أبو محمد ..
29 Jul 2009, 07:48 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبعد
التفتَ الإمام عن اليمين والشمال مسلماً من صلاة الجمعة 14/4/1430هـ وأقبل بوجهه على المصلين ، وتحركت الجموع بين منصرف ومسند لظهره وقائم يتنفل ..
فقام من أمامي رجل أقرب للبدانة في الجسم ، توجه إلى الإمام وهمس بكلمات أظن أن الإمام نفسه لم يسمعها إلا أن الوضع للجميع كان ظاهراً أنه يطلب المكبر لإلقاء كلمة ،
أمسك بالمكبر وواجه عموم المسبحين فإذا به رجل قصير ذو لحية كثة طويلة اختلط بياضها الحديث بسواد يئن ، منبئٌ عن إيذانٍ برحيل .. واتسم على محياه علامة الثبات .
وبعد صمت قصير شد به الانتباه وحبس به الأنفاس وجلس به من كان قد قام للانصراف ،
انطلق لسانه بالبيان فإذا به يحذر الأمة من انتشار مرض خطير ، وداء عضال تفشى في الأمة هذا العصر ...
ويستمر بمقدمته التي حبست أنفاسنا ، والكل فضوله يقاتله ليعرف المراد من حديث الخطيب حتى أفصح بقوله :
إنه قول الناس :
أنا طفشان ، زهقان ، نكدان ..
وبأسلوبٍ أفصح الهموم والغموم ..
----
إذا عُرِفَ السبب بطل العجب ..
أسندتُ رأسي مُتكأً على متكئ المسجد ، وغبتُ في تلك اللحظات سابحاً في فكر بعيد لم أدري بنفسي إلا والصوت قد انقطع والخطيب يتنفل فأسرعتُ الخُطا إلى محل عملي ، فأنا أعمل بلا انقطاع ولا عطل رسمية حتى في أعياد المسلمين .
سارعتُ الخُطا مستمراً في بحر الأفكار المتلاطمة.
هل هذا الرجل يعي ما يقول ؟!
لقد يظهر واضحاً على هيئته اليسر والراحة النفسية والبدنية ..
فهل هؤلاء يعقلون ما يقولون ؟
أيظنون أن الأمة جمعاء تعيش كحالهم ، حتى يصف أصحاب الهموم على العموم بضعف الإيمان والابتلاء بمرض العصر ؟
حقاً إني لأعجب .
وكيف لا أعجب وحق لي العجب .
أيستوي هذا وذاك ؟ .
دعنا من مثاليات من لم يعش حياة الكدر ، ولم يعي الجمع بين نصوص القدر ..
والله لقد سئمت أمثال هؤلاء الوعاظ الذين تخالف فعالهم أقوالهم ،
أَتَذكرُنِي – قبل سُنيَّاتٍ معدودة من هذا الحدث - وأنا في مسجد أستمع لأحدهم وهو يحدث عن الزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة ، في كلام شجي يبعث على الإحساس بالرقي الروحي ، والارتقاء إلى مراتب التوكل الحقيقي واليقين ..
ويصفعني واقعي للعودة إلى عملي في محل تجاري وإذ بالخطيب يدخل إلى المحل ليعانق صاحب المحل فإنه صديقه ، ولك أن تتخيل الحديث الذي لم ينقطع حول زيادة الدخل وطرق التجارة والكسب الحلال !!
الله المستعان ..
الرجل دخله أضعاف أضعاف دخل الفرد العادي في المجتمع ، ويملك بيتاً وسيارة ومتزوج وله أولاد ولأبيه عقار وعمارة يمتلكها . فماذا بعد ؟!
ولماذا إذاً يعظ الناس في الزهد في الدنيا ؟!
لا .... لا ،،
أرجوكم لا تفهموني خطأً ،
أنا لست معارضاً للدعوة إلى الخير .
والوعظ بالقربات ولو ممن لا يفعلها ..
ولكنَّ نفسي لا تقبل مثل أولئك الذين يدعون إلى خير لا يأتونه ..
نعم قد يُهدى على يديه ويُنتفع به ولو كان هو بعيداً عما يقول .
