المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : 80 فائدة من دعاء الاستخارة.



محب التوحيد
12 Nov 2008, 10:33 AM
80 فائدة من دعاء الاستخارة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،وبعد:

فإكمالاً لسلسلة (الفوائد المستنبطة من الأحاديث النبوية)؛ سأستعين ربي على استنباط الفوائد من دعاء الاستخارة، وهو حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنه.

•نص الحديث:

عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلِّمنا السورة من القرآن، يقول: " إذا همَّ أحدكم بالأمْر، فليَركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم، إني أستخيرك بعلمك، وأستقدِرك بقدرَتِك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدِر، وتعلَم ولا أعلَم، وأنت علام الغيوب، اللهم، إن كنتَ تعلَم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويَسِّرْه لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضِنِي به" . متفق عليه.

الفوائد:

فيه الكثير من الفوائد التربوية والإيمانية، والأحكام الفقهية، ومن ذلك ما يلي:

1- في الحديث دلالة على: أن الاستخارة تشرع عندما يَهُمُ الإنسان بالأمر من الأمور؛ لقوله في الحديث: ((إذا همَّ)).

2- دلَّ الحديث بمفهومه على: أن الاستخارة لا تشرع عند الخواطر والأفكار التي تسبق للذهن، والتي لا يكاد يسلم منها أحد غالبًا؛ لقوله في إحدى روايات الحديث: ((إذا أراد أحدكم الأمر))، فالهمُّ المطلق في الرواية الأولى بيَّنَتْه الإرادة في الرواية الثانية، ويخرج عن ذلك الخواطر.

3- الاستخارة في الحديث تشمل:

أ - طلب خير الأمرين، وهذا مأخوذ من معناها اللغوي.
ب - وتشمل أيضًا إذا أراد الإنسان فعل أمر ما؛ لقوله في الحديث: ((إذا أراد أحدكم)).

4- ظاهر الحديث يدل على أن الاستخارة تشمل الأمور الواجبة والمستحبة والمباحة، وليس المراد أحيانًا الاستخارة في أصل فعلها، وإنما في أمور أخرى تتعلق بالأمر الواجب؛ كوقت فعله وطريقة أدائه، أو عند تزاحم الواجبات والمستحبات، وهكذا، فليس من الضرورة أن تكون الاستخارة في أصل أداء الفعل الواجب حتى تُمنع، وعموم الحديث: ((إذا أراد أحدكم الأمر)) يؤيد ذلك حيث أطلق الأمر.

5- الحديث يدل الإنسان المسلم على عدم الانسياق وراء الخواطر والأفكار التي تَرِدُ على الذهن؛ ولهذا لم يشرع لها الاستخارة، وكم تسببت هذه الخواطر: من وسوسة، وضياع للأوقات، وإشغال للذهن.

6- يدل الحديث بمنطوقه على تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة سُوَرَ القرآن، حتى صار غيرها يقاس عليها من حيث الأهميةُ وعدمُها؛ ولهذا قال الراوي: ((كما يعلمنا السورة من القرآن))، فدل على فشو ذلك بينهم وانتِشاره، وهي سمة المجتمع المسلم.

7- يدل الحديث على نشر العلم، وتعليم الناس الأذكار والأوراد، وإعادتها حتى يتم حفظها، وهذا واجب الدعاة اقتداء بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم هذا الذكر دليل صريح على ذلك.

8- لا يدخل في الحديث الهمُّ بالمحرمات والمكروهات؛ لأن مجرد كونها منهيَّاتٍ فهذا يدل على كونها شرًّا للعبد؛ ولذلك لا يستخار فيها، ولمصادمتها الأوامر الشرعية.

9- يدل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا همَّ)) إلى أن ما يرد إلى الذهن يمكن تقسيمه إلى:

أ - خواطر لا يهتم بها.
ب - وإلى: همٍّ.

والفرق بينها أن الهمَّ يرافقه إرادة وعزيمة على الفعل أو الترك؛ ولهذا جاء في الرواية الثانية: ((إذا أراد أحدكم الأمر)).

كما يمكن تقسيمها بناء على الحديث إلى:

أ - همٍّ معه إرادة: وهو المراد في الحديث في الروايتين.
ب - همٍّ لا إرادة معه: وهذا لاغٍ لا حكم له.

