انا بنت الاسلام
25 Apr 2009, 01:54 AM
حتى لا ينقطع المعروف بين الناس
أ.د. ناصر العمر 25/4/1430
http://www.almoslim.net/files/images/037_1.jpg
لقد حض الله عز وجل في كثير من الآيات على قول المعروف وفعله، فقال عز من قائل في جانب القول: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]، وقال: {فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 20،21]، وقال في جانب الفعل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، وقال: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، وقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]؛ وأمر نبيه عليه السلام أن يأمر بالمعروف كما في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} الآية [الأعراف: 199]، وجعل أمره عليه السلام بالمعروف من العلامات التي يعرفه بها أهل الكتاب، قال عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [الأعراف: 157]. ثم أمر المسلمين بما أمر به نبيهم عليه السلام فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وجعل الأمر به أو الأمر بضده علامة فارقة بين المؤمنين والمنافقين، فقال في حق المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، وقال على الطرف الآخر في حق المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]، وأخيراً، جعل الأمر بالمعروف من علامات خيرية هذه الأمة على غيرها من الأمم فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وهذا الذي سبق -وغيره كثير- يدل على أهمية قول المعروف وفعله، والمعروف كما قال الراغب في المفردات: (اسم لكل فعل يُعرَف بالعقل أو الشرع حسنه) ، وقال ابن منظور: (هو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة اللّه والتقرّب إليه، والإحسان إلى الناس؛ وكل ما ندَب إليه الشرعُ ونهى عنه من المُحَسَّنات والمُقَبَّحات، وهو من الصفات الغالبة، أَي أَمْر مَعْروف بين الناس إذا رأَوْه لا يُنكرونه، والمعروف النَّصَفةُ وحُسْن الصُّحْبةِ مع الأَهل وغيرهم من الناس والمُنكَر ضدّ ذلك جميعه) .
إن المعروف بين الناس بابه واسع جداً، فالكلمة الطيبة، والتبسم، وإغاثة الملهوف، وإعانة ذا الحاجة، وقِرى الضيف، وحمل المنقطع، وما أشبه ذلك، كل هذا من المعروف، وهو لصاحبه صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة" .
لقد كان الناس حتى زمن ليس بالبعيد يبذلون المعروف ويتسابقون إليه ويتنافسون فيه ويتواصون به فيما بينهم، وكان الإقبال عليه من أسباب المدح والتقدير، بينما الإعراض عنه من أسباب الذم والقدح؛ فلما كثر الناس، واتسع العمران، وتباعدت منازل القوم، وزحفت القيم المادية على المجتمع، شح كثير من الناس بالمعروف وزهدوا فيه، لأن بذله بلا مقابل -في نظرهم- غبن وخسارة ومضيعة للوقت، وهذا بلا شك خطأ فادح، لأن بذل المعروف إن كان بلا مقابل ممن يُحسَن إليه، فإنه ابتداء من مكارم الأخلاق، كما أن أجره عند الله عظيم وثوابه جزيل، قال عليه السلام: "كل معروف صدقة" ، قال النووي رحمه الله: (أي له حكمها في الثواب) ، ومعلوم أن الصدقة بعَشر أمثالها وأن الله يضاعف لمن يشاء.
وقد ورد ثواب أعمال بعينها من المعروف، فمن ذلك قوله عليه السلام: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة" ، وقوله: "بينما رجل يمشي في طريق إذ وجد غصن شوك فأخره، فشكر الله له فغفر له" ، ورُوي عنه عليه السلام -في حديث اختلف في إسناده- قوله: "ما من امرئ ينصر مسلماً في موضع يُنتَقَص فيه من عرضه ويُنتَهَك فيه من حرمته، إلا نصره الله في مواطن يحب نصرته" ، ويستفاد مما سبق أن صنع المعروف لا ينفع العبد المسلم في الآخرة فحسب بل ينفعه في الدنيا كذلك.
ومن ألطف ما جاء في نفع المعروف لصاحبه في الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" ، فهذا كله يدل على خطأ هؤلاء وقصر نظرهم، وهو ما أدركه كثير غيرهم، وتمثلوا في ذلك قول الشاعر:
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ *** لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللهِ وَالناسِ
بعض الناس قد يتعلل في ترك فعل المعروف بما يقع في أحيان كثيرة من استغلال ضعاف النفوس من المحتالين أو اللصوص ومن أشبههم لرغبة الناس في فعل الخير وبذل المعروف، فيقولون إن الدنيا قد تغيرت وكثرة المحتالين والمدعين لم تدعنا نفرق بين الصادق والكاذب، ونحن نخشى أن نقع ضحية لبعض هؤلاء فنجر على أنفسنا ضرراً كنا في غنىً عنه.
