المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : روحها ثمن الصمت ببقية من دموع ابك على نفسك



الرحال99
16 Dec 2009, 01:56 AM
جميل محمد فارسي
روحها ثمن الصمت
هل بكيت مثلي على جثة الطفلة الخارجة من طين السيل؟ ببقية من دموع ابكِ على نفسك.
قطرات رحمة من السماء لم نحسن استقبالها فتجمعت سيلاً خطف تلك الطفلة من بين يدي أمها, وخطف معها أرواح مئة نفس من أضعفنا ودمر ممتلكات هي كل ما يملك أفقرنا.
فإن أردنا الصدق والعدل والحق فإن دياتهم وتعويضاتهم يجب أن تتحملها أنت, نعم أنت.. أنت وأنا وهو وكل الطبقة الوسطى, فالطبقة الوسطى في كل المجتمعات تقود الرأي وتظهر الحق وتدفع الظلم وتدافع عن المحروم, إلا نحن.
فنحن لذنا بالصمت في موضوع من أهم المواضيع ألا وهو سعار الأراضي الذي أصاب مجتمعنا منذ منتصف السبعينات الميلادية وهو السبب الأساسي لكل مشاكلنا الحالية. كنا نشاهد هذا الباطل ونسكت عنه.
فلندفع الآن أنا وأنت دياتهم فهؤلاء الفقراء سكنوا في عشوائيات أقاموها في وسط مجرى السيل. تركوا أولادهم في فم السيل لأنهم لم يستطيعوا أن يشتروا أرضاً ليطعموا بثمنها فماً هو أكثر جشعاً من فم السيل.
هل يسكن الفقير في أرض بنصف مليون أو يختار لأولاده شقه ذات منظر بانورامي على الكورنيش؟ أتوا من القرى حول جدة لأن سبل العيش انقطعت أمامهم في قراهم.
فبالله عليك ما هي فرصة العمل التي قدمناها لشاب في خليص أو الجموم أو مستورة؟ لم يكن أمامهم إلا الهجرة لجدة, فأقاموا حولها لأنهم لم يستطيعوا أن يقهروا السور المنيع المحيط بها. سور من الملكيات الشاسعة.
والآن تتهرب أنت وأنا من المسؤولية؟ في السبعينات كان الحد الشمالي لجدة هو شارع فلسطين فنشأت يومها المنح المشهورة كيلو في كيلو يتبعه كيلو في كيلو. وسكت أنت وأنا, ثم تفاقمت تلك المنح فغطت كل امتداد جدة وأنا وأنت نلوذ كذلك بالصمت. ثم لم يقف الأمر عند ذلك بل نشأت الأحياء الشاسعة وكذلك سكت وأنا. ألم تعلم أن شرق جدة كله مملوك؟ يكفي أن يقول أحدهم إن هذه لي, هنا كانت ترعى إبلي.
سكت أنت وسكت أنا. سكتنا رغبة ورهبة. ألم تعلم أن جنوب جدة امتد أحد أحيائه أكثر مما يستطيع أن يمشي الذي أحياها طوال عمره، ولم نسأل كيف بل سكت أنا وسكت أنت. هذه الخطيئة أعاقت كل صناعة وكل تنمية.
فأصبح سعر الأرض أعلى من سعر المصنع المقام عليها. سكتنا أنت وأنا. حتى المشاريع والطرق والمدن الجديدة أصبحت لا تقام إلا ويسبقونها بصك ملكية لأرض المشروع, وسكتنا أنا وأنت. لم يتركوا وادياً ولا جبلاً ولا سهلاً ولا شاطئا إلا وتملكوه, ولو طالوا السماء لملكوها, فأصبحنا في بلد كأنه قارة ولا يجد الضعيف فيها موطئ قدم مملوك له. ضيقوا علينا الأرض بما رحبت.
وسكت أنت وأنا وهو. حدائق أطفالنا اختفت في شكل منح, مواقف السيارات أصبحت منحاً وعمارات. ألم تسمع بأي منها؟ سكت أنت وأنا.
أما الأمر في مكة المكرمة فهو العجب العجاب, نفق تمنح مداخله ومخارجه, أرض تنزع من ملاكها لتكون ساحات ثم تفاجأ أنها أصبحت فندقاً, مستشفى يمنح ويعوض ثم يمنح ثم يختفي ونلوذ أنت وأنا بالصمت.
دعني أسالك عن مطار جدة القديم, رئة المدينة, أحتى الآن لا تعلم أنه توزع كمنح تقدم مجاناً لتباع مخططات تدل على النهضة العمرانية الشاملة؟ وسكت أنت وأنا.
لم يقل أحدنا إن هذا غلول حُرم حتى على الأنبياء (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) ولم نخبرهم أن هناك شملة أخذت من المال العام يجرجر بها آخذها في النار إلى يوم القيامة, إنها شملة وليست مخططاً.
ولكن ليس كل الطبقة الوسطى سكتت، بل والحق يقال إن بعضهم قد تكلم, لكن ليته لم يتكلم, فقد تكلم باطلاً.
بل من نكد الأيام أن كلامه كان كي يدل على الأراضي المتاحة بكروكياتها أو يساعد على تسويقها أو تطويرها وتعميرها, يخالف النظام وينتهك ثغراته نهاراً ويتحدث عن الوطنية والحق والعدل ليلاً.
أنت وأنا تقاعسنا عن أداء واجب النصيحة, والنصيحة هي الدين. وعطلنا شعيرة من أهم شعائر الإسلام وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحصرناها في العبادات وسكتنا عن الإقطاعات والمخططات. سكتنا ولمْ نتدبر لمَ خلق الله لنا اللسان, أللبلع وقصائد الاستجداء؟ ولمَ خلق لنا القلم, ألكتابة معاريض الاسترحام ومقالات التلاحم؟.
أخيراً أقول, لابد أن هناك من كان يقدم لأصحاب المخططات الواسعة المبررات القانونية بل حتى والمسوغات الشرعية, لكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسم الأمر بأوجز عبارة فقال: الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس.
فقل لي بربك لماذا ينشرون أسماء أصحاب المنح بمساحة 400 متر في أبعد مكان ولم ينشروا اسماً واحداً لمن أخذ مساحات أكبر بكثير في أجمل مكان؟ أجبني, لماذا لم تنشر أسماء من أخذ الأرض؟ لكني أقسم لك برب السماء والأرض، أقسم لك بمن رفع السماء فسواها وخلق الأرض فدحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها, كل الأسماء ستنشر يوم تنشر الصحف.
لذا بعد كل هذه الحيثيات، لابد أنك قد اقتنعت بأن ديات هؤلاء الغرقى وتعويضاتهم هي في ذمتك أنت وأنا.
فصمتنا هو الذي قتلهم وليس السيل. ثم اعلم أن دفعنا للديات والتعويضات لا يكفي لإبراء ذمتنا, بل يجب علينا التوبة والاستغفار عن الذنب, ذنب الصمت. فالصمت أحياناً هو أعظم الذنوب.