10- دلَّ الحديث بصريح منطوقه على: أن صلاة الاستخارة ركعتان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فليركع ركعتين))، ولا عبرة بالرواية التي أطلقت الصلاة في رواية الحاكم: ((فليصلِّ ما شاء))، ففيها تضعيف في سندها، ويقوي ضعفها مخالفتُها روايةَ الصحيحين.

11- دلَّ الحديث على: أن صلاة الاستخارة تكون من غير صلاة الفريضة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مِن غير الفريضة))، وعلى هذا لا يصح الاستخارة في ركعتي الفجر.

12- يَدُلُّ الحديث على أن نيَّةَ الفريضة لا يدخل معها نيَّةٌ أخرى، فإن التشريك في النيَّة يضعفها؛ ولهذا قال في الحديث: ((من غير الفريضة)).

13- يدل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غير الفريضة)) على: أن الاستخارة تصح في ركعتي تحية المسجد والسنن الرواتب؛ فإنها داخلة في عموم: ((من غير الفريضة)).

14- على القول بجواز كونها في السنن الرواتب، فالحديث يدل على تداخل النية بين الاستخارة والركعتين غير الفريضة، والتداخل بين بعض العبادات يصح بشروطٍ محلُّها كتب الفقه.

15- يدل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع)) على: أن نيَّة الاستخارة ينبغي أن تصاحب المصلي قبل البدء بالصلاة حتى ينتَهِي مِنْها.
وعلى هذا لو شرع إنسانٌ بصلاةِ ركعَتَيْن للسنّة الراتبة أو سنة مطلقة، ثم طرأت عليه نية الاستخارة، فإن مفهوم الحديث يدل على أن هذه النية لا تصح، ولا بد من نية تخص الاستخارة قبل البدء بالركعتين.

16- لم يرد في هذا الحديث وغيره السور التي تستحب القراءة بهما في ركعتي الاستخارة، وعلى هذا تبقى القراءة فيهما مطلقة من غير تقييد بسورة معينة أو آيات معينة.

17- قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: ((ثم ليقل)) يدل في ظاهره على أن هذا الدعاء بعد صلاة الركعتين، وقد اختلف أهل العلم في مَوطِن ذلك على قولين:

أ - يقال الدعاء قبل السلام.
ب - يقال الدعاء بعد السلام.

وظاهر الحديث يؤيد القول بأنه بعد السلام، لقوله: ((فليركع ركعتين ثم ليقل))، فيفهم منه أنه عزل الركعتين عن الدعاء، والمسألة محتملة، والأمر واسع - بإذن الله - سواء قبل السلام أم بعده.

18- دعاء الاستخارَة يدل على ضعف العبد، وقلة علمه، فهو يستخير ربَّه في أمره، مما يدل على أنه لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ومن تأمَّل ألفاظ الدعاء تبيّن هذا الأمر بوضوح، فقوله: ((فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر))، وغيرها يدل على ذلك.

19- وكذلك يدل دعاء الاستخارة على: أن الإنسان قد يُقدِم على فعْل أمر، ويعود هذا الأمر بالضرر عليه من حيث كان يرجو خيره، فليس بالضرورة أن ما كان خيرًا في نظر الإنسان يكون خيرًا له في دينه وحياته، وقديمًا قيل: "مِن مَأمَنِه يُؤتَى الْحَذَرُ".

20- يربي هذا الدعاء في قلب المؤمن التوكل على الله، فإن دُعاء الاستخارة فيه تفويض الأمر إلى الله مع بذل سبب الدعاء، وهذا هو المعنى الحقيقي للتوكل فقوله: ((اللهم، إن كنت تعلم أن هذا الأمر)) فبهذا فوَّض العبد أمره لربه.

21- يربي هذا الدعاء قلب المؤمن كذلك على تعظيم الله - سبحانه وتعالى - وهو أهل للتعظيم، فقول العبد: ((وأستقدرك بقدرتك؛ فإنك تقدر ولا أقدر))، فيه مِن التعظيم ما يعود نفعه على قلب المؤمن؛ ولهذا إن استَشعَرَ العبدُ ذلك حال دعائه، أدرك أن الله منجز له حاجته بإذن الله.

