأن الجيل الذي قبله أفسده الذل و الطغيان و الاستعباد و لربما يكون في بعض البلدان و الأماكن و الأزمان أفسدته الميوعة و الانحلال و المعاصي و الترف و الميوعة فلا يكون أهلاً للنصر فيبتلي الله المسلمين بالشدائد قد تطول سنين لكي تذهب آثار الميوعة و الانحلال و الانحراف فيخرج بعد ذلك خلقا آخر أو يكون من بعده جيل آخر يكتب الله الفتح على أيديهم .
و من فوائد الشدائد يا عباد الله التمحيص و ظهور الحقائق و انكشاف البواطن تمييز المسلم عن المنافق و المنافق عن المسلم ( ما كان الله ليذر المؤمنين عل ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب )
جزى الله الشدائد كل خير و إن كانت تغصصني بريقي
و ما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
الشدائد تظهر المنافقين من هم الذين يرتمون في أحضان الأعداء من الذين يوالون أعداء الله
– سبحانه وتعالى – من الذين يتعاونون معهم و يشاركونهم و يكونون معهم على باطلهم من هم هؤلاء ؟ ينكشف المنافقون الذين كانوا يسترون عوراتهم بأمور واهية تنطلي على كثير من المسلمين فالان آن الأوان من الله – عز وجل – لينكشف الباطل و تسقط تلك الأوراق التي كانت تستر عورات المنافقين فيظهرون على حقيقتهم و تعرف الأمة من أين أتت و من أين كانت مصيبتها و لذلك فإنه لما تولى ابن العلقمي الباطني الخبيث الوزارة لبعض بني العباس راسل التتر و أطمعهم في البلاد و سهل عليهم القدوم و أنهم سيأخذون بغداد بسهولة و هكذا أشار على الخليفة بمصانعة ملك التتر و مصالحته و أن ملك التتر يريد أن يزوج ابنته من ابن الخليفة العباسي و أن من المناسب أن يخرج الخليفة إليه للاجتماع به و عقد ذلك القرآن العظيم و كان الخليفة مطمئنا إلى هذا الباطني الخبيث لاهٍ بما كان عنده غافل عن مصالح رعيته كما قال المؤرخون المسلمون فاستدعى الفقهاء و أعيان الناس ووجوه من كان ببغداد و خرج إلى ملك التتر فأنزلهم خيمة ثم جعل يأخذ منهم جماعة جماعة فيقتلهم و يقطع رؤوسهم حتى كان الخليفة من آخر الضحايا و هكذا دخلوا بغداد و احرقوها و قتلوا مليونين من المسلمين و سُكِبَ تراث المسلمين في ذلك النهر حتى تغير لون مائه من كثرة حبر الأوراق و الكتب و الأسفار التي سطرتها أنامل علماء المسلمين .
و هكذا حصلت المصيبة العظيمة بقتل الخليفة و انتهاك الديار و سقوط عاصمة الخلافة نتيجة طبيعية لتعاون الباطنيين مع أولئك التتر ،و كذلك لما تحالف الفاطميون الباطنيون من أهل الرفض أيضا من ملة ابن العلقمي ذاتها مع الصليبيين الذين جاءوا لغزو البلاد الشامية فتحالفوا معهم ضد السلاجقة المسلمين و لكن الله أذاقهم من أولئك المتحالفين سوء العذاب .
وهكذا كان أهل جبل عاملة خنجرا في خاصرة المسلمين وكان المارونيين من اكبر المتحالفين مع الصليبيين الذين جاءوا لغزو ديار الإسلام فيدلون قادة الحملات الصليبية على عورات المسلمين حتى أذن الله بظهور أهل الإسلام بقيادة قادة جدد قاموا بحمل لواء الجهاد كنور الدين وعماد الدين وصلاح الدين وغيرهم – رحمة الله عليهم - .
