المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جوانب المحبة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم



مسك الختام
17 Jul 2008, 08:46 AM
مقدمة البحث
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك المتفرد بصفات الكمال .والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله إمام المحبين وسيد المحبوبين وعلى اله وصحبه أجمعين .
وبعد :
إن الحديث عن المحبة بشكل عام ومحبة المولى عز وجل بشكل خاص من الأحاديث التي تناولتها أقلام علمائنا الأجلاء فألفوا فيها عدة كتب كانت النبراس الذي يضع الحب قي نطاقه الشرعي بعيدا عن خيالات القصصيين والشعراء وقد جسدت كتابات شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية – رحمه الله –هذا المعنى بشكل واضح .
أما حب الرسول صلى الله عليه وسلم لله فلم تفرد له كتب خاصة مهمة تعالجه باستثناء ما ضمته ثنايا " الشفا " من مباحث هامة وما القه بعض الكتاب عن جوانب متفرقة في الحب النبوي ككتاب "حب الرسول للنساء " لعبد الله كنون .وحبه صلى الله عليه وسلم لله لبعض الصحابة كأسامة بن زيد من خلال كتاب " أسامة بن زيد حب الرسول "للدكتور وهبة الزحيلي . لذا فان هذا البحث لا يدعي لنفسه الابتكار أو التجديد في الفكرة بقدر مايسعى لجمع ما تفرق في الكتب والتنسيق بينها مع تسليط الضوء على واقع المحبة النبوية في عصرنا الحالي والتذكير بالعلاج السليم للداء الذي ألم بالأمة والذي يعتبر تصحيح حبنا لنبينا عليه الصلاة والسلام جزءا مهما في سبيل تقويصلى الله عليه وسلم لله م مسارنا .
وقد بدا لي بعد جهد جهيد أن اقسم البحث إلى ثلاثة فصول يندرج تحت كل واحد منها مباحث تفصيلية
الفصل الأول:وهو بمثابة أرضية أولية ضرورية تسلط الضوء على جوانب مهمة في الحب النبوي وقد عنونته ب " أضواء على المحبة النبوية " وقسمته إلى أربع مباحث وهي :

المبحث الأول: بعنوان " حقيقة المحبة النبوية " عرفت فيه المحبة لغة واصطلاحا ثم تحدثت عن ألقاب المحبة مع الإشارة إلى علاقة المحبة بذات الله تعالى .وفي الأخير عرفت المحبة النبوية وبينت كيف أن النبي اصلى الله عليه وسلم لله ستحق محبتنا لحيازته الحسنيين : حسن الخلق وحسن الخلق.

المبحث الثاني:أجبت فيه عن تساؤلات هي في الأصل شبهات يثيرها الحاقدون حول سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لله فبينت انطلاقا مما اطلعت عليه أن الحب في حياته صلى الله عليه وسلم لله فطرة وليس شهوة.ثم تحدثت عن انعكاساته على سلوكه صلى الله عليه وسلم لله ومن ثم فقد كان عنوان هذا المبحث " طبيعة المحبة في حياته صلى الله عليه وسلم لله "

المبحث الثالث:أوضحت من خلاله " القواعد التي صان بها الرسول صلى الله عليه وسلم لله المحبة "وكيف عمل على توطيدها بتوجيهاته وأقواله الرشيدة .

المبحث الرابع:بعنوان " علامات محبته صلى الله عليه وسلم لله "وهو بمثابة الميزان الذي يسع كل إنسان امتلاكه حتى يزن بنفسه محبته للرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم لله صلى الله عليه وسلم لله ثم يصنفها أوفت بحق هذه المحبة أم لم توف ?