22- كما يربِّي هذا الدعاء قلب المؤمن على عظمة منزلة علم الله المحيط بكل شيءٍ، فقول العبد: "وأنت علاَّم الغيوب" تشعر العبد المؤمن بمعيّة الله وعلمه المحيط، فهو يستخير إلهًا عليمًا لا تخفى عليه خافيةٌ، وهذا الشعور له أيضًا أثرٌ واضحٌ على اعتقاد العبد حال الدعاء.

23- في الحديث إثبَات صفات الله - سبحانه وتعالى - الَّتي تليق به، ومن ذلك صفتي العلم والقدرة، وهذا دليل لأهل السنة المثبتة للصفات.

24- يدل دعاء الاستخارة على تعبُّد العبد المؤمن بآثار الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، فمِن صفات الله العلم والقدرة، وآثارها أن العبْد يَسْأل ربه بعلمه وقدرته أن يكتب له الخير، وهكذا التعبُّد لله ببقية الأسْمَاء الحسنى.
فالتعبد لله باسمه الرزَّاق يعني ألا يسأل العبد في رزقه إلا ربَّه، وألا يتوكل إلا عليه، وليعلم أن ما كتب له من رزق فسيلاقيه، فيورث له ذلك الرضا بالقضاء.

25- يدل الحديث على أن العبد لا غنى له عن الله طرفة عين، فالعبد يستخير الله في أخص أموره وحاجاته، فلا يعلم العبد مصلحة نفسه، فالله له الغنى المطلق، وبالمقابل العبد له الفقر المطلق.

26- دعاء الاستخارة له أثر بيِّن على قلب المؤمن فيورثه الطمأنينة؛ فإن العبد إذا استخار الله، وقال هذا الدعاء - أورثه ذلك طمأنينةً في قلبه، تنقطع معها كل الاضطرابات والأوهام، وألفاظ الدعاء تؤيد ذلك، فقوله: ((إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي))، وقوله: ((فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)) - يؤيد ذلك.

27- ومن آثار الاستخارة على القلب أنها تزيد محبته لربه؛ ولهذا يطلب العبد استخارة ربه، لما في قلبه من محبته، ويرضى بما يكتبه له، ويزيد على الرضا درجة الطمأنينة، والمحبة من أجل أعمال القلوب.

28- في الحديث بَيَان أهمية صلاة الاستخارة في حياة المسلم؛ ولهذا حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على بيانها وتعليمها لأصحابه، كما يعلمهم السورة من القرآن؛ وذلك لشدَّة الحاجة لها، فلا يحسن بالمسلم الجهل بها أو هجرها والتكاسُل عنها، أو الاستغناء بغيرها.

29- الحديث يدل على أن صفة الاستخارة: ركعتان تؤدَّى على صفة الصلاة المعروفة؛ ولهذا أحال النبي - صلى الله عليه وسلم - صفتها إلى ما هو معروف عندهم ومقرَّر، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((فليركع ركعتين من غير الفريضة)).

30- صلاة الاستخارة تدل على أهمية الصلاة في حياة المسلم، فلم يقتصر المستخير على الدعاء مع أهميته المعروفة، وإنما أضاف إليها صلاة ركعتين بين يدي دعائه، ومن هذا الباب ندرك السر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفزع إلى الصلاة كلما حَزَبَه أمر.

31- الصلاة بين يدي الدعاء كالتحية بين يدي الملوك قبل تقديم الطلب، والله - سبحانه وتعالى - ملك الملوك، والصلاة صلة بين العبد وبين ربه، وهي المناجاة؛ ولهذا كان دعاء الاستخارة بعد الصلاة لا قبلها.

32- بدأ المستخير دعاءه بقوله: ((اللهم))، فسأل ربه بالألوهية، وهي تتضمَّن العبادة، فكأنَّه يقول: ((أنت إلهي وأنا عبدك))، ولا أقرب من الإله الحق لعبده الصادق.

33- لفظ ((اللهم)) يشتَمل على الأسماء الحسنى، فكلها: إما متضمنة أو مستلزمة لاسم ((الله))، فناسب أن يقدم به المستخير بين يدي دعائه.

34- قوله: ((اللهم، إنِّي)) فيها تخصيص وتأكيد، وهذا هو الأنسب لحال المستخير أن يتَّجه بقوله وفعله لبيان فقره بين يدي ربه، فخصص نفسه اقتضاء لتخصيص حاله.