ورد عن ابن الجوزي – فيما نقله العثيمين في شرحه لرياض الصالحين - أنه جاءه عبد يطلبه أن يعظ الناس في فضل العتق لما لابن الجوزي من تأثير في الوعظ مشهور ، وكان سيد العبد ممن يحضر للشيخ فأراد العبد أن يسمع سيده الموعظة في فضل العتق فيعتقه
فقبل الشيخ ووعده خيراًَ ، إلا أنه تأخر ما شاء الله أن يتأخر فجاءه العبد عاتباً أو مذكراً ،
فأجابه الشيخ بأنه لم يملك بعد عبداً ليعتقه ، وأنه لا يحب أن يعظ الناس بشيء لم يفعله ،
ثم لبث ما شاء الله حتى تمكن من العتق فوعظ فأبلغ وتحقق ما تمناه العبد إذ تأثر سيده فمن عليه بالعتق .
نعم فهذه الصور حقيقية ولكنها قديمة مهترئة بعامل الزمن ، إذ الجديد وللأسف سريع العطب .
------
هل أُفْصِح لك فأقول أني لا أرى زاهداً حقيقياً في هذا الزمن ،، وأن وعاظنا أراهم يعظون بغير ما يفعلون ،،
لم أتعرف على أحد إلا وجدته يهدر ، ويسعى لزيادة الدخل ..
أليس هذا هو مرض العصر الحقيقي ؟
أين نحن عن الزهد والزهاد والتفرغ للطاعات ،،
أنا لست ضد زيادة الدخل والسعي لها ،
ولست أمنع الوعظ من واعظ لم يعمل بوعظه
ففي حديث أسامة رضي الله عنه في ذاك الآمر بالمعروف ولما يأتيه ، والناهي عن المنكر ويأتيه .. قد انتفع بالرجل أقوام فهذا خيرٌ وإن كان هو لم ينفع نفسه فأمر آخر ..
وقال أحمد بن حنبل : أكذب الناس القصاص ، والسؤال ، وما أحوج الناس إلى قاص صدوق ؛ لأنهم يذكرون الموت ، وعذاب القبر
قيل له : أكنت تحضر مجالسهم قال : لا .
ذكره ابن الحاج في المدخل .
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح عنه رحمه الله قال : القصاص الذي يذكر الجنة والنار والتخويف ولهم نية وصدق الحديث ، فأما هؤلاء الذين أحدثوا من وضع الأخبار والأحاديث فلا أراه ، قال أبو عبد الله : ولو قلت أيضا إن هؤلاء يسمعهم الجاهل والذي لا يعلم فلعله ينتفع بكلمة أو يرجع عن أمر ،
كان أبو عبد الله يكره أن يمنعوا أو قال ربما جاءوا بالأحاديث الصحاح أ.هـ
فهو يذكر سوء القصاص ويكره منعهم للفائدة .
-------
يالنفسي السيئة ، الأمارة بالسوء ما الذي جرني إلى هذا الحديث ولست أقصده
عودة على ذي بدء
عودة إلى واعظنا حول الهموم - مرض العصر ،
إن هؤلاء الذين يبالغون فيما لا يفقهون ، تدعوني نفسي أحياناً تحميلهم تبعة سوء فهم كثير من المثقفين جمال ديننا وروعته ,
إذا نظرت إلى هذا المتكلم المرغب بالزهد والزهاد والمرهب المشنع على مرضى الهموم تراه لا يعرف عن هذا إلا في الكتب ، فهو ذو مال وصحة قد حاز الدنيا ..
صلى الله عليك يا نبي الله القائل : (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (الصحيحة 2318).
صلى الله عليك يا نبي الله القائل : ( أربع من السعادة : المرأة الصالحة ، و المسكن الواسع ، و الجار الصالح ، و المركب الهنيء .
و أربع من الشقاء : الجار السوء ، و المرأة السوء ، والمركب السوء والمسكن الضيق ) . (الصحيحة282)
فهل عرفت حال غيرك حتى تنغص عليه بدعواك ..
وهلا تفقهت قبل أن تسود وتهرف بما لا تعرف .
فصلى الله عليك يا نبي الله القائل : (إذا أصاب أحدكم غم أو كرب فليقل : الله ، الله ربي لا أشرك به شيئاً ). (الصحيحة 2755)
وصلى الله عليك يا نبي الله القائل : (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال) متفق عليه
والقائل في دعاء الكرب : (ما أصاب أحداً قط هم و لا حزن ، فقال : اللهم إني عبدك و ابن عبدك و ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي و نور صدري و جلاء حزني و ذهاب همي .
