المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العُذْرُ بالجَهْل ِوقيامُ الحُجَّةِ - مهم جدا



قائد_الكتائب
29 Oct 2009, 12:42 AM
العُذْرُ بالجَهْل ِوقيامُ الحُجَّةِ
ـ مبدأ العذر بالجهل
:قبل أن نخوض في الحديث عن الجهل الذي يعذر والجهل الذي لا يعذر لا بد أولاً من أن نثبت مشروعية العذر بالجهل من حيث المبدأ، ونجيب على سؤال يقول : هل الجهل من الأعذار المعتبرة شرعاً؟
نقول: الحمد لله رب العالمين. فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبار الجهل المعجز عذراً من الأعذار الشرعية التي يعذر بها المرء، وتقيل عثرته في حال وقوعه ـ بسببها ـ في الخطأ، سواء كان هذا الخطأ في المسائل الفرعية أو المسائل العملية أو كان في المسائل الأصولية العقدية .. لا فرق بين ذلك كله.
من هذه الأدلة:
1- أن التكليف الذي يحاسب عليه المرء ـ في الدنيا والآخرة ـ هو التكليف الموافق لحدود القدرة والاستطاعة، فما زاد عن حدود الاستطاعة والقدرة لا يُطالب بالإتيان به ولا يأثم على تركه، والعكس إذا حصل التقصير والإهمال فيما يستطيع المرء على إتيانه والقيام به، فهو حينئذٍ يأثم ويطاله الوعيد على تقصيره وتفريطه فيما يقدر عليه.
لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة:286. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن:16.
قال ابن كثير في تفسير قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة:286. أي لا يُكلَّف أحد فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ا- هـ .
وفي الحديث قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مه القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه[1].
من هذه النصوص استخرجت القاعدة الفقيهة التي تقول:" الميسور لا يسقط بالمعسور ".
وقد صاغها العز بن عبد السلام بقوله: إن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه[2].
وعليه نقول: حيثما توجد الاستطاعة والمقدرة على التعلم وطلب العلم ودفع الجهل، يُرفع العذر بالجهل. وحيثما تعدم الاستطاعة والمقدرة على التعلم وطلب العلم الذي يندفع به الجهل، يوجد العذر بالجهل.
قال ابن تيميه: إن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق، فقصر فيه، لم يكن معذوراً [3].
وهذه قاعدة يدور عليها رحى مبدأ العذر بالجهل .. وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجميع موانع التكفير الأخرى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

2- قضت حكمة الله عز وجل، أن لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليه؛ فمن كان خطؤه ناتجاً عن عدم بلوغ العلم إليه؛ لا العلم يصله ولا هو يستطيع أن يصل العلم؛ كالذي يكون حديث عهد في الإسلام، أو كالذي يسكن في منطقة نائية لا تتوفر فيها العلوم الشرعية كالبادية وغيرها، فهذا لو أخطأ فإنه معذور بخطئه إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية وتبلغه نذارة الرسل، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء:15.
وقال تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء:165.
وقال: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} الملك:8-9.
وقال تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}الأنعام:130.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} طـه:134.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :" لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين ".
قال ابن كثير في التفسير: إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه .. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله -عز وجل- لا يدخل النار أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه [4]ا- هـ.
وقال البغوي: وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب، وإنما يكون مذنباً إذا أمر فلم يأتمر أو نهي فلم ينته، وذلك بعد إنذار الرسل [5]. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسول[6]ا- هـ.
وفي تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} الأنعام:131. قال الشوكاني: المعنى أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم ، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم [7].
قلت: إذا كان الله -سبحانه وتعالى- لا يعذب عباده في الحياة الدنيا ـ وهو العذاب الأدنى ـ إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فمن باب أولى ـ كما دلت على ذلك نصوص عدة ـ أن لا يعذبهم العذاب الأكبر يوم القيامة إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فيقابلونها بالرد والإعراض.
قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 2/336-338: والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز في الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولاً، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.
ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة، كقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الملك: من الآية9.
وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} الزمر:71.
ومعلوم أن لفظة "كلما " في قوله:{كلما ألقي فيها فوج} صيغة عموم، وأن لفظة " الذين " في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}صيغة عموم أيضاً، لأن الموصول يعم كل ما تشمله صلته ا- هـ.
وقال رحمه الله 3/473:{وسيق الذين كفروا} عام لجميع الكفار، وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم في كل ما تشمله صلاتها .. إلى أن قال: وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا؛ فعصوا أمر ربهم كما هو واضح ا- هـ.
وفي قوله تعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} قال كذلك رحمه الله ـ أي الشنقيطي ـ: هذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحداً إلا بعد أن ينذره في الدنيا ..
ومعلوم أن قوله جل وعلا:{كلما ألقي فيها فوج} يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في " البحر المحيط " في تفسير هذه الآية التي نحن في صددها ما نصه: و" كلما " تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين ا- هـ.
قلت: والمراد بالعموم هنا؛ أي جميع من يدخلون النار ـ من أهل الكفر ـ ومن دون استثناء فإنهم يقرون ويعترفون أن نذارة الرسل قد بلغتهم فقابلوها بالرد والإعراض، والجحود .. وأنهم ما دخلوا النار إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. ومما يدل على ذلك قوله تعالى:{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} أي جميع وعموم الذين اتقوا ربهم من دون استثناء .. وهي نفس صيغة العموم الواردة في قوله تعالى:{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا} فكما لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله {وسيق الذين اتقوا ..} بعض أو غالب الذين اتقوا وليس كل الذين اتقوا، كذلك لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله تعالى {وسيق الذين كفروا ..} بعض أو غالب الذين كفروا؛ لتطابق الآيتين واللفظين من حيث صيغة العموم العامة والشاملة لجميع الذين اتقوا وجميع الذين كفروا.
قال الألوسي في التفسير: واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم .. وقيل وجه الاستدلال: إن الخطاب للداخلين عموماً يقتضي أنهم جميعاً أنذرهم الرسل، ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} قّ:28. أي قدمت إليكم بالوعيد والنذر عن طريق رسلي الذين أرسلتهم إليكم .. قبل أن تقفوا هذا الموقف العصيب الأليم، وتختصموا فيه .. وبالتالي فإن اختصامكم وتلاومكم الآن ـ وبعد أن فات الأوان ـ لا ينفعكم في شيء.
قال ابن جرير:{وقد قدمت إليكم} في الدنيا قبل اختصامكم هذا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي، في كتبي وعلى ألسن رسلي.
قال ابن عباس: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم [8].
وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}غافر:49-50.
قوله تعالى:{وقال الذين في النار ..} هي أيضاً من صيغ العموم التي تفيد الاستغراق والعموم التي تعم جميع الذين في النار؛ أي قال جميع الذين في النار ومن دون استثناء {بلى} قد جاءتنا رسلنا بالبينات والنذر والآيات..!
قال الألوسي في التفسير:{وقال الذين في النار} من الضعفاء والمستكبرين جميعاً لما ضاقت بهم الحيل، وعيت بهم العلل .. ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}الأنعام:130.
قوله تعالى:{وقالوا شهدنا على أنفسنا} أي شهدوا على أنفسهم أن حجة الرسل قد بلغتهم .. وهذا خطاب موجه لجميع الإنس والجن يفيد كذلك العموم لا الغالب؛ لأن الجمع المعرف بأل يفيد العموم والاستغراق؛ أي جميع الجن والإنس يعترفون ويقرون بأن نذارة الرسل قد بلغتهم.
قال ابن كثير في التفسير:{شهدنا على أنفسنا}أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ا- هـ.
قال ابن تيميه: من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يُعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ..
والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أ ن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكونه هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر ولهذا اتفق الأئمة على أنه من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره، حتى يعرف ما جاء به الرسول[9].
وقال ابن حزم في الأحكام 5/104-114: وأما شرائع الأبدان والاعتقاد فإنها تجب بوجهين: أحدهما البلوغ مبلغ الرجال والنساء، وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا، والثاني بلوغ الشريعة إلى المرء.
وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام، وسواء علم أن فيه حداً أم لا، وهذا لا خلاف فيه. وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه، وبرهان ذلك قوله تعالى:{ْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ}الأنعام:19.
فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء، وقال تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}. فأمر أن يهدر فعل الجاهل، إلى أن قال: أما من لم يبلغه ذكره -صلى الله عليه وسلم-، فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار، فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك. قال الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء:15. فصح أنه لا عذاب على كافر أصلاً حتى تبلغه نذارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ا- هـ.