35- بدأ المستخير بنفسه، فقال: ((اللهم، إنِّي))؛ لأن العبد هو صاحب الحاجة والطلب.

36- قوله: ((أستخيرك)) الألف والسين والتاء لزيادة الطلب؛ فالمستخير ملحٌّ على ربه أن يختار له الخير، ويصرف عنه الشر، هذا الإلحاح تبيّن حتى بألفاظ دعائه، إضافة لحاله، فتوافق اللسان مع الحال، وهذا أقوى الدواعي للتأثير.

37- الكاف في قول العبد: ((أستخيرك))، إضافة إلى كونها كاف الخطاب بين العبد وبين ربه - فهي تفيد التخصيص، فكأن العبد بهذه الكاف يقول بلسان حاله: لا أستخير غيرك، وهذا هو لسان مقاله.

38- الباء في قوله: ((بِعِلْمِكَ))، وقوله: ((بقدرتك)) للاستعانة، أي: أطلب خير الأمرين مستعينًا بعلمك وقدرتك؛ وعلى هذا فهي تربي المؤمن على الاستعانة بربه.

39- ويحتمل أن تكون الباء للتوسل، وعلى هذا يكون المستخير توسل إلى الله بعلمه وقدرته، وهما أمران يتعلقان بمراد العبد من الاستخارة، والتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته من الأعمال المشروعة.

40- المناسبة ظاهرة بين العلم والقدرَة وبين طلب الاستخارة، فإن المستخير لا يعلم الخير: أيْنَ يكون؟ وكذلك لا يقدِر عليه لو علمه.
فأتى باسمين مناسبين لمسألته، وهذا من فقه الدعاء أن يأتي الإنسان في دعائه بما يناسبه من الأسماء الحسنى.

41- قَدم في هذا الدعاء العلم على القدرة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم، إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك))؛ فإن المستخير يسأل ربه أوَّلاً بعلمه للخير، ثم تأتي بعد ذلك قدرة الله على تيسير الخير للعبد، فرتبهما في الدعاء حسب ترتيبهما في الوجود.

42- قوله: ((أستقدرك)) يحتمل:

أ - أن العبد يطلب من ربه أن يجعل له قدرة على هذا الأمر.
ب - أن العبد يطلب من ربه أن يُقدِّر له الخير، أي: من باب القضاء والقدر.

والأمران محتَمَلان وبينهما تلازم من وجه، فما قَدَر عليه الإنسان فهو من قدر الله الذي قدَّره على عبده، وكلا الأمرين بيد الله - سبحانه وتعالى - فرجع الأمر له.

43- قوله: ((وأسألك من فضلك العظيم)) يدل على: أن الفضل بيَد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

44- كما يدل قوله: ((وأسألك من فضلك العظيم)) على: أن فضل الله لا نهاية له، فالله عظيم وفضله عظيمٌ.

45- كما يدل قوله: ((من فضلك)): أن ما يعطيه الله لعبده من خير، فهو محض فضلٍ من الله وليس بحقٍّ يستحقه العبد، وإنما لكمال فضله سبحانه، وهذا يؤيد مذهب أهل السنة في أن الله ليس عليه حق واجب؛ إلا ما أوجبه هو على نفسه - سبحانه وتعالى.

46- قوله: ((فإنك تقدر ولا أقدر)): فيها تَبَرُّؤٌ من الحول والقوة، فكأن العبد يقول: "لا حول لي ولا قوة إلا بالله"، فهو يحصر القوة والقدرة لربه، ويتبرأ من حوله وقوته إلا فيما أقدره عليه ربه، وهذا هو المعنى العملي لقولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله.

47- الملاحظ أنه في بداية الدعاء قدَّم العلم على القدرة فقال: ((أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك))؛ لكنه في وسط الدعاء عكس الأمر، فقدَّم القدرة على العلم، فقال: ((فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم، ولا أعلم))؛ وذلك لأنه قال: ((وأسألك من فضلك العظيم))، وفضل الله لا يقدر عليه إلا الله؛ فلهذا قال بعدها: ((فإنك تقدر ولا أقدر))، فقدم القدرة لتعلقها بتحصيل الفضل.

