المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفوائد المستخرجه من المرجعات



صقر 55
14 Dec 2003, 07:00 AM
<marquee direction=right>اكد الشيخ احمد الخالدي ان الاحداث الارهابية الاخيرة كشفت له مدى الزلل والخطأ الذي وقع فيه </marquee>
مشيرا الى ان دماء المسلمين والمستأمنين معصومة
واضاف ان فتوى دفع الصائل تم التوسع فيها
وان التكفير تعد على حدود الله
ولايجوز تكفير المسلم للمسلم لمجرد هوى او عصبية او ما اشبه ذلك.
جاء ذلك في الحوار التلفزيوني الذي اجراه معه الشيخ الدكتور عائض القرني واذاعه التلفزيون السعودي مساء البارحة.
( الأحد - 20/10/1424هـ ) الموافق 14 / ديسمبر/ 2003

وقد اوضح فضيلة الدكتور عايض القرني في تقديمه للحوار الذي اجراه مع الشيخ احمد الخالدي ان الحق ساطع سطوع الشمس مستشهدا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا هالك) واشار القرني الى ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى اوضح للمسلمين حقائق الدين واستشهد على ذلك الحاضرين من المسلمين.
وقال القرني ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضع توضيح صغار الامور حيث عني صلوات الله وسلامه عليه ومسائل بآداب الطاهرة والمشي والغسل من الجنابة فكيف يترك مسائل الدماء والاعراض والاموال والتكفير ومسائل الايمان, وقد نبه صلى الله عليه وسلم ان كل الطرق غير طريقه ضالة وحذر صلى الله عليه وسلم من محدثات الامور ونبه الى الصراط المستقيم الذي انعم الله به عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا موضحا اننا امة الوسط.
ثم قدم فضيلته ضيفه في الحوار الشيخ احمد الخالدي لمحاورته والاستماع الى مراجعته سائلا الله الهداية والتوفيق

الانسان عرضة للخطأ
للاجابة على سؤال عمَّا استفاده من التجربة التي خاضها قال الخالدي: لاشك ان الانسان عرضة للخطأ ومحل الزلل الا من رحم الله عز وجل فالانسان قد ركب من مادتين الظلم والجهل الا من رحم الله سبحانه وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ولاشك انه قد تبين من بعض الفتاوى التي صدرت وخاصة فتوى (دفع الصائل) وجود الخطأ والزلل فيها وان كانت في مسألة جزئية وقد توسع فيها وقد تبين لنا ان هذا اجتهاد خاطئ وليس مطابقا للصواب من كل وجه.
ولاشك ان الانسان اذا جلس مع نفسه وحاسبها فينظر الى ما قدمت يداه, وقد كانت فترة السجن فترة محاسبة للنفس وايضا ما توالى من الاحداث التي داهمت المسلمين جعلت الانسان يراجع نفسه ويحقق في امره فتبين لنا ان هناك خطأ وزللا نسأل الله العفو والعافية وان يجنب المسلمين الفتن فاستفدنا منها ان الانسان لايقدم على شيء حتى يتبين الخير والشر, او يطلب النصح من المشايخ الفضلاء الكبار حتى لايقع في مثل هذا.

دفع الصائل
وحول فتوى (دفع الصائل) وما يمكن ان تدفع اليه من الاعتداء على رجال الامن قال الخالدي: دفع الصائل كانت عامة وشملت استطرادا رجال المباحث واضاف ان دماءهم معصومة دون شك باعتباره دما مسلما مؤكدا تراجعه في هذه المسألة سواء تعلقت برجال المباحث او غيرهم.

سفك الدماء
وحول الدماء التي تسفك في بلاد المسلمين تحت مسميات (الجهاد) و(ادعاء الشهادة) كما حدث في مجمع المحيا قال الخالدي: لاشك ان الدماء والاموال والاعراض معصومة وهذا امر دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وقام عليه الاجماع ولايخالف في ذلك عاقل فضلا عن مسلم مشيرا الى ما ذهب اليه شيخ الاسلام من ان دم الادمي معصوم وما عده موسى عليه الصلاة والسلام من ان قتل القبطي يعد ذنبا في الدنيا والاخرة وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من ان دماء المسلمين واموالهم واعراضهم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في عامكم هذا.. وقال هذا هو الاصل فلاتزهق الانفس الا بحقها.

حقيقة الجهاد
واشار القرني في سؤاله للخالدي الى ان الباطل لاتغيره الاسماء كما يدعي الذين يسمون ما وقع في بلادنا جهادا كذلك ما اطلقوه من تسميات تتحدث عن الشهادة والمحاربين وسأل الخالدي عما يراه عن هذه المسألة
فقال الخالدي: لاشك ان للجهاد شروطه وقد اشار العلماء الى ان الجهاد فرض كفاية لمن حضر صف القتال او من حاصر بلده عدو او استنفره الامام ولايكون الجهاد الا بعد المفاصلة والممايزة وقال ان الجهاد لايكون ضد المسلمين كما لايكون ضد الانفس المستأمنة فلاتجوز مجاهدة من كان في العهد والذمة, وقد ذكر العلماء ان من قال لحربي: قد امنتك فقد اعطاه الامان والعقد وكذلك من دخل دار المسلمين بأمانهم اصبح مستأمنا.

حرمة المستأمن
وسأل القرني عما اذا كانت التأشيرة او عقد العمل او العمل الدبلوماسي يعد امانا فقال الخالدي: لاشك ان استقدام العمالة والايدي العاملة بفيزا او ما اشبه ذلك يعد امانا وقد اجاز العلماء امان الطفل وذهب العلماء الى ان المسلم اذا امن غير المسلم وجب عليه الالتزام بذلك واصبح دمه محقونا حتى يعود الى مأمنه وكذلك ذهب العلماء الى ان المرأة تعطى الامان كذلك فكيف بوالي المسلمين الذي تتعلق به ذمم كثيرة وتترتب عليها امانات كثيرة فذلك اشد حرمة واعظم.

التكفير.. تعد على الله
وحول ما يشكله التكفير والتفجير من خروج عن الاجماع قال الخالدي: لاشك ان التكفير بغير حق ولا علم تعد على حدود الله فالتكفير حد من حدود الله ليس للرأي او العقل وانما اسماء شرعية علقت باوصاف وبافعال واقوال واعتقادات متى قام المقتضى لذلك كان الاسم الشرعي مطابقا لذلك الوصف اما كون الانسان يكفر الاهواء او العصبية او ما اشبه ذلك فهذا لايجوز شرعا وايضا كما قال شيخ الاسلام -رحمه الله - انه حد من حدود الله ليس من زُني بأهله ان يزني بأهل الآخر فكذلك التكفير وايضا اجماع المسلمين على امر بأنه خطأ او صواب لاشك ان اجماعهم حجة.
وحول سؤال للشيخ القرني قال فيه: آلان رخصت عقائد المسلمين عند بعض الناس ورخصت دماؤهم فوقع فساد عظيم في الارض ودمار وخراب وحكم على عقائد الناس واصبح البريء متهما واصبح هناك فتن
ما هو الموقف الصحيح مما ترى من هذه الفتن التي نعيشها وتعصف بنا جميعا?ف
اجاب الخالدي: لاشك ان الاستمساك بالكتاب والسنة هو الاصل هو بأقوال العلماء الراسخين في العلم والمشايخ الفضلاء والحمد لله البلاد مليئة من هذا الصنف فضلا عن طلبة العلم المنتشرين في كل مكان واضاف قائلا: الاصل ان الانسان لايتبع كل من قال قولا ان يتبع وانما كما قال علي: تعرّف الحق تعرف اهله وهذا الاصل وان كنا لاندعي العصمة لأحد بعينه والخطأ جائز على كل انسان وكما قيل كل يؤخذ منه ويرد الا صاحب هذا القبر.
واضاف: ان مسائل التكفير لايتسلط عليها الجهال لانها مسائل ضيقة عويصة, وذكر الشيخ بابطين رحمة الله عليه في رسالة انه لو سئل احدهم مسائل في الطهارة لم يحسنها وهو يتكلم في مسائل عظيمة لانها تترتب عليها دماء واموال واعراض لان الاسماء والاحكام هي التي يبنى عليها الدين, وهو اول نزاع حدث في الامة, كما ذكره شيخ الاسلام حدث في الخوارج ثم المرجئة ثم المعتزلة ثم الجهمية ثم توسعوا في مسائل الاسماء والاحكام.
وتابع الشيخ الخالدي يقول ينبغي الا يستحل المسلم دماء المسلمين ويدعي انه على الطريق السليم ومن يفعل ذلك فمن الخوارج الذين يكفرون الناس عموما فلايبالي بمن قتل وبمن سفك وانا اقول ان من اخطأ في هذا العمل لاعذر له والله سوف يحاسبه وحتى لايحق له التأويل ونحن نتكلم في احكام الدين ولاشك من قاتل المسلمين فقد ارتكب اثما عظيما.
وعن الذين يتذرعون باعمالهم لاخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب قال لاشك اولا ان هذه الفئة معصومة لان منهم المسلم ومنهم المستأمن والكل قال باجماع بضرورة حقن دماء هؤلاء حرمة المسلم اعظم من حرمة المستأمن لكن جميعهم سواء في التحريم وهذا هو الاصل وعلينا اولا ان نتساءل هل هؤلاء قدموا بامان ام بغير امان وامر استقدامهم يرجع لولاة الامور وهذا هو الاصل ولا يرجع للاشخاص ولا للافراد.
وعن العمليات التي يقوم بها اولئك ويسمونها جهادا قال :قال ابن قدامه رحمة الله عليه في كتابه المغني ان الجهاد موكول للامام واجتهاده ولاينظر لقلة المسلمين وكثرتهم وقوتهم وضعفهم فالنبي صلى الله عليه وسلم تارة يهادن وتارة يقاتل وتارة يفرض الجزية وتارة يأخذ خراجا ويهادن بعض الكفار حتى انه في غزوة الخندق اراد ان يعامل بعض الكفار بشيء مما يخرج من تمور المدينة وهذا ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية في فتاواه عن الجهاد.
وعن اصدار الارهابيين للاحكام ومن ثم تنفيذهم لها من تلقاء انفسهم علق على ذلك بقوله الانسان اذا قتل أخاه الانسان بحجة النكاية فقد يدعيها الانسان في كل عهد والاصل ان يرجع الانسان للجهات الشرعية ان كانت قد قامت عليه البينة فهناك توجد جهات شرعية ومحاكم شرعية تنظر في هذا الامر ان كان يستحق ان يطبق عليه الحد ام لا فقد يكون الشخص المدعي كاذبا مثلا وقد يكون من الاستهزاء والاستهزاء ينقسم الى قسمين استهزاء صريح واستهزاء خفي الخفي يدخل في النفاق وهو ليس اشر من عبدالله بن سلول واما ان كان ظاهرا فقد ذكر في القرآن.
وابان الشيخ الخالدي ان الاصل في مسائل التكفير والتي تترتب عليها احكام شرعية في الدنيا وفي الاخرة الا تترك لطلبة العلم المبتدئين بل للعلماء الكبار.
وعن الصوت الناشز والمستورد في التكفير والتفجير والتضليل
اكد الخالدي ان امر قدومه الينا في المملكة العربية السعودية لايمكن حصره في اسباب معينة فقد يكون ناشئا من عدة اسباب وقد يكون ناشئا من سبب معين بحسب الشخص وان الناس متفاوتون في هذا الامر واضاف ان الغالب في هذا الامر يرجع أما للتقصير في العلم او قصور في طلب الحق وانه لايمكن ان يخرج عن هذين السببين, ولاشك انه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خرجت رؤوس الخوارج وخرج المنافقون وما حصل ليس حكرا على بلد معين حتى نقول ان هذا البلد لايمكن ان يدخله شيء او من هذا القبيل بل بالعكس في المدينة وفي مكة حدثت امور على هذا النحو ولازالت وعن امكانية ارجاع ما حدث من احداث مؤسفة في المملكة بسبب سفر الشباب الى البلدان الاخرى وتشربهم لتلك الافكار الغريبة.. علق بقوله قد يكون هذا وقد يكون غير ذلك واضاف هناك اناس واجهناهم, قد يكون الانترنت اوما شابه ذلك.
وعن الحلول الممكنة تجاه هذه الزوبعة والعواصف
اكد ان الواجب على طلبة العلم بيان الحق في هذه المسائل واظهار الاحكام الشرعية وايضا اظهار الحلول الشرعية واحكامها واقامتها في عباد الله عز وجل وهذا هو الاصل ولايمكن ان تستقيم الامور الا بتحكيم شرع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة ورد الامور الى اهلها والى نصابها وهكذا تستقيم الامور واكد تراجعه عن فتواه السابقة بشأن (دفع الصائل) وانه قد تراجع عنها في سابق الايام ولكن لم تتح له الفرصة في الكتابة لتبيان تراجعه هذا.
وعن الاسباب التي من الممكن ان تكون سببا في حدوث هذه الاحداث المؤسفة وايضا الاسباب التي قد تجعل الانسان يقتنع بمثل القناعة التي وصل اليها قال لاشك ان امر الهداية منحة الهية وان الانسان قد يعتقد امرا ثم يعود او قد يرى امرا خيرا منه, والنبي صلى الله عليه وسلم سن هذا الامر وان كان مختصا بالآداب العامة وليس بمسألة فيها اراقة دماء او ازهاق انفس او تكفير او تتعلق بعقائد ولذلك انا رجعت عن هذا الامر منذ اول الايام ولكن كما ذكرت لم يتسن لي الكتابة اما السبب فلعل الانسان احيانا قد يقصد خيرا فلايصيبه او لايوفق الى الصواب.
وعن السبب الرئيسي الذي دفعه للتراجع ومحاسبة النفس والعودة الى الصواب وتحكيم القول الراجح لاشك انه محاسبة النفس والعودة للقول هل وافق الجميع على هذه الفتيا ام صدرت من اناس محدودين وهو الامر الذي يرجحه دائما اهل العلم.
ثم سأل الشيخ القرني الخالدي حول كيفية اسهامه في حفظ الامن
فقال الخالدي: باللجوء الى الله عز وجل بالتوبة والاستغفار واقامة حدود الله وشرعه في العباد والبلاد فهذا يحفظ الامن واساسه التوحيد {فليعبدوا رب هذا البيت الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} واضاف: يجب ترك الامور المتشابهة وان يطلب كشفها من العلماء, وقال: ان الامن امر عام وعلى كل انسان ان يراعيه في موقعه سواء كان رجل أمن او شيخا او طالب علم.

القوا السلاح وعودوا لرشدكم
وقال الخالدي موجها حديثه لمن يحمل السلاح من الشباب عليهم ان يتقوا الله سبحانه وتعالى ويلقوا السلاح وينخرطوا في المجتمع ويعودوا الى اخوانهم واهليهم, لسنا بأعداء لهم ولايوجد لهم اعداء حتى يحملوا السلاح وليس هنا جهاد فان اخطأ الانسان عليه ان يعود الى رشده.
وحول سؤال الشيخ القرني للخالدي عن احتياج هؤلاء الشباب الى رسائل من العلماء اكثر مما هو حاصل فقال الخالدي: واجب طلب العلم والمشايخ مناصحة هؤلاء ومراسلتهم او ايصال الحق اليهم بأية طريقة سواء بشريط او محاضرة او رسالة او بما تتم به المناصحة.

الارهاب صد عن سبيل الله
وحول الدعوة الى الله قال الشيخ القرني في سؤاله: أليس الاولى ان ندخل رجلا في الاسلام بالدعوة الطيبة بدلا من ذبح الف كافر? اجاب الخالدي بقوله: هذا صحيح والاحاديث واضحة في هذا الشأن واضاف ان الأعمال التي وقعت من الصد عن سبيل الله.

مبررات الارهاب
وحول ما يذهب اليه بعض الاشخاص من ان البطالة والفقر والفاقة وراء حمل السلاح والقتال في بلاد الاسلام قال الخالدى: هذه مجرد تبريرات وليس هناك الفقر او البطالة التي تستدعي ذلك هذا ليس صحيحا وهذا لايقوله انسان عاقل.