الفصلالثاني׃ تحدثت فېه عن صور المحبة فې سېرته صلى الله علېه وسلم وذلك من خلال المباحث الثالېة׃
المبحث الأول: تعرضت فيه لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عزوجل مع بيان بعض الصور التي تعبرعن هذه المحبة العظيمة .والغرض من هذا المبحث ليس تأكيد محبة الرسول صلى الله علېه وسلم لله عزوجل لان هذا واضح ومسلم به وإنما القصد الاسترشاد بهديه صلى الله علېه وسلم.
المبحث الثاني: بعنوان " محبة الرسول صلى الله علېه وسلم للغير" وقصدت بالغير أهله صلى الله علېه وسلم وأصحابه والناس كافة.فتحدثت عن حبه لزوجاته خاصة خديجة وعائشة رضوان الله عليهما .وأولاده خاصة فاطمة الزهراء .وأحفاده خاصة الحسن والحسين رضي الله عنهما .ثم انتقلت للحديث عن حبه لأصحابه رضوان الله عليهم .
المبحث الثالث : وهو الوجه الآخر للمبحث السابق أي "محبة الغير للرسول صلى الله علېه وسلم"وهو من أبدع المباحث التي تثير الدهشة وتحفز على العمل في نفس الآن .إذ يظهر لنا الدرجة العظيمة التي بلغها حب "الغير" للرسول صلى الله علېه وسلم وکيف طبق الصحابة الکرام قول الرسول صلى الله علېه وسلم '' والذي نفسي بيده لايؤمن احدکم حتى اکون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين '' متفق عليه .
الفصل الثالث: لن أغالي إذا قلت بان الصعوبة التي وجدتها في هذا الفصل اثر من التي وجدتها في الفصلين السابقين .والسبب قلة المراجع التي کنت أتمنى أن تترجم الفكرة التي أشار علي بها الأستاذ المشرف وهي تحليل إسلامي علمي لواقع المحبة النبوية .وقد وفقني الله فعثرت على ما أصبو إليه من خلال مراجع للأستاذ محمد قطب وغيره فصغت فكرة من هنا وأخرى من هنا وباقتراح من الأستاذ ''سعيد ربيع'' کان العنوان المناسب هو " محبة الرسول صلى الله علېه وسلم بين العادة والعبادة "وقسمته إلى مبحثين
المبحث الأول :بعنوان " محبة الرسول صلى الله علېه وسلم من خلال العادة " وخلال هذا المبحث تحدثت عن الواقع المرير لهذه المحبة مع بيان بعض الصور المبتدعة للتعبير عنها .
المبحث الثاني: بعنوان " محبة الرسول صلى الله علېه وسلم من خلال العبادة " وکان هذا المبحث هو الأخير والفاصل لأنه يتحدث عن وجهة النظر الشرعية للمحبة النبوية والريق السليم للتعبير عنها دون تقصير أو غلو .

-1-

الفصل الأول

أضواء على المحبة النبوية

المبحث الأول:
حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم


لقد من الله عز وجل على عباده بنعم شتى من بينها نعمة الحب التي تعتبر أقوى رابطة يمكن أن تربط بين الناس وتؤلف بينهم, فهي " قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون , وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات " (1)
ورغم التعاريف الكثيرة التي قيلت عن المحبة قديما وحديثا فان الدارسين لم يستطيعوا آن يحددوا لها تعريفا دقيقا لأنها كما قال أبو جعفر الطحاوي –رحمه الله – "لا تحد بحد أوضح منها فالحدود لاتزيدها إلا خفاء وهذه الأشياء الواضحة لاتحتاج إلى تحديد كالماء والهواء والتراب ونحو ذلك " (2)
أو كما قال ابن الجوزية – رحمه الله- "حدها وجودها ولا توصف المحبة بوصف اظهر من المحبة " (3).
ولذلك دارت تعريفات العلماء لها على ستة أمور: أسبابها , موجباتها , علاماتها , شواهدها , ثمراتها وأحكامها .وقبل الوقوف على آراء بعض العلماء نفتح قواميسنا لنتعرف أولا على المعنى اللغوي لهذا اللفظ الذي صنف في خانة المشترك اللفظي .

-2-
ا- المعنى اللغوي:
الحب نقيض البغض يقال أحبه فهو محب ومحبوب .والحب أيضا الوداد والمحبة .وتدور هذه المادة في اللغة على خمسة أشياء:
أولا : الصفاء والبياض ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان .وسميت المحبة بذلك لما يستلزم قلب المحب من الصفاء والنضارة .
ثانيا :العلو والظهور ومنه حبب الماء وحبابه : وهوما يعلوه عند المطر الشديد لان القلب يغلي ويهتاج ويطفو عليه مثل الحباب إلى من يحبه .
ثالثا: اللزوم والثبات ومنه حب البعير وأحب: إذا برك ولم يقدر على القيام لان المحب لا يبرح بقلبه عن ذكر المحبوب بعد أن وقع في المحبة.
رابعا: اللب ومنه حبة القلب وهي العلقة السوداء التي تكون داخل القلب فاخذ اسمه من محله وهو سويداء القلب .
خامسا: الحفظ والإمساك ومنه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه.قيل الحب الجرة الضخمة .(1)
ا-المعنى الاصطلاحي:
كثرت تعريفات العلماء للمحبة وتعددت حتى أحصاها ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في ثلاثين تعريفا عرضها ونقضها وبين خطأ بعضا.واكتفي هنا بذكر هذين النموذجين :
× قيل " المحبة هي موافقة الحبيب في المشهد والمغيب " (2)
فقد تجاوز هذا القول تعريف المحبة بمجرد الميل أو الإيثار ووضع شرط الموافقة الذي يجعل المحبة صادقة وصحيحة وغير معلولة.
× وقيل "المحبة أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب " (3)
وهذا مقتضى المحبة وكمالها إذ يجب أن يتربع المحبوب بمفرده دون أن يزاحمه غيره وهذه لاينطبق إلا على محبة الله تعالى .