48- في حديث الاستخارة حسن الاستهلال في الدعاء، فيُقدِم الداعي لربه بين يدي دعائه مقدمة يثني فيها على الله، ويعترف بتقصيره وجهله، ويرجع الأمر كله لله، ثم يأتي بطلبه؛ ولهذا يقول الداعي في دعاء الاستخارة بعد تلك المقدمة: ((اللهم إن كنت تعلم)).

49- قوله: ((إن كنت تعلم)) ليس على سبيل الشك، ولا يجوز الشك بعلم الله، لكن الشك هنا متجه إلى كونه في الخير والشر، وليس إلى أصل العلم، وكلام العرب سائغ على هذا الأسلوب.

50- لا يكتفي المستخير بقوله: ((إن كنت تعلم أن هذا الأمر))، بل يسمي حاجته هنا بدليل رواية "فيسمي حاجته"، وفي رواية "ثم يسميه بعينه".

51- قوله: ((إن كنت تعلم هذا الأمر)) دليل على: أن الاستخارة لا تكون في أمرين معًا؛ بل لا بد من أمرٍ واحدٍ.

52- في أكثر الروايات تقديم الدين على الدنيا في قوله: ((في ديني ومعاشي))، وفي رواية ((ديني ودنياي))، وهذا من باب تقديم الأهمِّ، وفيه تربية للمؤمن على أن أمرَ الدِّين أهم من أمر الدنيا، وهو كذلك.

53- قوله: ((ومعاشي)) يراد به الدنيا ما توضحه الروايات الأخرى.

54- الجمع بين لفظتي: ((ديني ومعاشي)) في الخير والشرِّ، يدل على أن ما كان خيرًا في دين المرء كان خيرًا في معاشه، وما كان شرًّا على دين المرء كان شرًّا على معاشه.

55- قوله: ((وعاقبة أمري)) المراد بذلك الآخرة،

فيكون المستخير سأل ربه الخير في ثلاثة أمور:

أ - في دينه.
ب - في معاشه، وهي دنياه.
ج - في عاقبة أمره، وهي آخرته.

ومن رزق الخير في هذه الثلاثة فقد اكتملت سعادته، وهنأ عيشه.

56- قوله: "أو قال: عاجل أمرى وآجله" اختلف أهل العلم في موضعها على أقوال:

أ - قيل: بدل من الألفاظ الثلاثة في الرواية الأولى، وعلى هذا يكون لفظ الحديث: ((إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في عاجل أمري وآجله)).
ب - وقيل: بدل من اللفظين الأخيرين في الرواية الأولى، وعلى هذا يكون لفظ الحديث: ((إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني وعاجل أمري وآجله)).
والذي يظهر أن موضعها بدل الألفاظ الثلاثة كلها، والله أعلم وأحكم.

57- الرواية التي تجمع بين ((ديني ومعاشي وعاقبة أمري)) رجحها ابن القيم - رحمه الله - على رواية ((عاجل أمري وآجله))، فقال: "والصحيح اللفظ الأول، وهو قوله: ((ديني ومعاشي وعاقبة أمري))؛ لأن عاجل الأمر وآجله هو مضمون قوله: ((ديني ومعاشي وعاقبة أمري))، فيكون الجمع بين المعاش وعاجل الأمر وآجله تكرارًا بخلاف ذكر المعاش والعاقبة، فإنه لا تكرار فيه، فإن المعاش هو عاجل الأمر، والعاقبة آجله"[1].

58- وجود هذه الروايات المتعددة في "عاجل أمري" و"عاقبة أمري" و"دنياي وآخرتي" تدل على صحة رواية الحديث بالمعنى عند السلف، وهو الصحيح من أقوالهم.

59- قوله: ((ومعاشي)) وفي رواية: ((ودنياي)) يدل على اهتمام الإسلام بأمر المعاش والدنيا، وسؤال الله الخير فيها، ولا يتعارض هذا مع الأمر بالزهد في الدنيا، وفي هذه الفقرة من الحديث رد على متصوفة أهل الزهد.

60- حديث الاستخارة يدل على منهج أهل السنة والجماعة في باب القدر، وأن الله كتب كل شيء وقدره.