3- ومن الأدلة الدالة على العذر بالجهل أيضاً، خطاً الحواريين – في أول عهدهم – وجهلهم بصفة ربهم أنه تعالىعلى كل شيء قدير، وكذلك شكهم بمصداقية نبوة عيسى عليه -عليه السلام-، كما أخبر الله تعالى عن قولهم : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} المائدة:113.
قال ابن جرير: في قوله تعالى: {قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين}، قال عيسى للحوارين: راقبوا الله أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكهم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين، يقول: إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم {هل يستطيع ربك} .
وفي قوله : {ونعلم أن قد صدقتنا}، قال: فقد أنبأ هذا عن قولهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختباراً [10].
وقال ابن حزم: فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله -عز وجل- عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى -عليه السلام- هل يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدة من السماء ؟!
ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا مالا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيُّنهم لها [11] .
فرغم أن الشك في أن الله -عز وجل- على كل شيء قدير هو كفر، وكذلك الشك بمصداقية نبي الله، إلا أن الحوارين لم يكفروا وعذروا بالجهل لحداثة عهدهم بالإسلام وبنبيهم عيسى -عليه السلام-.

4- وكذلك الذين قالوا ـ من بني إسرائيل ـ لموسى -عليه السلام-: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}الأعراف:138. أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل [12]. لأجل ذلك لم يكفروا ولم يأمر موسى -عليه السلام- بقتلهم أو استتابتهم من الردة، رغم أن قولهم وسؤالهم موسى أن يجعل لهم إلهاً مع الله كفر بواح لا شك فيه.
ونظير قولهم قول جهال المسلمين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!! وتمام الحديث كما في صحيح سنن الترمذي وغيره، عن واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم فتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فرغم أن قولهم قول كفري وهو شبيه بقول بني إسرائيل {اجعل لنا إلهاً} إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم لجهلهم وحداثة عهدهم بالإسلام .
ومما يستفاد من الحديث أيضاً " أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر "[13]، ومن نهي عنه فلم ينته رغم قيام الحجة عليه فإنه يكفر.

5- ومنها أيضاً، قصة الرجل الذي أسرف على نفسه، فأمر أهله عند الممات أن يسحقوه ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر،ظناً منه أن الله لن يقدر على جمعه وإعادته لو فعل به ذلك، وهذا كفر، لكن لجهله وخشيته من الله فقد عفى الله عنه.
قال ابن تيميه: والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره .. فغاية ما في هذا أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من صفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافراً[14].
وقال ابن حزم: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله -عز وجل- يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله. وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي؛ إنما هو لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه}. وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى[15].
قلت هذا التأويل الباطل للحديث ـ الذي يشير إليه ابن حزم ـ يتبناه من لا يرى الجهل عذراً في الشريعة مطلقاً، ظناً منه أن ذلك يبطل الاستدلال بالحديث على مبدأ العذر بالجهل !
قال ابن القيم: وأما جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ عمله، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً[16].
فإن عرفت ـ من خلال ما تقدم من أقوال أهل العلم ـ أن المانع من كفر ذلك الرجل الذي أمر أبناءه بأن يحرّقوه .. كان الجهل والخشية .. فلك أن تعجب من كلام الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ عندما جعل المانع من كفر ذلك الرجل هو أنه لم يكن كفره الذي تلفظ به وأمر به أبناءه معقوداً أو مقصوداً في القلب، حيث قال كما في شريطه الكفر كفران:" هذا الرجل حينما ظهر منه أنه ينكر قدرة الله على جمعه، وعلى بعثه ثم على تعذيبه بناء على أنه لم يعمل خيراً قط، لما ظهر منه هذا، هذا كفر، إذاً ما جوابنا على قوله تعالى:{ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وهذا كفره ومع ذلك قد غفره ؟ الجواب: أنه كفر لم يكن مقصوداً في القلب، لم يكن معقوداً في القلب .." ا- هـ.
قلت: ومرد هذا التفسير الخاطئ للشيخ هو فساد أصوله في الإيمان والوعد والوعيد .. كما بيناه ورددنا عليه في كتابنا " الانتصار لأهل التوحيد .."، وغيره من الأبحاث ذات العلاقة بالموضوع.