إلا أذهب الله همه و حزنه و أبدله مكانه فرجا .
قال : فقيل : يا رسول الله ألا نتعلمها ؟
فقال : بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ) ( الصحيحة 199)
ولا نجد في أخباره - صلى الله عليه وسلم - سوى الإرشاد للعلاج ، والإقرار بورود هذا المرض على الأخيار من غير تعنيف .
-------
لقد كان الأوائل حياتهم قريبة يسيرة والتزاماتهم قليلة ، إن الشخص منهم إذا عمل نهاره أتى بقوت يومه ، ولا يفكر في غده ، وإن فكر وإن وسع فلا زالت حياتهم يسيرة ..
إننا في زمن كمالياته أضحت ضروريات ،
البيت مستأجر ، فهل لك أن تبني في أي بقعة ما يؤيك وأسرتك ؟ .... لا !
وللبيت كهرباء وماء ودورة مياه وصرف صحي ..
الاتصالات ..
المدارس النظامية ومستلزماتها من لبس وأدوات وخلافه ،
المأكولات بل حتى الحفائظ ، طفلك يأكل بمال ويتغوط بمال .
الموصلات ومتطلبات المراكب والسيارات ..
ضرائب الدولة ..
وإذا أردت الخروج والاغتراب بحثاً عن المعيشة لم يتيسر الأمر للحدود والجوازات ..
أمور وتعقيدات فرضتها الحياة العصرية ..
ثم بعد هذا يأتي من أنجاه الله من هذا كله وفتح له من أبواب الرزق مالا يحتاج معه إلى بعض هذا الهم والكدر فيدعو الناس بما لو كان عليه ما أدري كيف كان ..ويصفهم بضعف الإيمان !!
------
إن التوكل الحقيقي واليقين الشرعي مطلب عزيز لم يصل إليه سوى بعض القوم وليس من الحكمة دعوة العوام لمراتب الكمال فقد أنكر السلف لصاحب الصغائر أن يسأل ويتورع في الدقائق كما في فعل ابن عمر رضي الله عنه مع أهل العراق في دم الحسين ،
قال ابن رجب في جامع العلوم :
((وهاهنا أمر ينبغي التفطنُ له وهو أنَّ التدقيقَ في التوقف عن الشبهات إنَّما يَصْلُحُ لمن استقامت أحواله كلها ، وتشابهت أعمالُه في التقوى والورع ،
فأما مَنْ يقع في انتهاك المحرَّمات الظاهرة ، ثم يريد أنْ يتورَّعَ عن شيء من دقائق الشُّبَهِ ، فإنَّه لا يحتمل له ذلك ، بل يُنكر عليه ،
كما قال ابنُ عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلُوا الحسين ، وسمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول :هُمَا رَيحَانَتاي من الدُّنيا )) انتهى المراد منه ..
إن قول بعض السلف – وينسب لإبراهيم بن أدهم - لمن رآه مهموماً :
إني سائلك عن ثلاث فأجبني :
قال سل .
قال : هل يجري في ملك الله شيء لا يريده الله ؟
قال : لا .
قال : هل ينقص من رزقك شيء كتبه لك الله ؟
قال : لا .
قال : هل ينقص من أجلك لحظة قدرها الله لك في الحياة ؟
قال : لا.
قال : فعلام الهم إذاً ؟
إن هذا ليس دعوة لكمال التوكل واليقين ، بل دعوة لتمام الإيمان بالقضاء والقدر .
وأنا هنا أقر أن العبد لو بلغ مراتب الكمال لن يستقر الهم فيه ولو كثرت عليه مداخله لسعة المخارج لديه .
إن السلف مع يسر حياتهم بالمقارنة مع حياتنا إلا أن الحال لم يكن يخلو عندهم من الحال عندنا مع اختلاف تفرضه التغيرات العصرية ، فقد كان الأغنياء قد كُفوا مشقة الكد وطلب المعيشة ، وأهل الفقر والحاجة لم يزلوا في اهتمام من تزاحم الطلب والحاجة .