وبرغم أن فيما يذكرونه شيئاً من الصحة، إلا أن هذا لا ينبغي أن يكون مانعاً لنا من فعل الخير وبذله فيما بيننا، فمن يفعل المعروف اليوم قد يكون في الغد من أحوج الناس إليه، ومن يراعي جانب ما يحصل من حوادث ويغفل كثيراً من صور بذل المعروف الجميلة يكون كمن يصف الكأس بأن نصفها فارغ متناسياً النصف الثاني؛ ولو أن الجميع تبنوا هذا الفكر السلبي لفسدت معايش الناس، وتمزقت عرى المجتمع، ودب الضعف والوهن إليه كما يدب السوس في الخشب المهترئ.
إن المطلوب من الجميع اليوم في مقابل هذا الواقع الذي نعيش فيه أن يتعاملوا معه بإيجابية وفاعلية؛ بأن يبادروا إلى فعل الخير وبذل المعروف، مع التيقظ والتفطن لمن يحاول خداعهم والاحتيال عليهم، مع تنبيه الناس على أن الخير موجود وكثير، وأن الصادقين كثر كذلك، والتأكيد على ذلك بنشر نماذج حقيقية تدلل عليه في مقابل ما يتداول من النماذج السيئة.
فإن قُدَّرَ وخُدِعَ المرء، فليست هذه نهاية الدنيا! وليتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّقَ الليلة على زانية! قال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على غني! قال: اللهم لك الحمد على غني! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على سارق! فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق. فأُتِيَ فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها، ولعل الغنى يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته".
فإن أبى بعض الناس إلا أن يُغَلِّبَ سوء الظن حتى يجعله أصل تعامله ونظرته للناس، وإن أصر على أن ينظر لنصف الكوب الفارغ فحسب، فلا أقل من أن يحتفظ بسوء ظنه لنفسه ولا يمنع غيره من الإقبال على فعل الخير، كي لا يكون من الناهين عن المعروف أو القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، عسى أن يدخل بهذا الكفِّ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة" قيل له في آخره: "فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر فإنه له صدقة"، والله أعلم.
أ.د. ناصر العمر 25/4/1430
http://www.almoslim.net/files/images/037_1.jpg
لقد حض الله عز وجل في كثير من الآيات على قول المعروف وفعله، فقال عز من قائل في جانب القول: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]، وقال: {فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 20،21]، وقال في جانب الفعل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، وقال: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، وقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]؛ وأمر نبيه عليه السلام أن يأمر بالمعروف كما في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} الآية [الأعراف: 199]، وجعل أمره عليه السلام بالمعروف من العلامات التي يعرفه بها أهل الكتاب، قال عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [الأعراف: 157]. ثم أمر المسلمين بما أمر به نبيهم عليه السلام فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وجعل الأمر به أو الأمر بضده علامة فارقة بين المؤمنين والمنافقين، فقال في حق المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، وقال على الطرف الآخر في حق المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]، وأخيراً، جعل الأمر بالمعروف من علامات خيرية هذه الأمة على غيرها من الأمم فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وهذا الذي سبق -وغيره كثير- يدل على أهمية قول المعروف وفعله، والمعروف كما قال الراغب في المفردات: (اسم لكل فعل يُعرَف بالعقل أو الشرع حسنه) ، وقال ابن منظور: (هو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة اللّه والتقرّب إليه، والإحسان إلى الناس؛ وكل ما ندَب إليه الشرعُ ونهى عنه من المُحَسَّنات والمُقَبَّحات، وهو من الصفات الغالبة، أَي أَمْر مَعْروف بين الناس إذا رأَوْه لا يُنكرونه، والمعروف النَّصَفةُ وحُسْن الصُّحْبةِ مع الأَهل وغيرهم من الناس والمُنكَر ضدّ ذلك جميعه) .
إن المعروف بين الناس بابه واسع جداً، فالكلمة الطيبة، والتبسم، وإغاثة الملهوف، وإعانة ذا الحاجة، وقِرى الضيف، وحمل المنقطع، وما أشبه ذلك، كل هذا من المعروف، وهو لصاحبه صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة" .