6- ومن الأدلة كذلك على العذر بالجهل، حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- حيث قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي:" يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك "، فطرحته فلما انتهيت إليه وهو يقرأ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، حتى فرغ منها، قلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال:" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويُحلون ما حرم الله فتستحلونه "، قلت: بلى، قال:" فتلك عبادتهم "[17].
يُستفاد من الحديث الفوائد التالية:
1- أن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً مقراً بالشهادتين .. لأنه كان قبل ذلك مهدور الدم، وما عصم دمه إلا إسلامه.
2- أن عدياً كان قد تنصر، وكان حديث عهد بالكفر؛ أي أنه كان عاجزاً عن معرفة كل ما يدخل في التوحيد ومتطلباته من أيامه الأولى من لإسلامه؛ أي أنه كان معذوراً بالجهل ..
3- بسبب ما تقدم فقد وقع عدي -رضي الله عنه- بنوعين من الشرك الأكبر، كل واحد منهما يُخرج صاحبه من الملة لو اقتُرف من غير جهل بالنص الشرعي الذي يفيد التحريم، لكن عدياً لم يكفر بعينه لمانع الجهل المعتبر بالخطاب الشرعي:
أولهما: ارتداؤه الصليب .. وهذا شرك أكبر، لذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوثن الذي يُعبد من دون الله -عز وجل- .. ومع ذلك فقد اكتفى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن قال لعدي:" اطرح هذا الوثن من عنقك "، من دون أن يحكم عليه بعينه أنه كافر أو قد كفر وارتد، وعليه أن يدخل الإسلام من جديد بتلفظ الشهادتين ..
ثانياً: أن عدياً كان يجهل أن طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم من دون سلطان من الله .. يدخل في معنى العبادة التي لا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الله تعالى، وأنه من الشرك الأكبر .. إلى أن بين له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وعلمه أن طاعة الأحبار والرهبان، والتحاكم إليهم من دون الله تعالى في التحليل والتحريم هو عبادة لهم وشرك بالله تعالى .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد، أو يُلزمه بضرورة تجديد إسلامه وإيمانه ..!
ونحو ذلك سجود الصحابي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ظناً منه أن ذلك يجوز أن يُصرف للنبي -صلى الله عليه وسلم- .. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاه عن ذلك واكتفى بتعليمه بأن السجود عبادة وهو لا يجوز أن يُصرف إلا لله -عز وجل- وحده .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد!
وأيضاً عندما حلف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأبيه، فنهاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وبين له أن من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت[18].
فرغم أن الحلف بغير الله شرك، كما في الحديث:" من حلف بغير الله فقد أشرك "، إلا أن عمر -رضي الله عنه- لم يكن يعلم وقتها أن الحلف بغير الله تعالى من الشرك .. لأجل ذلك فقد عُذر.
وكذلك قول الصحابي للرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت ! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده ".
فرغم أن المقولة كفر وشرك إلا أن الصحابي لجهله وعدم علمه أن هذه هذه المقولة تندرج تحت الشرك، كان بذلك معذوراً ولم يكفر بعينه.
وكذلك النفر من الصحابة – وعلى رأسهم قدامة بن مظعون – الذين تأولوا قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}المائدة:93.[19] فقالوا ليس علينا جناح لو شربنا الخمر؛ لأننا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. فشربوها واستحلوا شربها، وهذا كفر لاستحلالهم ما حرم الله تعالى، إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم قبل القيام الحجة عليهم، لوجود التأويل والجهل بسبب نزول الآية، وظنهم أن الآية يستفاد منها إباحة الخمر لمطلق من آمن وعمل الصالحات[20].
فهذه القصة ـ وجميع ما تقدم من أدلة ـ تصلح كدليل على العذر بالجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه إلا ببلوغ الخطاب الشرعي.
قال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 7/605: وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة تحريمها كالفواحش، والظلم، والكذب، والخمر، ونحو ذلك.
وأما من لم تقم عليه الحجة، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك فإنهم يُستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ ٍٍِ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيه من التأويل ا- هـ.
وكذلك الصحابي الذي أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- خمراً، فهذا قطعاً كان يعتقد حلها ـ وهذا كفر ـ إلا أنه كان يجهل أن الله قد حرمها، لذلك عذره الرسول -صلى الله عليه وسلم- لجهله بالتحريم، وبين له حرمتها من دون يوبخه أو يكفره، بل اكتفى بتعليمه فقال له:" هل علمت أن الله -عز وجل- حرمها؟"[21].