نعم قد ضربوا أروع الأمثال في الزهد في الدنيا إلا أنهم لم يخلوا قط من الهموم وهي المراد من موضوعنا ، ويكفي في الإشارة إلى هؤلاء قول سفيان ابن عيينة لما بلغه وفاة البرمكي فقال : اللهم أكفه مؤونة الآخرة كما كفاني مؤونة الدنيا .. أو كما قال ..
ولمّا ناظر أبو الوليد الباجي وكان ذا حاجة ، ابن حزم وكان من أهل اليسر ،
قال له الباجي : أنا أعظم منك همّة في طلب العلم، لأنّك طلبته وأنت مُعَانٌ عليه تسهر بمشكاة الذهب ، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق ،
فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك، لأنّك إنّما طلبتَ العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي ، وأنا طلبتُه في حين ما تعلمه وما ذكرته ، فلم أرج به إلاّ علوّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة ؛ فأفحمه.
--------
وأخيراً
فالهموم والغموم
أمراض تعتري المسلمين بجميع طبقاتهم وفئاتهم رفيعهم ووضيعهم غنيهم وفقيرهم من زمن الصحابة إلى انتهاء دورة هذه الحياة الفانية .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه العلاج بالدعاء وثمة أذكار ، من غير استنكار لمن وقعت عليه ، أو وصم بضعف الإيمان ،
بل قد جاء امتنان رب العالمين سبحانه بها علينا فعدها كفارات للعبد ، منة امتن الله بها على عباده من داء لا وقاية منه .
فعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
ولمسلم : (( ما يصيب المؤمن من وصب و لا نصب و لا سقم و لا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته)) .
ولازال كبار العلماء والسلف يقعون في هذه الهموم جراء ضغوطات الحياة ومتطلباتها ويتعوذون من الهم ونواتجه ..
أما أن نطلق أن الهم مرض عصري نتاج ضعف إيمان بالله والقضاء والقدر فهذا ما أظنه جهل لا يصدر إلا عن جاهل ..
إلا أن يفصل المراد ويبين الفرق بين الأمرين و لا يعمم .. فإن مقاله إذا فصل تمكنا من توجيهه إلى وجهة صائبة .
والله المستعان ..
***************-----------------****************
وكتبه أبو محمد (أحمر العين )
الاثنين :17/4/1430هـ
الموافق : 13/4/2009م
الحمد لله وبعد
التفتَ الإمام عن اليمين والشمال مسلماً من صلاة الجمعة 14/4/1430هـ وأقبل بوجهه على المصلين ، وتحركت الجموع بين منصرف ومسند لظهره وقائم يتنفل ..
فقام من أمامي رجل أقرب للبدانة في الجسم ، توجه إلى الإمام وهمس بكلمات أظن أن الإمام نفسه لم يسمعها إلا أن الوضع للجميع كان ظاهراً أنه يطلب المكبر لإلقاء كلمة ،
أمسك بالمكبر وواجه عموم المسبحين فإذا به رجل قصير ذو لحية كثة طويلة اختلط بياضها الحديث بسواد يئن ، منبئٌ عن إيذانٍ برحيل .. واتسم على محياه علامة الثبات .
وبعد صمت قصير شد به الانتباه وحبس به الأنفاس وجلس به من كان قد قام للانصراف ،
انطلق لسانه بالبيان فإذا به يحذر الأمة من انتشار مرض خطير ، وداء عضال تفشى في الأمة هذا العصر ...
ويستمر بمقدمته التي حبست أنفاسنا ، والكل فضوله يقاتله ليعرف المراد من حديث الخطيب حتى أفصح بقوله :
إنه قول الناس :
أنا طفشان ، زهقان ، نكدان ..
وبأسلوبٍ أفصح الهموم والغموم ..
----
إذا عُرِفَ السبب بطل العجب ..
أسندتُ رأسي مُتكأً على متكئ المسجد ، وغبتُ في تلك اللحظات سابحاً في فكر بعيد لم أدري بنفسي إلا والصوت قد انقطع والخطيب يتنفل فأسرعتُ الخُطا إلى محل عملي ، فأنا أعمل بلا انقطاع ولا عطل رسمية حتى في أعياد المسلمين .
سارعتُ الخُطا مستمراً في بحر الأفكار المتلاطمة.
هل هذا الرجل يعي ما يقول ؟!
لقد يظهر واضحاً على هيئته اليسر والراحة النفسية والبدنية ..