عباد الله كان من فوائد الشدائد أيضا التي حصلت في تاريخ المسلمين أنها أبرزت طاقات
و مواهب و قدرات لم تكن ربما موجودة من قبل فلما و صل الأسطول الصليبي إلى المياه المصرية أمام دمياط في العشرين من صفر سنة 647 هجرية و استطاعوا أن يحتلوا المدينة بعد فرار حاميتها لم ييأس المسلمون ، دبت فيهم روح المقاومة هذه فائدة الشدائد تظهر في المسلمين طاقات لم تكن موجودة من قبل ، يهب لنصرة الدين بعد أن يروا المصيبة قد حلت تستيقظ فيهم حاسة الانتقام لله و لدينه في أيام الدعة و الراحة و الانبساط و الاستمتاع بالأموال و الزروع
و الثمار و الأبنية لا تظهر هذه الطاقات لا تظهر هذه القدرات لا يظهر الباعث أصلا لكي تبتكر وسائل جديدة للمقاومة. لكن لما غزا الصليبيون بلاد الشام ظهر في المسلمين من أذكياء الشباب من اخترع أبراجاً من المنجنيقات العظيمة فيها أخلاطٌ من الزِّفت المشتعل و مواد أخرى قد اخترعتها أيدي أولئك المسلمين و ابتكرتها عقولهم يرمون بها الفرنجة فكانت حريقا عليهم ابْتُكِرت من قبل تلك العقول. و كانت بعض الوسائل تثير الدهشة و الإعجاب و من ذلك أن مجاهدا من المسلمين قور بطيخة خضراء وادخل رأسه فيها ثم غطس في الماء إلى أن اقترب من معسكر الصليبيين فظنه بعضهم بطيخة عائمة في الماء فلما نزل لأخذها خطفه الفدائي المسلم و جره و أتى به أسيرا و تعددت مواكب أسرى الصليبيين في شوارع القاهرة في ذلك الوقت على نحو زاد من حماسة الناس و رفع معنويات المقاتلين إلى السماء. و هكذا تتكرر القضية في هذه الأيام على ارض فلسطين في أيام المحنة و القتل و نزول الأمور العصيبة و المذابح الكبيرة و هدم الديار و محاربة الأرزاق و تجريف الأشجار لم يرحموا كبيرا ولا صغيرا ولا امرأة حاملا ولا طفلا ولا غير ذلك. و ظهر في المسلمين من عمل بعض أنواع من الصواريخ كصواريخ القسام و غيرها التي ابتكرتها أيدي المسلمين في فلسطين و عملوا تلك من مواد بسيطة كما قالوا، مصنعة من مواد أولية بحيث تستطيع النساء في البيت أن تحضرها كما قال بعض المجاهدين في فلسطين ، و تجارب تقوم على أساس الدفع الذاتي، لم تكن هذه الصواريخ لتظهر على بساطتها إلا في أجواء المحنة و الشدائد.
و هكذا تكون الأمور يا عباد الله ، يقول أحد المجاهدين في فلسطين كنا نمارس أنواعا من الإعانات بجانب المعارك و كنا أحيانا نأتي لهذه الدكاكين التي أغلقها اليهود لنخرج منها بعض الأطعمة لنوزعه على المحاضرين حتى الحلوى و زعناها على بعض الأطفال داخل البيوت المحاضرة و كان المقاتلون يقرؤون أورادهم من القرآن بالإضافة إلى أن معظم الشباب كانوا يصومون مع القتال و كان المقاتلون يأكلون وجبة واحدة في اليوم و عادة ما تكون خفيفة مثل الساندويتش تلك هي وجبة الإفطار فقط طيلة اليوم و نساء الحارة يقمن بطبخ الطعام للمقاتلين هذا و ضع إخواننا الآن و إن روح الفكاهة و المرح لم تفارقهم حتى في ظل أعتى الاشتباكات فيلاحقون جنود اليهود بالرغم من شدة الحال مع نوادر و فكاهات يتبادلونها بينهم ، و ذات يوم بينما كنا نقوم بهدم جدران أحد المنازل للتنقل للوصول إلى وحدةٍ من اليهود متمركزة داخل أحد البيوت للانقضاض عليها كان اليهود في ذات الوقت يقومون من الجانب الآخر بهدم الجدران للتنقل بين البيوت وشاء الله أن نلتقي نحن و إياهم في غرفة واحدة بعد أن كنا نهدم أحد الجدران من جهة و هم يهدمونه من الجهة الأخرى فلما رأوا وجوهنا القوا سلاحهم و هربوا و دارت بيننا و بينهم معركة عنيفة تكبدوا خلالها عددا من القتلى .