61- كما يدل على أنه لا يكون شيءٌ إلا بقدر الله، وهذا أيضًا من منهجِهم.

62- ويدل كذلك حديث الاستخارة على أن الله يمحو ما يشاء ويُثبِت، بدليل قوله: ((واصرفه عني واصرفني عنه)).

63- دعاء الاستخارة يدل على أن الله ربط الأسباب بمسبباتها، ومن الأسباب دعاء الله سبحانه وتعالى، ولو لم تكن له فائدة، لكان قوله لغوًا لا فائدة فيه.

64- صيغة المبالغة في الحديث "علاَّم الغيوب" تدل على إرجاع العبد العلم كله لله - سبحانه وتعالى - وأن العبد لا يعلم من علم الغيب شيئًا، فمن ادعى ذلك فقد كذب وكفر.

65- قدَّم الخير على الشر في هذا الحديث في قوله: ((إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي)) من باب التفاؤل، وهو الأليَق مع الله، والأنسَب لحال العبد؛ ففيه فقه من حيث الألفاظ.

66- دل الحديث على أن العبد يحتاج للخير في ثلاثة أمور:

أ - أن يُقَدِّرَ الله له الخير، أو يُقْدِرَهُ الله عليه، أي: يجعل فيه القدرة؛ ولهذا قال: ((فاقدره لي)).
ب - أن ييسره الله له؛ لأن الخير إن كان عسيرًا استهلك وقتًا وجهدًا في تحصيله، وقد يستصعبُهُ فيتركَ طلبَهُ؛ ولهذا كان من المناسب قوله: ((ويسّره لي)).
ج - أن يبارك له فيه، فإن لم تحصل البركة فإن العبد لا يستفيد من الخير كثيرًا، فكان من المناسب قوله: ((وبارك لي فيه)).

وبهذه الثلاثة يكمل الخير كله على الإنسان، نسأل الله الكريم من فضله.

67- ودل الحديث على أن العبد يحتاج في الشر الذي يقدره الله عليه إلى:

أ - أن يصرف الله الشر عن العبد؛ ولهذا قال العبد في دعائه: "فاصرفه عني".
ب - أن يصرِف الله العبد عن الشر، فإن العبد جهولٌ ظلومٌ؛ ولهذا حَسُن قوله في دعائه: ((واصرفني عنه)).
ج - أن يقدر الله للعبد خيرًا مما صرفه عنه من الشر؛ ولهذا قال: ((واقدر لي الخير)).
د - أن يُرَضِّي الله عبدَه بالخير الذي قدره له، فإن العبد من جهله أحيانًا أنه إذا لم يَرْضَ بما قدَّره الله له تبْقَى نفسُه معلَّقة بمُرادها الأول الذي صرفها الله عنه، فلا تزال معلَّقة به، فتفسد عليها حياتها لفقدانها الرضا بالخير الجديد الذي كُتب لها؛ ولهذا قال العبد: ((ثم رضِّنِي به)).

68- جمع الله لعبده المؤمن التوفيق في هذا الحديث من ثلاث جهات:
أ - أن يقدر له الخير، ويعينه، وييسره له.
ب - أن يصرف عنه الشر، ويصرفه عنه.
ج - أن يعوضه عن الشر خيرًا، ثم يُرَضِّيه به.
فأي رحمة واسعة هذه الرحمة، وأيُّ كرم عظيم هذا الكرم.

69- يدل قوله: ((واصرفه عني، واصرفني عنه)) على: أن العبد يَسأل ربَّه تمام المباعدة بينه وبين الشر، ولا يكون هذا إلا بأن يصرف الله الشر عن العبد، ثم يصرف العبد عن الشر، فكلاهما مصروف عن الآخر، وبهذا تحصل تمام المباعدة.

70- كما يفيد قوله: ((واصرفني عنه)) على أن العبد يسأل ربه ألا يبقى في قلبه بعد ذلك تعلق بهذا الأمر الذي يريد فعله؛ لأن إرادة القلب تتحول إلى عمل، فاحتاج العبد أن يسأل ربه تمام الصرف لئلا يتعلق به.

71- قوله: ((واصرفني عنه)) تدل على جهل الإنسان، فقد يصرف الله الشر عن العبد، لكن العبد لجهله بمآلات الأمُور يحرص على هذا الأمر، ويتتبَّعُه، ويتحسَّر لفوته، وقد يسأل ربه، فاحتاج العبد أن يجمع في دعائه بين ((واصرفه عني)) و((واصرفني عنه)).