تخطئة العلماء.. فساد
وحول الاتهامات التي توجه لهيئة كبار العلماء والادعاء بأن شابا يفهم ما لايفهمون قال الخالدي هذا لاشك خطأ واضح فلايجوز تخطئة هيئة كبار العلماء ممن يرى ما جرت اليه الاحداث من فساد موضحا ان ذلك قد يقع ممن يرون انهم على صواب وهم مخطئون وقد وقعوا في التلبيس.
وحول اثر الفراغ في تلقي الشباب لهذه الافكار او عدم التلقي على شيخ والاكتفاء بقراءة بعض الكتب قال الخالدي: ان ذلك يقع لامر من هذه الامور او لاجتماع هذه الامور فيأخذ الاقوال المجردة وهذا هو التقليد.
تعطل التنمية بالارهاب
وحذر الخالدي من الكتب والرسائل التي تكفر الجيش والشرطة والمجتمع وتدعو الى الهجرة من البلاد وقال ان هذه الرسائل كتبت باسماء مستعارة وهي من اصول (الخوارج) ونبرأ الى الله منهم.
وحول ما تجره الاحداث والارهاب من فساد وتعطل للتنمية والمشاريع المختلفة قال الخالدي ان ماحدث يجعلنا نفكر ونتراجع ونزن الامور بميزان الشرع وقد ظهرت لنا مسائل لم يكن يعلمها كثير من الناس وهي مفاسد واضحة ليس فيها قولان وطالب الخالدي من وقع في هذه الاخطاء بالرجوع الى الحق.
بلادنا.. والشريعة
وحول ما تتميز به المملكة من اقامة شرع الله وما يظهر من مظاهر الخير والصلاح وما يستدعيه ذلك من ضرورة المحافظة عليها قال الخالدي: نعم.. ولذلك ينبغي علينا المحافظة عليها مشيرا الى ان الناس تهاجر من البلدان التي فيها القوانين الى بلادنا التي تتميز بتطبيق شرع الله وقيام المحاكم الشرعية.
وحول افتقار بعض الشباب الى العلم الشرعي قال: ان الواجب وجوبا شرعيا على هؤلاء الشباب ان يتعلموا هذه المسائل على يد العلماء
القوا السلاح
وحول ما يقوله للذين يحملون السلاح للارهاب قال الخالدي: اقول لهم القوا السلاح والسعيد من وعظ بغيره.
واشار الخالدي الى ان تراجعه تم بقرار منه وان العاقل الذي يسمعه من اول حديثه بامكانه ان يقر ذلك.

فصل الكلام عن الواقع
وحول ما يعمد اليه البعض من فصل كلام العلماء المتشابه عن كتبهم واعتماده لاحداث الاضرار والتفجير والتكفير اوضح الخالدي: لاشك ان حمل كلام اهل العلم على غير الواقع بعيدا عن قرائنه وملابساته هو امر خاطئ يوقع في خطأ كبير والذي لايجيد قراءة هذه الاصول يقع في هذا الخطأ.

جمع الشمل
وحول جمع شمل المسلمين وعدم الشذوذ عن جماعة المسلمين قال الخالدي ان هذا واجب على المسلمين جميعا وهذا ما قامت عليه نصوص الكتاب والسنة وعلينا المحافظة على النعم والتوبة ليزيد الله هذه النعم ويدفع عنا النقم مؤكدا ان الخروج على امام المسلمين فيه فساد عظيم.

التحذير من الخوارج
واختتم الخالدي الحديث بالتحذير من فكر الخوارج مؤكدا ان الآخذين بهذا الفكر هم طائفة قليلة يكفرون الجيش والشرطة والعاملين في الدولة والمجتمع عموما وينبغي الحذر من هؤلاء.

هذا والصلاة والسلام على رسول الله وآله وسلم تسليماً كثيرا....

السهلاوي
14 Dec 2003, 09:33 PM
والله هو اللقاء جميل بلا شك بس تحس من خلال الاستيديو وطريقة عرض الاسئلة وطريقة اجابات الشيخ الخالدي وكانه في مكتب استخبارات
وكم من مرة ايقولو عن الناس اللي تنتهج العنف انه صعب تلقاهم بيش تستطيع اتحاورهمواليوم بان لنه فيه مجموعة مشائخلهم معروفين بس مايجيبو منهم الا اللي تراجع ليش ما يجيبو منهم اللي مازال ماتراجع ويتركوه مع عالم فاضل في حوار حقيقي من اجل اضهار خطء منهجهم وبيان نقاط ضعفهم
اما انه تجي بحد تراجع ممكن ايتءولون انه خايف وتحت ضغط

صقر 55
15 Dec 2003, 12:26 AM
أخي المشرف
هناك بعض الأخطاء الأملائيه البسيطه .. كيف يتم لي تعديله بعد مضي الوقت المسموح به &#33;&#33;
أو تعدل عن طريقكم .
أفيدوني حفظكم الله .

akoo-makooo
15 Dec 2003, 02:30 AM
وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته

بارك الله فيك ياطيب على هذا المشاركه..

اذا ارت ان تعدل بعض الكلمات
اذهب الي شي اسمه تحرير رايح تحصله فوق
وهناك تستطيع ان تغير الي تريد

الحاج زاهر
15 Dec 2003, 02:23 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله كل خير أخي الكريم / صقر على هذا الموضوع الطيب
فالموضوع طيب وخاصة التنسيق يجعل القاري ينسجم معه فكثر الله أمثالك أخي الكريم

وفقنا الله لما فيه الخير والصلاح والفلاح

صقر 55
23 Dec 2003, 11:36 AM
<div align="center">هَشِيْمُ التَّراجعات</div>
وقفات مع مراجعات الفهد والخضير والخالدي


<div align="center">
كتبه :
عَبْدُ اللهِ بْنُ نَاصِرٍ الرَّشِيْد</div>




<div align="center">بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ</div>
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبيّنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ، أما بعد:
فقد بعث الله عز وجلّ رسله بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدِّينِ كلِّه ولو كره الكافرون ، وجعل دون ظهور الدين ونصر المؤمنين ابتلاءاتٍ وتمحيصًا لحكمةٍ بالغةٍ منه ، وما خلق الله الموت والحياة إلاّ ﴿ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً﴾.
ولئن تاقت نفوس المُؤمنين إلى النصر واستعجلوه ، فإنّ لله في تأخيره حكمًا عظيمةً ، ولطفًا منه بعباده المُؤمنين ، ﴿وليُمحّص الله الّذين آمنوا ويمحق الكافرين﴾ ، فلو توالت الانتصارات فلم تتوقف وكان اليوم خيرًا من أمس ، والغد خيرًا من اليوم ، لدخل الصف الموحّد من ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة﴾ ، و﴿ما كان الله ليذر المُؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميزَ الخبيثَ من الطيِّب﴾.
والله أمر بالطاعة والعبادة في الأحوال المختلفة ، من المنشط والمكره والعسر واليسر ، وهو عزّ وجلّ يُحبُّ أعمالاً في مواطنَ من مواطنِ اليسر ، وأخرى في مواطن من مواطن اليُسر ، فشاءت حكمته أن يتقلّب عبادُهُ بين حالي العسر واليسر ، والرخاء والضُّرّ ، ليعلم سبحانه الشاكرين الصابرين.
فمن كان عبدًا لله حقّ العبودية ، لم يتوانَ في شيءٍ من الأحوال عن خدمة سيّده والامتثال لأمرِهِ ، ولم يخلّ بعبوديّته في حالي عسره ويُسره ، وغناه وفقره.
وإذا كان هذا في العبادة عمومًا ، فإنَّ ذروةَ السَّنامِ وسياج الإسلام : الجهاد في سبيل الله الذي ميزَ بما فيه من القرح والبأس والشدّة والألم والجراحة والقتلِ والأسرِ ، مع نقص الأموال والثمراتِ ، وتلف الأنفسِ وفقدانِ كثيرٍ مما تألفه النفس وترى أن لا غنى عنه ، إنَّ هذه الشعيرة العظيمة النفيسة لأبينُ موطنٍ تظهرُ فيهِ هذه العبوديَّةُ ويُخاطب المكلَّف فيها بالصبر على الحالين ، فقد أُمر الناس ﴿انفروا خفافًا وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفُسِكُم في سَبيلِ الله﴾.
وفي حالٍ كهذه الحال ، وعبادةٍ كهذه العبادةِ ، لا يُستغرب تراجع من يتراجع ، ونكوصُ من ينكُصُ ، ولولا ذلك لما كان للابتلاء والفتنة معنىً ، ولما كان للصابرين الصادقين في الفتن والابتلاءات ميزةٌ عن غيرِهم.
وقد رأينا قريبًا تراجع اثنين من المشايخ الّذين كان لهم سابقةٌ في نصرة الجهاد والمجاهدين ، وأعلنوا تراجعهم على الأشهادِ عن كثيرٍ من الحقّ الّذي كانوا منتصِبين للدعوة إليه والمناضلة دونَه ، فكتبت هذه الرسالةَ للحديث عن التَّراجعات وما ورد فيها بغضِّ النظر عن دوافعِ المتراجعينَ وهل هم مكرهون على ذلك أم لا؟ ثمَّ تأخرت بعد تمام الرسالة أنتظر تراجع أحمد الخالدي شاكًّا في ثبوته حتّى نشره موقع الإسلام اليوم ، وهو موقع قريبٌ من المباحث العامَّة مصدّقٌ فيما ينقله عنها وعن السجون التابعة لها ، وقد جُرِّب في أخبارٍ كثيرٍ من هذا الجنس ، فأجّلت الرسالة وكنتُ على وشك نشرها لأنظر ما فيه ، فلم أجد غير ما في تراجعهما إلا شبهةً واحدةً آثرتُ التفصيل في جوابها مع بقية الشُّبه في مقامٍ أوسع من هذا المقام ، أسأل الله الإعانة والتيسير.
ورأيتُ من المتراجعين وغيرِهِم الضربَ على وَتَرِ الجماعة الإسلامية المصرية وتراجعاتِها في السجون المصريَّة ، والاستدلال بتراجعهم ، ولمّا لم يكن بين يديَّ شيءٌ من كتابات هذه الجماعة وتراجعاتها عجّلتُ الحديثَ عن أصولٍ مهمَّةٍ في التَّراجعات التي رأيناها ، وما قد تأتي به الأيامُ بعده ، وأرجأتُ الحديث عن تراجع الجماعة الإسلاميَّةِ إلى حينِ النَّظرِ فيما كتبوا.
وقد قسمتُ الكتابَ أبوابًا :
الأوَّلُ: فقه التَّراجعات ، وفيه فصول :
الفصل الأول : التَّراجعات في الشريعة.
الفصل الثاني : ضوابط الرجوع الشرعي.
الفصل الثالث : القلوب بين أصبعين من أصابع الله.
الفصل الرابع : التراجع في السجون.
الفصل الخامس : مزالق التَّراجعات.
والثاني: فقه الواقع المعاصر ، وفيه فصول :
الفصل الأول : واقع العالم الإسلامي وجزيرة العرب.
الفصل الثاني : واقع المجاهدين والعمليات الجهادية.
الفصل الثالث : واقع العلماء والمنتسبين إلى العلم.
الفصل الرابع : أُغلوطة المحافظة على الواقع.
والثالث: في التَّراجعات في التكفير ، وفيه فصول :
الفصل الأول : منزلة التكفير من الدين.
الفصل الثاني : تسلسل التكفير.
الفصل الثالث : ضوابط في ضوابط التكفير.
الفصل الرابع : مفسدة التكفير ومفسدة تعطيله.
والرابع : في التَّراجعات في الجهاد ، وكنتُ وضعتُهُ أوَّل الأمر مفصلاً ، ثمَّ رأيتُ أنَّ الكلام فيها يطول ويخرج عن المقصود ، وأكثر ما فيه من شبهٍ وما استدلَّ به المتراجعون على الباطل الَّذي ذهبوا إليه طائعين أو مكرهين ، مما أُجيب عنه في الباب الأخير في الكلام على قواعدَ في المصالح والمفاسد ، أو أُجيب عنه في "انتقاض الاعتراض" ، وسأجمعُ بإذن الله شيئًا من الأحكام والقواعد في الجهاد في بلاد الحرمين تجمعُ التأصيل لهذه المسائل والجواب عن الشبهات الداحضة التي يتعلَّقُ بها المُخالفون ، إلاَّ أني عجّلتُ الجواب على شبهتين أوردهما المتراجعون لأهميتهما.
والخامس : في فقه المصالح والمفاسد.
نسأل الله الثبات على ما يرضيه ، والسلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ونسأله عزّ وجلَّ أن يهدي من تراجع عن حقٍّ ورجع إلى باطلٍ ، وأن يفكّ جميع أسرى المسلمين ، وأن يردّهم سالمين غانمين غير خزايا ولا مفتونين ، ونسأله سبحانه أن يختم لنا بالشهادة مقبلين غير مدبرين ولا مبدّلين ، وقد رأيتُ بيانًا من أبي محمد المقدسي في المتراجعين أحسن فيه وأجاد ، ورُزق فيه -ثبَّته الله- الهدى والسداد ، فألحقتُهُ آخر الكتاب.

البَابُ الأَوَّلُ : فِقْهُ التَّراجعات

كثرت التَّراجعات والمتراجعون في الفترة الأخيرة ، ومُراجعةُ النفس ومحاسبتها والتراجع عن الخطأ في الأقوال والأفعال والمناهج والمبادئ واجبٌ شرعيٌّ ، وفضيلةٌ من فضائل النفس البشريَّة ، إلاَّ أنَّ التراجع كغيره من أفعال الإنسان محكومةٌ بشرع الله مقيّدةٌ بأحكامه ، ويرد فيها ما يرد في غيرها من جهلٍ وتلبيسٍ واتّباع هوى ومداهنةٍ.
ولكثرة ورود الغلطِ في هذا الباب احتيجَ إلى التذكير بضوابطَ شرعيةٍ تضبطُ التَّراجعات والتَّراجعات ، ولتبيانِ الغلط العظيم والخلل البيِّن الَّذي ورد على المتراجعين بأخَرَةٍ.
وقد قسّمتُ الباب إلى فصول :
الفصل الأول : التَّراجعات في الشريعة.
الفصل الثاني : ضوابط الرجوع الشرعي.
الفصل الثالث : القلوب بين أصبعين من أصابع الله.
الفصل الرابع : التراجع في السجون.
الفصل الخامس : مزالق التَّراجعات.


