المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فقه الدعوة الى الله



البيان
10 Jul 2004, 01:42 AM
فقه الدعوة إلى الله
لفضيلة الشيخ الدكتور خالد القريشي (الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم – رحمهما الله - عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رسول الله كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
وفي رواية أخرى للبخاري: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ قَالَ: «كُلُّ ذاكَ يَأْتِينِي الْمَلَكُ أَحْيَانًا فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ وَيَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ أَحْيَانًا رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُول».
وهذا الحديث فيه من الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى شرح وبيان ما يأتي:
لفظة «صلصلة» وهي: صوت الأشياء الصلبة إذا وقع بعضها على بعض، وقيل هو الصوت المتدارك الذي لا يفهم أول وهلة.
ولفظة «الجرس» وهي: الجلجل الذي يعلق في رأس الدواب، أو صطل في داخله قطعة نحاس معلق منكوساً.
وأما جملة «فيفصم عني»: أي يُقلع.
وجملة - «ليتفصد عرقاً»: أي جرى عرقه كما يجري الدم من الفصاد.
أخي القارئ: ومن هذا الحديث نخرج بمجموعة من الفوائد والدروس الدعوية، نلخصها في الآتي:
أولاً: اهتمام السلف الصالح بتعليم أقاربهم وأهل بيتهم:
لقد كان سلفنا الصالح y مثالاً عظيماً في الدعوة إلى الله تعالى ونشر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس وخاصة بين أقاربهم وأهل بيتهم، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهـا، تحدث بهذا الحديث وغيره لابن أختها عروة بن الزبير رضي الله عنهـما، فقد كان ملازماً لها، يقول الإمام الذهبي - رحمه الله -: (حدث - عروة بن الزبير - عن خالته أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهـا، ولازمها وتفقه بها).
وأيضاً نجد في هذا الحديث أن عروة –رحمه الله– وعى هذا الدرس جيداً، وهو الاهتمام بالأقارب والأهل بالدعوة والتعليم، فحرص على تعليم ابنه هشام -رحمه الله- هذا الحديث.
لذا ننبه كل مسلم إلى الاهتمام والعناية بالأهل والأقارب في الدعوة والتعليم، فالله تعالى، يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. (الذين هم أقرب الناس إليك، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس.
كما إذا أُمِرَ الإنسان بعموم الإحسان، ثم قيل له: أحسن إلى قرابتك. فيكون هذا الخصوص، دالاً على التأكيد، وزيادة الحث.
فامتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الإلهي، فدعا سائر بطون قريش، فعمم وخصص، وذكرهم ووعظهم، ولم يُبقِ عليه الصلاة والسلام من مقدوره شيئاً من نصحهم وهدايتهم، إلا فعله، فاهتدى من اهتدى، وأعرض من أعرض).
الأمر الثاني الذي نستفيده من هذا الحديث: أهمية أسلوب السؤال والجواب في تحصيل العلم ونشره:
يقول العلامة العيني - رحمه الله تعالى- عند شرحه لهذا الحديث: (فيه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألونه عن كثير من المعاني وكان عليه الصلاة والسلام يجمعهم ويعلمهم، وكانت طائفة تسأل وأخرى تحفظ وتؤدي وتبلغ حتى أكمل الله تعالى دينه) أهـ.
ومن هنا يظهر أهمية هذا الأسلوب في الكشف عن كثير من المعاني والعلوم وذلك عن طريق تسليط الضوء عليها بالسؤال عنها. ومن السؤال لرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث نخرج بفوائد تتعلق بهذا الأسلوب، منها:
أولاً – أنه ينبغي للداعية إجابة من سأله عن أمر من أمور الدين.
ثانياً - جواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره مما يخفى.
ثالثاً - أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين.
رابعاً - أن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل وذلك يستفاد من قوله:«أَحْيَانًا فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ..».
الفائدة الثالثة التي نستفيدها من هذا الحديث: أسلوب ضرب المثل لتقريب المعاني و إيصالها للـذهـن:
لقد ضرب الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام الأمثال للناس، وذلك لما للمثل في الكلام من مكانة هامة ووظيفة لاتنكر، إذ أنه له تأثير عجيب في الآذان، وتقرير غريب لمعانيها في الأذهان.
يقول الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله- عن ضرب الأمثال إنها: (لتقريب المراد، وتفهيم المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به، فقد يكون أقرب إلى تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره، فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير. ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق، أمر لا يجحده أحد ولا ينكره، وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً، فالأمثال شواهد المعنى المراد، ومزكية له، فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، وهي خاصة العقل ولبه وثمرته) أ هـ.
وفي هذا الحديث يستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب، الذي قال عنه العلامة الكرماني –رحمه الله-: (إنه عليه الصلاة والسلام كان معتنياً بالبلاغة مكاشفاً بالعلوم الغيبية وكان يوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد فإذا أراد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادة ليعرفوا بما شاهدوه مالم يشاهدوه، فلما سأله الصحابي رضي الله عنه عن كيفية الوحي، وكان ذلك من المسائل العويصة ضرب لها في الشاهد مثلاً بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء تنبيهاً على أن إتيانها يرد على القلب في لبسة الجلال فيأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلوب، ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له بالقول مع وجود ذلك، فإذا كشف عنه وجد القول المنزل بيناً فيُلقى في الروع واقعاً موقع المسموع وهذا معنى قوله: «فيفصم عني وقد وعيت ..») أهـ.