عباد الله وان من فوائد الشدائد أن تظهر العبادة مِن قِبَلْ المخلصين في وقت المحنة قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) ومعنى الهرج الفتنة واختلاط أمور الناس الفوضى العارمة الفتن يقوم أناس مع قلتهم يعبدون الله في ذلك الجو ولا ينسونه يشتغلون بالعبادة ويتفرغون لها بالرغم مما حولهم من الفتن هذا معنى الحديث ( العبادة في الهرج كهجرة إليَّ ).
وأيضا فإن الأمور التي تظهر في الشدائد أحكام فقهية ما كانت لتبحث لولا هذه الشدائد ، مسائل فقهية ما كانت عقول فقهاء المسلمين لِتَكَدَّا لتخرج بنتيجة لولا هذه الشدائد ومثال ذلك مسألة التترس لو تترس عدو بمسلمين وهاجم بلدا مسلما فإذا أراد المسلمون في البلد أن يدافعوا عن مدينتهم ويرموا على الكفار ربما أصاب ذلك بعض المسلمين الذين امسك بهم الكفار دروعا بشرية فما حكم رمي الكفار وسَيُقْتَل من المسلمين من الدروع البشرية ؟ مسألة عويصة ، قتل المسلم كبير عند الله ولكن ترك الكفار يتقدمون مصيبة أعظم و لذلك قال شيخ الإسلام بجرأة عظيمة عجيبة حمله عليها علمه و فقهه العميق الواسع وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين و خِيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم، وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيدا فإنّ المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قتل من المسلمين يكون شهيدا ومن قُتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لجل مصلحة الإسلام كان شهيدا .
وتظهر كذلك في كتابات الفقهاء المسلمين كلمات ما كانت لتظهر لولا هذه الشدائد والمحن مثال على ذلك قال الخِرَقي – رحمه الله – من فقهاء الحنابلة في وصف مناسك الحج والطواف قال : ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع وقبله ، ليس بغريب إتيان الحجر الأسود واستلامه وتقبيله الغريب هو قوله : إن كان ، يعني إن كان الحجر الأسود في موضعه ، إن كان الحجر الأسود موجودا والذين لا يعرفون التاريخ إذا قرءوا هذه العبارة قالوا : ما هذا الهراء وما فائدة قوله : إن كان يمسح الحجر الأسود إن كان الحجر الأسود موجودا وهل يعقل أن لا يكون موجودا ؟ لكن إذا عرف أن القرامطة الباطنية قد أغاروا على مكة وسفكوا دماء الحجاج و عَلَوْ على الكعبة ورموا الجثث فوق سطحها وسال ميزاب الكعبة بالدم واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه و أخذوه إلى هَجَرْ ومكث عندهم ثنتين وعشرين سنة وبقي المسلمون يطوفون بالكعبة هذه المدة بدون حجر اسود فيعرف عند ذلك لماذا قال الفقيه المسلم : إن كان .
وهكذا صلاة الطالب والمطلوب إذا كان يهرب والعدو يلحقونه كيف يصلي والمطاردة تستمر ساعات وكذلك بالعكس إذا كان يطارد عدوا العدو يهرب والمسلم لابد أن يمسك به والمطاردة قد تستمر ساعات يصلي على حسب حاله ولو إلى غير القبلة ولو بغير سجود على الأرض ولو بغير قيام عليها صلاة الطالب والمطلوب . وهكذا تظهر مرونة الفقه الإسلامي وشريعة هذا الدين العظيم واجتهاد علماء المسلمين وفوائد الشدائد .
اللهم إنّا نسألك أن تعافينا يا رب العالمين اللهم عافنا واعفوا عنا واغفر ذنوبنا اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين وسائر بلاد المسلمين أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه الغفور الرحيم
لفضيله الشيخ/ محمد بن صالح المنجد حفظه الله</div>
الحمدلله رب العالمين والصلاه والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.