فصل : التَّراجعات في الشريعة

الرجوع إلى الحقّ لونٌ من ألوان العبوديَّةِ وبابٌ من أبواب الاستسلام لله ، فإنَّ المسلم في علومه وأعمالِهِ إنّما يصدر عن حكم الله ، وليس له في نفسه قولٌ ولا رأيٌ إلا أن يتلمّس حكم الله ويجتهد في ذلك ، ومن كانت هذه حالُهُ لم يعسُر عليه أن يرجع عن قولٍ قاله ورأيٍ رآهُ متى تبيّن له أنّ حكم الله ومراده في غير ذلك القولِ.
ولا يُوفَّق إلى الرجوع إلى الحقّ إلاّ من تجرّد لله ، وكان قصده في المبدأ والمعاد وجه الله ، فهانت عليه حظوظ نفسِهِ ، ولم يكترثْ بشهوةِ النَّفس التي تُنازعِهُ وترى في الرجوع غضاضةً ، واعترافًا بالنَّقصِ والضعفِ والجهلِ ، وتخليًا عن القول الَّذي ألفته ونصرته وناظرت عليه وجادلت فيه.
وفي مقابلةِ الرّجوع إلى الحقّ ، فضيلةٌ أخرى لا تقلّ أهميَّة ولا يسوغُ التغافلُ عنها ، وهي فضيلةُ الثَّباتِ على الحقّ والتمسُّكِ به ، وعدم التزلزل والتراجع والنكوص على العقبين ، والتغيير والتبديل ، وكلا الفضيلتين منشؤه العبودية لله والاستسلام له والانقياد لحكمه ، فإن علم أنّ القول الّذي هو عليه حكم الله هانت عليه الدنيا في مقابلته ، ولم يعسُر عليه أن يفقد كل محبوبٍ ومرغوبٍ من أمر الدنيا ولا يخرج عن أمر الله الّذي اهتدى إليهِ.
والفضيلتَانِ من شكر النعمة لمن وُفِّق إليهِما ، فمن استبانَ لهُ أنّه على باطلٍ فمن نعمة الله عليه أن أراه الباطلَ باطلاً ، ومن شكر الله في هذه النعمة أن يرجعَ عن هذا الباطل ، ومن استبانَ له الحقّ وعلمَ أنّ هذا مراد الله وحكمُهُ فمن شكر الله الَّذي هداه إلى الحقّ والعمل به ، وأراه الحقّ حقًّا أن يتمسّك بما هداه الله إليه ، ولا ينزل عنه بحالٍ من الأحوال أو ظرفٍ من الظروف ، سواءٌ عرضَ له هوىً مرغوبٌ ، أو خوفٌ مرهوب.
وقد مدحَ الله من يرجعُ إلى الحقِّ في كتابه ، ومدح الراجعين إلى الحقِّ من النصارى بأنَّهم ﴿لا يَسْتَكْبِرُوْنَ﴾ كما قال عزّ وجلَّ : ﴿لتجدنَّ أشدَّ النّاس عداوةً للَّذين آمنوا اليهودَ والَّذين أشركوا ولتجدنَّ أقربَهُم مودَّة للذين آمنوا الَّذين قالوا إنَّا نصارى ذلكَ بأنَّ منهم قسِّيسينَ ورُهبانًا وأنَّهُم لا يَسْتَكبِرُونَ * وإذا سمِعُوا ما أُنزلَ إلى الرَّسُولِ ترَى أعيُنَهُم تفيضُ من الدَّمعِ ممَّا عرفوا من الحقِّ يقُولُون ربَّنا آمنَّا فاكتُبنا مع الشَّاهِدِينَ * وما لنا لا نُؤمِنُ باللهِ وما جاءَنا من الحقِّ ونطمَعُ أن يُدخِلنا ربُّنا مع القَومِ الصَّالِحِينَ * فأَثَابَهُم الله بما قالُوا جنّاتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وذلكَ جَزَاءُ المُحسِنينَ﴾.
كما مدحَ عزَّ وجلَّ من ثبَتَ على الحقِّ وتمسَّك به : ﴿وكأيِّن من نبيٍّ قاتَلَ معهُ ربِّيُّون كثيرٌ فما وَهَنُوا لما أصابَهُم في سبيلِ اللهِ وما ضعُفُوا وما استكانوا والله يُحبُّ الصَّابرين﴾.
وقد عُرضت التَّراجعات على كلِّ نبيٍّ ومصلحٍ وداعٍ إلى الله ، وهي سنَّةٌ لا تبديلَ لها ؛ فحكى الله عن مشركي قريشٍ مع نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أشياء من ذلك ، وبيّنَ أنَّها سنَّةٌ في كلِّ رسولٍ ، قال سبحانه : ﴿وإن كادوا ليفتنونك عن الّذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيرَهُ وإذًا لاتّخذوك خليلاً * ولولا أن ثبّتناك لقد تركنُ إليهِم شيئًا قليلاً * إذًا لأذقناك ضِعف الحياةِ وضِعفَ المماتِ ثمَّ لا تجدُ لكَ علينَا نصيرًا * وإن كادوا ليَستفزُّونك من الأرضِ ليُخرجوك منها وإذًا لا يلبثون خلافَكَ إلاَّ قليلاً * سنَّة من قد أرسلنا قبلكَ من رُسُلِنا ولن تجدَ لسُنَّتِنا تحويلاً﴾ ، فبيّن الله عز وجل أن المشركين عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم بعض عروضهم ليفتنوه عما أوحى الله إليهِ ، ليفتريَ غيرَه ، وبيّن أنَّه لو فعل لاتّخذوه خليلاً ، ونحن نرى اليوم المرتدّين كيف بادروا بالثناء والتكريم لمن أبدى شيئًا من التراجع ، وصار من يسمَّى أمس : "المدعوّ" ، يسمّى اليوم "فَضِيلة الشَّيخ" ، وأعجبُ ممن يتلو قوله تعالى ﴿ولولا أن ثبّتناك لقد كدتَ تركنُ إليهِم شيئًا قليلاً﴾ ثمَّ لا يتضرَّعُ إلى الله يسأله الثباتَ ، فلولا عصمة الله لركن أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم الركون القليل الَّذي يقتضي من العذابِ ضعف الحياةِ وضعف المماتِ ، وهذان الضِّعفانِ لمن ركن ركونًا قليلاً ، فكيف بمن كان ﴿للخائنين خصيمًا﴾؟.
وعرَضَ المشركون على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مراجعتهم المشهُورة : اعبد إلهنا سنةً ونعبد إلهك سنةً ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : ﴿قُل يا أيُّها الكافرون * لا أعبدُ ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبدُ * ولا أنا عابدٌ ما عبدتُم * ولا أنتُم عابدون ما أعبدُ * لكم دينكم وليَ دين﴾.
وقال عزَّ وجلَّ : ﴿فلا تُطع المكذّبينَ * ودُّوا لو تُدهن فيُدهنون﴾ وقوله عزّ وجلَّ ﴿فلا تطع﴾ دالٌّ على أنّهم عرضوا وطلبوا منه صلى الله عليه وسلم ، وقوله : ﴿ودُّوا لو تُدهن﴾ إخبار منه عزَّ وجلَّ بما يطلبُون.
ومن التَّراجعات عن أصلِ الدين ما فعله المرتدُّون في حياةِ الصديق رضي الله عنه وأرضاهُ وفي آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلَّم حين شكُّوا في صحّة النبوة والرسالة ، أو جحدوا شيئًا من الشعائر أو امتنعوا ، أو عرضت لهم الأطماع والأهواء فاتّبعوها وأعرضوا عن دين الله.
والتراجُعُ كثيرٌ في صور الردة التي كانت زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي زمان من بعده ، وفيما دون الردة من الضلال والانتكاس كما وقع لأهل الأهواءِ وغيرِهم.
ومن التَّراجعات الحديثة ، تراجعات الدعاة الذين سُجنوا عام 1415 فكانوا منذ خرجوا في تغيُّرٍ وتراجعٍ حتّى وصلوا إلى ما هم عليه اليوم ، نسأل الله لهم الهداية ، تلتها بالأمسِ القريبِ تراجُعاتُ بعضِ رُموزِ الجماعة الإسلاميَّة الّذين تراجعوا في سجون مصر ، وألّفوا كُتُبًا في تراجُعِهِم.
وتلاها بأخرةٍ تراجعاتُ عليٍّ الخضير ، وناصرٍ الفهدِ في سجون طواغيتِ الجزيرة ، وقد خرجوا على التلفاز وأعلنوا ذلك من خلال تحقيقٍ علنيٍّ أجراهُ عايضُ القرنيّ معهم في ثوب لقاءٍ ، أدانوا فيه العمل الجهاديّ القائم في جزيرة العربِ اليوم لقتال الصليبيين المحتلّين ، وتعرّضوا لمسائلَ شتَّى سيردُ ذكرها بإذن الله.
وهذه التَّراجعات الأخيرة هي ما دفعني إلى كتابة هذه الرسالةِ ليقرأها المجاهدونَ وطلاّبُ الحقِّ من غيرِهِم ، وليُعلم منزلُ هذه التَّراجعات من الشرع ، وحكمُها فيه ، وللإشارةِ إلى مواطنِ الزَّللِ في تراجعهم وما حصل وقد يحصل لغيرِهِم من تراجعات.
والتراجعُ عن شيءٍ من الأقوال أو الأفعالِ الشرعيَّة يكون على وجهينِ ، كلاهما يقعُ في تصوّر المسألةِ واقعًا وشرعًا ، ويقعُ في الحكمِ علَيهَا وتنزيل الأدلَّةِ فيها.
فالوجهُ الأوّل : التراجع عن أصلٍ علميٍّ فقهيٍّ أو عقديٍّ ، أو مسألةٍ تأصيليَّةٍ.
والوجه الثاني : التراجع عن إلحاقِ فرعٍ من الفروع بأصل المسألةِ ، وعدّه من صورها وتفاريعِها.
فالأولُ لا يُمكن أن يتأثر بالواقع ، أو يُرجع فيه إلى التجربة ، إلاّ فيما نُصَّ فيهِ إلى الرجوع إلى الواقع والمحاكمة إليه ، وذلك لا يكون في شيءٍ من أُصولِ الأحكام العملية ، وإنّما يُتصوَّرُ في الأخبار ونحوها.
والثاني : يتأثر بالواقع وقد يُعلّق به في حدود الشرع ، كالمسائل التي يُرجع فيها إلى العرف ، أو يُعلّق العمل بها برجحان مصلحة أو انتفاءِ مفسدةٍ.
وتلتبسُ المواطِنُ الّتي يُطلب فيها الرجوع إلى الحق ويُمدحُ فيها من رجع عن قوله ، بالمواطن التي يُطلب فيها الثبات على الحق ويُمدحُ من ثبت على ما هو عليه ، بالتباس الحق والباطل فيهما ، سواءٌ التباسه في نفسِهِ في مسائل الاجتهاد ، أو التباسه في حقِّ معيَّنٍ لتقصيرٍ في طلب الحقّ ، أو هوىً يُعمي عن معرفة الهدى من الضلال.
ولمعرفة هذا من هذا ، والفصل بين هذا وهذا أَماراتٌ باديةٌ ظاهرةٌ تكونُ في رجوعِ من يرجعُ إلى الحقِّ ، وذكرُها يردُ في الضوابط الآتية.

فصل : ضوابطُ الرجوع الشرعيّ:
الرجوع عن الإجمالِ إلى التَّفصيلِ:
للخطأِ في الشريعةِ وغيرِها أسبابٌ عدةٌ هي له أماراتٌ ، فمن الأسباب الإجمالُ في فهم المسائل وفي إبلاغِها والحديثِ عنها ، وقد طوَّلَ شيخُ الإسلامِ في بيانِ أثر الإجمال في الإضلالِ ، وقال أبو عبد الله ابن القيّم في نونيَّتِهِ:
فعليك بالتفصيل والتبيان فالإطلاق والإجمال دون بيانِ
قد أفسدا هذا الوجود وأفسدا الأذهان والآراء كل زمانِ
ومن الإجمال ما ذمّه الله عزّ وجلَّ على أهل الكِتابِ فقال : ﴿يا أهل الكتاب لم تلبِسون الحقَّ بالباطل وتكتمون الحقَّ وأنتُم تعلمون﴾ فلم يكُن أئمةُ الضَّلالِ من أهل الكتاب وغيرِهِم يأتون بالباطل المحضِ البيِّن الَّذي لا يُشبه الحقّ ولا يُخالطهُ ، بل كلُّ صاحبِ بدعةٍ وضلالةٍ يخلطُ الباطِلَ الَّذي يأتي به بشيءٍ من الحقِّ ليروجَ عند الناس وتقبله النفوس الّتي تطلبُ الحقّ الَّذي خُلط بالباطل ، فتأخذه بما معه من باطلٍ وتلبيسٍ كما ذكر الشاطبيُّ رحمه الله في الاعتصام.
بل لو تأمَّلتَ حُجَجَ المُبطِلينَ حيثُ ذُكروا وذُكرت حُجَجُهم وجدتها تستندُ إلى حقٍّ تموِّهُهُ بالإجمالِ ، فتستدلُّ بما فيه من الحقّ ، وتأخذُ ما فيه من الباطلِ ، فأوّلُ شركٍ وقع في الأرضِ شركُ قومِ نوحٍ الّذين أحبُّوا الصالحين ، وقصدوا الاستنان بهم في العبادة والصلاح ، وهذا حقٌّ ، ولكنّه لا يقتضي الباطل الّذي استدلُّوا به عليهِ من دعائِهِم من دون الله واتّخاذهم أربابًا ، والّذين عبدوا الكواكب رأوا آياتِ الله العظيمةَ فيها فأصابوا في الاستدلال منها على التوجّه إلى الربّ وطلب الحاجات منه ، ولكنّهم أخطأوا في صرف عبادتهم إلى الدليل لا إلى من دلّ عليه الدليل ، وقريشٌ حين اتّخذوا الآلهةَ التي يعبدونها من دون الله ، ما كان قصدهم إلا التقرب إلى الله والتزلُّف إليهِ وهذا قصدٌ صحيحٌ ، ولكنّ التقرب إلى الله لا يكون بالوسائطِ وصرفِ حقوق الله إليها ، فهم في كلّ ذلك يقصدون حقًّا ، ويفعلون باطلاً ، ويستدلُّون بمجملٍ ، إمّا بعظمة الخالق التي يرونها في المعبود من دون الله ، وإمَّا بصحّة مقصودهم من التقرب إلى الله ، وإمَّا بعلمهم بقرب معبوديهم إلى الله.
ورميُ المشركين للأنبياءِ ومن يدعوهم إلى الله بالتغيير والتبديل ، وتسميتهم من أسلم صابئًا ، ورميُهُم الدين بأنّه محدثٌ ، يستندُ إلى حقٍّ في أصلهِ ، وهو حمدُ الثّباتِ وفضلُهُ ، وعيبُ التغيير والتبديلِ وذمُّهُ ، وهذا إجمالٌ مضلِّل : فالثبات حقٌّ ، والتغيير باطلٌ ، ولكن الثبات الذي هو حقّ هو الثبات على فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا على ما أحدثه الآباء والأجداد وغيّروا به الأصل الثابت ، فالثبات المحمود هو الثبات على أمر الله ودينه ، والتغيير المذموم هو التغيير عن ذلكَ والانحراف عنه.
والمبتدعة في صدر الإسلام وعصورِهِ ، ما كانوا يستندون إلاّ إلى المُجملاتِ والعموم المخصوص أو الّذي يفهمونه على غير وجهِهِ ، فأوّل البدع بدعةُ الخوارِجِ : وأوّل ما أحدثوا أنّهم استدلُّوا بقوله عزّ وجلّ : ﴿إن الحكم إلا لله﴾ على منع التحاكم إلى رجلٍ من المسلمين ، لأنّ التحاكم لا يكون إلا لله ، وهذا باطلٌ ودليلُهُم حقٌّ لو فُصّل فيه ، فإذا كان من يُتحاكم إليه يحكم بحكم الله و لا يخرج عن شرع الله ، فهو في حقيقةِ الأمرِ يحكم بحكم الله ، والتحاكم إليه إنّما هو تحاكمٌ إلى ما يصدر عنه ويأخذ به من شرع الله لا إلى هواه وظنونه.
ومن تلا ناشئة الخوارج استدلّ بقوله عزّ وجلَّ : ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ على كفر من عصى وأذنب وفسق ، والحق في التفصيلِ : فمن غيّر حكم المسألةِ ، واتّخذ لها حكمًا من هواه أو من شريعةٍ ودستورٍ غير دين الله وشريعتِهِ كفر ، ومن التزم حكم الله في المسألةِ ثمّ غلبهُ هوىً من الأهواءِ فخرجَ عن حكم الله الذي التزمه إلى هوىً في المسألة المعيّنة ، والقضيّة الواحدة ، فليس بكافرٍ ، وفاعل المعصيةِ من الباب الثاني لا الأول.
والمُرجئةُ استدلُّوا بعمومات ومجملاتٍ من مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "من صلى صلاتنا وذبح ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم" ومن نحو قوله : "من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه دخل الجنَّة" ، ففهم غلاتُهُم من ذلك أنّ من قال لا إله إلا الله ، وآمن بالله لم يخرج من الإسلام بشيءٍ من الأعمال حتّى قال بعض غلاة الجهمية إن من سجد للصنم لا يكفر حتّى يعتقدَ اعتقادًا كفريًّا ، وفهموا من قول النبي صلى الله عليه وسلم : "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" أنّ كل من يقول لا إله إلا الله معصوم الدم ، لا يُحكم بردّته بحال ، والحديث في الكافر الأصلي الذي أجمعت الأمة على أن تلفظه بالشهادة دخول في الإسلام ، بل الصوابُ أنّ كل ما هو من خصائص الدين يحكم به للكافر الأصلي بالإسلام حتى عد النبي صلى الله عليه وسلم قول من قالوا صبأنا إسلامًا منهم ، وليس المراد أنّ من دخل الإسلام لا يخرج منه بشيءٍ من النواقض ؛ ففرقٌ بينَ ثبوت الإسلام في الأصلِ ، وبقائِهِ مع ورودِ الناقل عنه ، وإنّما أُتي كلُّ هؤلاء من الإجمال والحيدة عن التفصيل ، ومن نزّل النصوص منازلها ، وأجرى الأحكام في مواضعها ، لم يرد عليه شيءٌ من هذا.
وليس معنى لزوم التفصيل أن يفرّق بين أفراد كل مسألةٍ ، فيرجّح في كلّ مسألة القول الّذي يجمع طرفيها من تحليل وتحريم ، وصحة وفسادٍ ، ويجعل لكل منها موضعًا ، بل من المسائل ما يجري على جميعِ أفرادِها حكمٌ واحدٌ.
وإنّما المراد بالتفصيل اللازم أن يُعطى كلُّ فردٍ من أفراد المسألة حقّه من النظر ، وكلُّ دليلٍ في الباب نصيبه من البحثِ ، فيُجمعُ بين ما يُتوهّم تعارضه ، ويرجّح بين المتعارض ، ويُقضى على مجمله بالمبيّن ، ولا يُعمّم حكم على اسمٍ يضمّ مناطاتٍ متعدّدةً للأحكام ، والواحد من هذه المناطات يقتضي حكمًا غير ما يقتضيه الآخر.
ومن الإجمالِ الّذي في التَّراجعات التي رأينا : الحديث عن قتلِ المسلم وحكمِهِ ، دون تفصيلٍ في مواضعَ تُبيحُ دم المسلم ، أو تُبيح القتل الذي يُراد به غيره ويصل إليه ، والحديث عن حرمة المعاهد وعصمة دمه وماله ، دون تفصيلٍ فيما يُسقط حرمةَ المعاهد ويُبيح دمَهُ وينتقضُ به عهده ، وكذا الحديث عن قتل النساء والأطفال ، وإتلاف الأموال.
والتراجع الحقّ ، يكون فيه تفصيلٌ يقضي على الإجمال ، وبيانٌ للحقّ ومناطاته ووجوه ترجيحه والرجوع إليه ، مما يُبيّن موطن الغلط في القول المرجوع عنه.


