المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ][ ::: وَقَفَت عند بوابة الثلاثين ::: ][



أم علا
21 Jul 2009, 12:39 PM
كنت لا أزال في العشرينيات من عمري حتى منّ الله بكرمه عليَّ وتفضّل بجوده، فأشرقت روحي بأنوار الهداية، وانشرح صدري بفسحة الإيمان.
كنت في بداية العشرينيات من عمري؛ شابةً فتيةً، ملأ حب الإسلام كل ذرة وعصب وخلية من دمي، كنت ألهح بالدعاء: ربِّ خذ من حياتي حتى ترضى، واجعل كل سكنة وكل حركة وكل لحظة طَرْفٍ فيك ولك!
مضت السنون وأنا أتقلب في الطاعات، وألِج أبواب الخيرات، أُسرع أحياناً وأفتر أخرى، حتى وصلت في خطى العمر إلى بوابة الثلاثين، فالتفت لأرى حصاد عشر سنوات من عمري.
قلّبتها كصفحات من كتاب مضت مشاعرها فلا تتذكرها إلا طيفاً، جلست أدوِّنها؛ فائدة لكل من يسلك الطريق، وعبرة من عمر مضى.

الحماس وحده لا يكفي:

لم أكن أتخيل يوماً أن ذلك الحماس المشتعل في داخلي قد ينضب أو يخف. كنت أسمع مَنْ حولي يتكلم عن الفتور وضعف روح الإيمان وبرودة الدعوة؛ فأعزو ذلك لضعف في شخصياتهم أو لغَبَشٍ في تصوراتهم. كنت أعلم نظرياً أن «الإيمان يَخْلَق في جوف أحدكم كما يَخْلَق الثوب..»، لكني لم أكن أتصوره حقيقة على الواقع لقلب ملأ الإيمان جوانبه؛ فهو روحه وحياته!
ولكن كان..!
نعم! تعلمت الدرس الثقيل: أن المشاعر وحدها لا تكفي للسفر الطويل ولثبات العمر، وأن تلك المشاعر - كما اشتعلت يوماً - سوف تخبو وتطفأ يوماً آخر. تعلمت أن أمرين اثنين لا ثالث لهما هما صِماما الأمان لكل قلب مسافر: العلم والعبادة.

فأما الأول:
فهو قلب مخلص يطلب العلم ويتحرى الحق. فدون أن تملأ جراب السفر من علم غزير، ودون أن تنهل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلــف الصالــح؛ فلا يمكن أبداً أن يكون سيرك صحيحاً. ستهتز عند أول فتنة، وستتعثر عند أول وارد شهوة، وستتردد عند إغراء التنازل وضغط الواقع. سيضعفك ندرة الرفيق وقلة المعاون ووحشة الطريق، دون علم يجعلك جبلاً راسياً أمام كل فتنة؛ فلا يمكنك أبداً الصمود، أو حتى مزاولة السفر؛ وتلك سُنَّةٌ من سنن البشر.

وأما الثاني:
فهو لجوء الذليل إلى العزيز. فدون سجود المحاريب، وانطراح الخشية، والدخول بالكلية على باب الرحمن، لا يمكن أن يثبت قلب!
تعلمت أن أي اعتــذار عـــن عـــلاقة بينك وبين الله، أو تقصير في عباداتك الخفية مع الله بحجة الانشغال بالدعوة؛ هو محض تزيين النفس، وركون إلى الكسل. لم يكن هناك أكثر انشغالاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا من أبي بكر وعمر من بعده، ومع ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مضى عهـــد النوم يا خديجة!»، ويقول عمر - رضي الله عنه -: (إني إن نمت نهاري ضيعت رعيتي، وإن نمت ليلي ضيعت نفسي).
فكيف تظن أنك ستحفظ إيمانك دون لجوء إلى الله؟ كيف تُفتَح لك القلوب ويُكتب لك القبول دون استعانة بالله؟ كيف تظن الطريق سيكون دون عون وتسديد من الله؟ وكيف تتمنى كل ذلك وأنت لم تلج المسألة ليلاً ونهاراً؟

نعم! تعلمت الدرس الثقيل أن الحماس وحده لم يكن كافياً ليبني قلباً أو روحاً أو أمة، لكنها المعادلة الصعبة؛ من حرارة المشاعر وإخلاص العمل وصِدْق اللج إلى الله هي التي تكفل ثبات القلب وتذكي حلاوة الإيمان.