فإن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين ليظهر ما في نفوسهم من الخير ويرفع درجاتهم عنده ويكفر عنهم سيئاتهم ويكون لهم عند الله به فضلا عظيما وهذه الشدائد التي تعتري المسلم وتعتري المسلمين هي خير لهم في الحقيقة ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) .
وعندما تنزل الشدائد بالمسلمين فإن الله سبحانه وتعالى ينزل من المعونة على قدر البلاء كما قال عليه الصلاة والسلام ( إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء ) وفي رواية (وإن الصبر يأتي من الله على قدر المصيبة ) . وتدور على المسلمين رحى الحروب وكيد الأعداء و يتجمع عليهم معسكر الشر ويكون في ذلك شدة ومصائب تنزل ولكن هذه الشدائد لا تخلو من فوائد ومن ذلك انتظار الفرج وترقب انكشاف الغمة من الله تعالى لأنه ليس لها من دون الله كاشفة وقال – عز وجل – ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) وهذا الترقب والانتظار لابد أن يكون مصحوبا من المسلمين ببذل الأسباب لكشف البلية و أخذ ما يمكن أخذه لدفع المصيبة و تخفيف آثارها و لكن ينبغي ألا يغيب عن بال المسلمين أن انتظار الفرج عباده بل عبادة عظيمة و باب أجر عظيم من الله – سبحانه وتعالى - .
عباد الله و هذه الشدائد تدفع العباد للتعاون على البر و التقوى أكثر من ذي قبل ، أكثر من حين لم تنزل من قبل فيظهر من صور الإيثار ما يظهر ، و لذلك حفظ لنا تاريخنا في قصة أولئك النفر في معركة من معارك الإسلام الخالدة لما طاف المُنقِذُ بالماء على الجرحى فرأى جريحا فأشار إليه انه يريد أن يشرب فلما أدنى منه الماء لمح الجريح جريحا مسلما آخر فأشار إلى هذا الحامل للماء أن يذهب إلى الثاني فلما قرب الماء من الثاني لمح ثالثا فأشار إليه أن اذهب إلى الثالث فلما ذهب إلى الثالث وجده قد فارق الحياة فلما رجع للأول إذا به قد مات و لما ذهب إلى الثاني إذا به قد مات – رحمهم الله – ( يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ).
في أوقات الحروب و الشدائد يظهر أنواع من بذل المعروف لم تكن معروفة عند الناس و لا منتشرة لكن الشدة التي تجمعهم في المصيبة تُقَرِّبُ بين نفوسهم و تظهر روح الاخوة بينهم بل تزيل كثيرا من العداوات الشخصية التي كانت في نفوسهم و تجعلهم متحدين أمام الخطر و العدو الذي نزل شره و هكذا يتوحد المسلمون في المصيبة ما لا يتوحدون في غيرها و يظهر من آثار البذل و التعاون و الإيثار ما لم يكن يظهر من ذي قبل ، و قد ظهر في المسلمين من الخير من حفر الخندق
و هذه القوة العجيبة التي عملوا بها يدفعهم في ذلك الإيمان و نصرة دين الإسلام و الدفاع عن حريم المسلمين و مدينة النبي – صلى الله عليه وسلم – فحفروا ذلك الخندق حفروه في أيام معدودات حفروه بالرغم من البرد القارس و المساحة الطويلة التي شقوا فيها ذلك الخندق كيلومترات بعمق يفترض أن لا تعبره الخيل وتقفز من فوقه وعرض ، وهكذا كان ذلك الخندق بين الحرتين .
عباد الله و ظهر من آثار التعاون في مواجهة شدة يأجوج و مأجوج بين ذي القرنين ومن معه وتشغيله للقوم الذين لا يكادون يفقهون قولا ، تعاون كذلك حَمَلَ عليه الشدة التي كانت تعانا من أولئك القوم ( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا – نحاسا مذابا – فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي ) تواضع لله بعد الإنجاز ( هذا رحمة من ربي ) ، الشدائد تجعل الناس يتقاسمون فيما بينهم أموالهم و قال النبي – صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري
( أن الاشعريون – وهم قوم أتوا مسلمين من اليمن – إذا أرملوا في الغزو – أي فني زادهم وكان الواحد قد التصق بالرمل من القلة – أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد – كل المدخرات تخرج وتجمع – ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسوية فهم مني وأنا منهم ) وهكذا المواساة في الشدائد والإيثار في أوقات المحنة .
