المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : | | وداعــــاً هيـــــا..||



دمـ تبتسم ـوع
03 Nov 2008, 06:40 PM
الســـلام عليكم ورحمة الله وبركــــاتـــــه


وداعـــــــــاً هيــــا..
منذ سنوات تعودت هيا أن لا تنام بعد أن تصلي الفجر ، تعد القهوة لوالديها والإفطار لإخوانها ، وتكمل ما فاتها من أمور البيت ، التي غلبها الإعياء والنوم ، دون أن تنجزها الليلة السابقة .
في الخامسة والعشرين ولم تتزوج هيا ، التي أصبحت معلمة منذ ثلاث سنوات . متوسطة الجمال ، ومتوسطة في كل شئ ، طرق باب أهلها كثير من الرجال ، لكنها امتنعت عن الزواج ، أو أن شرطها ، يرد عنها راغبي الزواج : أتزوج لكن أبقى عند أهلي …
- من يقبل هذا الشرط يا هيا …؟ تسألها أمها بمزيج من العتاب والشفقة .
تحاصر آهة تكاد تذيب صدرها ، وترد على أمها دون أن تنظر في عينيها : - المقسوم لابد أن يكون يا أميمتي .
بينها وبين أكبر إخوانها عشر سنوات ، بنت في الخامسة عشرة . أمها ليست من أنصار تحديـد النسل ولا تنظيمه . نصف متعلمة ، أو قل أمية إن شئت ، أجهضت في حملها الثاني ، بعد هيا ، فأسقطت جنينها ، فتأثرت قدرتها على الإنجاب ، وفشل أطباء المستشفى الحكومي في علاجها ، ولم يكن في مقدور الوالد ، الفقير المعدم ، الذي لا يملك إلا دكانا صغيرا ، أن يعالج أمها في المستشفيات الخاصة .
حملت أمها دون علاج ، هكذا كأقدار البسطاء ، بعد عشر سنوات ، وأنجبت أربع بنات وولدين ، أكبرهم عمره سبع سنوات . قبل ست سنوات ، حينما كانت أمها حاملاً بأخيها الأصغر ، وبينما كان والدها يجتاز الشارع ، في ظهيرة حارة ، في اتجاه الكلية ، حيث كانت تدرس ، ليأخذها ويعود بها إلى البيت ، إجتاحته سيارة فارهة ، فأصيب بشلل رباعي . لم يعرف نوع السيارة ، ولا قائدها ، لكن ، قال له فيما بعد ، شخص كان حاضرا الحادث ، أنه ترجل من السيارة شاب ، فتفقد مقدمة السيارة ، ثم قال ، وهو يمد بطاقة أخرجها من جيبه، لسيارة شرطة صادف وجودها في تلك اللحظة : - “وجع … ما يشوف …؟” . ثـم أنطلق ، وهو يمسح من على جبينه حبات من العرق تكثفت ، حينما لفحت الشمس وجهه ، الذي كان قد غادر لتوه هواء مكيف السيارة البارد .
هيا تخرج من البيت بعيد الفجر ، قبل أن تمزق الشمس أستار الظلام ، لتقلها سيارة ، هي وبعض زميلاتها ، إلى حيث تدرس ، حيث تم تعيينها معلمة في مدرسة تقع في قرية تبعد عن مقر إقامتها 3.. كيلو متر . لم يشفع لها حطام ذلك الآدمى .. أبوها ، ولا أمها البائسة التي تنوء بهم أبيها المقعد ، وبقلق الخوف عليها منذ تخرج حتى تعود ، وقلق العـذاب على مستقبلها ، الذي يعني بؤسا وضياعا لهم جميعا لو تركتهم … وهي لن تفعل .
قالت للمسؤول : - هذه حال أبي .. وأمي وإخواني القصر .. أن تجد لي مخرجا .
سعادة المسؤل ، النزيه جدا ، قال لها : - عفوا .. النظام لا يسمح .
وضعت سماعة الهاتف ، والمرارة تكاد تمزق حلقها ، ونظرت بانكسار للمديرة وقالت : - لقد رفض .. يقول النظام لا يسمح .