-3-


المحبة وذات لله تعالى بين النفي والإثبات :
اعتبر جمهور المتكلمين المحبة نوعا من أنواع الإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات وانه يستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته , وبناء على ذلك فسروا محبة الله بمحبة طاعته وخدمته أو محبة ثوابه وإحسانه .(1)
وقد رد ابن قيم الجوزية على هؤلاء المنكرين بقوله بان من أنكر المحبة فقد أنكر خاصة الخلق والغاية التي وجد لأجلها .إذ الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشا عن المحبة ولأجلها , وهي الحق الذي به وله خلقت السماوات والأرض والدنيا والآخرة .قال الله تعالى:﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾(2)كما أن القران الكريم والسنة النبوية الشريفة مملوان بذكر من يحبهم الله من عباده المؤمنين وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم .
فلو بطلت المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ولتعطلت منازل السير إلى الله .فالمحبة حقيقة العبودية ومنكرها ومعطلها من القلوب معطل لذلك كله.(3)
فالحب إذن ليس هو الإرادة بل هو صفة أخرى غيرها, إذ كيف نسوي بين صفتين لم يجعل الله إحداهما عين الأخرى !كيف نسوي بين المحبة والإرادة والله تعالى يقول ﴿قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة﴾(4) وقوله سبحانه ﴿إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئا ﴾(5) أو يمكن أن نضع الحب مكان الإرادة في هذه الآيات (6)

-4-

أما العارفون فيقولون :إنا نحب الله لذاته لا لغرض آخر فإذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه , والرجل الشجاع لقوته وغلبته, والرجل الزاهد لبراءة ساحته من المثالب, فالله تعالى أحق بالمحبة لان كل كمال بالنسبة إلى كماله نقص , والكمال مطلوب لذاته محبوب لنفسه (1).

د- ألقاب المحبة
أطلق الباحثون على المحبة ألقابا وأسماء كثيرة أحصاها ابن قيم الجوزية في حوالي ستين اسما , تتبعها بالشرح والتعليق فتبين له أن بعضها ليس من أسماء المحبة بل من أحكامها أو لوازمها أو ثمارها كالاستكانة والأرق والسهد والكمد وغيرها .
وحتى لا يأخذنا الحديث بعيدا عن محور البحث فقد آثرت الوقوف وقفات قصيرة أمام الألقاب التي اتفق الدارسون على اعتبارها من أسماء المحبة كالهوى والشغف والود والعشق ثم الخلة .
فالهوى :من فعل هوى يهوي هوى ومعناه "ميل النفس إلى الشئ "(2)أو " ميل القلب وسرعة تقلبه لأجل المحبة"(3) وأكثر ما يستعمل الهوى في الحب المذموم قال الله تعالى ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى﴾(4) .وقد يستعمل في الحب المحمود استعمالا مقيدا .
أما الشغف فقد عرفه الجواهري بقوله " الشغاف غلاف القلب وهو جلدة دونه كالحجاب .يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه" (5) .
أما الود فهو خالص الحب وألطفه وارقه وهومن الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة .(6)


-5-

أما العشق فهو الإفراط في المحبة وقد عد من أمر أسماء المحبة واخبثها وقل ماولعت به العرب بل هو مرض من أمراض القلب حتى قال بعض السلف " العشق حركة قلب فارغ " وقال ابن قيم الجوزية "العشق شرك في المحبة وفراغ القلب عن الله وتمليك القلب والروح والحب لغيره" (1).ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم لفظ العشق في حديث صحيح البتة وقد ذهب جمهور العلماء إلى منع إطلاق العشق في حقه سبحانه لاتصاف العشق بأمور لا تجوز في حقه تعالى (2) .