عباد الله في الشدائد يَفْزَع الناس إلى الله و يؤوبوا إليه و يتوبوا إليه و يتضرعوا إليه ( فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ) و لذلك حكت لنا كتب التاريخ الإسلامي عند خروج النار بقرب المدينة في الحجاز وهي من أشراط الساعة ورأى الناس بِبُصْرَى الشام بعيدا عن المدينة أعناق ابلهم على ضوء نار الحجاز ،بل إن بعضهم كتب الرسائل في الليل على ضوء تلك النار خرجت هذه النار العظيمة على مسيرة أربع فراسخ من المدينة ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال ودامت خمسة عشر يوما لم تنقطع وسالت إلى جهات ترمي بشرر ، كانت تُحْرِقُ الحجارة وتذيبها لما حصل هذا صاحبها زلزال عظيم ورجفة شديدة وفزع الناس وخافوا خوفا عظيما ودخلوا كلهم الحرم ، المسجد النبوي واستغفروا وأنابوا إلى الله ولهجت الألسن بالدعاء وأمير المدينة أعتق جميع مماليكه وخرج من جميع المظالم ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة إلا أن النار لم تنقطع ، وهكذا استمرت آية عظيمة و إشارة صحيحة إلى أشراط الساعة ، وصفها الواصفون أنها كانت بالرغم من أنها كانت بأرض ذات حجر لا شجر ولا نبت تأكل بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله وتُحرق الحجارة وتذيبها حتى تجعلها كالطين المبلول ثم خمدت بأمر الله و انطفأت و الشاهد كيف أن الناس فزعوا إلى ذكر الله و دعائه و دخلوا الحرم و اجتمعوا فيه يلهجون إلى الله بلسان المضطر أن يذهب عنهم الضر .
وكذلك من الآثار العظيمة بالنسبة للشدائد أنها تربي جيلا قويا قادرا على المواجهة بعد أن تُذْهِب جيلا فيه الميوعة و الانحلال و الذل و المهانة ليس قويا قادرا على المواجهة فلما رفض بنو إسرائيل دخول الأرض المقدسة و قالوا بكل و قاحة ( يا موسى أنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال ربي إني لا املك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأسى على القوم الفاسقين )
و لذلك مكث بنو إسرائيل في صحراء التيه يخرجون من الصباح للبحث عن مخرج و منفذ فلا يأتي عليهم غروب الشمس إلا و يجدون أنفسهم في ذات المكان الذي بدؤوا منه البحث أربعين سنة يتيهون في الأرض لا يجدون مسلكا يخرجون منه و لا يهتدون إلى طريق يخرجهم من ذلك التيه و كان من الحكم في هذه الشدة التي نزلت بهم أن يذهب ذلك الجيل يموت الذي رفض دخول الأرض المقدسة وتقاعس عن قتال الجبارين ذلك الجيل الذي كان تربى في ظل فرعون على الذل و المهانة و الاستعباد و الطغيان لم يكن يصلح للفتح العظيم و الأمر الجليل و لذلك فسدت فطرتهم فشاء الله أن يبقى في هذه الصحراء ليموت فيها و يخرج جيل جديد ، أربعين سنة كفيلة بذهاب جيل ومجيء جيل آخر قد تربى في شدة الصحراء و هذه الظروف الصعبة ليكون فيما بعد أهلاً لأن يدخل الأرض المقدسة ، عاشوا في جو الخشونة صلب عودهم و جاءوا على غير النموذج الذي كان عليه آباؤهم فكانوا أهلاً للفتح بأمر الله .