فهل هؤلاء يعقلون ما يقولون ؟
أيظنون أن الأمة جمعاء تعيش كحالهم ، حتى يصف أصحاب الهموم على العموم بضعف الإيمان والابتلاء بمرض العصر ؟
حقاً إني لأعجب .
وكيف لا أعجب وحق لي العجب .
أيستوي هذا وذاك ؟ .
دعنا من مثاليات من لم يعش حياة الكدر ، ولم يعي الجمع بين نصوص القدر ..
والله لقد سئمت أمثال هؤلاء الوعاظ الذين تخالف فعالهم أقوالهم ،
أَتَذكرُنِي – قبل سُنيَّاتٍ معدودة من هذا الحدث - وأنا في مسجد أستمع لأحدهم وهو يحدث عن الزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة ، في كلام شجي يبعث على الإحساس بالرقي الروحي ، والارتقاء إلى مراتب التوكل الحقيقي واليقين ..
ويصفعني واقعي للعودة إلى عملي في محل تجاري وإذ بالخطيب يدخل إلى المحل ليعانق صاحب المحل فإنه صديقه ، ولك أن تتخيل الحديث الذي لم ينقطع حول زيادة الدخل وطرق التجارة والكسب الحلال !!
الله المستعان ..
الرجل دخله أضعاف أضعاف دخل الفرد العادي في المجتمع ، ويملك بيتاً وسيارة ومتزوج وله أولاد ولأبيه عقار وعمارة يمتلكها . فماذا بعد ؟!
ولماذا إذاً يعظ الناس في الزهد في الدنيا ؟!
لا .... لا ،،
أرجوكم لا تفهموني خطأً ،
أنا لست معارضاً للدعوة إلى الخير .
والوعظ بالقربات ولو ممن لا يفعلها ..
ولكنَّ نفسي لا تقبل مثل أولئك الذين يدعون إلى خير لا يأتونه ..
نعم قد يُهدى على يديه ويُنتفع به ولو كان هو بعيداً عما يقول .
ورد عن ابن الجوزي – فيما نقله العثيمين في شرحه لرياض الصالحين - أنه جاءه عبد يطلبه أن يعظ الناس في فضل العتق لما لابن الجوزي من تأثير في الوعظ مشهور ، وكان سيد العبد ممن يحضر للشيخ فأراد العبد أن يسمع سيده الموعظة في فضل العتق فيعتقه
فقبل الشيخ ووعده خيراًَ ، إلا أنه تأخر ما شاء الله أن يتأخر فجاءه العبد عاتباً أو مذكراً ،
فأجابه الشيخ بأنه لم يملك بعد عبداً ليعتقه ، وأنه لا يحب أن يعظ الناس بشيء لم يفعله ،
ثم لبث ما شاء الله حتى تمكن من العتق فوعظ فأبلغ وتحقق ما تمناه العبد إذ تأثر سيده فمن عليه بالعتق .
نعم فهذه الصور حقيقية ولكنها قديمة مهترئة بعامل الزمن ، إذ الجديد وللأسف سريع العطب .
------
هل أُفْصِح لك فأقول أني لا أرى زاهداً حقيقياً في هذا الزمن ،، وأن وعاظنا أراهم يعظون بغير ما يفعلون ،،
لم أتعرف على أحد إلا وجدته يهدر ، ويسعى لزيادة الدخل ..
أليس هذا هو مرض العصر الحقيقي ؟
أين نحن عن الزهد والزهاد والتفرغ للطاعات ،،
أنا لست ضد زيادة الدخل والسعي لها ،
ولست أمنع الوعظ من واعظ لم يعمل بوعظه
ففي حديث أسامة رضي الله عنه في ذاك الآمر بالمعروف ولما يأتيه ، والناهي عن المنكر ويأتيه .. قد انتفع بالرجل أقوام فهذا خيرٌ وإن كان هو لم ينفع نفسه فأمر آخر ..
وقال أحمد بن حنبل : أكذب الناس القصاص ، والسؤال ، وما أحوج الناس إلى قاص صدوق ؛ لأنهم يذكرون الموت ، وعذاب القبر
قيل له : أكنت تحضر مجالسهم قال : لا .
ذكره ابن الحاج في المدخل .