الانشغال بالمفضول.. لعبة الشيطان:
حين دخلنا عالم الالتزام دون فقه مبني على علم رصين، كان أن مضى العمر ونحن مشغولون دوماً في كل لحظة من ليل أو نهار، لكنه كان انشغالاً بمفضول عن فاضل.
كان المهم في تفكيرنا أن نشغل كل جوارحنا وذراتنا في العمل لله. كنا نطبع الورق، ونقص الملصقات، ونربط الشرائط، ونغلِّف الهدايا، ونجهز الأمسيات، ونلقي الدروس.. كنا نعمل كل شيء في كل وقت، المهم أن لا تبقى لنا لحظة نجلس فيها قاعدين فارغين.
لم أكن أفهم لماذا يريدون أن يحدُّوا من قدراتنا ويجعلوا نشاطنا منصبّاً في مكان واحد أو اثنين؟
فالوقت يتسع، والجهد ممكن لأكثر من نشاط بل لعشرة أنشطة، وإن شئت فقل: لعشرين نشاطاً، كانت لذة الاحتراق في سبيل الله لا تعدلها لذة. غاب عن أذهاننا آنذاك أننا ندفع الثمن غالياً، (لا يكن أحدكم مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) ما فعلناه أننا كنا نحرق الفتيل إلى أقصاه لنضيء للناس، ونسينا أن الفتيل دون زيت لا يمكن أن يبقى مشتعلاً.

كـنا نظـــن أن جلسـة علـم أسبـوعـية، أو سماع شــريـط، أو قراءة متناثرة؛ كافية لإبقاء الزيت مشتعلاً، لكن الحقيقة أن ما نحرقه كان أكثر بكثير مما نضعه من زيت. لم نكن نفهم ماذا يعني أنك حتى تعمل لله ساعتين يجب أن تربي نفسك شهرين، كنا نحمل أنفسنا على أكتافنا مثل الجراب، لم نكن نتفقــدها أو نحسن تربيتهــا، لــم نعــرف مساوئها أو محاسنها، لم يكن هناك وقت لمثل هذا التفقد، فمضى من عشر السنين ثلثاها حتى اكتشفت أني وللأسف لم أحسن تربية نفسي! والتفت إلى ما أفنيت فيه سنيني لعلِّي أجد مبرراً لانشغالي عن نفسي، فوجدت أني كمن أوقف عوداً في كل زاوية من زوايا أرضه ولكنه لم يبنِ بيتاً! كانت الأعمال متناثرة مشتتة، ليس فيها تركيز أو تطوير، حاولت أن أجد جسداً متكاملاً غرسته واعتنيت به حتى رأيت ثمرته؛ فلم أجد! كنت رقماً من الأرقام الكثيرة في جسد الأمة ولكني لم أكن رقماً مؤثراً!

فتعلمت الدرس الثقيل: أن الشيطان قد يزين لك الانشغال بالمفضول عن الفاضل، بالقريب الملحِّ عن المهم البعيد، ويجعل رؤياك لواقعتك قاصرة لحدود يومك ودائرة حياتك دون أن تفكر في خطوة للمستقبل: ماذا تريد أن تقدم لأمتك؟ وأي ثغر مفتوح لم يسده أحد فتسده أنت! يُشغِلك دائماً بصغائر الأمور؛ حتى لا يكون لديك وقت صافٍ لتفكر وتستجمع نفسك للعظائم.

درس لم أتعلمه إلا وأنا على بوابة الثلاثين، وأرجو أن يمد الله في العمر لنغرس غرساً يحبه ويرضاه.
تهت في وسط الزحام:
خلال السنوات العشر، أنهيت دراستي وتوظفت، تغيرت هيكلتنا العائلية، وُلِد أشخاص ومات آخرون، ارتبط أشخاص وتفرّق آخرون، صرت أكثر ارتباطاً وازدحاماً، صار الوقت يضيق بالأحداث والأشخاص والواجبات. الكتاب الذي كنت أنهيه في جلسة واحدة، صرت أنهيه في شهور، والساعات التي كنت أجلسها لوضع برنامج أو تجهيز خطة لمشروع، بصعوبة صار يصفو لي منها شيء لأحضر اجتماعاً مستمعة.. ومستمعة فقط دون تحضير أو تجهيز!
تهتُ في وسط الزحام وما عدت أعرف إلى أين أسير، صرت في كثير من الأحيان أفعل فقط ما يطلبه الآخرون مني، دون أن يكون هناك متسع للتفكير في شيء آخر.
كنت في بداية العشرينيات أترقب اللحظة التي أتخرج فيها، كنت أظن أني سأكون أكثر تفرغاً دون دراسة ودون امتحانات، دون أبحاث أو رسائل، لم أكن أعلم أن تلك السنين كانت هي السنين الذهبية من عمري، وأن ذلك الانشغال البسيط صار زحاماً ما زلت أعيش في وسطه؛ يخرج أحياناً عن السيطرة وأحياناً يهدأ، ما زلت أقاومه أحياناً، وأسايره أحياناً أخرى.