7- ومن الأدلة أيضاً، قوله -صلى الله عليه وسلم- :" يَدْرِسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله -عز وجل- في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
قال صلة بن زفر لحذيفة – وهو راوي الحديث – ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار، ثلاثاً[22].
من فقه الحديث: الإعذار بالجهل، فلا إله إلا الله تنجيهم لأنهم جهال لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة، وهم يقولون لا إله إلا الله تقليداً وتبعاً لآبائهم .. لأنهم يعيشون في زمان رُفعت فيه الشريعة، واندرست فيه جميع تعاليم الإسلام، حتى شهادة أن محمداً رسول الله![23].
ومعلوم أن من كان هذا هو حاله، لو كان يعيش في مجتمع استفاضت فيه تعاليم الإسلام وسهل فيه طلب العلم لمن يريد، ومن اليسير عليه أن يعبد الله تعالى بما فرض عليه، وبالصورة الصحيحة المشروعة .. ثم هو مع ذلك لا يأتي بشهادة أن " لا إله إلا الله" إلا لفظاً وتقليداً للآباء، من دون أن يعي متطلباتها أو يأتي بشيء من فرائض الإسلام وواجباته .. فإن من كان هذا هو حاله ووصفه لا تنفعه لا إله إلا الله ولا تنجيه، لانعدام العذر؛ وهو الجهل المعجز وعدم التمكن من العلم.
لذا من الخطأ الشنيع الاستدلال بالحديث على الأزمنة والأمكنة التي استفاضت فيها العلوم الشرعية وسهل فيها طلب العلم لمن نشده وأراده .. كما هو حال أهل التجهم والإرجاء، ومن تأثر بمنهجهم الفاسد، ويُقال: من أتى بلا إله إلا الله لفظاً وتقليداً للآباء، فإنها تنفعه وتنجيه من النار، وإن لم يأت بشيء من أركان وواجبات الإسلام، ولا حتى بشيء من متطلبات التوحيد وشروطه ..!
ومن الاستدلالات الفاسدة للشيخ ناصر بهذا الحديث انتصاراً لمذهبه الفاسد في الإيمان، قوله في السلسلة 1/130: هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة، وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود من النار يوم القيامة ولو كان لا يقوم بشيءٍ من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها .. فهذا نص من حذيفة -رضي الله عنه- على أن تارك الصلاة، ومثلها بقية الأركان ليس بكافر، بل هو مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة، فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان!"ا- هـ.
قلت: تعميم العذر على كل زمان ومكان خطأ ظاهر وهو بخلاف ما يدل الحديث عليه من حصر العذر لأناس معينين لهم صفات معينة، وفي زمان معين اندرست فيه تعاليم الإسلام ..!
كما أن هذا التعميم في العذر ـ لكل أحد وفي كل زمان ومكان ـ لم يقل به سلف معتبر .. وقد صدق الشيخ لما قال:" احفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان " لأنه قول محدث غريب لم يقل به السلف ولا عالم معتبر .. وهو بخلاف ما تدل عليه ألفاظ الحديث، ومهما قلبت صفحات كتب السلف الصالح وأقوالهم فإنك لن تجد هذا القول الذي قاله الشيخ ناصر .. لشذوذه وغرابته، وبعده عن دلالات نصوص وروح الشريعة!
وردنا على الشيخ هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ". وقوله -صلى الله عليه وسلم-:" وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".

8- ومنها ـ أي من جملة الأدلة على العذر بالجهل ـ الحديث الذي يرويه الأسود بن سريع، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال:" أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول ربِّ لقد جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، والصبيان يحذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أعقل شيئاً. وأما الذي مات في الفترة. فيقول: رب ما أتاني لك رسول.
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها" [24].
فهؤلاء الأربعة جميعهم يحتجون بالجهل، وأنهم كانوا عاجزين عن تحصيل العلم أو الوقوف عليه .. وإن كان جهل كل واحد منهم له سببه المختلف عن الآخر، إلا أن صفة الجهل مشتركة فيما بينهم لعدم تمكنهم من طلب العلم وفهمه أو إدراكه.
لذلك فالله تعالى يقبل ـ كرماً وتفضلاً منه -سبحانه وتعالى- ـ عذرهم ـ وكيف لا وهو -سبحانه وتعالى- لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ـ ويجري لهم اختباراً في عرصات يوم القيامة .. فمن كان في علم الله -عز وجل- أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيؤمن ويُتابع الرسل، ويعمل صالحاً، ييسر له أمره إلى النجاة، ومن ثم إلى الجنة. ومن كان في علم الله تعالى أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيقابلها بالرد والإعراض والجحود، ييسر له أمره إلى الهلاك والعذاب في نار جهنم .. وكل ميسر لما خلق له.
واعتراض البعض على صحة الحديث، لاعتبار أن دار الآخرة دار جزاء وحساب لا دار تكليف واختبار .. لا حجة لهم في ذلك.
وقد كفانا ابن القيم ـ رحمه الله ـ مؤنة الجواب، بعد أن ذكر الحديث وطرقه، فقال: فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشريعة وقواعدها، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في المقالات وغيرها. فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا دار ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟
فالجواب من وجوه: أحدها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم.
والثاني: أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.
الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام.
الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها، أن الله -سبحانه وتعالى- يأخذ عهوده ومواثيقه أ ن لا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، فيقول الله تعالى: " ما أغدرك ".
السادس: قوله: وليس ذلك في وسع المخلوقين. جوابه من وجهين: أحدهما، أن ذلك ليس تكليفاً بما ليس في الوسع، وإنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة وهو كتكليف بني إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه ناراً. الثاني: إنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاماً، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يُستطع.
السابع: إنه قد ثبت أنه -سبحانه وتعالى- يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعاً .. كما جعل قطع الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف سبباً، كما قال: أبو سعيد الخدري: " بلغني أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف" رواه مسلم.
فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة والله أعلم.
الثامن: إن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث .. فإن قيل: فالآخرة دار جزاء وليست دار تكليف، يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: إن التكليف إنما ينقطع بعد دخول القرار، وأما في البرزخ وعرصات يوم القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف، وأما في عرصة القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} . فهذا صريح في أن الله -عز وجل- يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به في الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم [25] ا- هـ.
ثم إن الاختبار الذي يجرى للأربعة الذين جاء ذكرهم في الحديث الآنف الذكر، مناسب من حيث صعوبة التكليف لما يحصل لهم من الإيمان واليقين القوي ـ الذي لا يلامسه أدنى شك ـ نتيجة رؤيتهم عين اليقين للآيات الباهرات يوم القيامة.
ومن كان بهذا اليقين ليس من الصعب أو المستحيل عليه أن يختبر في دخول النار طاعة وامتثالاً لأمر الله.
بل في الدنيا حصل أن بعض الصحابة ـ وهم لم يروا شيئاً من أهوال وآيات يوم القيامة ـ هموا بأن يلقوا بأنفسهم في النار طاعة لأميرهم، لولا أن تداركتهم رحمة الله تعالى فامتنعوا، وعلموا أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قصوا له ما حدث لهم:" لو دخلتموها لما خرجتم منها ".
فإذا كان مثل هذا يحصل في الدنيا .. وكاد الوقوع في النار أن يقع طاعة لأمر الأمير الذي هو عبد من عباد الله، فإنه لا يصح أن يُعتبر الاختبار ـ الذي يُجرى لذوي الأعذار الوارد ذكرهم في الحديث ـ يوم القيامة تكليفاً مستحيلاً، وغير ممكناً وهو فوق الطاقة .. مع العلم أن الآمر يومئذ هو الله -سبحانه وتعالى- المطاع لذاته -تبارك وتعالى-.