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح عنه رحمه الله قال : القصاص الذي يذكر الجنة والنار والتخويف ولهم نية وصدق الحديث ، فأما هؤلاء الذين أحدثوا من وضع الأخبار والأحاديث فلا أراه ، قال أبو عبد الله : ولو قلت أيضا إن هؤلاء يسمعهم الجاهل والذي لا يعلم فلعله ينتفع بكلمة أو يرجع عن أمر ،
كان أبو عبد الله يكره أن يمنعوا أو قال ربما جاءوا بالأحاديث الصحاح أ.هـ
فهو يذكر سوء القصاص ويكره منعهم للفائدة .
-------
يالنفسي السيئة ، الأمارة بالسوء ما الذي جرني إلى هذا الحديث ولست أقصده
عودة على ذي بدء
عودة إلى واعظنا حول الهموم - مرض العصر ،
إن هؤلاء الذين يبالغون فيما لا يفقهون ، تدعوني نفسي أحياناً تحميلهم تبعة سوء فهم كثير من المثقفين جمال ديننا وروعته ,
إذا نظرت إلى هذا المتكلم المرغب بالزهد والزهاد والمرهب المشنع على مرضى الهموم تراه لا يعرف عن هذا إلا في الكتب ، فهو ذو مال وصحة قد حاز الدنيا ..
صلى الله عليك يا نبي الله القائل : (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (الصحيحة 2318).
صلى الله عليك يا نبي الله القائل : ( أربع من السعادة : المرأة الصالحة ، و المسكن الواسع ، و الجار الصالح ، و المركب الهنيء .
و أربع من الشقاء : الجار السوء ، و المرأة السوء ، والمركب السوء والمسكن الضيق ) . (الصحيحة282)
فهل عرفت حال غيرك حتى تنغص عليه بدعواك ..
وهلا تفقهت قبل أن تسود وتهرف بما لا تعرف .
فصلى الله عليك يا نبي الله القائل : (إذا أصاب أحدكم غم أو كرب فليقل : الله ، الله ربي لا أشرك به شيئاً ). (الصحيحة 2755)
وصلى الله عليك يا نبي الله القائل : (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال) متفق عليه
والقائل في دعاء الكرب : (ما أصاب أحداً قط هم و لا حزن ، فقال : اللهم إني عبدك و ابن عبدك و ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي و نور صدري و جلاء حزني و ذهاب همي .
إلا أذهب الله همه و حزنه و أبدله مكانه فرجا .
قال : فقيل : يا رسول الله ألا نتعلمها ؟
فقال : بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ) ( الصحيحة 199)
ولا نجد في أخباره - صلى الله عليه وسلم - سوى الإرشاد للعلاج ، والإقرار بورود هذا المرض على الأخيار من غير تعنيف .
-------
لقد كان الأوائل حياتهم قريبة يسيرة والتزاماتهم قليلة ، إن الشخص منهم إذا عمل نهاره أتى بقوت يومه ، ولا يفكر في غده ، وإن فكر وإن وسع فلا زالت حياتهم يسيرة ..
إننا في زمن كمالياته أضحت ضروريات ،
البيت مستأجر ، فهل لك أن تبني في أي بقعة ما يؤيك وأسرتك ؟ .... لا !
وللبيت كهرباء وماء ودورة مياه وصرف صحي ..
الاتصالات ..
المدارس النظامية ومستلزماتها من لبس وأدوات وخلافه ،
المأكولات بل حتى الحفائظ ، طفلك يأكل بمال ويتغوط بمال .
الموصلات ومتطلبات المراكب والسيارات ..
ضرائب الدولة ..
وإذا أردت الخروج والاغتراب بحثاً عن المعيشة لم يتيسر الأمر للحدود والجوازات ..
أمور وتعقيدات فرضتها الحياة العصرية ..
ثم بعد هذا يأتي من أنجاه الله من هذا كله وفتح له من أبواب الرزق مالا يحتاج معه إلى بعض هذا الهم والكدر فيدعو الناس بما لو كان عليه ما أدري كيف كان ..ويصفهم بضعف الإيمان !!