72- قوله في هذا الدعاء: ((ثم أرضِنِي به))، وفي رواية: ((ثم رضِّني به)) - دليل على أن من أنعم الله عليه بنعمة، فعليه أن يرضى بها ليكمل عليه الخير، وأن السخط قد يطرد الخير الذي قدَّره الله.

73- في الحديث دليلٌ على: أن من استخار ربه بشيءٍ فلم يكتب له، فعليه أن يزيل تعلقه من قلبه؛ ليكون أهنأ لعيشه، وأكثر طمأنينة لقلبه، وهذا حلٌّ عمليٌّ لكثير من مَسائل الناس اليوم، حيث تذهب أنفسهم حسرات على فوات خير يظنُّونه؛ لكن الله لم يكتبه لهم لحكمة يعلمها سبحانه.

74- في سؤال الإنسان لربِّه الخير بدأ بالتقدير فقال: ((فاقدره لي))، وفي سؤاله صرف الشر أخَّر التقدير، وهو الأنسب؛ لأنه يريد صرف الشر عنه أولاً، ثم بعد ذلك يقدر مكانه خيرًا.

75- في دعاء الاستخارة تمام الخضوع والذل لله، ومن تأمل ألفاظ الاستخارة، وجدها في غاية التذلل لله، فقد نسب العلم كله لله، والقدرة له، ونفى العلم عن نفسه، ونفى قدرته على فعل شيءٍ، ولا شك أن التذلل لله أحد ركني العبادة، والمحبة ركنها الثاني وقد مضى التنبيه عليه.

76- من فوائد دعاء الاستخارة: أنه يورث الطمأنينة، ويزيل الاضطراب الذي يحصل عند البعض حين الإقدام على فعل شيءٍ أو ترك شيءٍ، وهذا الاضطراب والتردد كثيرًا ما يعكر على الإنسان صفو حياته، فجاءت الاستخارة مزيلة لكل هذه الأمور، مورثة العبد المؤمن الطمأنينة.

77- صلاة الاستخارة بابٌ من أبواب تحصيل الحسنات؛ لما فيها من الصلاة والدعاء، ولو لم يحصل المستخير إلا على أجر صلاته ودعائه لكفى، فكيف وفضائل الله عليه تترَى؟

78- الاستخارَة دليل على: أن المؤمن لا يثق بشيءٍ ثقتَه بربه - سبحانه وتعالى - ولهذا يترك ما أعطاه الله من دقة تفكير وملاحظة، ويلجأ لاستخارة ربه في صلاته، وهذا نابع من الثقة بالله وحسن الظن به.

79- لم يَرِدْ في هذا الحديث علامة انشراح الصدر أو غيرها من العلامات، وهذا الحديث هو العمدة في الباب؛ ولهذا لا يشترط أن ينشرح صدر العبد بعد صلاة الاستخارة، وإنما يفعل الإنسان ما يريد فإن تيسر له كان من تيسير الله، وإن تعثر كان من صرف الله عنه، وقد يرزق بعض الناس انشراحًا في الصدر لأمر معيَّن بعد الاستخارة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

80- من صلَّى صلاة الاستخارة، وفعل ما ظهر له بعد ذلك - فعليه ألا يندم، ولو لم يوافق ذلك هواه، كأن يستخير الإنسان في زواج، ثم يحدث طلاق بينهما، فالمؤمن الحق راضٍ بما اختاره الله له، ولو لم يوافق هواه ورغبته.

وبهذا انتهى ما أردتُ.

أسأل الله أن يفتح على قلبي من بركات علمه، وأن يجعل عملي في رضاه، وأن يتقبله مني، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


الكاتب:عقيل بن سالم الشمري.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] "جلاء الأفهام"، 1/324.

مسك الختام
12 Nov 2008, 11:51 PM
كتب الله أجركم ونفع الله بكم

محب التوحيد
13 Nov 2008, 10:39 AM
مسك الختام

شاكر مرورك الكريم

النصوح
14 Nov 2008, 10:31 PM
جزاك الله خير اخي الكريم

شكر الله لك طيب شرحك