كلتاهما تعلمان أن (سعادته) ، قد نقل قريبة له قبل أيام ، من مدرسة في الحي المجاور إلى مدرسة ملاصقة لمنزلها . استدارت خارجة من مكتب المديرة . وحينما حاذت لوحة على الجدار تعلق عليها قرارات إدارة التعليم بصقت عليها . هكذا هو رد فعل المحرومين، البؤساء ، يعبرون عن غيظهم بالبصق على الجدران .. فقط حينما لا يراهم أحد .
دائما أصادف هيا تخرج ملتفة بعباءتها مع الفجر ، تنتظر السيارة التي تقلها إلى عملها .. إلا اليوم . اليوم أنا أجهشت بالبكاء ، حيث لم تخرج هيا كعادتها . وهي أيضا لم تعد القهوة لوالديها ، أو تدفئ الماء لأمها ، التي تسلخت يداها ، من رضح نوى التمر لبيعه علفا للأغنام . وهي كذلك ، لن تصنع فطورا لأولئك الأطفال ، الذين سيخرجون إلى المدارس شعورهم مبعثرة .. وربما بلا فطور .
اليوم أنا أجهشت بالبكاء ، بكيت كثيرا ، رغم أنه لا تربطني بهيا صلة لقد غادرت أهلها إلى الأبد .
اليوم أنا مزقني البكاء على هيا .. هيا ماتت بحادث سيارة ، قتلتها السيارة التي تحملها إلى عملها البعيد عن حطام البشر ، الذين كانت تقوم قبل الفجر من أجلهم .. وأمتنعت عن الزواج من أجلهم .
أنا جار هيا الذي أنطفأ وهج الحياة في قلبه ، يوم أنطفأت هيا .. الشمعة التي ظلت تتقد بصمت .. تقاوم الظلام بصمت .. تقاوم الصقيع بصمت .. الظلام والصقيع بكل ما يمثلانه من ظلم ، وتخلف ، وحيف ، وقسوة ، وترف وبيروقراطيـة قبيحة . الظلام والصقيع كأبرز مظاهر التوحش وإحتقار الإنسان ونسيانه .
أنا اليوم جار هيا الجريح لأن هيا التي مثلت أجمل مظاهر مقاومة الفناء ، الذي يفرضه الإنسان على الانسان ، وهيا التي مثلت نافذة الضوء الوحيدة ، لبقايا بشر (يقفون) بين الحياة واللاحياة .. قد أنطفأت إلى الأبد .
هيا ماتت في حادث سيارة ولم يسمع بها أحد ، رغم أنه دوى في قلوب أناس أيقظ نحيبهم صـم الصخر .
ماتت في عباءتها ماتت لم تتزوج ولم تصنع لنفسها حياة ، لأنها كانت مشغولة بصناعة الحياة لغيرها … ولم تكتب عنها الجريدة . قلت لرئيس تحرير جريدتنا المحلية : - ماتت هيا ..
قال : - كتبنا عن ديانا .
اليوم أنا أجهشت بالبكاء … بكيت طويلا ، وقفت ولم تخرج هيا كعادتها . اليوم كذلك ، لم يخرج الأطفال إلى المدارس ، ليس لأنه ليس هناك (هيا) ترتب شعورهـم وتعد لهم الإفطار . اليوم لم يخرج الأطفال إلى المدارس لأنه ليس لديهم دفاتر ، ولا أقلام ، ولا (مراييل) جديدة لأن هيا لم تعد هناك تنفق عليهم .
ماتت هيا فارتاح مدير التعليم ، ورئيس التحرير لن يكتب عنها ، وأنا انتقلت إلى بيت آخر، بعيدا عن بيت أهلها .. بعيد عـن المكـان الذي كانت تقف فيه ، بانتظار السيارة التي تقلها .. إذن أنا لن أفكر فيمن ماتت من أجلهم ..إذن أنا مرتاح الضمير …
شكرا مدير التعليم .. شكرا رئيس التحرير .. وداعا هيا .. وداعا هيا.
الكاتب د/ محمد الحضيف
:: مما أعجبنــي ::

أمير الأحبة في الله
04 Nov 2008, 12:12 AM
قصة رائعة
بوركت أخت دمـ تبتسم ـوع...

شـــذى
13 Nov 2008, 12:35 PM
بارك الله فيكم

@@ بريق الألماس @@
21 Nov 2008, 03:33 AM
بارك الله فيك ..
قصة جميلة ومؤثرة ..
سقطت دموعي عندما قرأتها ..
الله يغفر لها ويدخلها فسيح جناته ..