الرابع من الفقه الدعوي الذي نستفيده من هذا الحديث: ضرورة تحلي الداعية بالصبر:
إن الصبر من أعظم صفات الداعية التي لا يستغني عنها في دعوته للناس واختلاطه بهم، فهو لابد أن يلاقي من بعضهم الصدود والإعراض، إن لم يلاق الأذى والعذاب والاضطهاد، فبالصبر يمضي في دعوته ولا يبالي بما يلاقيه في سبيلها من مشقة وصعاب.
يقول الإمام الخطابي - رحمه الله تعالى- عند شرحه لهذا الحديث: (وجملة الأمر فيما كان يناله من الكرب عند نزول الوحي هي شدة الامتحان له ليبلو صبره ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة، وحسن الاضطلاع للنهوض به إن شاء الله تعالى) أهـ.
فالداعية العالم - وريث الأنبياء في أخلاقهم وعلمهم ودعوتهم - لزاماً عليه أن يتحلى بالصبر ويتخلق به لكي تنجح دعوته، وتسير في مواجهة الصعاب والأعباء التي لا بد أن تلاقي كل من سار في هذا الطريق ومشى فيه.
الخامس من الفقه الدعوي في هذا الحديث:أهمية كون الداعية من جنس المدعوين ويشابهم في اللغة واللباس وغيرها من الأمور:
إن مما يساعد على تقبل المدعوين للداعية، والأنس به، وما يأتي به، أن يكون منهم، ويتكلم بلغتهم، ويلبس لباسهم، ويمارس عاداتهم - بشرط أن لا تخالف أيٌّ من هذه الأمور الشريعةَ، يقول الله تعالى: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليُبيِّن لهم}.
وفي هذا الحديث ما يدل على أهمية هذا الأمر، حيث يقول الإمام الكرماني -رحمه الله- عن أنواع الوحي في هذا الحديث : ( النوع الأول أشد عليه من النوع الثاني، وذلك لأن الفهم من كلام مثل صلصلة الجرس أشكل من الفهم من كلام الرجل المتكلم على الطريقة المعهودة عند التخاطب، أو لأن سنة الله تعالى لما جرت من أنه لابد من مناسبة بين القائل والسامع حتى يصح بينهما التحاور والتعليم والتعلم، فتلك المناسبة إما باتصاف السامع بوصف القائل لغلبة الروحانية عليه، وهو النوع الأول، أو باتصاف القائل بوصف السامع، وهو النوع الثاني، والدليل عليه تمثله رجلاً كما أن الدليل على الأول كونه قسيماً له، ثم لاشك أن الأول أشد، وقد تبين وجه الحصر فيهما من هذا التقدير ) أهـ .
لذا ينبغي للمسؤولين عن الدعوة وإعداد الدعاة، أن يهتموا بكون الدعاة من أهل البلاد التي تكون فيها الدعوة،حتى لا ينفروا منهم، ويبتعدوا عنهم، أو على أقل تقدير لا يأنسوا بهم مما يُضعف نتائج الدعوة المرجوة فيهم.
السادس من الفقه الدعوي في هذا الحديث : أهمية تفريغ المدعو من الشواغل قبل البدء بدعوته:
يقول الإمام النووي - رحمه الله تعالى- عند شرحه لهذا الحديث: (قال العلماء: والحكمة في ذلك -أي شدة الوحي وقوة صوته- أن يتفرغ سمعه صلى الله عله وسلم ولا يبقى فيه، ولا في قلبه مكان لغير صوت الملك) أهـ .
فمن هنا ينبغي التأكيد على أهمية احتياط الداعية بتنبيه المدعوين وإحضار قلوبهم وصرف الشواغل عنها، وذلك يكون برفع الصوت، أو إسكات الناس، أوصرف الشواغل الأخرى – كزخرفة المساجد، أو أن يكون حاقناً ( وهو الحابس لبوله ) وغيره من الشواغل - فإن هذا الأمر مما يساعد الداعية بشكل كبير على التأثير في المدعوين، وإيصال الرسالة إليهم.
السابع من الفقه الدعوي في هذا الحديث – هو اهتمام أم المؤمنين عائشةtا بملاحظة أحوال النبي r وبيانها للأمة:
فإنه يظهر من خلال هذا الحديث مكانة أمِّ المؤمنين عائشةَرضي الله عنهـا - في ملاحظتها لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثَمَّ نَقلُ هذه الأحوال والعلوم إلى الأمة - إذ تقول في هذا الحديث : ( وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا ) .
هذا وقد روت عائشة رضي الله عنهـا، أحاديث كثيرة حتى عُدت من المكثرين الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،وذلك كله منها طلباً للفائدة منه، ولتسير على هديه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم لتُفيد الآخرين وتفوز بشرف الدعوة لهذا الدين.
فما أحرى وأجدى بالنساء المسلمات إلى أن يقتدين بهذه السيدة الجليلة في الاهتمام بالدعوة والتعليم ، وأن يشغلن أوقاتهن بما ينفع في الدنيا والآخرة، وأن يصبحن شموعاً تضيء البيوت، وكل مكان يحللن فيه .
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين0

سنا البرق
11 Jul 2004, 05:37 PM
<div align="center">حفظك الله ستة نقاط مهمة جداً .</div>