الرجوع عن الرأي إلى الدليل:
من أمارات الحقّ كما لا يخفى على آحادِ الطلبة الدليلُ ، ولا يمكن أن يكون الحقّ بلا دليل ، فضلاً عن كونه خلاف الدليل ، والراجع إلى الحقّ لا يمكن أن يرجع إلاّ وقد رأى دليلاً أظهرَ من دليلِهِ في القول الّذي كان عليه ، وعلم أو ظنّ أنّه هو مراد الله ومقصوده.
وإذا كان اتّخاذ القول ابتداءً لا يكون إلاّ بدليلٍ ، فإنّ الرَّجوعَ عن قولٍ والأخذَ بقولٍ آخر لا يكون إلاّ بدليل ، ومعرفة الباطلِ لا تكون إلاّ بدليلٍ ، ومعرفة الحق لا تكون إلاّ بدليلٍ.
ودعاء الداعي ربّه أن يُريه الحقَّ حقًّا ويرزقه اتّباعه يعني أن يُهدى إلى الحقّ ودليلِهِ ، لأنّ الاتّباع لا يكون لقولٍ لا دليلَ عليهِ ، واتّباع القول الَّذي لم يُؤيّد بالدليل منهيٌّ عنه شرعًا ، ولا يصحُّ من الداعي أن يسأل الله أن يرزقه ما منع الله منه ، وهو اتّباع القول بلا دليلٍ ، فعُلم بالضرورة أنّ الدعاء بمعرفة الحق واتّباعه يشملُ معرفة الدليل.
وإذا كان للباطلِ في المسألةِ دليلٌ فيستحيلُ أن يكون الحقُّ بلا دليلٍ ، على أنّ الباطل لا يكون مقتضى دليلٍ صحيحٍ بحالٍ من الأحوالِ ، وإنّما يردُ الخطأ من فهم السامع ، والتَّراجعات التي رأينا كانت تراجعات عن أقوالٍ دلّ عليها الدليل إلى ما لا يدلُّ عليهِ دليلٌ بل الدليل في نقضه ظاهرٌ أعظم ما يكون الظهور ، فلو صحّت هذه التَّراجعات كان مقتضاها أنّ الباطل له دليلٌ قويٌّ ، والحقّ خلوٌ من الدليل ، بل يحتاج إلى أن يُستدلَّ له بالتجارب وبفلانٍ وفلانٍ.
ومُحالٌ أن يُحيلنا الله على الكتاب والسنَّةِ ولا نجد الهُدى فيهِما ، وقد أنزل الله الكتاب هدىً للناس في جميعِ أمورِهِم ، فكيف لا يُرجع إليه في طلب الهدى؟ وكيف يقبل الرجوع عنه إلى آراء البشر وفُهُومِهِم المنحَرِفَة؟
والتَّراجعات إن كان في مسائل نزاعٍ يجبُ ردُّها إلى الله والرسولِ لدخولِهَا في عموم قوله تعالى : ﴿فإن تنازعتُم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرَّسولِ إن كُنتم تُؤمنون بالله واليَومِ الآخِر﴾ ، فعمم الأمر بالرد إلى الكتاب والسنة في كل شيءٍ ، وقوله شيء نكرة في سياق شرط ، وأمر برد عينِ ما تُنوزع فيه إلى الكتاب والسنة ، فقال فردوه أي ما تنازعتُم فيه.
وفي ذلك أنَّ الأخذ بالدليل يكون في أصول المسائل وفي تفاريعها ، وأنَّ محلَّ النِّزاع في المسألة يجبُ ردُّهُ إلى الكتاب والسُّنَّةِ وإعمال الأدلَّةِ فيهِ ، لا كما يفعلُ المُلبّسون من الاستدلال بعموماتٍ غير مختلفٍ فيها ، ويتحاشون الكلام في مسألة النزاع والنظر فيها.
والمُتراجِعُ إن رجعَ عن قولٍ في مسألةٍ ، كان عليه فيما يرجع إليه أن يُقيم الدليل على محلّ النزاع ، لا أن يرجع إلى المجملات والمحتملاتِ من النصوص ، ويستدلُّ بالعمومات التي لم يختلف فيها اثنان.
وعليه أيضًا : أن يُقيم الدليل على قوله في المسألة التي رجع إليها عند الحديث عن تأصيل المسألةِ لا يُجزئه إلاّ ذلك ، وأمّا إن كان تراجعه في شيءٍ من تصوّر الواقع ، أو تنزيل الأحكام عليه ، فعليه أن يقيم الدليل على مناطات الأحكام في المسألة ، ويُثبت وجودها فيها ، ويُحرّر الموانع وسلامتها منها ، فمن حرَّمَ عمليَّةً لاستهدافِها شيخًا هرمًا كان عليه أن يُقيم الدليل على منع استهداف الشيخ الهَرِم ، ويُثبتَ أنّ العمليّة استهدفت شيخًا هرمًا ، وأنّ ذلك كانَ قصدًا ، وأنّ الشيخ لم يكن ذا رأيٍ في الحربِ ولم يُقاتِل ، وهذا عند من يُحرّم قتل الشيخ الهرم.
وقد رأينا المُتراجِعِينَ في هذا الباب ، لا يصدرون عن الدليل إلاّ العمومات التي تُنوزع في دخولها موضع النزاع ، وما وقع الخلاف إلاّ في كونها شاملةً لهذا الموضع ، أو خارجةً عنه.

إنصافُ المُخالف
من الأخلاق والصفات والخصال الدالّة على كرم النفس وسموِّها خصلةُ الإنصافِ مع الصديق والعدوِّ ، بل مع المسلم والكافر كما قال عزّ وجلَّ : ﴿ولا يجرمنَّكم شنآنُ قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتَّقوى﴾ ، وهذه الصِّفَةُ من أعزِّ الصفات وأقلِّها ، والحال كما قال الذهبي : "الإنصافُ عزيزٌ".
وليس معنى الإنصافِ اللينُ مع كلّ مخالفٍ ، أو التسهيل من أمر كلِّ مخالفةٍ ، وإنّما الإنصافُ أن تُعطي ذا الحقِّ حقَّه ، فتُنصفُ الكافرَ وإن حلَّ لك دمُهُ ، بإثباتِ ما عنده من حقٍّ ، وعدم الكذب عليه والافتراءِ وجحود خصالِ الخيرِ عندَه أو نسبة شيءٍ إليه لم يفعلهُ ولم يقله.
والإنصافُ الواجبُ في التَّراجعات على وجهين :
إنصافٌ لكلِّ أحدٍ : بالصدق في حكاية قولِهِ ، والتثبّت في نسبة المقالاتِ إليهِ ، وفهمِ دعواه وبيّنتِهِ ، أيًّا كان المخالف وأيًّا كان خطؤه أو ضلاله ، والتزام حدود الشريعةِ في معاملتِهِ.
وإنصافٌ للمخالف من أهل القبلةِ : فلا يدفعُ قولُهُ ولو شطَّ في الباطل إلى البراءةِ الكاملة منه ، ما لم يرتكب مكفّرًا ، بل يبقى له أصلُ أُخُوَّةِ الإسلامِ ، والموادّةِ على التّوحيدِ.
ثمَّ يُفرّق في قولِهِ بينَ أن يكون قولُهُ ممعنًا في الباطِلِ والضَّلالِ ، بعيدًا عن سُنَنِ الهُدى ومآخذ الأقوال المعروفة في الشريعةِ ؛ فلا يُحكى قولُه إلا مردودًا محذّرًا منه.
وأن تكون المسألة التي قال بها مسألةً اجتهاديَّةً لا تصادم نصًّا قطعيًّا أو إجماعًا مستبينًا ، ولا تنقض أصلاً من أصول الشريعةِ الثابتةِ ، ويكون لقوله وجهٌ من الاجتهاد ، ومأخذ قويٌّ من الكتاب والسنَّةِ بفهم السلف في مسألة النزاعِ ، فالإنصاف الواجب تجاهه إعطاؤه حقَّهُ في الاجتهادِ ، وعدم التثريبِ عليهِ والنكيرِ ، بل يُقال : إنَّهُ مجتهدٌ بين الأجر والأجرينِ.
أمَّا المتراجعون فقد خلا حديثُهُم من الإنصاف حتّى كأنَّهم ما سمعوا بهِ ، فما تركوا للمجتهدين وجهًا من الاجتهاد ، وجحدوا استدلالاتهم ومآخذَهُم جحودًا تامًّا ، فعند الحديثِ عن المعاهَدِ وعهدِهِ استندوا إلى النصوص العامَّةِ الظَّاهِرِ خروجُ المسألةِ عنها ، أو المُتنازع في كونها من أفرادِها ، وكذا في الحديثِ عن التكفيرِ وغيرِ ذلِكَ مما يردُ في تضاعيفِ البحثِ.
ومن مظاهر انعدام الإنصافِ في التَّراجعات : تسمية المجاهدين خوارج ، أو اللحن بذلك لحنًا ولمزهم به لمزًا خفيًّا ، فيُقال أمّا القول بكذا فهو قولُ الخوارِجِ ، مع علمِهِم أنّ هذا القول لا يقول به المجاهدون الّذين هم محلّ الحديثِ ولا يأخذون به ، وتمويههم بذكر قولين في المسألةِ أحدهما قول السلطانِ الّذي يُريدُهُ والآخرُ قولُ الخوارِجِ ، ويُعرضون إعراضًا تامًّا عن القول الوسطِ الحقِّ الّذي وفّق الله إلى الأخذِ به المجاهدين.



فصل : القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن
كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إنِّي أعوذُ بكَ من الحورِ بعد الكورِ ، ومن الضلالِ بعد الهدى" وفي هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم موعظةٌ بليغةٌ لكلِّ مؤمنٍ ، فهذا المعصوم المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّرَ يستعيذ بالله من الحور بعد الكورِ ، ويخشاهُ على نفسِهِ ، وما كان صلى الله عليه وسلم ليستعيذَ مما هو مستحيلٌ لا يُمكن أن يَقَعَ له ، إلاّ تذلّلاً إلى الله واعترافًا له بمنّته في التثبيت ، ولتأتسيَ أُمّتُهُ بهِ ، والضلال بعد الهدى واردٌ في حقِّ أفرادِ الأمّة ، ولا يعصم منه وفورُ عقلٍ ، وحدّة ذكاء ، وسعةُ علمٍ ، إن لم يعصم الله العبد ويأخذ بناصيتِهِ إلى البرِّ والتَّقوى.
وإبراهيمُ إمام الحنفاء وأبو الأنبياء قال في دعائه : ﴿واجنُبني وبنيَّ أن نعبُد الأصنامَ﴾ ، ومن سؤال إبراهيم ربه الثبات دعوته ﴿ربَّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيتنا أمَّة مسلمةً لك﴾ ؛ فخشي على نفسه الرجوع إلى الشرك ، وهو إمام الموحِّدين ، وأبو الأنبياء ، وهو الَّذي حاجَّ أهل الشِّرك في الأرضيَّات من عبدة الأوثان كمحاجّته والده وقومه ، وأهل الشرك في السماويات من عباد النجوم ، والطواغيت المدّعين للربوبيَّة كالنمرود ، وأصول مناظرة جميعِ هؤلاء موجودةٌ فيما حكاه الله عنه ، ومع رسوخه في معرفة التوحيد وبراهينه ، كان يخشى على نفسه الشرك ويسأل الله أن يجعله مسلمًا ، وأن يجنّبه عبادة الأوثان ؛ فمن يأمن البلاء بعد الخليل؟ كما كان يقولُ إبراهيمُ التَّيميّ.
وكثيرًا نقولُ : لا عصمةَ إلاّ لنبيٍّ ، ونردّد أن الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنةُ ، فالحور والضلال والانتكاسُ بل والرِّدَّة احتمالٌ واردٌ في كل أحدٍ بعد الأنبياءِ –عدا من بُشِّر بالثبات أو بالجنَّة- ، ومع هذا وترديدنا له ، إلاّ أنَّ عقولنا البشريَّة تكلُّ وتضعفُ عن فهمه وتصوّره حتّى تراهُ ، ونحن نرى اليوم التغيُّر في المتراجعين مما لم يكن يُظنُّ ولا يخطرُ لأحدٍ ببالٍ ، ولا يتصوَّرُ وقوعَهُ بحالٍ من الأحوالِ.
ومن توهَّم العصمةَ في الرجال وإن شرفوا وعظم قدرُهُم أُتيَ من هذا البابِ ، ودخل عليه الضلالُ إذا رأى تغيُّر من تغيَّرَ وانتكاسَ من انتكسَ وضلالَ من ضلَّ منهم ، ونازعَهُ الثّوابتَ الشكُّ والتوهُّم ، ولامتناع العصمة في الرجال ، سواء العصمة التامّة في كلّ الأمور والأحوال ، أو العصمة في شيءٍ من الأعمال والأقوال ؛ وجبَ التعلُّقُ بالحقِّ ، ومعرفةُ الرِّجالِ بهِ ، فمن علمتُهُ اليومَ موافقًا للكتاب والسُّنَّة كنتُ معَهُ حيثُ هو معهما ، ولم أتّخذه دليلاً لمعرفتي بصدقِهِ اليومَ وأنا لا آمنُ تغيّره غدًا ، بل يُعرف الرِّجالُ بالحقّ ولا يُعرف الحقُّ بالرِّجال.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القلوبُ بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء" وكان من دعائه صلوات الله وسلامه عليه : "اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك" ، ومن لم يقبل عقلُهُ تغيُّر فلانٍ من الناس ، فلأنّ عقله خلا من إدراك هذا الحديث وتصوّر معناه ، وكلُّ من بعد الأنبياء يُتصوّرُ فيهِ الضلال بجميع مراتبِهِ إن لم يعصمه الله.
وكلُّ أحدٍ منَّا لو وكله الله إلى عقلِهِ وعلمِهِ وتدبيرِهِ وعزيمَتِهِ وقوّته طرفةَ عينٍ ، كان أسرعَ إلى الضلال من السيل إلى منتهاهُ ، وهذا واقعٌ في كلِّ الضالّين والمغضوبِ عليهِم ، وكلهم الله إلى أنفسهم وشاء الضلال لهم ، ورفع عصمتَهُ وتسديده عنهم فكانوا في ظلماتٍ يعمهون ، ﴿ومن يُضلِلِ اللهُ فما لهُ من هادٍ﴾﴿من يشأ اللهُ يُضلِلهُ ومن يشأ يجعلْهُ على صراطٍ مستقيمٍ﴾﴿من يهدِ الله فهو المُهتدي ومن يُضلِل فأولئكَ هُمُ الخاسرونَ﴾﴿من يهدِ الله فهو المهتدي ومن يُضلل فلن تجِدَ لهُ وليًّا مُرشِدًا﴾ ، وفي الحديث القدسيِّ المشهور الَّذي خرَّجه مسلمٌ قال رسول الله صلى الله عليه : "يا عبادِي كلُّكم ضالٌّ إلاَّ من هديتُه" وهذا المعنى من أظهر المعاني في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولو لم يكن هذا واردًا ، لم يكُن للتثبيت وسؤال الله الثباتَ معنىً ، ولم يكُن للفتنة بالرغبة والرهبة أثرٌ ولم يَخَفْهُما الصالحون ويلحُّوا على الله بالسلامَةِ منها.
فإنًَّ الله يقول ﴿أحسبَ النَّاسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون؟ * ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الّذين صدقوا وليعلمنّ الكاذِبين﴾ ، وقد ارتدَّ عن الإسلامِ وخرج من الملَّةِ ، من ظاهر حالِهِ خيرٌ من المتراجعين مراتٍ عديدةً ، فارتدّ ابن أبي السرح وهو من كتّاب الوحي ، وغيرُهُ ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتّى ذكر من ألّف في المصطلح مسألةً مشهورةً في حدّ الصحابيّ ، هل يدخل فيه من ارتدّ بعد صحبته للنبي صلى الله عليه وسلّم ثم أسلم ومات مسلمًا أم لا؟
وهذه النازلة من التَّراجعات ، وإن كُنَّا نرى فيها مصيبةً ومحنةً عظيمةً وفتنةً لمن لم يُثبّته الله ، كما أنّا لا نعلم حقيقةَ ما حدثَ للمُتراجِعِينَ ، هذه النازلةُ تُذكّرنا هذه المعاني ، وأن يتوكّل العبد على الله ويسأله الثباتَ ، ولا يعتمدَ على نفسِهِ أو يُعجب بما آتاه الله من علمٍ أو صدقٍ أو عزيمةٍ على الرُّشدِ ، فكلُّ ذلك محضُ فضلِ الله ، ولو شاء سلبَهُ العبدَ في ساعةٍ من الليل أو النهار.



