همي الدعوه
28 Apr 2009, 02:27 PM
مسألة العذر بالجهل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالعذر بالجهل مسألة من المسائل التي خاض فيها كثير من الناس ما بين غال وجاف، فهناك من يجعل الجهل عذراً بإطلاق، وهناك من يمنعه بإطلاق، والحق وسط بينهما، وفي هذه الكلمات سنبين إن شاء الله تبسيطاً لهذه المسألة، فأقول وبالله التوفيق:
المقصود بالجهل: خلو النفس من العلم، أو عدم العلم بما من شأنه العلم به، والجهل ابتداء أمر أصلي ينبغي رفعه - حسب الاستطاعة - قال تعالى: (( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا )) [النحل:78].
وروى مسلم [1579] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هل علمت أن الله قد حرمها؟ ) . قال: لا.
ففي هذا الحديث دليل على أن الإثم مرفوع عمن لم يعلم، قال تعالى: (( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا )) [الإسراء:15] ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم أثم.
والقاعدة الشرعية دلت على: أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله صلوات الله وسلامه عليهم إلى خلقه برسالاته وأوجب عليهم كافة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل واجبان.
ولا خلاف في أن المرء لو أسلم ولم يعلم شرائع الإسلام فاعتقد أن ليس على الإنسان صلاة، أو أن الخمر حلال، وهو لم يبلغه حكم الله، لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ فهو بإجماع الأمة كافر.
قال ابن تيمية رحمه الله: " من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة إبلاغ الرسالة، كما قال تعالى: (( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )) [النساء:165].
ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أولم يعلم أن الخمر حرام، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا، وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ".
ويقول رحمه الله في مقام آخر: " إن تكفير المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر ".
ولعل من أظهر الأدلة في اعتبار الجهل عذراً ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال رجل لم يعمل خيراً قط لأهله -وفي رواية: أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه - إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له" صحيح البخاري (7506)، وصحيح مسلم (2756).
قال ابن تيمية رضي الله عنه تعليقاً على هذا الحديث: "فإن هذا الرجل جهل قدرة الله على إعادته، ورجا أن لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة، ومع هذا لما كان مؤمناً بالله وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، خائفاً من عذابه، وكان جهله بذلك جهلاً لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله، غفر الله له".
ومما تجدر الإشارة إليه أننا الآن في زمان قد تهيأت فيه الأسباب لتبليغ ونشر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في البلدان عن طريق الوسائل المختلفة التي جعلت سائر أقطار العالم كالبلد الواحد، إلا أن العذر بالجهل لا يزال ظاهراً في عصرنا، حيث قلَّ أهل العلم العاملون، وكثر الأدعياء الذين يزينون الكفر والباطل للعامة ويلبسون عليهم.
وقد أشار ابن تيمية رضي الله عنه إلى أهل زمانه وما كان عليه الكثير من الوقوع في أنواع الكفر، ومع ذلك عذرهم بهذا الجهل قائلاً: " وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور الرسالة في أكثر البلدان.
وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم يقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه.
كما في الحديث المعروف: " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياماً، ولا حجاً ولا عمرة إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله . فقيل لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار ". أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (78).
وعندما نقرر أن للعذر بالجهل اعتباراً في مسألة التكفير، فلا يعني أن الجهل عذر مقبول لكل من ادعاه.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "إن من العلم ما لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوا، وزكاة في أموالهم، وأنه حرَّم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معناه".
ومن المهم أن يعلم أن العذر بالجهل تكتنفه وتتعلق به أمور منها: نوعية المسألة المجهولة، كأن تكون من المسائل الخفية، وكذلك حال الجاهل كحديث عهد بإسلام، أو الناشئ في البادية، ومن حيث حال البيئة، ففرق بين وجود مظنة العلم وعدمه.
أما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة".
وقد جاء في فتوى اللجنة الدائمة: "يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر باختلاف البلاغ وعدمه وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاءً، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفاً.
ومن عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة إلى الإسلام وغيره، ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصرَّ على الكفر.
أما من عاش في بلاد غير إسلامية ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن الكريم والإسلام فهذا على تقدير وجوده حكمه حكم أهل الفترة يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولاً وفروعاً إقامة للحجة وإعذاراً إليه، ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه أو بَلَهه أو صغره وعدم تكليفه.
وأما ما يخفى من أحكام الشريعة من جهة الدلالة، أو لتقابل الأدلة وتجاذبها فلا يقال لمن خالف فيه آمن وكفر، ولكن يقال: أصاب وأخطأ".
وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بقلم : عبدالله بن محمد الطيار
ياله من دين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالعذر بالجهل مسألة من المسائل التي خاض فيها كثير من الناس ما بين غال وجاف، فهناك من يجعل الجهل عذراً بإطلاق، وهناك من يمنعه بإطلاق، والحق وسط بينهما، وفي هذه الكلمات سنبين إن شاء الله تبسيطاً لهذه المسألة، فأقول وبالله التوفيق:
المقصود بالجهل: خلو النفس من العلم، أو عدم العلم بما من شأنه العلم به، والجهل ابتداء أمر أصلي ينبغي رفعه - حسب الاستطاعة - قال تعالى: (( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا )) [النحل:78].
وروى مسلم [1579] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هل علمت أن الله قد حرمها؟ ) . قال: لا.
ففي هذا الحديث دليل على أن الإثم مرفوع عمن لم يعلم، قال تعالى: (( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا )) [الإسراء:15] ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم أثم.
والقاعدة الشرعية دلت على: أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله صلوات الله وسلامه عليهم إلى خلقه برسالاته وأوجب عليهم كافة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل واجبان.
ولا خلاف في أن المرء لو أسلم ولم يعلم شرائع الإسلام فاعتقد أن ليس على الإنسان صلاة، أو أن الخمر حلال، وهو لم يبلغه حكم الله، لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ فهو بإجماع الأمة كافر.
قال ابن تيمية رحمه الله: " من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة إبلاغ الرسالة، كما قال تعالى: (( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )) [النساء:165].
ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أولم يعلم أن الخمر حرام، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا، وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ".
ويقول رحمه الله في مقام آخر: " إن تكفير المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر ".
ولعل من أظهر الأدلة في اعتبار الجهل عذراً ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال رجل لم يعمل خيراً قط لأهله -وفي رواية: أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه - إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له" صحيح البخاري (7506)، وصحيح مسلم (2756).
قال ابن تيمية رضي الله عنه تعليقاً على هذا الحديث: "فإن هذا الرجل جهل قدرة الله على إعادته، ورجا أن لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة، ومع هذا لما كان مؤمناً بالله وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، خائفاً من عذابه، وكان جهله بذلك جهلاً لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله، غفر الله له".
ومما تجدر الإشارة إليه أننا الآن في زمان قد تهيأت فيه الأسباب لتبليغ ونشر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في البلدان عن طريق الوسائل المختلفة التي جعلت سائر أقطار العالم كالبلد الواحد، إلا أن العذر بالجهل لا يزال ظاهراً في عصرنا، حيث قلَّ أهل العلم العاملون، وكثر الأدعياء الذين يزينون الكفر والباطل للعامة ويلبسون عليهم.
وقد أشار ابن تيمية رضي الله عنه إلى أهل زمانه وما كان عليه الكثير من الوقوع في أنواع الكفر، ومع ذلك عذرهم بهذا الجهل قائلاً: " وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور الرسالة في أكثر البلدان.
وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم يقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه.
كما في الحديث المعروف: " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياماً، ولا حجاً ولا عمرة إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله . فقيل لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار ". أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (78).
وعندما نقرر أن للعذر بالجهل اعتباراً في مسألة التكفير، فلا يعني أن الجهل عذر مقبول لكل من ادعاه.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "إن من العلم ما لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوا، وزكاة في أموالهم، وأنه حرَّم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معناه".
ومن المهم أن يعلم أن العذر بالجهل تكتنفه وتتعلق به أمور منها: نوعية المسألة المجهولة، كأن تكون من المسائل الخفية، وكذلك حال الجاهل كحديث عهد بإسلام، أو الناشئ في البادية، ومن حيث حال البيئة، ففرق بين وجود مظنة العلم وعدمه.
أما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة".
وقد جاء في فتوى اللجنة الدائمة: "يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر باختلاف البلاغ وعدمه وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاءً، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفاً.
ومن عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة إلى الإسلام وغيره، ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصرَّ على الكفر.
أما من عاش في بلاد غير إسلامية ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن الكريم والإسلام فهذا على تقدير وجوده حكمه حكم أهل الفترة يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولاً وفروعاً إقامة للحجة وإعذاراً إليه، ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه أو بَلَهه أو صغره وعدم تكليفه.
وأما ما يخفى من أحكام الشريعة من جهة الدلالة، أو لتقابل الأدلة وتجاذبها فلا يقال لمن خالف فيه آمن وكفر، ولكن يقال: أصاب وأخطأ".
وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بقلم : عبدالله بن محمد الطيار
ياله من دين