------
إن التوكل الحقيقي واليقين الشرعي مطلب عزيز لم يصل إليه سوى بعض القوم وليس من الحكمة دعوة العوام لمراتب الكمال فقد أنكر السلف لصاحب الصغائر أن يسأل ويتورع في الدقائق كما في فعل ابن عمر رضي الله عنه مع أهل العراق في دم الحسين ،
قال ابن رجب في جامع العلوم :
((وهاهنا أمر ينبغي التفطنُ له وهو أنَّ التدقيقَ في التوقف عن الشبهات إنَّما يَصْلُحُ لمن استقامت أحواله كلها ، وتشابهت أعمالُه في التقوى والورع ،
فأما مَنْ يقع في انتهاك المحرَّمات الظاهرة ، ثم يريد أنْ يتورَّعَ عن شيء من دقائق الشُّبَهِ ، فإنَّه لا يحتمل له ذلك ، بل يُنكر عليه ،
كما قال ابنُ عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلُوا الحسين ، وسمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول :هُمَا رَيحَانَتاي من الدُّنيا )) انتهى المراد منه ..
إن قول بعض السلف – وينسب لإبراهيم بن أدهم - لمن رآه مهموماً :
إني سائلك عن ثلاث فأجبني :
قال سل .
قال : هل يجري في ملك الله شيء لا يريده الله ؟
قال : لا .
قال : هل ينقص من رزقك شيء كتبه لك الله ؟
قال : لا .
قال : هل ينقص من أجلك لحظة قدرها الله لك في الحياة ؟
قال : لا.
قال : فعلام الهم إذاً ؟
إن هذا ليس دعوة لكمال التوكل واليقين ، بل دعوة لتمام الإيمان بالقضاء والقدر .
وأنا هنا أقر أن العبد لو بلغ مراتب الكمال لن يستقر الهم فيه ولو كثرت عليه مداخله لسعة المخارج لديه .
إن السلف مع يسر حياتهم بالمقارنة مع حياتنا إلا أن الحال لم يكن يخلو عندهم من الحال عندنا مع اختلاف تفرضه التغيرات العصرية ، فقد كان الأغنياء قد كُفوا مشقة الكد وطلب المعيشة ، وأهل الفقر والحاجة لم يزلوا في اهتمام من تزاحم الطلب والحاجة .
نعم قد ضربوا أروع الأمثال في الزهد في الدنيا إلا أنهم لم يخلوا قط من الهموم وهي المراد من موضوعنا ، ويكفي في الإشارة إلى هؤلاء قول سفيان ابن عيينة لما بلغه وفاة البرمكي فقال : اللهم أكفه مؤونة الآخرة كما كفاني مؤونة الدنيا .. أو كما قال ..
ولمّا ناظر أبو الوليد الباجي وكان ذا حاجة ، ابن حزم وكان من أهل اليسر ،
قال له الباجي : أنا أعظم منك همّة في طلب العلم، لأنّك طلبته وأنت مُعَانٌ عليه تسهر بمشكاة الذهب ، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق ،
فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك، لأنّك إنّما طلبتَ العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي ، وأنا طلبتُه في حين ما تعلمه وما ذكرته ، فلم أرج به إلاّ علوّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة ؛ فأفحمه.
--------
وأخيراً
فالهموم والغموم
أمراض تعتري المسلمين بجميع طبقاتهم وفئاتهم رفيعهم ووضيعهم غنيهم وفقيرهم من زمن الصحابة إلى انتهاء دورة هذه الحياة الفانية .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه العلاج بالدعاء وثمة أذكار ، من غير استنكار لمن وقعت عليه ، أو وصم بضعف الإيمان ،
بل قد جاء امتنان رب العالمين سبحانه بها علينا فعدها كفارات للعبد ، منة امتن الله بها على عباده من داء لا وقاية منه .
فعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
ولمسلم : (( ما يصيب المؤمن من وصب و لا نصب و لا سقم و لا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته)) .
ولازال كبار العلماء والسلف يقعون في هذه الهموم جراء ضغوطات الحياة ومتطلباتها ويتعوذون من الهم ونواتجه ..
أما أن نطلق أن الهم مرض عصري نتاج ضعف إيمان بالله والقضاء والقدر فهذا ما أظنه جهل لا يصدر إلا عن جاهل ..
إلا أن يفصل المراد ويبين الفرق بين الأمرين و لا يعمم .. فإن مقاله إذا فصل تمكنا من توجيهه إلى وجهة صائبة .
والله المستعان ..
***************-----------------****************
وكتبه أبو محمد (أحمر العين )
الاثنين :17/4/1430هـ
الموافق : 13/4/2009م