فمن فوائد الشدائد إذا أنها تربي جيلا جديدا جيل المحنة المؤهل للنصر لأن الجيل الذي قبله أفسده الذل و الطغيان و الاستعباد و لربما يكون في بعض البلدان و الأماكن و الأزمان أفسدته الميوعة و الانحلال و المعاصي و الترف و الميوعة فلا يكون أهلاً للنصر فيبتلي الله المسلمين بالشدائد قد تطول سنين لكي تذهب آثار الميوعة و الانحلال و الانحراف فيخرج بعد ذلك خلقا آخر أو يكون من بعده جيل آخر يكتب الله الفتح على أيديهم .
و من فوائد الشدائد يا عباد الله التمحيص و ظهور الحقائق و انكشاف البواطن تمييز المسلم عن المنافق و المنافق عن المسلم ( ما كان الله ليذر المؤمنين عل ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب )
جزى الله الشدائد كل خير و إن كانت تغصصني بريقي
و ما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
الشدائد تظهر المنافقين من هم الذين يرتمون في أحضان الأعداء من الذين يوالون أعداء الله
– سبحانه وتعالى – من الذين يتعاونون معهم و يشاركونهم و يكونون معهم على باطلهم من هم هؤلاء ؟ ينكشف المنافقون الذين كانوا يسترون عوراتهم بأمور واهية تنطلي على كثير من المسلمين فالان آن الأوان من الله – عز وجل – لينكشف الباطل و تسقط تلك الأوراق التي كانت تستر عورات المنافقين فيظهرون على حقيقتهم و تعرف الأمة من أين أتت و من أين كانت مصيبتها و لذلك فإنه لما تولى ابن العلقمي الباطني الخبيث الوزارة لبعض بني العباس راسل التتر و أطمعهم في البلاد و سهل عليهم القدوم و أنهم سيأخذون بغداد بسهولة و هكذا أشار على الخليفة بمصانعة ملك التتر و مصالحته و أن ملك التتر يريد أن يزوج ابنته من ابن الخليفة العباسي و أن من المناسب أن يخرج الخليفة إليه للاجتماع به و عقد ذلك القرآن العظيم و كان الخليفة مطمئنا إلى هذا الباطني الخبيث لاهٍ بما كان عنده غافل عن مصالح رعيته كما قال المؤرخون المسلمون فاستدعى الفقهاء و أعيان الناس ووجوه من كان ببغداد و خرج إلى ملك التتر فأنزلهم خيمة ثم جعل يأخذ منهم جماعة جماعة فيقتلهم و يقطع رؤوسهم حتى كان الخليفة من آخر الضحايا و هكذا دخلوا بغداد و احرقوها و قتلوا مليونين من المسلمين و سُكِبَ تراث المسلمين في ذلك النهر حتى تغير لون مائه من كثرة حبر الأوراق و الكتب و الأسفار التي سطرتها أنامل علماء المسلمين .
و هكذا حصلت المصيبة العظيمة بقتل الخليفة و انتهاك الديار و سقوط عاصمة الخلافة نتيجة طبيعية لتعاون الباطنيين مع أولئك التتر ،و كذلك لما تحالف الفاطميون الباطنيون من أهل الرفض أيضا من ملة ابن العلقمي ذاتها مع الصليبيين الذين جاءوا لغزو البلاد الشامية فتحالفوا معهم ضد السلاجقة المسلمين و لكن الله أذاقهم من أولئك المتحالفين سوء العذاب .
وهكذا كان أهل جبل عاملة خنجرا في خاصرة المسلمين وكان المارونيين من اكبر المتحالفين مع الصليبيين الذين جاءوا لغزو ديار الإسلام فيدلون قادة الحملات الصليبية على عورات المسلمين حتى أذن الله بظهور أهل الإسلام بقيادة قادة جدد قاموا بحمل لواء الجهاد كنور الدين وعماد الدين وصلاح الدين وغيرهم – رحمة الله عليهم - .