أما الخلة فخي صفة الخليل وهو مما يستوي فيه المذكر والمؤنث , والخليل هو من يخالك أي يوافقك في خلالك ويسايرك في طريقتك .وقيل الخليل هو المنقطع إلى الله الذي ليس في انقطاعه إليه ومحبته له اختلال.(3)
وقد حاول مجموعة من العلماء الموازنة بين المحبة والخلة فسوى بعضهم بين المقامين وخص آخرون المحبة بالرسول صل الله عليه وسلم والخلة بإبراهيم عليه السلام .
إلا أن أبا جعفر الطحاوي أبطل هذا الادعاء لان الخلة خاصة بهما والمحبة عامة قال صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا من أهل العارض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن "(4).أما المحبة فقد ثبتت لغيره كقوله تعالى﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾(5)



حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
عرف سفيان الثوري محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها "

إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم " (1) استنادا لقوله تعالى﴿قل

إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله "﴾(2)

أي إن كنتم تحبون الله فأطيعوه وافعلوا ما أمركم به ,إذ محبة

العبد لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم طاعته لهما

وتجنب عصيانهما .ولله درالقائل

تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لوكان حبك صادقا لاطعته إن المحب لمن يحب مطيع(3)

وقيل كذلك " محبة الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد نصرته, والذب عن سنته, والانقياد لها وهيبة مخالفته " (4) .
وإذا كانت المحبة هي الميل والموافقة,أي ميل الإنسان إلى ما يوافقه, فان هذه الموافقة تقتضي وجود أوجه عدة تتمثل في:
أولا: أن يكون المحبوب جميلا وحسنا فيلتذ المحب بإدراكه,كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والاشربة اللذيذة وأشباهها .
ثانيا: أن يكون المحبوب متخلقا بأخلاق سامية ومبادئ عالية تميل المحب نحوه كحب الأنبياء والصالحين.
ثالثا: أن يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه إليه وإنعامه عليه لان القلوب جبلت على حب من أحسن إليها . (5)
وإذا أمعنا النظر في هذه الأسباب الثلاثة الموجبة للمحبة, وجدنا بان الرسول صلى الله عليه وسلم كان جامعا لها دون ادني نقص .
فأما جمال الصورة فقد أثبتت الآثار المنقولة انه عليه الصلاة والسلام حباه الله مطهرا جميلا لا مثيل له , مظهرا
يوحي بثقة مطلقة لا حد لها , فما وقعت عليه عين إلا وأحبته وارتاحت للجلوس بين يديه , بل لقد اعتبر بعض العلماء أن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يكمل دون التيقن بأنه عليه الصلاة والسلام كان يتمتع بشكل جميل , قال الإمام القسطلاني – رحمه اله – " اعلم أن من تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم الإيمان بان الله تعالى جعل خلق بدنه الشريف على وجه لم يظهر قبله ولا يظهر بعده لخلق ادمي مثله ." (1) .وما أجمل قول حسان بن ثابت – رضي الله عنه –
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءا من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء (2)

وقالت أم معبد في بعض ما وصفته به " أجمل الناس من بعيد و أحلاهم وأحسنهم من قريب " (3) .
والأحاديث في بسط صفته صلى الله عليه وسلم الظاهرة كثيرة فلا نطول بسردها, لان كتب السيرة تتبعتها بالشرح والتعليق , ونحن سنكتفي هنا بما يفيدنا في الموضوع .

أما أخلاقه صلى الله عليه وسلم فقد كان نبينا الكريم دائم البشر , سهل الخلق , لين الجانب, ليس بفظ ,و لا غليظ ,ولا صخاب, ولا فحاش, ولا عتاب ,ولا مداح .قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء, والإكثار و ما لايعنيه .وترك الناس من ثلاث : لايذم أحدا ولا يعيره , ولا يطلب عورته , ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ,ي,تفقد أصحابه ,ويسال الناس عما في الناس, ويحسن الحسن, ويقبح القبيح ويوهنه, معتدل الأمر كان أوفى الناس بالعهود, وأوصلهم للرحم, وأعظمهم شفقة ورحمة بالناس .(4)