ـ خلاصة القول: بعد ذكر النصوص والأدلة الصحيحة الآنفة الذكر، ذات العلاقة بموضوع العذر بالجهل .. فقد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أو التساؤل، أن الجهل إذا توفرت دواعيه وأسبابه المعتبرة التي لا يمكن دفعها، فإنه يُعتبر في الشريعة الإسلامية عذراً يعذر صاحبه، ويُقيل عثرته، ويمنع عنه نزول العذاب والوعيد إلى أن تقوم عليه حجة الرسل، وتصله نذارتهم.
كما أن في الأدلة والشواهد الآنفة الذكر .. القدر الكافي لحسم شبهات المخالفين الذين لا يرون الجهل عذراً .. والحمد لله الذي تتم بفضله الطيببات الصالحات.

..........................................

[1] شرح العقيدة الطحاوية، ط المكتب الإسلامي، ص 271.
[2] قواعد الأحكام: 2/5.
[3] رفع الملام: ص114.
[4] 3/31.
[5] تفسير البغوي: 2/132.
[6] تفسير البغوي: 1/500.
[7] فتح القدير: 2/163.
[8] جامع البيان: 26/168.
[9] الفتاوى :11/406.
[10] جامع البيان:7/ 130-131.
[11] الفصل في الملل والهواء والنحل:3/253.
[12] تفسير ابن كثير: 2/ 253.
[13] تيسير العزيز الحميد، ص 185.
[14] الفتاوى:11/309-411.
[15] الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/252.
[16] مدارج السالكين: 1/339.
[17] عن تفسير البغوي: 3/285.
[18] تمام الحديث كما في الصحيحين: عن ابن عمر أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت".
[19] قال ابن تيمية في الفتاوى 11/403، في سبب نزول الآية: نزلت في سبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر – وكان تحريمها بعد وقعة أحد – قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر، فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين الصالحين ا- هـ.
[20] تمام القصة: عن علي -رضي الله عنه- قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يومئذ يزيد بن أبي سفيان، وقالوا: هي حلال، وتأولوا {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} فكتب فيهم إلى عمر، فكتب عمر -رضي الله عنه- أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نرى أنهم كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاضرب أعناقهم، وعلي -رضي الله عنه- ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن فيهم؟ قال: أرى أن تستيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين.( إكفار الملحدين في ضروريات الدين – ص 95).
[21] تقدم تخريج الحديث.
[22] صحيح سنن ابن ماجة :3273.
[23] هذا ما يقتضيه ظاهر الحديث.
[24] رواه أحمد، وابن حبان، صحيح الجامع الصغير: 881 .
[25] طريق الهجرتين، ص 397-401.

يتبعّ بإذن الله

الرحال99
29 Oct 2009, 12:52 AM
جزاك الله خير وبارك فيك


http://www.ii1i.com/uploads5/326dbe0ffe.gif

قائد_الكتائب
29 Oct 2009, 11:38 PM
جزاك الله خير وبارك فيك


http://www.ii1i.com/uploads5/326dbe0ffe.gif


بارك الله فيك اخي على ردك ونرجو المتابعة وقرأة الموضوع لأهمية هذة المسألة التي غفل عنها الكثير حتى من طلبة العلم ، فكان حال بعضهم ان وقعوا في افراط غلاة المكفرة وتفريط غلاة المرجئة وهم في الباطل سواء .
ولهذا كان لزاماَ علينا توضيح المسألة وتبيانها وتفصيلها .
هذا واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