عباد الله كان من فوائد الشدائد أيضا التي حصلت في تاريخ المسلمين أنها أبرزت طاقات
و مواهب و قدرات لم تكن ربما موجودة من قبل فلما و صل الأسطول الصليبي إلى المياه المصرية أمام دمياط في العشرين من صفر سنة 647 هجرية و استطاعوا أن يحتلوا المدينة بعد فرار حاميتها لم ييأس المسلمون ، دبت فيهم روح المقاومة هذه فائدة الشدائد تظهر في المسلمين طاقات لم تكن موجودة من قبل ، يهب لنصرة الدين بعد أن يروا المصيبة قد حلت تستيقظ فيهم حاسة الانتقام لله و لدينه في أيام الدعة و الراحة و الانبساط و الاستمتاع بالأموال و الزروع
و الثمار و الأبنية لا تظهر هذه الطاقات لا تظهر هذه القدرات لا يظهر الباعث أصلا لكي تبتكر وسائل جديدة للمقاومة. لكن لما غزا الصليبيون بلاد الشام ظهر في المسلمين من أذكياء الشباب من اخترع أبراجاً من المنجنيقات العظيمة فيها أخلاطٌ من الزِّفت المشتعل و مواد أخرى قد اخترعتها أيدي أولئك المسلمين و ابتكرتها عقولهم يرمون بها الفرنجة فكانت حريقا عليهم ابْتُكِرت من قبل تلك العقول. و كانت بعض الوسائل تثير الدهشة و الإعجاب و من ذلك أن مجاهدا من المسلمين قور بطيخة خضراء وادخل رأسه فيها ثم غطس في الماء إلى أن اقترب من معسكر الصليبيين فظنه بعضهم بطيخة عائمة في الماء فلما نزل لأخذها خطفه الفدائي المسلم و جره و أتى به أسيرا و تعددت مواكب أسرى الصليبيين في شوارع القاهرة في ذلك الوقت على نحو زاد من حماسة الناس و رفع معنويات المقاتلين إلى السماء. و هكذا تتكرر القضية في هذه الأيام على ارض فلسطين في أيام المحنة و القتل و نزول الأمور العصيبة و المذابح الكبيرة و هدم الديار و محاربة الأرزاق و تجريف الأشجار لم يرحموا كبيرا ولا صغيرا ولا امرأة حاملا ولا طفلا ولا غير ذلك. و ظهر في المسلمين من عمل بعض أنواع من الصواريخ كصواريخ القسام و غيرها التي ابتكرتها أيدي المسلمين في فلسطين و عملوا تلك من مواد بسيطة كما قالوا، مصنعة من مواد أولية بحيث تستطيع النساء في البيت أن تحضرها كما قال بعض المجاهدين في فلسطين ، و تجارب تقوم على أساس الدفع الذاتي، لم تكن هذه الصواريخ لتظهر على بساطتها إلا في أجواء المحنة و الشدائد.
و هكذا تكون الأمور يا عباد الله ، يقول أحد المجاهدين في فلسطين كنا نمارس أنواعا من الإعانات بجانب المعارك و كنا أحيانا نأتي لهذه الدكاكين التي أغلقها اليهود لنخرج منها بعض الأطعمة لنوزعه على المحاضرين حتى الحلوى و زعناها على بعض الأطفال داخل البيوت المحاضرة و كان المقاتلون يقرؤون أورادهم من القرآن بالإضافة إلى أن معظم الشباب كانوا يصومون مع القتال و كان المقاتلون يأكلون وجبة واحدة في اليوم و عادة ما تكون خفيفة مثل الساندويتش تلك هي وجبة الإفطار فقط طيلة اليوم و نساء الحارة يقمن بطبخ الطعام للمقاتلين هذا و ضع إخواننا الآن و إن روح الفكاهة و المرح لم تفارقهم حتى في ظل أعتى الاشتباكات فيلاحقون جنود اليهود بالرغم من شدة الحال مع نوادر و فكاهات يتبادلونها بينهم ، و ذات يوم بينما كنا نقوم بهدم جدران أحد المنازل للتنقل للوصول إلى وحدةٍ من اليهود متمركزة داخل أحد البيوت للانقضاض عليها كان اليهود في ذات الوقت يقومون من الجانب الآخر بهدم الجدران للتنقل بين البيوت وشاء الله أن نلتقي نحن و إياهم في غرفة واحدة بعد أن كنا نهدم أحد الجدران من جهة و هم يهدمونه من الجهة الأخرى فلما رأوا وجوهنا القوا سلاحهم و هربوا و دارت بيننا و بينهم معركة عنيفة تكبدوا خلالها عددا من القتلى .