فصل : التَّراجع في السُّجون
ظهرت عدّةُ تراجعاتٍ في هذا العصر ولدت في السجون وخرجَت فيها ، أهمُّ ما يُذكرُ منها تراجع من تراجع من المشايخ والدعاة الّذين سُجنوا عام 1415 ، وكان تراجُعُ أكثرِ من تراجع منهم في السجن كما حدّث به ورواهُ من رافقهم في السجن ، إلاّ أنَّهم لم يعلنوا شيئًا مما تراجعوا عنه إلاّ لخاصّةِ جلسائِهِم حتّى كان الحادي عشر من سبتمبر قبل عامينِ ، فأظهروا كثيرًا مما تردّدوا فيه وجمجموا من قبلُ.
وتلا ذلكَ تراجعات الجماعة الإسلاميَّة في سجون مصرَ منذ أكثرَ من عامٍ وأُعلن تراجعهم وروّج له الطواغيتُ في كلّ بلدٍ وأكثروا من ترديده لحاجتهم إليه في تثبيت عروشهم وأنظمتهم الطّاغوتيَّة.
وآخرُ ما كان من التَّراجعات : تراجع من سُجن من المشايخ المُؤيِّدين للجهاد والمُجاهِدِينَ ، وقد خرجَ للناس علنًا عليٌّ الخضير ، وناصرٌ الفهدُ ، وأعلنا تراجعهما على الملأ عن مسائل كثيرةٍ ، حتّى وصل الأمر إلى قولِهِم بأنَّ الجهادَ في العِراقِ فتنةٌ وليسَت جهادًا ، ونحو ذلك مما لا يحتاج إبطالُهُ إلى استدلالٍ.
والسجنُ بمفرَدِهِ إكراهٌ عند بعض أهل العلمِ كما صحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذب ، وقال بعضُهُم إنَّ الإكراهَ يختلفُ باختلافِ الناس فمن الناس من يكونُ السجن في حقّه إكراهًا ، ومن لا يراه من الإكراه ، على أنَّ الثَّباتَ عزيمةٌ لمن أخذ بهِ ، وقال بعض أهل العلم إنَّ من يُؤتمُّ به لا يُرخّص له فيما يُبيحُهُ الإكراهُ ، وبه أخذ الإمامُ أحمدُ بن حنبلٍ رحمه الله ورضي عنه في فتنة خلق القرآن.
وإذا قُلنا إنّ السجن إكراهٌ فإنَّ ما خرج به المشايخُ المتراجعون في ظاهِرِ فعلِهِم يخرجُ عن حدّ الإكراهِ كما يأتي في ضبط ضوابط التكفير.
والحقُّ لا يُمكن أن ينحصر في السجون ولا تقوم حجّة الله به على أحدٍ حتّى يُسجنَ ، ولا يُمكن الاستدلال عليه والدعوة إليهِ لمن كان طليقًا بعيدًا عن السجون ، وسجون الطواغيتِ خاصَّةً أبعدُ عن أن تكون محلاًّ لظهور الحقِّ ينحصر الحقُّ ومعرفته فيه من غيرِهَا.
وإنّما الحالُ في التَّراجعات التي كانت في السجون أحدُ أمرينِ :
الأوّل : ترخّصُ من يترخّص لحال السجن.
الثاني : الاجتهاد الّذي يكون معه نوعُ هوىً.
وكلاهما سيأتي الحديثُ عنهُ في الفصل التالي إن شاء الله.

فصل : مزالقُ التَّراجعات
لإبليسَ ألوانٌ من التلبيس ، وأنواعٌ من المداخل على قلوب العبادِ ، يضلُّ بها من كتب الله له الضلال ، ولو كان إبليس يدعو إلى عبادةِ نفسِهِ صراحةً ما اتّبعه أحدٌ ، ولو دعا إلى الباطلِ كما هو ما استجابَ لدعوتِهِ أحدٌ ، وإنَّما يلبّس الحق بالباطل ، ويشبّه الضلالةَ بالهُدى ، ويزيّن المنكر بألوانٍ من الهوى.
ومن الأخطاء الظاهرة فيما رأينا من التَّراجعات :

المزلقُ الأولُ : التحاكم إلى التجارب
أنزل الله الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيهِ ، وأمر الناس بالرجوع إليه في مسائل النزاع ومواضع الخلاف.
والمسائل الشرعيَّة في تأصيلِهَا لا يُمكنُ أن تتأثَّر بالواقعِ البتّة ، فلا يُمكن أن تُثبتَ التجربةُ أنّ الحاكم بغير ما أنزل الله مسلمٌ والدليل يُثبتُ أنَّهُ كافرٌ ، ولا يُمكن أن يدلّ النص على أمرٍ وتكذّب التجربة تلك الدلالةَ.
وأمّا تنزيل المسائل على الواقع فيمكن أن تدخل التجربة فيه لكنّها تكون مضبوطةً بالشرعِ ، فتدل التجربة على مناطات الأحكامِ في الوقائع والأعيانِ ، لا على الواجب حيال تلك المناطات ، فدلَّت التجربة في الصومال مثلاً ، على قدرة المجاهدين على مواجهة أمريكا والانتصار عليها بحول الله ، ولكنَّ التجربة التي دلّت على الواقع (القدرة) لا يمكن أن تدلّ على الواجب تجاهه (القتال وتركه).
ومن أكبر أسباب الضلال في الدعواتِ على مرِّ العصور ، مراعاة النتائج ، ومراقبةُ الثمرات ، وهذا وقع في أصل الإسلام ممن قال الله فيهم ﴿ومن النَّاس من يعبُدُ الله على حرفٍ فإن أصابَهُ خيرٌ اطمأنَّ بهِ وإن أصابَته فتنةٌ انقلبَ على وجهه خسرَ الدُّنيا والآخرةَ ذلكَ هو الخُسرانُ المُبين﴾ ، ﴿ومن الناس من يقولُ آمنَّا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله﴾ ، ويقعُ في الفروعِ والمناهجِ والأعمالِ على درجاتٍ ومراتِبَ.
وسببُ دخولِ الغلطِ على من يستدلّ بالتجارب ويتحاكم إلى النتائجِ ، معرفته أن ثمرة الخير خيرٌ ولا بدّ ، وأن نتيجة العمل الصحيح الثمرة الصالحةُ ، وهذا حقٌّ على أن لا يقتصر النظر على الدنيا وما يحدثُ فيها ، فقد قُتِّل المؤمنون في الأخدود أجمعينَ ، وكان ذلك فوزًا كبيرًا بنصِّ القرآنِ حين جُمعَ إليهِ الثوابُ الأُخرويُّ ، ولم تُقصرِ النَّظرةُ على الدنيا وما يحدثُ فيها.
فمن نظر في النتائج الدنيويَّة والأخرويَّة علم أنّ الثمرة الأولى ، والنتيجة الكبرى لعمل المُؤمن هي ما بعد موته لا ما كان قبله كما قال عزَّ وجلَّ في بدر : ﴿تُريدون عرض الدنيا والله يُريد الآخرة﴾ فهي المقصود الشرعيُّ الأصليّ ، ولذلك ذكر الله ذلك في العقد بينه وبين المُؤمنين ﴿إنَّ الله اشترى من المُؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّةَ يُقاتلون في سبيل الله فيَقتُلُونَ ويُقتَلون وعدًا عليه حقًّا في التوراةِ والإنجيلِ والقُرآنِ ومن أوفى بعهدهِ من الله فاستبشروا ببيعِكم الّذي بايعتُم به وذلكَ هو الفوزُ العظيمُ﴾ فلم يذكر في أصلِ العقدِ إلاَّ الآخرةَ.
وقال عزّ وجلَّ ﴿يا أيُّها الَّذين آمنوا هل أدلُّكم على تجارةٍ تُنجيكم من عذابٍ أليمٍ * تُؤمنون بالله ورسوله وتُجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفُسِكم ذلكُم خيرٌ لكم إن كُنتُم تعلمون * يغفر لكم ذنوبَكُم ويدخلكم جنّاتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ ومساكنَ طيبةً في جنّاتِ عدنٍ ذلك الفوزُ العظيمُ * وأُخرى تحبّونها نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ وبشِّر المُؤمنين﴾ فجعل التجارةَ ما في الآخرةِ ، وجعل النصرَ والفتحَ القريبَ هبةً أُخرَى ومزيدًا من عنده جلَّ وعلا.
وقال سبحانه لنبيِّه : ﴿فإمَّا نذهبنَّ بكَ فإنَّا منهم منتقمون * أو نرينَّك الَّذي وعدناهم فإنَّا عليهِم مُقتدرون * فاستمسِك بالَّذي أُوحيَ إليكَ إنَّك على صراطٍ مُستقيمٍ﴾.
ويأتي يومَ القيامةِ النبيُّ ليس معهُ أحدٌ ، والنبي ومعه الرجلُ والرجلانِ ، فما قال أحدٌ ولا يقولُ أحدٌ يعقل عن الله ورسولهِ إنَّ هؤلاء الأنبياءَ والصالحين خسروا ، وإنَّ التجربة دلَّت على بُطلان طريقتهم وأن الصواب خلاف ما فعلوا.
ولا يُقال هذا في ما وقع بالمسلمين في أحدٍ ، ولا ما لقيه الموحّدون في الدرعيَّةِ ، ولا ما نال دولة الطلبة في قندهارٍ ، بل الأيام دول والحرب سجالٌ ، وإذا كان المقصود الأول ثواب الآخرة ولم ينقص منه شيءٌ بل زاد ، فإنّ الدنيا فضلةٌ ، وإقامةَ الدين والخلافةِ فيها واجبٌ شرعيٌّ المطلوب فيه بذل الجهد والطاقة ؛ فمن عجزَ فقد نالَ أجرهُ كاملاً ، بل يلحقُ بالفضل الَّذي جاء في الحديث : "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم" كما روى مسلمٌ من حديث ابن عمروٍ رضي الله عنه مرفوعًا.
واشتراط النتائج في العمل من تكلّف ما لم يأمر به الله ، وتغيير المناهج عند تغيُّر النتائج فرعٌ على هذا التعدّي على حقّ الله والتجاوزِ لحدودِهِ ، والنظر إلى النتائج والاهتمامُ بها يكون على وجهين :
الأول : التأثُّر لضلال الضالّين ، والضيق بعناد المعاندين للحقِّ ، وهذا مما يقعُ من الطبيعةِ ولا تُوجبه الشريعةُ ، فوقع من النبي صلى الله عليه وسلم ﴿فلعلّك باخعٌ نفسك على آثارِهم إن لم يُؤمنوا بهذا الحديثِ أسفًا﴾﴿لعلّك باخعٌ نفسَك ألاّ يكونوا مُؤمنين﴾ ولكنّ الله نهاه عن هذا ، والنهي فيه هو النهي عما يقع من أعمال القلوب ممّا ليس في مَلكِ العبدِ ، وإنَّما محلُّ النّهيِ في أعمال القلوب التي لا يد للعبد فيها كقوله صلى الله عليه وسلم "لا تغضب" : الاستجابةُ المقدورُ عليهَا والاسترسالُ في آثارِها ، واجتناب أسبابِها فيما يكون للعبدِ يدٌ في أسبابِه ، فنهى الله نبيَّهُ صلى الله عليه وسلَّم عن الحُزنِ : ﴿فلا تحزن عليهِم ولا تكُن في ضيقٍ مما يمكُرُون﴾ ، وعاتبه في قولهِ : ﴿فإن كان كبُر عليكَ إعراضُهُم فإن استطعتَ أن تبتغيَ نفقًا في الأرضِ أو سُلّمًا في السماء فتأتيَهُم بآيةٍ ولو شاءَ اللهُ لجمَعَهُم على الهُدى فلا تكوننَّ من الجاهلين﴾.
والثاني : ترك الحقِّ إن لم يقبله الناس ، أو رأى من نتائِجِهِ ما لم يكن يظنُّه يقع ، وهذا حالُ من ذكر الله عنهم ﴿ومن النَّاس من يعبُدُ الله على حرفٍ فإن أصابَهُ خيرٌ اطمأنَّ بهِ وإن أصابَته فتنةٌ انقلبَ على وجهه خسرَ الدُّنيا والآخرةَ ذلكَ هو الخُسرانُ المُبين﴾ ، وهو وادٍ من أوديةِ الضلالة نسأل الله السلامة.
وقد وقع من كثيرٍ من الدعاةِ تراجعاتٌ عن أصولٍ ومبادئ يستندون فيها إلى التجربةِ ، وهم كمن يزرع ويستعجل الحصاد فيحرث أرضه ويبطل ما صنع وزرع ، وتمضي عليه السنون لا يخرج بطائل ، ولا يتبيّن حقًّا من باطل.
ولو سلّم للمستدلّ بالتجربة ذلك ، فتجربة ستة الأشهر التي ذكرها المتراجعون لا تقاس بتجربة من جرّبوا طريق الجهاد سنين طوالاً ، وأزمنةً مديدةً ، فإن طلبوا من المجاهدين النزول عن الحقّ الّذي يعلمونه إلى تجربتهم القصيرة ، والتي رأوا فيها شيئًا من اللأواء والألم والقرحِ ، فإنّ رؤوس الداعين إلى الجهاد المحرّضين إليه خاضوا من التجارب أكثر مما خاضوا ومنهم من سُجن السنين الطوال ، فهذا أبو عبد الله أسامة بن لادن ، وأخوه أيمن الظواهريّ –ثبّتهما الله- علمان من أعلام الأمّة وقائدان من قادتها ، لو كان الأمر بالتجربة لسُلّم لهما ما هما فيه ، فأسامة جاهد في سبيل الله أكثر من عشرين سنةً ، وأيمنُ أمضى في الجهادِ والسجون أكثر من ثلاثين سنةً ، وتجربتهما لم تؤدّ إلى ما أدّت إليه هذه التجربة القصيرة الخديجة ، فلو كان الراجع يرجع إلى التجربة فحسبُه هذه التجربة ، وإن كان إلى الدليل فليُحتكَم إلى الدليل.
ومن طرائق المستدلّين بالتجربة التعريج على وقائعَ من الخروج على الولاةِ أدّت إلى قتلِ من خرجوا واستئصالِ شأفتِهِم ، ولا يفرّقون بين ما كان خروجًا على كافر ، وما كان خروجًا على والٍ جائر.
والكلامُ فيها كالكلام في سائرِ التَّجارِب مع بيانِ الفرقِ بينَ الخروج على كافرٍ والخروج على جائرٍ ، ضرورةَ تسويةِ الشَّريعةِ بينَهما ، ولا يكون في دين الله التفريق بين أمرين مستويين فيما استويا فيه.