قائد_الكتائب
29 Oct 2009, 11:55 PM
ـ تنبيه:
ممن لا يرون الجهل عذراً شرعياً، يفرقون بين الجهل في مسائل الأصول أو العقائد؛ وهو ما يعلم من الدين بالضرورة. وبين الجهل في مسائل الفروع أو المسائل العملية الغير معلومة من الدين بالضرورة.
ويقولون: من كان جهله في مسائل الأصول ـ أياً كان سبب جهله والظروف المحيطة به ـ لا يُعذر بالجهل مطلقاً؛ لأنه محجوج من جهة حُجج أخرى غير حجة نذارة الرسل .. أما من كان جهله في الفروع أو المسائل العملية .. فهو معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية من جهة نذارة الرسل.
أقول: هذا التفريق في الجهل إلى نوعين، جهل في الفروع يعذر وجهل في الأصول لا يعذر، لا أصل له عند السلف، وهو باطل يعلم بطلانه من سياق الأدلة الآنفة الذكر في إثبات شرعية العذر بالجهل، حيث اتضح أن الجهل حيثما وجدت أسبابه ودواعيه التي لا يمكن دفعها يعذر صاحبه، سواء كان جهله في المسائل الأصولية العقدية أو كان في مسائل الفروع العملية.
ومما يُرد به على هذه الشبهة:
1- أنه قول يعوزه الدليل من الكتاب والسنة .. فمثل هذا التقسيم لا يمكن إقراره، والقول به إلا بدليل صريح من الكتاب والسنة.
2- أن الأدلة من الكتاب والسنة التي تعذر بالجهل ـ الآنفة الذكر ـ جاءت عامة لجميع أنواع الجهل، من دون تفريق بين جهل وجهل، وتخصيصها بنوع من الجهل دون نوع يحتاج لدليل مخصص، وأنَّى ..!
3- أن من الأدلة الآنفة الذكر جاءت كدليل صريح على العذر في مسائل الأصول كما في حديث عدي بن حاتم، وغيره ..!
4- أنه قول محدث مردود لم يقل به الصحابة ولا السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وهو قول مأثور عن المعتزلة وغيرهم من أهل البدع والأهواء .. وعن بعض ممن تأثر بهم ـ وهو لا يدري ـ من أهل العلم ..!
ولشيخ الإسلام كلام مفيد في المسألة يحسن ذكره، حيث قال: أما التفريق ين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد -صلى الله عليه وسلم- هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟
وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.
وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه. أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
وقال: فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة.
وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: {بَلْ عَجِبْتَ} ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه. كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول:{بل عجبت} فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة.
وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وقال: إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا. وإنكار الآخر قراءة قوله:{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وقال: : إنما هي ووصى ربك. وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت. وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر.
وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دل على أن الله لا يعذب أحداً، إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعـض
التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية[1]ا- هـ.
قلت: ولكن الذي يمكن قوله، إن الجهل إذا عدمت دواعيه وتوفرت عوامل دفعه، من استفاضة للعلم الصحيح، وتواجد العلماء وغير ذلك، فإن الجهل فيما يجب تعلمه؛ كمتطلبات التوحيد ونواقضه، وكذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة واستفاض العلم فيه بين الناس كوجوب الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وكذلك تحريم الفواحش كالزنى والخمر وغير ذلك، فإن جاهل هذه الأمور ـ مع انعدام دواعي الجهل ومبرراته ـ لا يعذر بالجهل، بينما يعذر لو جهل بعض المسائل العملية الفرعية التي لا يجب تعلمها على جميع أفراد الأمة، والجهل فيها لا يترتب عليه إثم أو كفر وخروج من دائرة الإسلام.
في مثل هذا الموضوع لا بد من التفريق، ليس بين مسائل عقيدة ومسائل عملية، وإنما بين ما يجب تعلمه على كل فرد من أفراد الأمة، وبين مالا يجب تعلمه على جميع أفراد الأمة حيث يجزئ فيه علم الخاصة عن العامة، لذلك نقول: جاهل ما يجب عليه تعلمه ـ إذا عدمت أسباب ودواعي الجهل ـ لا يعذر بالجهل، بينما الآخر يعذر إلى أن يتعين بحقه طلب العلم[2].
ومن فرق من أهل العلم بين جهل يعذر وجهل لا يعذر هو على اعتبار مدى استفاضة العلم وسهولة طلبه والوقوف عليه لمن أراده .. وليس على اعتبار التفريق بين مسائل ومسائل .. فتراهم يقررون أن جاهل مسألة من المسائل لا يُعذر فيها بالجهل؛ لا لكون هذه المسألة من الأصول أو غير ذلك .. وإنما لكون هذه المسألة قد استفاض العلم بها استفاضةً مما يُرجح الظن باستحالة وجود الجاهل الذي يمكن أن يُعذر بالجهل في هذه المسألة..!
وفي المقابل تراهم يعذرون بالجهل في مسائل قد تكون من الأصول .. ولها مساس بالتوحيد .. لكثرة الجدال حولها .. ولرجحان الظن لديهم بإمكانية وقوع الخطأ أو الجهل المعذر فيها من بعض أفراد الأمة ..!
فالعلة التي تحملهم على التفريق بين مسألة ومسألة هو بالنظر إلى واقع كل مسألة ومدى احتمال حصول الجهل فيها .. ويتم ذلك بالنظر إلى جوانب عدة منها: طبيعة المسألة ذاتها هل يُحتمل فيها الجهل .. أم أن العلم فيها قد استفاض استفاضة يمنع من العذر بالجهل فيها..؟!
وهل هي من المسائل الكلامية الخفية والمحدثة .. أم أنها غير ذلك؟!
وهل هي من المسائل المحكمات .. التي لا تقبل إلا قولاً واحداً، وفهماً واحداً .. أم أنها من المسائل المتشابهات التي تحتمل أوجهاً من التفسيرات والتعليلات ..؟!
ومنها: النظر إلى البيئة .. هل هي بيئة علم .. يكثر فيها العلماء .. ويسهل فيها تحصيل العلم لمن ينشده .. أم أنها بيئة جهل وبدعة يكثر فيها أهل البدع والأهواء .. تحتمل إمكانية حصول الجهل بمثل هذه المسألة ..؟!
ومنها: النظر إلى الشخص ذاته .. هل هو من ذوي الكفاءات العقلية والعلمية المتقدمة .. أم أنه متخلف في ذلك .. وهل هو حديث عهد بالكفر أم لا .. وهل يملك القدرة على الطلب وشد الرحال أم لا .. وهل هو ممن يُحسنون العربية ـ لغة القرآن والسنة ـ أم لا ..؟!
فكل هذه الأوجه مجتمعة هي معتبرة عند أهل العلم عند تحديدهم لمن يعذر بالجهل ممن لا يُعذر .. والمسألة التي يُعذر فيها بالجهل من المسألة التي لا يُعذر فيها .. والله تعالى أعلم.

يتبع بإذن الله
........................................

[1] الفتاوى: 23 / 346. 12/492.
[2] كفريضة الحج، العلم بوجوبه واجب على الجميع، لكن العلم بكيفية أداء المناسك لا يجب على جميع أفراد الأمة إلا في حال توفرت الاستطاعة لديهم للقيام بهذه الفريضة، فحينئذ يتعين العلم بحق المستطيع منهم.

قائد_الكتائب
30 Oct 2009, 12:01 AM
التفريق بين الكافر الجاهل والمسلم الجاهل:
بعد أن أثبتنا بالأدلة مبدأ العذر بالجهل، وذكرنا أنه لا يوجد فرق بين جهل الأصول وجهل الفروع ـ من حيث العذر ـ إذا وجدت مبررات الجهل ودواعيه وأسبابه، وقبل أن نخوض في الحديث ـ على وجه التفصيل ـ عن مبررات الجهل ودواعيه، وبيان الجهل الذي يعذر وحالاته، والجهل الذي لا يعذر وحالاته، لا بد من التفريق ـ عند الحديث عن كل ذلك ـ بين الكافر الجاهل والمسلم الجاهل، حيث لكل منهما حالته المختلفة عن الآخر وبالتالي حكمه المختلف عن الآخر، وليس كل ما يصح أن يقال في الكافر الجاهل يصح أن يُقال ويحمل على المسلم الجاهل.
وإليك تفصيل ذلك:

قائد_الكتائب
30 Oct 2009, 12:33 AM
الكافر الجاهل.