عباد الله وان من فوائد الشدائد أن تظهر العبادة مِن قِبَلْ المخلصين في وقت المحنة قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) ومعنى الهرج الفتنة واختلاط أمور الناس الفوضى العارمة الفتن يقوم أناس مع قلتهم يعبدون الله في ذلك الجو ولا ينسونه يشتغلون بالعبادة ويتفرغون لها بالرغم مما حولهم من الفتن هذا معنى الحديث ( العبادة في الهرج كهجرة إليَّ ).
وأيضا فإن الأمور التي تظهر في الشدائد أحكام فقهية ما كانت لتبحث لولا هذه الشدائد ، مسائل فقهية ما كانت عقول فقهاء المسلمين لِتَكَدَّا لتخرج بنتيجة لولا هذه الشدائد ومثال ذلك مسألة التترس لو تترس عدو بمسلمين وهاجم بلدا مسلما فإذا أراد المسلمون في البلد أن يدافعوا عن مدينتهم ويرموا على الكفار ربما أصاب ذلك بعض المسلمين الذين امسك بهم الكفار دروعا بشرية فما حكم رمي الكفار وسَيُقْتَل من المسلمين من الدروع البشرية ؟ مسألة عويصة ، قتل المسلم كبير عند الله ولكن ترك الكفار يتقدمون مصيبة أعظم و لذلك قال شيخ الإسلام بجرأة عظيمة عجيبة حمله عليها علمه و فقهه العميق الواسع وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين و خِيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم، وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيدا فإنّ المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قتل من المسلمين يكون شهيدا ومن قُتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لجل مصلحة الإسلام كان شهيدا .
وتظهر كذلك في كتابات الفقهاء المسلمين كلمات ما كانت لتظهر لولا هذه الشدائد والمحن مثال على ذلك قال الخِرَقي – رحمه الله – من فقهاء الحنابلة في وصف مناسك الحج والطواف قال : ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع وقبله ، ليس بغريب إتيان الحجر الأسود واستلامه وتقبيله الغريب هو قوله : إن كان ، يعني إن كان الحجر الأسود في موضعه ، إن كان الحجر الأسود موجودا والذين لا يعرفون التاريخ إذا قرءوا هذه العبارة قالوا : ما هذا الهراء وما فائدة قوله : إن كان يمسح الحجر الأسود إن كان الحجر الأسود موجودا وهل يعقل أن لا يكون موجودا ؟ لكن إذا عرف أن القرامطة الباطنية قد أغاروا على مكة وسفكوا دماء الحجاج و عَلَوْ على الكعبة ورموا الجثث فوق سطحها وسال ميزاب الكعبة بالدم واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه و أخذوه إلى هَجَرْ ومكث عندهم ثنتين وعشرين سنة وبقي المسلمون يطوفون بالكعبة هذه المدة بدون حجر اسود فيعرف عند ذلك لماذا قال الفقيه المسلم : إن كان .
وهكذا صلاة الطالب والمطلوب إذا كان يهرب والعدو يلحقونه كيف يصلي والمطاردة تستمر ساعات وكذلك بالعكس إذا كان يطارد عدوا العدو يهرب والمسلم لابد أن يمسك به والمطاردة قد تستمر ساعات يصلي على حسب حاله ولو إلى غير القبلة ولو بغير سجود على الأرض ولو بغير قيام عليها صلاة الطالب والمطلوب . وهكذا تظهر مرونة الفقه الإسلامي وشريعة هذا الدين العظيم واجتهاد علماء المسلمين وفوائد الشدائد .
اللهم إنّا نسألك أن تعافينا يا رب العالمين اللهم عافنا واعفوا عنا واغفر ذنوبنا اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين وسائر بلاد المسلمين أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه الغفور الرحيم
لفضيله الشيخ/ محمد بن صالح المنجد حفظه الله</div>