المزلقُ الثاني : حصر الحق في الواقع
من مسالك الضلالة في التَّراجعات ، توهُّم المُتراجع أنّ الحقّ محصورٌ في معلومِهِ ، واستغناؤه بالواقع الذي يراهُ عن البحث عن الحقّ والسعي في طلبِهِ وتحصيلِهِ.
وهذا من أكثر ما وقع فيه أهل الكلام ، ممن ينشأ ببلدٍ لا يرى فيه إلاّ البدع ولا يعرف مذهب أهل السنة ، ولا يطّلع عليه في شيءٍ مما يُطالعه من الكُتُب ، وهذا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة فيهم أنّ الرجل منهم يذكر الأقاويل في المسألة ويطيل فيها ، والقول الذي هو مذهب أهل الحديث والأثر وهو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة لا يذكره ولا يعرض إليه ولا يعلم به.
ومن هذا المزلقِ احتجاج المشركين على رسلهم بـ﴿ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوَّلين﴾ ؛ فظنُّوا أن ما لم يقع في آبائِهم لا يمكن أن يكون حقًّا ، وأنَّ كلَّ حقٍّ لا بدَّ أن يكون مما وجدوه لدى آبائِهم ، ومثلُهُ استغرابهم أن يكون الرسول بشرًا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، لأنَّهم نظروا فيمن عرفوا من البشر فلم يجدوا فيهم رسلاً ، واستدلُّوا على مماثلته للناس بأكله الطعام ومشيه في الأسواق ، فكيف يُفارق الناس بالنبوة؟&#33;
ومنه قول مشركي قريشٍ للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن ربّك ، أمن ذهبٍ هو؟ أمن فضّةٍ هو؟ تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا ، فلم يدركوا من الماهيَّات إلاّ المعادن الأرضيَّة وما شاكَلَها.
ويُشبه هذا الباب حصر أدلَّة الحقِّ فيما يعرفه كما فعل فرعون حينَ قال : ﴿يا هامان ابن لي صرحًا لعلِّي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطِّلع إلى إله موسى وإنِّي لأظنُّه كاذبًا﴾ فظنَّ أنَّ كل موجودٍ يمكنه الاطّلاع عليه والوصول إليه ، وأنَّ الربَّ لا بدَّ أن يكون في حدود ما يدركه ويعرفه أو يستطيع الوصول إليه ، ومنه قول النمرود ﴿أنا أُحيي وأُميت﴾ فلم يفهَم من الإحياءِ والإماتةِ إلاَّ ما هو بمقدوره.
والمنحرفون في هذه الأمة عن التوحيد أُتوا من هذا البابِ ، فعبّاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم وبارك- وعبدة الأولياء والصالحين من دون الله ، يستدلُّون بشيءٍ من واقعهم على ما يفعلون ، فيقول قائلهم : لو أنّك جئت ملكًا من الملوك له جاهٌ ومهابةٌ لم يمكنك الدخول عليه إلاَّ بوساطاتٍ وشفعاء ، فيتوهّمون الله جلَّ وعلا كملوك البشر الَّذين لا يعرفون غيرهم.
والمنحرفون في أفعال الله من القدريَّة والجبريَّة ، امتنع عندهم بناءً على ما يعرفونه من الواقع وجود إرادةٍ حقيقيّةٍ للمخلوقِ ، مع دخولها في الإرادة التامَّة الكاملة للربِّ ، ثمّ اختلفوا فمنهم من أثبت إرادة الرب ونفى إرادة العبد ، ومنهم من عكَسَ ذلكَ.
والمنحرفون في الأسماء والصفاتِ توهّموا أنَّ إثبات الصفات لله عزَّ وجلَّ لا يكون إلاّ على ما يعرفونه من صفات المخلوقين في النقصِ والضعف ، ثمَّ انقسموا بعد هذا الوهم قسمين : قسمًا أثبت لله الصفات وأثبتها على هيئة صفات المخلوقين ، وهم الممثّلة كهشام بن الحكم الرافضي وغيره ، وقسمًا نفى صفات الله التي أثبتها لنفسه لأنّ الله لا يمكن أن يكون مثل مخلوقاتِه ، وكلُّهم أُتي من حصره معاني النصوص ومدلولاتها فيما يرونه في المخلوقين.
وكثيرٌ من المُتراجِعِيَن يتأثّرُ بهذا الجانبِ ويستدلُّ به ، كما في تراجع ناصرٍ الفهد الّذي ذكر أنّ الحقّ استبان له بعد تفجير المحيَّا ، وأنَّهُ عَلِمَ بُطلان الطريق الذي يسلكه المجاهدون بهذا ، ولو سُلّم صحّة ما رآه من تفجير المحيّا وشاهده ما كان ذلك يعني إلاّ خطأ من قام به سواء كان خطأ في اختيار الهدف أو خطأ في المنهج ، أو خطأً في تطبيق ذلك المنهج ، وكلّ ذلك لا يحصر الحقّ بين من قام بتلك العمليّة المباركة والمُداهنين للطواغيتِ أو المنخدعين ببعض أقاويلِهِم.
بل العدلُ والإنصافُ وسبيلُ الهدى أن يُقال : هذا باطلٌ ، وذاك باطلٌ ، والحقُّ غير هذا ، وغيرُ هذا ، ويُفصَّل الحقّ استنادًا إلى الدليل ، لا إلى غلطِ بعضِ من أراد العملَ بهِ ، وهذا لو سُلّم صحَّةُ ما زعم الطاغوت عن عمليَّةِ المحيّا ، مع أنَّ الثَّابت في الواقعِ أنَّ المجمَّع صليبيٌّ سكّانه صليبيون أمريكيون وغربيّون ، وثبت ذلك بكلام المجاهدين أولاً ، ثمَّ ما قارن ذلك من قرائنَ عديدةٍ تورِثُ اليقينَ بكذبِ خبرِ الداخلية جملةً وتفصيلاً ، وقرائنَ قويّةٍ تُثبت أن كذب الداخلية هدفه الحيدة عن الاعترافِ بالأمريكيين القتلى فيه ، مما يُثبت ذلك لو فُرض أنَّ المجاهدين لم يقولوه.

المزلق الثالث : عدم التثبُّت
من المزالق فيما رأينا من تراجع المتراجعين ، الاعتمادُ في الأخبار على وسائل إعلام المرتدّين ، وتصديقُ الطواغيتِ وأبواقِهِم فيما يقولون ، فصدّقوا كذبتهم الصلعاء في أنّ سكان مجمّع المحيَّا من المسلمين ، وصدّقوا أنّ في المجمّع مسجدًا ، واعتمادهم في هذا على ما قال الطاغوت ، وما نعقت به صُحُفُه وإذاعاتُهُ ، والحقُّ خلافُ هذا ، ولو تثبّت واحدُهم أو سكت حين لم يثبت عنده شيءٌ لأصابَ في فعلِهِ.
وقد حذّر اللهُ من الأخذ بخبر الفاسق فقال : ﴿يا أيُّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أن تُصيبوا قومًا بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتُم نادمين﴾ وأيُّ قومٍ كالمجاهدين خاضت في أعراضهم الألسن؟
وذمّ اللهُ من أخذَ بخبر المنافق فقال عزّ وجلّ : ﴿لو خرجوا فيكُم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالَكم يبغُونكم الفتنة ، وفيكُم سمَّاعُون لهُم﴾ ولا فتنةَ أكبرَ من فتنةِ طواغيتِ الجزيرةِ وما بغوهُ في المُؤمنين ، ولا تكادُ تجدُ مفتونًا بفتنتهم إلاّ كان من السمّاعين لهم المصدّقين لترّهاتهم.
وهذا وإن كان أصلاً شرعيًّا لا غُبار عليه ، فإنّ الوقائع تؤكّده في مواضع لا تحصى ، وتبيُّن خطر تركِ التبيُّن ، فكلُّ ما عايشناه وعرفناه من أمورٍ أخبر عنها الطاغوت رأينا الكذب فيه في وسائل الإعلام مما لا يُحتمل ، وكلُّ ما بيّنه المجاهدون بعد ذَلِكَ وشرحوا أمرَهُ للناس استبانَ ما فيهِ من تلبيس هؤلاء الطواغيتِ الذين فرّغوا أجهزةً للدجل وتلبيس الحقائق.
وممّا أثّر فيه عدم التثبّتِ : حكم المتراجعين بأنّ الجهاد في العراق فتنةٌ وليس جهادًا ، وتعليلهم بأنّ القاتل لا يدري فيمَ قَتَل ، وهذا باطلٌ يُعلم بالاضطرار ، ولو استند الناظر إلى صحف الطاغوت وإذاعاته وحدها ، أو إلى الإذاعات عامة لما خرج بهذه النتيجة ، ولما تصوّر الجهاد في العراق بهذه الصورة ، وليس هذا التصور الذي زعموه موجودًا عند أحدٍ إلاّ إن كان شيءٌ يصنعه الطاغوت لهم في نقل الأخبارِ وتوصيلِها إليهم.
وسيأتي بإذن الله في فقه الواقع الحديث عن المواضع التي يُشرعُ فيها الأخذ بخبر الكافر وضوابط ذلك ، وليس هذا الموضع منها.

المزلقُ الرابع : الاجتهادُ المشوبُ بهوىً
ذكر شيخ الإسلام في القواعدِ الفقهيَّة أنَّ المُجتهِدَ قد يشوبُ اجتهادَهُ هوىً فيكون له من الإثمِ بقدرِ ذلكَ الهوى ، وهذا لا يكادُ يسلمُ منه أحدٌ في دقائقِ المسائلِ ، كما قد يقعُ في الأصولِ الكبارِ عند الفتنةِ.
والمُبتلى بفتنةٍ ، تُنازعه ولا بدّ نوازع نفسه إلى الإجابةِ ، وإلاّ لما كان في فتنةٍ ، وقد تعرِض للنفس الشُّبهة في حال ضعفٍ فتميلُ إليهَا ميلاً إلى ما يوافق هواها ويتشاكل مع ضعفِها ، وتتوهَّمُ أنّ ميلَها كان لظهور الدليل وقيامِ الحجَّةِ ، فهذا من جنس الاجتهاد المقرون بهوىً الَّذي ذكره شيخ الإسلام.
والهوى إن عرض في أصلِ النّظر والمسألة ، كان الاجتهاد تبعًا له ، وكان النظر كلُّه نظر تلبيسٍ وضلالٍ ، ورأيتَ في ذلك ما ترى من استدلالٍ بالمجملات ، ومغالطةٍ في الواضحاتِ ، وتعجّلٍ دون الواجب الشرعيِّ من التثبّت ، وليٍّ لأعناقِ النُّصوص وتحويلٍ لها عما تدلُّ عليهِ.
وإن عرض للناظر في المسألةِ في أثناء بحثِهِ فيها كان له أثرُهُ في المسألة والكلام فيها بقدر ما عرض فيه ، وقوّة النفس في التجرُّدِ منهُ.
ولانضباطِ أدلّة الكتاب والسنة ، وصعوبة تحريف المحرّفين لها ، كان أغلب ما تجرُّ إليهِ الأهواءُ باب المصلحة والمفسدة ، والتعلّق بالتجارب والنتائج الدنيويَّة العاجلة.
فتلجأ النفس الأمَّارة بالسوءِ إلى لبس الحق بالباطل ، وتصوير المداهنة في صورة المداراة الشرعية ، والتمييع في صورة التوسط والاعتدال ، والمجادلة عن الطواغيت والمخاصمة عن الخائنين في صورة الدفاع عن الأمَّة والحفاظ على وحدتها ، والذبَّ عن الصليب وحمايته في صورة التعقل والتأنِّي وتجنيب المسلمين ما لا يُطيقون.

المزلق الخامس : التوسُّع في الإكراه والتَّورِيَة
رُخّص للمكره في التلفّظ بما يُكره عليه ولو كان كفرًا ، ولكنّ للإكراهِ ضوابطَ شرعيَّةً يتعيّنُ ضَبْطُهُ بِهَا وتقييدُهُ ، وإلاّ أدَّى التوسُّعُ فيهِ إلى هدمِ أركانِ الشريعةِ ، وإزالة قواعِدِها.
وسيأتي بإذن الله الحديثُ عن الضوابطِ والقيودِ للإكراهِ ، إلاّ أنَّ ما يعنينا هنا الحديث عن هذا الباب من أبوابِ الشيطانِ ، فرُبَّما سوَّلَ للعبدِ الترخُّصَ والتوسُّع بالإكراه حتّى جاوز حدَّهُ ، فيُزيغُ الله قلبه بقدر ما زاغ ﴿فلمَّا زاغُوا أزاغَ اللهُ قُلُوبَهُم﴾.
وكذا التوسُّع في التوريةِ الَّذي وإن اختلف العلماء في جوازه بلا حاجة في الأصلِ ، إلاَّ أنّ استعماله في موضع الهمز واللمز والطعن في المجاهدينَ محرّم لما فيه من الهمز واللمز ، وللتوريةِ أبوابٌ منها الجواب عن السؤال الخاصِّ بكلمةٍ عامَّةٍ لا يقصد بها المسؤول عنه ، وإن كان الناس يفهمون ذلك ، ومنها الحديث بذمِّ الخوارج وذكر بعض مقالاتِهِم في موطنٍ يُفهمُ فيه أنَّ المقصودَ المجاهدونَ ، وأنّ الحديث عنهم ، أو ذكر شيءٍ من المقالات المستشنعة مع إيهامِ أنَّها مقالةٌ للمجاهدين الموحِّدين.
ومن أقبح أبواب التورية وأخطرها ، إيهامُ صاحب الضلالة أو الكفر أو الفسوق موافقَتَهُ على مذهبِهِ وضلالته ، وفي هذا إقرارٌ له على ما هو فيه ، لذا ذكر أهل العلم أنّ من أظهر للكافر الموافقة على كفره كفرَ ، كما قرَّر ذلك سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالة "الدلائل".

المزلق السادس : اتّباع الأكابر والمعظَّمِينَ
قال عبد الرحمن المعلِّميُّ رحمه الله في كتابه المبارك (التنكيل بما في تأنيبِ الكوثريِّ من الأباطيل): "من أوسع أوديةِ الباطِلِ ، الغلُوُّ في الأفاضلِ" ، وهذا بابٌ من أبواب الشيطان ضلّ به اليهود والنصارى في اتّباعِهِم الأحبارَ والرُّهبانَ وتقليدِهِم إيّاهُم دينَهم ، وضلَّ به المشركون في تقليدِهِم آباءهم ، ولذا قال أبو جهلٍ ومن معه لأبي طالبٍ لما حضرته الوفاةُ : أترغبُ عن ملَّةِ عبد المطَّلبِ؟
وفي هذه البلاد ضلَّ كثيرٌ من الناس بتقليد عبد العزيز بن بازٍ و محمد بن عثيمينَ ، حتّى صار اسم عبد العزيز بن بازٍ علمًا على ما يسمّونه : "منهج ابن بازٍ" ، والقائلون به يأخذون كل ما أخطأ فيه ابن بازٍ ، وينسون كثيرًا مما عنده من الحقِّ والهُدى.
وقد رأينا في تراجع علي الخضير وناصرٍ الفهدِ تعريجهما على منهج ابن بازٍ ، وتعليقهما الرجوع والتوبة بهذا المنهجِ الّذي رُوِّج باسم ابن بازٍ.
ولو كان الحق بالرجال لكان قبل المعاصرين من هو أولى بالتقليد ، ولو كان الرجال أدلة على الحق ما كان للآيات والنصوص فائدة ، إذ قد مضى للأُمَّة من الرجال العظام ما يكفي للاستدلال به لو كانوا أدلَّة.

المزلق السابع : الإبهام في التراجع
كثيرٌ ممن يتراجع عن شيءٍ من أقواله يعزُّ عليه التصريح برجوعه عن قولِه ، ويُجمل في كلامه ويُجمجم ، والواجب الشرعي على من أعلن قولاً من الباطل الَّذي لا يسوغُ فيه الاجتهاد أن يُعلن تراجعه عنه ، ويبرأ من قوله ذلك كما قال تعالى : ﴿إنَّ الَّذين يكتُمُون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنَّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلاَّ الَّذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التوَّاب الرحيم﴾ فمن كتم الحقَّ لم يكن له من توبةٍ إلاَّ بيانُه ، فكيف بمن قال الباطل؟
وأمَّا من تراجع عن قولٍ اجتهاديٍّ فلا يلزمه إعلان رجوعه عنه كما لا يلزمه الإنكار على القائلِ به لو كان غيره ، والحكم من جهة البيانِ ووجوبه لا يختلف باختلاف القائلِ ، بل ما يجب من البيانِ يجبُ لكشف الزيف في القول الباطل ، سواء كان قولاً له قديمًا أو قولاً لغيره ، وقد قال الفاروق رضي الله عنه في مسألةٍ قضى فيها باجتهادٍ مخالفٍ لاجتهاد سبق له : "تلك على ما قضينا ، وهذه على ما نقضي".
وهذا إنَّما ذُكر استطرادًا عند ذكر التراجع ، وإلاَّ فالتَّراجعات الأخيرة لم تكن إلاَّ عن الحقِّ البيِّن الَّذي لا مِريةَ فيهِ ، إلى الباطل المحض الَّذي لا شائبةَ فيه.