اعلم أنه ما من مولود إلا ويولد على فطرة الإسلام، وملة التوحيد .. فالتوحيد فيه أصل فطره الله عليه، والشرك طارئ عليه مكتسب.
كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}الروم:30.
قال مجاهد:" فطرة الله" الإسلام. وكذلك قال ابن يزيد وابن عكرمة وغيرهم من أهل التأويل [1]. وفي قوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد: أي لدين الله.
وقال البخاري: قوله: {لا تبديل لخلق الله} لدين الله، خلق الأولين: دين الأولين، والدين الفطرة: الإسلام[2].
وفي الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وغيره، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟". ثم يقول أبو هريرة : و اقرؤوا إن شئتم {فطرة الله فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}، وفي رواية " حتى تكونوا أنتم تجدعونها ". أي تغيرون من خلقتها السوية فتجدعونها بالوشم والبتك، كما قال تعالى: {فليبتكن آذان الأنعام}النساء:119. كذلك توحيد الله والإيمان به تعالى فهو أصل فُطر عليه الإنسان، إلا أن شياطين الإنس والجن تجتاله عن دينه الإسلام وتحرفه إلى الشرك.
كما في الحديث:" إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ".
قال ابن تيميه: والإجماع والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلى على القول الذي رجحناه وهو أنهم على الفطرة ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان ومستلزمة له لولا العارض[3] .
ثم إن الناس بعد ذلك فريقان، لا ثالث لهما: فريق كافر، وفريق مسلم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} التغابن:2.
قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً[4].
والكافر: هو كل من أشرك مع الله آلهة أخرى، ولم يرض بالإسلام ديناً، كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}المائدة:72.
وقال تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام} آل عمران:19. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}آل عمران:85.
وكل كافر يطلق عليه ـ في الدنيا ـ حكم الكفر ويأخذ صفته، أياً كان سبب كفره سواء كان كفره ناتجاً عن عناد أو كبر أو إعراض أو جهل، فالكافر الجاهل ـ الذي لم تصله نذارة الرسل ـ لا يمنع جهله من أن يطلق عليه في الدنيا حكم الكفر ويأخذ صفته. كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}التوبة:6.
فوصفهم الله تعالى بالشرك رغم أنهم قوم جهلة لا يعلمون.
قال ابن جرير في التفسير: يقول تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان، ليسمعوا القرءان، وردك إياهم، إذا أبوا الإسلام، إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون مالهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله[5].
قال ابن قيم: الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله -سبحانه وتعالى- لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر: فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم[6].
لكن مما ينبغي الانتباه له، أن ما يميز الكافر الجاهل ـ لنذارة الرسل ـ عن غيره ممن كان كفره ناتجاً‌ عن عناد أو إعراض .. أن الأول لا تجوز مبادأته بالقتال أو الاعتداء على شيء من حرماته، قبل دعوته وإيصال نذارة الرسل إليه .. وقبل ذلك لا يشرع قتاله، ولا الاعتداء عليه في شيء.
كما في صحيح مسلم وغيره، عن سلمان بن بريدة عن أبيه، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال:" اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدة، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُّف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجاوبك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم".
وعن سهل بن سعد أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم خبير، فقال:" أين علي "؟ فقيل إنه يشتكي عينيه، فأمر فدعى له فبصق في عينيه، فبرأ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء، فقال:علي -رضي الله عنه-: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال:"على رسلك حتى تنزل بساحتك ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهتدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم "متفق عليه.
وعن فروة بن مسيل قال: قلت يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي و مدبرهم؟ قال:" نعم "، فلما وليت دعاني، فقال:" لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام"[7].
وعن ابن عباس: ما قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوماً قط إلا دعاهم[8].
قال الشوكاني: فيه دليل على وجوب تقديم الدعاء الكفار إلى الإسلام قبل المقاتلة، وفي المسألة ثلاث مذاهب: الأول: أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه وبه قال: مالك والهادوية وغيرهم وظاهر الحديث معهم. والمذهب الثاني: أنه لا يجب مطلقاً. والمذهب الثالث: أنه يجب لمن لم تبلغه الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، قال ابن المنذر: وهو قول جمهور أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث[9].
قلت: والصواب منها، المذهب الثالث الذي قال عنه ابن المنذر أنه قول جمهور أهل العلم؛ وذلك لأنه قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قد أغار على بني المصطلق وهم غارُّون[10]. وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذٍ جويرية بنت الحارث. متفق عليه.
وهذا يحمل على أن الدعوة بلغت بني المصطلق من قبل فجحدوها وردوها، عندها أغار عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دون نه يعلمهم أو ينذرهم.
وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال:" كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا غزا قوماً لم يغز حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك وإن لم يسمع أذاناً أغار بعدما يُصبح ".
فانتظار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأذان دلالة صريحة على أن الدعوة قد بلغتهم من قبل، فإذا لم يسمع أذاناً أغار على القوم وفاجأهم من دون سابق إعلام أو إنذار قريب.
لكن هناك سؤال يرد، وهو هل الدعوة يجب أن تبلغ جميع أفراد المعسكر الكافر ـ قادة وجنوداً ـ بأعيانهم حتى يشرع قتالهم في حال ردهم وجحودهم للدعوة؟ أم أنه يكفي إيصال الدعوة وقيام الحجة على قادتهم ورؤسائهم دون جنودهم؟
أقول: الصواب الذي دلت عليه السنة، هو أنه يكفي لقتال المشركين أن تبلغ الدعوة لقادتهم وزعمائهم، فإن جحدوها وقابلوها بالرد والإعراض، قوتلوا جميعاً هذا ما كان يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل الرسل إلى ملوك وقادة الكفار ليبلغهم دعوته ورسالته، فكان يكتفي بتوجيه الكتب إلى القادة والزعماء دون الجند والعامة، ورسالته -صلى الله عليه وسلم- الى هرقل عظيم الروم معروفة وهي مدونة في كتب الصحاح، جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران:64.
فاعتبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيام الحجة على هرقل ملك الروم، هو قيام للحجة على أمته ورعيته وجنده . ورد الحجة وجحودها من قبل ملكهم مبرر كاف لقتال كل من ينضوي تحت سلطانه من بني الأصفر وغيرهم.
وعن أنس -رضي الله عنه-، أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " مسلم.
فواضح من الحديث أن رسول -صلى الله عليه وسلم-، كان يكتفي لقيام الحجة على أمة من الأمم بأن يوجه كتبه ورسائله إلى ملوك ورؤساء تلك الأمم دون أفراد رعاياهم بأعيانهم.
لذلك أقول: رد الحجة ونذارة الرسل من قبل زعماء الكفار ورؤسائهم مبرر كاف لقتالهم وقتال جندهم وأقوامهم الذين هم تحت سلطانهم ـ كما قاتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهل الروم وغيرهم ـ على أنهم كفار رادون لدعوة الرسل، وهم في الآخرة في نار جهنم خالدين فيها أبدا، وكذلك على العموم لا التعيين [11] لاحتمال وجود بعض الأفراد الذين لم تصلهم دعوة الرسل، وقد سيقوا للقتال وهم يجهلون حقيقة الأسباب التي لأجلها يقاتلون المسلمين. فمثل هؤلاء رغم أنهم يقاتلون على أنهم كفار إلا أنهم يوم القيامة يعتبرون من أهل الفترة الذين يحتجون بالجهل لعدم بلوغ نذارة الرسل إليهم، حيث يجري اختبار لهم في عرصات يوم القيامة كما جاء في حديث الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة، وهم: الأصم، والأحمق، والهرم، ورجل مات في فترة.
لكن مما ينبغي الانتباه له هنا، هو أنه لا يجوز تعيين أحد بعينه على أنه من أهل الفترة المعذورين الذين لم تصلهم نذارة الرسل، ولم تقم عليهم حجج الله تعالى. فهذا مالا علم لنا به ولا إحاطة، وهو من الأمور المجهولة ـ بالنسبة لنا ـ التي يفوض أمرها إلى الله -جل جلاله-، ولا ينبغي لمؤمن الخوض فيما ليس من خصوصياته، ولم يُحط به علماً.
وكذلك لاحتمال وجود من بلغته نذارة الرسل، فآمن وصدق، لكن كان من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة، فأكره على الخروج لمقاتلة المسلمين ومثل هذا يقاتل لظاهره.
كما في حديث الذي يرويه ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس ابن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: افد نفسك وابن أخيك عقيل ابن أبي طالب ونوفل بن حارث وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله إني كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، فقال:" الله أعلم بإسلامك إن تكن ما تذكر حقا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك "[12]. فاعتبر الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظاهره، وهو وقوفه في صف الكفار ضد المسلمين، لذلك عامله معاملة بقية الأسرى الكفار وأمره بالفداء رغم ادعائه أنه مسلم.
ولكن ذاك المكره المشار إليه آنفاً، لو قتل فهو يبعث على نيته. كما في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري وغيره، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " العجب أن ناساً من أمتي يؤمُّون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم " فقلنا: يا رسول الله إن الطريق قد تجمع الناس؟ قال:" نعم فيهم المستصبر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم ".
ومن حديث أم سلمة: فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارهاً؟ قال:" يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ".
قال ابن حجر في الفتح 13/61: والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب والعقاب، بل يجازى كل أحد بعمله على حسب نيته.