لقد كان الناس حتى زمن ليس بالبعيد يبذلون المعروف ويتسابقون إليه ويتنافسون فيه ويتواصون به فيما بينهم، وكان الإقبال عليه من أسباب المدح والتقدير، بينما الإعراض عنه من أسباب الذم والقدح؛ فلما كثر الناس، واتسع العمران، وتباعدت منازل القوم، وزحفت القيم المادية على المجتمع، شح كثير من الناس بالمعروف وزهدوا فيه، لأن بذله بلا مقابل -في نظرهم- غبن وخسارة ومضيعة للوقت، وهذا بلا شك خطأ فادح، لأن بذل المعروف إن كان بلا مقابل ممن يُحسَن إليه، فإنه ابتداء من مكارم الأخلاق، كما أن أجره عند الله عظيم وثوابه جزيل، قال عليه السلام: "كل معروف صدقة" ، قال النووي رحمه الله: (أي له حكمها في الثواب) ، ومعلوم أن الصدقة بعَشر أمثالها وأن الله يضاعف لمن يشاء.
وقد ورد ثواب أعمال بعينها من المعروف، فمن ذلك قوله عليه السلام: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة" ، وقوله: "بينما رجل يمشي في طريق إذ وجد غصن شوك فأخره، فشكر الله له فغفر له" ، ورُوي عنه عليه السلام -في حديث اختلف في إسناده- قوله: "ما من امرئ ينصر مسلماً في موضع يُنتَقَص فيه من عرضه ويُنتَهَك فيه من حرمته، إلا نصره الله في مواطن يحب نصرته" ، ويستفاد مما سبق أن صنع المعروف لا ينفع العبد المسلم في الآخرة فحسب بل ينفعه في الدنيا كذلك.
ومن ألطف ما جاء في نفع المعروف لصاحبه في الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" ، فهذا كله يدل على خطأ هؤلاء وقصر نظرهم، وهو ما أدركه كثير غيرهم، وتمثلوا في ذلك قول الشاعر:
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ *** لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللهِ وَالناسِ
بعض الناس قد يتعلل في ترك فعل المعروف بما يقع في أحيان كثيرة من استغلال ضعاف النفوس من المحتالين أو اللصوص ومن أشبههم لرغبة الناس في فعل الخير وبذل المعروف، فيقولون إن الدنيا قد تغيرت وكثرة المحتالين والمدعين لم تدعنا نفرق بين الصادق والكاذب، ونحن نخشى أن نقع ضحية لبعض هؤلاء فنجر على أنفسنا ضرراً كنا في غنىً عنه.
وبرغم أن فيما يذكرونه شيئاً من الصحة، إلا أن هذا لا ينبغي أن يكون مانعاً لنا من فعل الخير وبذله فيما بيننا، فمن يفعل المعروف اليوم قد يكون في الغد من أحوج الناس إليه، ومن يراعي جانب ما يحصل من حوادث ويغفل كثيراً من صور بذل المعروف الجميلة يكون كمن يصف الكأس بأن نصفها فارغ متناسياً النصف الثاني؛ ولو أن الجميع تبنوا هذا الفكر السلبي لفسدت معايش الناس، وتمزقت عرى المجتمع، ودب الضعف والوهن إليه كما يدب السوس في الخشب المهترئ.
إن المطلوب من الجميع اليوم في مقابل هذا الواقع الذي نعيش فيه أن يتعاملوا معه بإيجابية وفاعلية؛ بأن يبادروا إلى فعل الخير وبذل المعروف، مع التيقظ والتفطن لمن يحاول خداعهم والاحتيال عليهم، مع تنبيه الناس على أن الخير موجود وكثير، وأن الصادقين كثر كذلك، والتأكيد على ذلك بنشر نماذج حقيقية تدلل عليه في مقابل ما يتداول من النماذج السيئة.
فإن قُدَّرَ وخُدِعَ المرء، فليست هذه نهاية الدنيا! وليتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّقَ الليلة على زانية! قال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على غني! قال: اللهم لك الحمد على غني! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على سارق! فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق. فأُتِيَ فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها، ولعل الغنى يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته".
فإن أبى بعض الناس إلا أن يُغَلِّبَ سوء الظن حتى يجعله أصل تعامله ونظرته للناس، وإن أصر على أن ينظر لنصف الكوب الفارغ فحسب، فلا أقل من أن يحتفظ بسوء ظنه لنفسه ولا يمنع غيره من الإقبال على فعل الخير، كي لا يكون من الناهين عن المعروف أو القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، عسى أن يدخل بهذا الكفِّ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة" قيل له في آخره: "فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر فإنه له صدقة"، والله أعلم.