وعلى الجملة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلى بصفات الكمال المنقطعة النظير أدبه ربه فأحسن تأديبه , حتى خاطبه مثنيا عليه في كتابه العزيز ﴿وانك لعلى خلق عظيم ) ﴾(5)
وبهذا حازعليه الصلاة والسلام الحسنين: حسن الخلق وحسن الخلق , قال البوصيري:
أكرم بخلق نبي زانه خلق بالحسن مشتمل بالبشر متسم(6)
وقال احمد شوقي في همزيته :
زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء(7)

بهذه الخلال الطيبة السامية عاش الرسول صلى الله عليه وسلم بين أهله وقومه, ولأجل ذلك فاضت القلوب بمحبته , وتفانى الرجال في حياطته وإكباره حتى أحلوه من قلوبهم مكان الإعزاز والإكرام, ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر, فحققوا بذلك المعنى الحقيقي لمحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم ألا وهو : إتباعه والانقياد له والتخلق بأخلاقه والحفاظ على سنته

طبيعة المحبة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم

ان الهدف من هذا المبحث هو الاجابة على التساؤلات الآتية:ماحقيقة الحب في حياته صلى الله عليه وسلم ؟ وما هي طبيعته؟ هل كان فطرة متاصلة في نفسه الشريفة ام كان كما يدعي بعض المدعين شهوة ؟ وما مدى تاثير هذا الحب على سلوكه واخلاقه صلى الله عليه وسلم ؟ وما العلاقة بين الحب والبغض على ضوء السلوك النبوي ؟

ا- الحب والواجب
ان من يقرا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم سيكتشف انه كان محبا , وودودا, فقد أطاع الله كثيرا لانه احبه كثيرا ..وبر الناس كثيرا لانه احبهم كثيرا ..واقبل على الفضائل ووالواجبات جذلان مبتهجالانه احبها واحب معها كل عظائم الأمور, ومارسها في شغف عظيم ممارسة محب مفطور لا ممارسة مكلف مأمور فوراء كل سلوكه ومواقفه وحياته صلى الله عليه وسلم نجد الحب ..إذا سجد وأطال السجود أو سمع وجيب قلبه ونشيج تضرعه وبكائه ..فذاك لانه في غمرة شوق جارف ومحبة آخذة ولهذا كان عليه الصلاةوالسلام ينتظرالصلاة بشوق ولهفة فاذا جاء ميعادما قال لمؤذنه بلال – رضي الله عنه – "أرحنا بها يابلال " نعم "ارحنا بها " وليس "ارحنا منها ".
وهذا يظهر لنا الفرق بين من ينتظر الصلاة بكل شوق وحب ليلقى ربه عزوجل ويقف بين يديه ويرتاح اليه ..وبين من يقوم الى الصلاة ويعتبرها واجبا عليه اداؤه دون ان يحس بأدنى شوق أو لهفة للقاء المولى عزوجل .
وبهذا أيضا يظهر لنا الفرق بين الحب والواجب .فالواجب قد يؤدى على كره ومضض , أما الحب فيأخذ طريقه إلى اشق الأمور وأصعبها في ابتهاج وغبطة , لذا كانت الطاعة عن حب اولى من الطاعة عن خوف وفهر .



ب- المحبة والفطرة
المحبة عند الرسول صلى الله عليه وسلم ليست شهوة, إنما هي فطرة جبل عليها منذ كان طفلا ففتى فكهلا..لم تقع عليه عين الا أحبته وأسلمت قلب صاحبها لهيام شديد حتى ولو كان من اشد المبغضين له . فكم من اعرابي فدم لا ادب له ولا فهم ولاغقل ولاعلم ولا كرم ولاحلم قابل جنابه الشريف بما غضب له المكان والزمان وخاطبه بما عبس له السيف واحتد له اللسان فكان جوابه الإغضاء , والعفو عمن أساء ...فتبدل بغضه بالحب وبعده بالقرب ..واستحال إنسانا بعد أن كان ثعبانا وصار حبيبا بعد أن كان ذيبا .
فمن ذلك ما روي عن فضالة بن عمير بن الملوح انه حدث نفسه بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح , فلما دنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يافضالة .فقال فضالة نعم يارسول الله .قال ماذا كنت تحدث به نفسك, قال لاشئ كنت اذكر الله, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : استغفر الله .ثم وضع يده الشريفة على صدره فسكن قلبه .فكان فضالة – رضي الله عنه – يقول والله مارفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه .
ومثله ما روي عن شيبة الحجبي الذي كان ينوي قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليثار لأبيه وعمه اللذين قتلا يوم احد لكنه عجز عن ذلك حيث قال " لما هممت به حال بيني وبينه خندق من نار وسور من حديد فناداني صلى الله عليه وسلم ياشيبة ادن مني فدنوت منه فالتفت إلي وابتسم وعرف الذي أريد منه فمسح صدري ثم قال : اللهم أعذه من الشيطان .قال شيبة فوالله لهو كان الساعة إذن أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي واذهب الله ماكان في .ثم قال رسول الله : ادن فقاتل فتقدمت أمامه اضرب بسيفي الله اعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شئ .ولو كان أبي حيا ولقيته تلك الساعة لأوقعت به السيف .