أسباب الثبات :
ينبغي أن لا يخلو الباب من نبذةٍ متعلّقةٍ بأسبابِ الثباتِ ، على جهة التذكير بها والحثِّ على الأخذ بأسبابِها ؛ فمن أهمِّ تلك الأسبابِ : الدعاء والتضرع إلى الله ، وهو ما شرعه الله لكل مسلم فيدعو في صلاته ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ ، وهذا ما دعا به الخليل ﴿ربنا واجعلنا مسلمَينِ لكَ﴾﴿واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام﴾ ، وكان سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم يدعو في سجوده : "يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك".
ومن أسباب الثبات على الحقِّ ، شكر نعمة الله الَّذي أنعم بمعرفته ، وذلك بالاعتراف بمنة الله في الهداية إليه ، ولا يقول كما قال قارون ﴿إنَّما أوتيته على علمٍ عندي﴾ ، وحمد الله عليه باللسان ، والصدع بذلك الحقِّ والدعوة إليهِ ، والعمل بما يقتضيه ، والربُّ شكور ، يعطي على القليل الكثير ، ومن شكرَ نعمة الله قابل الله شكره بالأضعاف والمزيد ﴿لئن شكرتم لأزيدنَّكم﴾.
ومن أسبابِ الثباتِ على الحقِّ ، التبصُّر فيه بالدلائل الشرعيَّة ، ﴿بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صدور الَّذين أُوتوا العلم﴾.
ومن الأسباب الازدياد من الإيمان والهدى ﴿والَّذين اهتدوا زادهم هدًى﴾﴿يثبّت الله الَّذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين﴾﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبِّت أقدامكم﴾.
الوفاء بعهد الله وميثاقه ، والصدق مع الله ، فإنَّ ضدّه من أسباب الخذلان : ﴿ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصَّدقنَّ ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولَّوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون﴾ ، فبيّن أنَّ فعلهم أعقبهم نفاقًا في قلوبهم ، وفصَّل فعلهم الَّذي فعلوه : بما أخلفوا الله ما وعدوه ، وبما كانوا يكذبون ، والكذب شاملٌ كذب الأخبار ، وكذب الإنشاءات الَّذي هو مخالفة القول العمل ، ولذا فصَّل الله أحد معنيي الكذب في الآية التي تليها فقال عزَّ وجلَّ : ﴿ألم يعلموا أنَّ الله يعلم سرَّهم ونجواهم وأنَّ الله علاَّم الغيوب﴾.
ومن أسباب الثبات الحذر من الفتنة والانحراف ، كما قال الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه وأمّته من بعده ﴿واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك﴾.
ومن الأسباب سماع القرآن وتدبّره : ﴿قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاءٌ والَّذين لا يُؤمنون في آذانِهم وقرٌ وهو عليهِم عمىً﴾﴿وننزِّل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمُؤمنين والَّذين لا يُؤمنون في آذانِهم وقرٌ وهو عليهِم عمًى﴾.

البَابُ الثَّاني : فِقْه الوَاقِع المعاصر
لا يتمكّن المُفتي والفقيه من الحديث في مسألةٍ معيّنةٍ إلاّ بنوعينِ من الفقهِ ، كما ذكر ابن القيم –في أعلام الموقعين- وغيرُهُ : الأوّل الفقه في الأحكام الشرعيَّة ، والثاني الفقه في الواقع الّذي تُنزّل فيه الأحكام.
فأمَّا الفقه في الأحكام الشرعيّة ، فبمعرفة الأدلَّةِ وصحّة الاستدلالِ منها على المسائل ، وأمَّا في الواقع فبمعرفة مناطات الأحكام ، ومظانّ العلل التي اعتبرتها الأدلَّة ، وجرى أثرها في المسائل ، وتحقيق المناط في مسائل الواقع.
ولا بدّ عند الحديث عن المناهج المسلوكة للتغيير ، والبحث في تراجعات المتراجعين وانتكاسِ المُنتكِسينَ ، من تبيانِ الواقعِ الّذي فيه اختلف المختلفون.
وقد قسمت الباب إلى فصولٍ :
الأول : فقه الواقع في الشريعة.
الثاني : واقع العالم الإسلامي وجزيرة العرب.
الثالث : واقع المجاهدين والعمليات الجهادية.
الرابع : واقع العلماء والمنتسبين إلى العلم.
الخامس : أُغلوطة المحافظة على الواقع.

فصل : فقه الواقع في الشريعة
يأتي في الحديث عن واقع العلماء والمنتسبين إلى العلم أهمية أنَّ بيان الحقِّ وأداء الأمانة لا يكون إلاَّ بتنزيل الأحكام على الوقائع ، ولا بدَّ في تنزيلِ الحكم على الواقع من معرفة الواقع نفسِهِ والإحاطةِ بهِ ، فإذا علِّقَت الأحكام بفعلٍ أو عينٍ أو وصفٍ أو اسمٍ كان لا بدَّ من معرفةَ ذلك الوصفِ ما هو؟ وذلك الاسم ما مسمَّاه؟ وتلك العينُ أيُّ عينٍ تكون؟ وذلك الفعل كيف هو؟
ومعَ أهمِّيَّةِ فقه الواقع الّتي تقدَّمت إلاَّ أنَّ الناس انقسموا تجاهه قسمين:
قسمًا أعرض عن الواقع وعن معرفته والنظر فيه ، ثمَّ سوَّغ لنفسه ذلك واعتاد عليه ، ولربّما يحتجُّ بقصصٍ متفرَّقةٍ عن بعض السلف لم يحسن أن يضعها في موضعها ، وأقدم مع ذلك على الفتوى في النوازل ودقائق المسائل ، وحمله إعراضه عن فقه الواقع إلى الإعراض عن فقه الواقعة ، فمن ذلكَ ما تراه من فتاوى بعضهم بشرعيَّة الانتماء إلى الأُمم المتَّحدة ، ثمَّ يُسأل عنها وعن ماهيَّة الانتماء إليها وما يعرف من بنودها ، فتجده لا يدري ما هي وماذا فيها ، ويقول على الله بغير علمٍ حين يجوِّزها ، وفي بنودها ما يكفر من عرفه وحكم بجوازه ، بل في بنودها ما يكفر من علم به ولم يعتقد أنَّه كفرٌ ، وبلغ بهم الإعراض عن الواقع الَّذي يظنّونه دينًا أنَّهُم لا يعرفون من أحوال المسلمين شيئًا ، بل يبيت واحدهم آمنًا شبعانَ وجارُهُ جائعٌ.
وقسمًا آخر رأى من حال القسم الأوَّل ما يُضحك الجلمود ، من الجهل والكلام فيما يجهله ، مما يشبه أخبار الأعراب التي ترويها كتب الأخبار والأدب ، فحمله ذلك على أن تعمَّقَ في الواقع وانهمك فيه وفي متابعتِهِ حتَّى أضاع على نفسه الفقه في الدين ومعرفته ، ودخل الواقع وأخباره وعلومه بغير آلةٍ شرعيَّةٍ ، ولا ضوابط لاستفادته من الواقع ونظره فيه.
وكلا القسمين مخطئٌ مجانبٌ السبيلَ الشرعيَّ ، معرضٌ عن طريقة أهل العلم والفقه ، بتخلِّيهِ عن ضوابِطِ هذا الباب وإعراضه عن القواعد الشرعيَّةِ المُتعلِّقَةِ بهِ.
ويجدر التنبيه إلى أنَّ الفقه في الواقع ليس من العلم الممدوح لذاته ، بل يُحمد منه ما كان وسيلةً لمعرفة الحكم الشرعي وطريقًا إليه ، وما زاد عن ذلك فإن كان فيه نفعٌ دنيويٌّ فكسائر علوم الدنيا ومعارفها ، وإن لم يكن فيه كان حشوًا ولغوًا ، كسائر ما لا نفع فيه.
وإذا كان بهذه المثابة ، فإنَّه ليس علمًا شرعيًّا ، ولا يدخل في الاسم الخاصِّ للعلم في النصوص والأحكام الشرعيَّة ، بل هو من علوم الدنيا التي يُحتاج إليها في الدين ومن توهَّم خلاف ذلك فمنشأ غلطه أنَّه رأى أنَّ الإفتاء والنظر في بعض الأحكام الشرعية يحتاج إليه ، وهذا حاصلٌ في الطب وغيرِه كالنجوم في معرفة القبلة ونحو ذلك ، والتفريق بين العلوم الدنيويَّة والدينيَّة ثابتٌ في الشرع من وجوهٍ لا كما يزعم بعض العصريِّين.
فقه الواقعة: وهو من فقه الواقع الواجبِ في كلِّ واقعةٍ يُسأل عنها ، أو يحتاج إلى تبيان حكم الله فيها ، أو إلى معرفته للعملِ به ، وقد اعتيد على تسمية ما تعلّق بالسياسة الشرعية وبأحوال عموم المسلمين ، باسم فقه الواقع ، مع شموله لهذا ولهذا حتَّى معرفة ما يحتاج إليه في أحكام الحائض والنفساء ، وأحكام الحدث ورفعه والنجاسة وإزالتها للرجل والمرأة من الواقع ، كلُّهُ داخلٌ في هذا الباب لا يقلُّ أهمِّيَّةً عن غيره من الواقع ، بل يتعلَّقُ به من أحكام العبادات العظيمةِ كالطهارة والصلاة والحجِّ ، ما لا يجوز إغفاله وجهله أو تجاهله ، ولا ينفع من علم واقعَهُ علمُه بالواقع إن جهلَ ما يحتاجه في الواجبات المتعيِّنةِ عليهِ الَّتي لا تصحُّ عباداتُه إلاَّ بها.
ومعرفة طهارة الماء للتطهر به وما يتعلق بذلك من صفات وتفاصيل وأحكام كأحكام الاستحالة في الماء المكرر ونحوه ، ووسائل معرفة القِبلة وما يتعلق به من استعمال البوصلة ، ومعرفة الشمال الحقيقي من المغناطيسي حيث كان الفرق مؤثرًا ، ومقدار نصاب الزكاة وما يتعلق بذلك كعيارات الذهب ونسبِ الشائبةِ فيهِ ، ومقدار وزنه بالجرامِ لمن احتاج إلى معرفته به ، وأحوال الفقراء وحدّ الفقر في كل بلدٍ ، وأحوال الجمعيات الخيرية وثقتها لمن شاءَ أن يؤدّي زكاته من خلالِها ، وغير ذلك من التفاصيل التي يحتاج إليها ؛ كلّ ذلك من فقه الواقع المطلوب.
ومثل ذلك ما نزل بالإنسانِ من الأمور الحادثة ، وكلّ حكمٍ شرعيٍّ يكون مخاطبًا به ، فما احتيج إليه من معرفة الواقعِ لتنزيل الحكم عليه داخلٌ في الباب.
وقد نصَّ بعض من كتب في المسألةِ على اختصاص فقه الواقع بمسائل السياسة وأحوال عموم المسلمين ، وهذا إن كان اصطلاحًا خاصًّا فلا مشاحَّة فيه ، وإن كان تعليقًا لشيء من الأحكام به كما فعل فهو غلطٌ محضٌ ، ليس عليه دليلٌ ولا شبهةُ دليلٍ ، ولا فرق بين القسمين.
مصادر فقه الواقع : على العالم أن يستفصل فيما ينزل به من المسائل ، ويسأل أهل الذكر من كل فنٍّ عمَّا يتعلَّقُ بفنِّهم من واقِعِه ، أو يبحث عن ذلك في كتبه المعتبرة عند أهله ، أو يحصّل علم الواقعةِ التي وقعت به بشيءٍ من الطرائق المعروفة لتحصيل العلوم الدنيويَّة ، أو آحاد المعارف التي يتعلَّقُ بها ما احتاج إليه ، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الَّذي في مسلم حين نهى عن الإبار وقال ما أرى ذلك يصنع شيئًا ، فخرج شيصًا فقال –كما في بعض ألفاظ مسلم- أنتم أعلم بأمر دنياكم.
ما يُطلب من فقه الواقع : توسَّع بعض الناس في فقه الواقع ، حتَّى ذكر أحد الوعَّاظ أنَّه تابع قصَّة وقعَت في الغربِ عشر سنين&#33; في الصحف ، وهذا من ضياع الأعمار والأوقات فيما لا نفع فيه ، وإن لبّس الشيطان له أنَّ فيه نفعًا للأمَّة ، وأنَّه ما ينقص المسلمين ، وقُصارى الأمر عند هؤلاء أنَّه يُتابع القصَّة والحادثة ليرويها في محاضرةٍ له مستدلاًّ بها على الفساد لدى الغرب مما هو معلومٌ متقرِّرٌ بغير حاجةٍ إلى أن يُضيعَ عُمُره في تقفُّرِ أخبارِهِ ، ولو اكتفى منه بتقريرٍ في صحيفةٍ أو مقالٍ عثر عليه لكان كافيًا مجزيًا لا يدخل عليه منه نقصٌ.
ومن الناس من توسَّع فقرأ وتابع كلَّ ما لا ينفعُ من كلام الغرب وصحفهم ومقالاتِهم حتَّى صار فهمه لها وإحاطته وعلمه بها أكثر مما يعرِف من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وحتَّى بدا منه من الجهل بدين الله ما لو عكف باقي عمره على علاجه لكان خيرًا له ، فصار عامِّيًّا كغيرِهِ من العامَّة لا يزيد عنهم بعلمٍ إلاَّ علمَ ما لا ينفعُ.
وقد رأيتُ من الشباب من اشتغل بذلك أولَ اشتغاله بالطلب ، وصرف فيه وقتَهُ ومنهم من ناصحتُ في ذلك فاحتجَّ بما يسمعه لبعض الدعاة عن أهمِّيَّةِ فقهِ الواقعِ ، وما زال على ذلكَ حتَّى فوَّت زمان الطلب ، وتكاثرت عليه الأشغال فلم يحصِّل علمًا نافعًا ، ولا اشتغل بغير العلم مما ينفعُهُ في أمر دنياه ودينه.
والمطلوب شرعًا من فقه الواقع ، هو ما تعلَّق به الأحكام ، ومعناه تلمّس الأوصاف التي تكون مظنَّةَ مناطاتِ الأحكامِ في المسألةِ المعيّنة ، ومعرفة الأصول العامة للعلوم والمعارف البشرية التي يحتاج إليها مما لا يمكن تصور مسائل هذا العلم المُحتاج إليه في الأحكام إلاَّ به.
التبيُّن والتثبُّت : كثيرٌ ممن زعم التفقه في الواقع ، والانفتاح على العالم ، اتّسع في بعض المنكرات ، وخرج عن الحدود الشرعيَّة للأخبار نقلها واستماعِها ، فلم يتبيّن في أخبار الفسقة بل الكفرة ، فأصاب المجاهدين بجهالةٍ ، واستطال في أعراضهم استنادًا إلى نقل المرتدِّين الَّذين يراهم هو مرتدِّين ، أو يتوقّف في كفرهم دون أن يشكّ في كونهم أفجر الخلق وأكذبَهُم.
وقد عاب الله على من صدَّق المنافقين فقال سبحانه ﴿وفيكم سمَّاعون لهم﴾ والاستماع المقترن بالتصديق دون تثبّت لأخبار الكفرة والمرتدِّين في شأن الدين ، أو المجاهدين داخلٌ دخولاً أوليًا في هذه الآية.
وإذا استحسن بعضهم أن يعدّ فقه الواقع قرينًا لفقه الشريعة ، فإنَّ فقه الشريعة لا يكون إلاَّ بعد تحقيق النصوص الصحيحة ، وحسن الاستنباط منها ، فليكن الحال في فقه الواقع كذلك ، ولا يُقدم على المجاهدين والمسلمين عامَّةً إلاَّ بعد أن يتحقَّق من أحوالهم بالطرق الشرعيَّة.
والأخذ بخبر الكافر جائزٌ في مواطن:
الأول : ما يكون على جهة الاستئناس به ، والاحتراز والحيطة بناءً عليه ، دون أن يصل إلى تصديق تهمةٍ على مسلمٍ ، فضلاً عن ترتيب الأحكام عليها ، وهذا فرعٌ على القاعدة الّتي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الحسبة : "المنع والاحتراز يكونان على التهمة ، أما العقوبات فلا تكون بغير بيِّنة".
الثاني : ما يكون من جنس الإقراراتِ ؛ فيقبل كلامهم على أنفسِهم ومن لا فرق بينهم وبينهم.
الثالث : ما لا يتضمَّن إصابة مسلم بجهالة ولا بناء حكمٍ شرعيٍّ على كلامهم فلا بأس بالأخذ بأخبارهم والعملِ بمقتضاها.
الرابع : ما يتعلَّق به شيءٌ من الأحكام الشرعيَّة ولا يتضمَّن إصابة مسلم بجهالةٍ فيه الخلاف المعروف في خبر الطبيب الكافر والراجح فيه أنَّه مردودٌ ، ولا يؤخذ به إلاَّ على سبيل الاحتياطِ فيما كان في تصديقه به احتياطٌ ، كقدرةِ مريضٍ على صومٍ ونحو ذلك.
الخامس : ما يستفيض من الأخبار ويتواتر حتى لا يكون ثبوته والتصديق به راجعًا إلى ثقةِ آحادِ قائليهِ ، بل إلى الصفة التي ورد عليها ولا يمكن أن تقع في خبرٍ كاذبٍ ، كما هو معلومٌ في التواتر ، وأكثر ما يكون هذا في الأحداث العامة التي يشترك الناس في رؤيتها أو سماعها ، وفي نقل ما سمعوه أو رأوه منها.