لا أستطيع هنا أن أقول: (تعلمت درساً)؛ فالتجربة لا زالت قائمة، ولكني كتبت هذه الكلمات لكل مبتدئ في العشرينيات من عمره يقرؤها، فيعلم أنه يعيش ربيع العمر وأحلى أيامه وأفرغها؛ فيستغل ذلك في بناء نفسه بيديه ورجليه ولا يألو في ذلك جهداً ولا وِسعاً، وليعلم أن ما يستقبله من واجبات العمر هو أكثر بكثير مما يتخيل؛ فليغتنم فراغه قبل شغله!
ولعلِّي على بوابة الأربعين - إن طال بنا عمر - أكون قد تعلمت الدرس، وأرجو ألا يكون قد فات الأوان!

الآن بدأ الطريق:

في سيرنا الماضي، كان في مخيلتي أننا سرنا وقطعنا أشواطاً كثيرة، وأنه ليس بيننا وبين أن نحط رحالنا في الجنة إلا أن نموت.. كنت أظن أن هذه هي الحياة فحسب! والآن.. والآن فقط؛ فهمت أن ما مضى من العمر لم يكن سوى مرحلة الطفولة في حياة الإيمان الآن بدأت أفهم بعضاً من ملامح الطريق الذي كنت أظن أنني خبرته كله. فهمت أننا الآن بدأنا نخطو في مرحلة شباب الإيمان وقوته، وهي مرحلة على قدر ما فيها من القوة والصلابة والمتانة على قدر ما تكتنفها الفتن والشهوات وتكثر فيها إغراءات الطريق.

في طفولة الإيمان، كنا نقرأ في كتب الرِّقاق وتحريك القلوب؛ فنظن أننا حلَّقنا عالياً في سماء الإيمان، فما وصلنا إلى مرحلة الشباب حتى علّمتنا الحياة أن التحليق عالياً يكون حقيقة في لحظة ضُرٍّ وكرب تحيط بك من كل مكان وتحتويك من كل جهة، فتَفزَع مكروباً مضطراً عائذاً لاجئاً إلى مولاك وسيدك؛ طالباً العون والمدد.

في شباب الإيمان، تجد علاقتك بالله أصبحت شيئاً آخر، أصبحتَ والإيمانَ كالسمكة والماء؛ لا سعادة ولا لذاذة للعيش؛ لا راحة ولا طمأنينة إلا بالعيش مع الله؛ فإذا أخذتك الدنيا وأشغلتك، أو فترتَ في عبادتك وقصّرت، تصبح كالمحب القلــق الفاقد لمن يحب يكاد يسقط من الإعيــاء، ولا يستمتع بشيء؛ ينتظر عودته بحنين ولهف وشوق.

في طفولة الإيمان، تجد أصحابك ورفقاءك في الطريق كُثراً، وللعمل مع الجماعة متعة ولذة؛ فإذا بدأت في مرحلة التمييز والقوة وبدأت تُمتَحن فيما تدعي، بدأت تسمع عن تساقط الأصحاب وتراجع الرفقاء، فتصبح في شباب الإيمان تجأر إلى ربك تسأله الثبات، لا بقلب متراخٍ بارد؛ بل بقلب قلِق يخاف من السقوط.
ومن يملك أن يثبُت إلا من يثبته الله!
ولو لم تخرج من عمرك كله إلا ببقائك على العهد مع الله محافظاً على توحيده وعبوديته، لكنتَ قد خرجت بالكنز الأعظم والفلاح الأكبر.

تلك كانت بعض خواطر من خواطر كثر، احتفظت بأغلبها لنفسي؛ فإن تدوين الحياة في سطور أمر صعب، خصوصاً إذا كنت ممن لا يملك في حياته شيئاً أصلاً!
ولذا، فإن أمثالي من الذَّر يكتبون بصعوبة عن أنفسهم يرجون أن تكون من حياتهم الهزيلة دروس وعبر لمن بعدهم؛ حتى لا يكونوا أمثالهم.
وأما أولئك العظام الكبار فلا يلتفتوا لمثل هذا؛ ليبقى التاريخ عالة على سيرهم يكتب عنهم بماء من ذهب.


منقول

همي الدعوه
22 Jul 2009, 03:14 PM
شـكــ وبارك الله فيكم ـــرا لكم نقل موفق

أم علا
22 Jul 2009, 03:28 PM
شـكــ وبارك الله فيكم ـــرا لكم نقل موفق



وفيكم بارك الله

ناصر السنه
22 Jul 2009, 06:24 PM
جٌزيتِ خيراًأختي الفاضله

أم علا
25 Jul 2009, 03:58 AM
جٌزيتِ خيراًأختي الفاضله


وجزيت خيرا مثله.