فهذه الوقائع تدل على أن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم مفتوح دائما لكل الناس, ملئ بالحب , فياض بالرحمة, وهذا ما ألان عود كل جبار وجعله يخر صريعا أمام هذا الحب الوديع .فما هو إلا أن تعانقه نظرات عينيه الحانيتين حتى تهدا ثورته وتطيب نفسه .

ج- الحب وتحمل الأذى

لما كان الحب عند الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم طبيعة وفطرة لاغرضا وشهوة فقد كان يبدله في سخاوة نفس نادرة النظير وكان يتحمل لأجله جفاء وغلظة بعض الأعراب وأذى وقساوة بعض سفهاء قريش وأرذالها كابي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط .
ومن صور هذا الأذى مارواه الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – "أن النبي كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجئ بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم – وهو عقبة بن أبي معيط –فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي وضعه على ظهره بين كتفيه وأنا انظر لااغني عنه شيئا لو كانت لي منعة .قال فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لايرفع رأسه حتى جاءته فاطمة فطرحته عن ظهره "
وروي كذلك أن عقبة جلس مرة إلى النبي وسمع منه فلما بلغ ذلك أبيا أنبه وعاقبه وطلب منه أن يتفل في وجه رسول ففعل عدو الله ذلك ) صحيح البخاري )
إلى غير ذلك من أساليب السخرية والتحقير والاستهزاء والتكذيب وإثارة الشبهات والدعايات الكاذبة حول تعاليم الدين الجديد وحول ذاته وشخصه صلى الله عليه وسلم .

ورغم هذا الأذى وهذه المحن ظل الرسول الكريم دائما ذاك المعين الفياض بالرحمة والمودة والحب .وهذا ما يبرزه رده لجبريل عليه السلام حين طلب منه أن ينتقم له منهم ويطبق عليهم جبلا مكة حيث قال " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل لايشرك به شيئا"( صحيح البخاري ) .وصدق الله العظيم حيث قال ﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾

د- الحب والبغض

الحب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل القاعدة الراسخة لسلوكه وحين تفرض عليه الظروف القاهرة أن يبغض بعض الناس فان هذا البغض لا ينفصل عن قاعدة الحب ذاتها بمعنى انه عليه السلام يبغض حين يكون البغض تعبيرا عن الحب ودفاعا عنه فهو مثلا يحب الحق وهذا الحب يقتضيه أن يبغض الباطل. ويحب العدل وهذا يتطلب منه أن يكره الظلم .ويحب الجمال وهذا يقتضي منه أن يكره كل أمر قبيح وهكذا .
وهذا أمر طبيعي( فكل بغض فهو لمنافاة البغيظ للمحبوب ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض بخلاف الحب للشئ فانه يكون لنفسه لا لأجل منافاته للبغيض ) على أن "بغضاءه " صلى الله عليه وسلم إذا كان موضوعها أناسا يستحقونها لم تكن ذات أصالة في طبيعته ولا في سلوكه بل مجرد سحابة رقيقة عابرة سرعان ما تنجلي .فها هو ذا يلقى من خصوم الإسلام في قريش اشد الأذى وأفدح المؤامرات ..ولكنه ما يكاد يدخل مكة ظافرا مؤيدا بفضل الله وقدرته حتى يقول للذين أخرجوه منها وكادوا له أعظم الكيد ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته ( "لاتثريب عليكم اليوم" .اذهبوا فانتم الطلقاء ).
هكذا إذن كان الحب في حياته صلى الله عليه وسلم فطرة وطبعا متأصلا وقاعدة راسخة ومنبعا فياضا ارتوت به الأمة الإسلامية والإنسانية جمعاء.