ـ خلاصة القول: أن الكافر الجاهل المعذور بالجهل الذي لم تبلغه نذارة الرسل .. رغم حكمنا عليه بالكفر، وتسميتنا له بالكافر إلا أن ذلك لا يستلزم منا أن نجزم له بالعذاب يوم القيامة .. كما لا يعني أن نبادئه ـ في الحياة الدنيا ـ بالقتال أو بأي نوع من أنواع الاعتداء .. قبل أن تبلغه نذارة الرسل .. والله تعالى أعلم.

يتبع بإذن الله
.................................
[1] جامع البيان: 21/40.
[2] تفسير ابن كثير: 3/442.
[3] شفاء العليل: ص292.
[4] تفسير القرطبي: 18/123.
[5] جامع البيان: 10/80.
[6] طريق الهجرتين: ص413.
[7] أخرجه أحمد.
[8] رواه أحمد. قال الشوكاني: أخرجه أيضاً الحاكم عن طريق عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه عنه. قال في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
[9] نيل الأوطار: 1/231.
[10] أي غافلون .
[11] لكن لو حصل أن أحداً من المسلمين شهد لمعين من قتلى الكفار أنه كافر ـ بناء على ظاهره الراجح له ـ وهو يوم القيامة في النار جهنم خالداً فيها أبداً، وكان هذا المعين في الحقيقة غير ذلك وهو ممن يشملهم العذر.
أقول:لو حصل مثل ذلك، فهذا النوع من الخطأ يعذر صاحبه، ولا يصح حمله على حديث " المتألي على الله" لأن ظاهر هذا المعين أنه كافر وهو يقاتل في صف الكفار ضد المسلمين. ثم من ناحية فنحن مأمورون شرعاً أن نبشر قتلى الكفار وموتاهم بالنار.
كما في الحديث الصحيح:" حيثما مررت بقبر كافر فابشره بالنار" .( سلسة الأحاديث الصحيحية ). فلو فعلنا، وكان المبشر في الحقيقة ليس من أهل جهنم وهو ممن يشملهم العذر، فنحن معذورون لورود النص، ولامتثالنا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- .. ثم أن مجرد تبشيرنا له بالنار ـ وهو في علم الله ليس من أهل النار ـ لا يستلزم دخوله النار؛ لأن الحكم أولاً وآخراً لله تعالى وحده. والمسألة قد أوفيناها بحثاً في كتابنا " قواعد في التكفير" فانظره.
[12] أردت من الحديث الاستدلال على اعتبار الظاهر في القتال، وليس على اعتبار أن " العباس" من المكرهين المعذورين، فالعباس لم يكن من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً، لذلك عندما قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-" ولكن القوم استكرهوني " لم يعذره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ للإكراه شروطه، منها: أن لا يستطيع النفاذ بنفسه من سلطان الكفار قبل أن يساق مكرها لقتال المسلمين، والعباس كان ممن يستطيعون الهجرة والنفاذ من سلطان كفار قريش قبل أن يكره على قتال المسلمين في بدر.
والله تعالى أنزل في الذين قتلوا منهم في بدر آيات عدة، يبطل فيها عذرهم بالاستضعاف، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}النساء:97.
جاء في صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنه أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، فأنزل الله تعالى: {إن الذين توافهم الملائكة ظالمي أنفسهم}.
وقال تعالى فيهم أيضاً في سورة النحل:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} النحل:28، 29.
روى ابن جرير الطبري بسنده عن عكرمة، قال: كان ناس بمكة أقروا بالإسلام ولم يهاجروا، فأخرج بهم كرهاً إلى بدر، فقُتل بعضهم، فأنزل الله فيهم {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}. قلت: قول الله تعالى: {فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها} فيه دلالة على أنهم قتلوا كفاراً، لأن الخلود في نار جهنم من شأن من يموت كافراً وليس من شأن من يموت مسلماًً، والله تعالى أعلم