فصل: واقع العالم الإسلامي وجزيرة العرب
تجاوزت فترة الاحتلال الصليبي لبلاد المسلمين المسمى بالاستعمار ، وخلَّفت الاستعمار غيرَ المُباشِرِ بوضع العملاء في بلاد المسلمين ، وتحكيم الأديان المستوردة عن الغرب مما وضعوه من القوانِين التي يُتحاكم إليها من دون الله ، حتّى صارت شريعة البلاد ودين حاكميها وحكوماتِها.
ومن بلاد المسلمين أجزاء محتلَّة من العدو الخارجيّ عسكريًّا ، كبلاد أفغانستان ، والشيشان ، وجملةٍ كبيرةٍ من بلاد الاتحاد السوفيتّيِّ السَّابقِ ، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس وما والاه ، والعراقِ.
وأمّا العدوان بمعناه الشرعيّ ، فجميع بلاد المسلمين اليوم يحكمها أعداء لله مرتدّون عن دينه ، مغيّرون لشرعه ، موالون لأعدائِهِ ، ولا فرق في الشريعة بين العدوّ الوطنيِّ ، والعدوِّ الخارجيّ ، إذ ميزان الولاء في الإسلام الدينُ لا غير.
وكلّ بلاد المسلمين اليوم تسير في مخطّطات ماسونيَّةٍ من سيّءٍ إلى أسوأ فيما تسير خططهم الإعلامية والسياسية عليه ، وإن كان الله يخيّب ظنونهم ويُفسد مساعيَهُم ويتمّ نوره ولو كره الكافرون.
والواجبُ في هذهِ البلادِ أن يُعاد شرع الله ليحكُمَهَا وأن تُشهر سيوف التوحيد لتعبيد البلاد والعباد لرب العباد ، وكلُّ فتنةٍ وضررٍ أهونُ من فتنة الكفرِ والحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم القوانين ، وإنفاذِ مخطَّطاتِ الصليبيين واليهود في بلاد الإسلام.
وبلادُ الحرمين من بين هذه البلادِ يحكُمها طواغيتُ من أشدّ الطواغيتِ حربًا على الإسلامِ وتبديلاً لشعائره وموالاةً لأعدائِهِ ، وقد عاقَهُم عن كثيرٍ مما يُريدون ما في الناس من خيرٍ وتوحيدٍ وحبٍّ للإيمان وكرهٍ للكفر والفسوق والعصيانِ.
واجتنابًا لمعرَّةِ الإنشاءِ أُوثرُ الحديث عن واقع بلاد الحرمين في معالم ثلاثةٍ:

المعلم الأوَّل : الإعلام
من أكثرِ العواملِ تأثيرًا في الناسِ : في فكرِهِم وأخلاقِهِم وعاداتِهِم ، وأمور دينِهِم ودُنياهُم : الإعلامُ ، والإعلام في بلاد الحرمين –كغيرهِ- إعلامٌ ماسونيٌّ يحمل أمراض الشُّبُهاتِ والشَّهواتِ ، فالشُّبهاتُ متمثِّلةٌ في الفكر العلمانيِّ ، ومبادئِ العولمة التي تقوم في أصلها على إلغاء الفروق المبنيَّة على الأديان وخصوصيَّات بعض الشعوب والأوطانِ ، وتوحيد الناس على ملّةٍ واحدةٍ تعتمد على الحريَّة الغربيَّةِ في السلوكِ والاعتقادِ ، فلا يُمنع فاسقٌ من فسوقِه ، ولا ضالٌّ مبتدعٌ ، فضلاً عن زنديقٍ مرتدٍّ من إظهار الضلالة والدعايةِ إليها ، وأمَّا الشهواتُ ففي وسائلِ الإعلامِ من الفسادِ ما لا يحتاج إلى تبيانِهِ ، وأبرزُ وسائلِ الإعلام أثرًا في الناس : الصُّحفُ ، والشاشات المرئيَّة سواء القنوات الحكومية ، والأخرى العالميَّة.
فأمَّا الصُّحُف فهي علمانيَّة التوجُّه ، من زعم أنَّ عددًا من صحيفةٍ منها يخلو من منكراتٍ عظيمةٍ وطوامَّ عقديَّةٍ وسلوكيَّةٍ وفقهيَّةٍ فقد كذبَ ، بل إنَّها لتغصُّ بالموبقاتِ من استهزاءٍ بالدينِ وتشكيكٍ في ثوابتِهِ ، وجحودٍ للمعلوماتِ منه بالضُّرورةِ ، وتزيينٍ للفسوقِ ودعايةٍ إليه وحضٍّ عليهِ ، فضلاً عن جريمة تعظيم الطواغيتِ والذَّبِّ عنهم بالباطل ، وترويج باطلهم ذلك ، وحمل الناس على القبول به ، وهذا جارٍ منهم في حقِّ طواغيت بلاد الحرمين ، وسائر طواغيتِ الأُمم.
وأمَّا الشاشات المرئيَّة ؛ فقد كان التلفازُ ملآنَ بالمنكراتِ والكبائرِ والمُوبِقاتِ ، من ظهور المتبرّجاتِ المائلاتِ المُميلاتِ ، وقصِّ مسلسلات الغرامِ والفسوقِ ، مع ظهورِ المُغنِّينَ الماجنينَ فيه وارتفاع أصواتِ المعازِفِ والغناء الَّذي هو بريدُ الزِّنا ، حتَّى لم يكد يخلو بيتٌ من هذه الفتنةِ العامَّة ، وحتّى استساغها الخاصَّةُ والعامَّة ، وحتَّى صارت معروفًا لا يُنكر ، وصارَ إنكارُها مُنكَرًا مُستَغربًا عند أكثرِ النَّاسِ.
وكان التلفاز في هذه الحال من أعظم المُنكَرات وآلاتِ نشر الفسادِ ، قبل أن يُؤذن بدخول الأطباق الفضائيَّة ، أمّا بعد أن أدخلها الطواغيتُ بلاد المسلمين فحدِّث ولا حرج.
وفي هذه الأطباق من المُوبقاتِ ما لا يخفى على أحدٍ ، ونشرت من الفسوقِ والفسادِ في عشر سنينَ ما لم يقع عُشْرُهُ في الأزمنةِ المُتطاوِلَةِ من قبلِهِ ، حتَّى قصَّ المُحتسبون عظائمَ لولا ثقةُ من يرويها وظهور بعضِ آثارِها ونتائِجِها ما صدَّقَ بها أحدٌ.
ويتبعُ طواغيتَ آلِ سعودٍ وحواشيَهُم قنواتٌ فضائيَّةٌ عديدةٌ ، منها كثيرٌ من عفنِ الفضاءِ المنتشرِ فيهِ ، حتّى أجاب نايف لمَّا سُئل عن عملية استهدفت قناةً لبنانيَّةً تُسمَّى قناة المستقبل ، هل لها صلة بتفجير الرياض وهل هي من عمل القاعدةِ؟ بقوله : ليس هناك ما يدلُّ على أنّ له صلةً بتفجير الرياض ، ولكنَّ القاعدة تستهدف جميع المصالح السعودية سواء في الداخل والخارج ، وهذا في لقاءٍ معه إثر العمليَّة التي استهدفت مقرّ تلك القناة بُعيد غزوةِ الحادي عشرَ من ربيعٍ الأوَّلِ بشرق الرياض ، وقد نُشر الحِوَار في صَحِيْفةِ الرِّياض.
وأمَّا الشُّبُهات فقد شاركت وسائل الإعلامِ السعوديَّة خاصَّة وإعلام طواغيتِ بلاد المسلمين عامَّة في الحملة الصليبيَّةِ على الإرهابِ ، وتعاونَت مع الصليبيَّةِ العالميَّةِ على تبديل الدين ، وتحريف معالمِهِ لدى كثيرٍ من المسلمين ، فطُمست عقيدة الولاء والبراء ، وشُوِّهَت صورةُ الجِهادِ ، وشُكِّك الناس في قادة الدين وأئمَّته من المجاهدين الصادقين والعلماء الصادعين بالحقِّ الجاهرين به.

المعلم الثاني : كُفريَّاتُ الطَّواغيت ؛ وسيأتي الحديثُ عنها في الباب الثَّالِث بإذن الله.
المعلم الثالث : العدو الصَّليبي المحتل.
والوجودُ الأمريكيُّ في بلاد الحرمينِ وجود احتلالٍ ، لم يملك الطواغيت في بلاد الحرمين أوَّلَ الأمرِ إلاَّ الوعد بقرب خروجهم ، ثمَّ ادّعوا أنَّهم خرجوا وأنكروا وجودَهم ، ثمَّ انطلقت الحملات الصليبية من بلاد الحرمين ، فاعترفوا بوجودها وسارعوا بعد انتهاء الحرب الصليبية على العراق بادّعاءِ أنَّهَا خَرَجَت من البلادِ ، وما لبثت أمريكا أن اعترفت بعد أن ضرب الأبطال مستوطناتِها في الرياض يوم الحادي عشر من ربيعٍ الأوَّلِ أنَّ الأمريكيين الموجودين في الرياض أربعون ألفًا ، ولمَّا ضرب المجاهدون مستوطنة المحيَّا أعلنت وسائل الإعلام أنَّ في الرياض عشرين ألفَ أمريكيٍّ ، وفي الباب رسالةٌ نافعةٌ للعالم الشهيد يوسفَ العييريِّ رحمه الله عنوانها : "التواجد الصليبي في الجزيرة العربية".
وهم مع ذلك باقون ، ولن يخرج العدوُّ من أرضٍ استولَى عليهَا حتَّى تُخرجهُ القوَّة ، ولن يرفع يده عن بلدٍ احتلَّها إلاَّ بالجهادِ في سبيل الله ، ولا يكون ما نريده إلاَّ بالمدافعة بالسيف والسنان التي هي من سنن الله الكونيَّةِ ، ومن أوامِرِه الشَّرعيَّةِ.

فصل : واقع المجاهدين والعمليَّات الجهاديَّة
ما رأيتُ من افتُريَ عليهِ أكثرَ مما افتري على المجاهدين في سبيلِ اللهِ في هذا الوقتِ ، وهذا امتحانٌ من الله لهم وتذكيرٌ بسنّةِ من قبلَهُم فما سلم من ذلك نبيٌّ ولا مصلحٌ وداعيةٌ ، وهو امتحانٌ لهم بقوله عزَّ وجلَّ : ﴿يا أيُّها الَّذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يُحبِّهم ويحبّونه أذلَّةٍ على المُؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يُجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومةَ لائمٍ﴾ ولو نظر أحدٌ إلى هذه الآيةِ قبلَ هذه الأعصار استغربَ لومة اللائمِ من أينَ تردُ؟ ومن يلومُ المجاهدين في سبيل الله في قتال المرتدِّين؟
الكفَّار ليس للومتِهم أثرٌ يمدح من تجرّد منه ولم يخفه ، إذ هم العدوُّ الَّذي جُرّدت سيوف الجهاد لقتالِهِ ، والمسلمون كيف يخرج منهم من يلوم المجاهدين على قتالِ المرتدِّين؟&#33;
وها نحن نرى هذا اليوم واضحًا جليًّا في المجاهدين ، الَّذين خرجوا لقتال الصليبيين فقاتلهم المرتدُّون ، ووجدوا لومة اللائم على ابتدائهم الصليبيين ، وعلى مقاتلتهم للمرتدّينَ ، وسبقت مشيئة الله أن يُمتحن المجاهدون بهؤلاء اللائمينَ ، فلا عجبَ بعد تأمُّل ذلك من كثرةِ من افترى على المجاهدين ولامَهُم ونسب إليهم ما هم منه براء.
وفي مُراجعات الخضير والفهد ، ذكرا أمورًا تستند إلى تصورٍ خاطئٍ لواقع المجاهدين ، وأوَّلُ ذلك حال المجاهدين في العراق :

واقع الجهاد في العراق :
جاء في كلا التراجعين أنَّ الجهاد في العراق فتنة ، وعلَّل ذلك كلاهما بأنَّ القاتل لا يدري فيمَ قَتَل والمقتولُ لا يدري فيمَ قُتل ، وهذا باطلٌ لا وجود له في الواقع البتّة ، ولا يستطيع أن يقوله من تابع شيئًا يسيرًا من أخبار المجاهدين هنالك نصرهم الله وأيَّدَهُم.
ولا يمكن أن يقولا هذا إلاَّ في واحدةٍ من حالين :
الأولى : أن يكونا مكرهين على قول ذلك ، أو متأوِّلَينِ أنَّهُما مكرهانِ.
الثانية : أن يكون ما يصلهما من الأخبار الموجهة من الطواغيتِ ، يُوحي إليهما بهذا ويُقصد منه تصوير الحال في العراقِ على هذه الصفة.
والجهاد في العراق جهادٌ في سبيل الله

صقر 55
23 Dec 2003, 11:44 AM
واقع الجهاد في العراق :
جاء في كلا التراجعين أنَّ الجهاد في العراق فتنة ، وعلَّل ذلك كلاهما بأنَّ القاتل لا يدري فيمَ قَتَل والمقتولُ لا يدري فيمَ قُتل ، وهذا باطلٌ لا وجود له في الواقع البتّة ، ولا يستطيع أن يقوله من تابع شيئًا يسيرًا من أخبار المجاهدين هنالك نصرهم الله وأيَّدَهُم.
ولا يمكن أن يقولا هذا إلاَّ في واحدةٍ من حالين :
الأولى : أن يكونا مكرهين على قول ذلك ، أو متأوِّلَينِ أنَّهُما مكرهانِ.
الثانية : أن يكون ما يصلهما من الأخبار الموجهة من الطواغيتِ ، يُوحي إليهما بهذا ويُقصد منه تصوير الحال في العراقِ على هذه الصفة.
والجهاد في العراق جهادٌ في سبيل الله ، يدري القاتِل أنَّه قتل الصليبيَّ المحتلَّ لبلد المسلمين ، ويدري المقتولُ أنَّه غازٍ محتلٌّ قد قتل المسلمين واستولى على دارِهِم ، وليس فيه من الفتنة شيءٌ بل هو جهادٌ لرفع الضرِّ ودفع الفتنةِ وردِّ الصائل المعتدي على بلادهم وغيرها من بلاد المسلمين.
وللمجاهدين في العراق راياتٌ معروفةٌ ، منها : رايةُ جماعةِ أنصار السنَّةِ الكرديَّةِ ، التي يحملها أبو عبد الله الشَّافعيُّ ، أحد المجاهدين المعروفين بالخبرة العسكريَّة ، وسلامة المعتقدِ والمنهج ، والجماعة معروفة منذ سنواتٍ عديدةٍ بالجهاد في سبيل اللهِ وقد كانوا يُقاتلون الملاحدة العلمانيين الأكراد في بلاد الكرد ، ثمَّ نزلوا إلى بغداد بعد سقوط الحكومة البعثيَّة المرتدَّة.
ومنها تنظيم القاعدةِ ، الغنيّ عن الإشادة والتعريف ، وقد أرسل المجاهدون بعض أصحاب الخبرات العسكريَّة ، وأقاموا عملاً منظّمًا في العراق ، وهما أكثر الجماعات المقاتلة في العراق ، وحين نفرِّق بين الجماعات الجهاديَّةِ الموجودة فلسنا نعني أكثرَ من الحديث عن مؤسِّسي المجموعات المقاتلة وقادتها ، أمَّا حالُها من جهة تعدد القيادات أو اتحادها فليس مجال الحديث.
ومنها الجماعة السلفيَّةُ المجاهدة في العراق ، وقد قرأتُ لهم كتابةً بيّنوا فيها معتقدهم وهو معتقد أهل السنة في تفاصيل المعتقد وأصوله ، ليس عليهم فيه مأخذٌ البتّة ، بل ما كتبوه شاهدٌ لهم بالفقه في الدين ، والتبصُّر في واقع المسلمين.
ويُزعم أنَّ لحزب البعث شيئًا من العمليَّات في قتال الأمريكان ، وحزب البعث حزب كفريٌّ واجبٌ قتالُهُ ، إلاَّ أنَّ المصلحة في تأخير ذلك ما دام يدفعُ العدوَّ الصائل ، ولا يجوز تركه إلاَّ مع التزام قتالِهِ بعد الفراغ من العدوِّ الصليبيّ.
ولا يشترط لصحَّة جهاد الدفع اتّحاد الرَّاية ، ولم يقل بذلك أحدٌ ، بل لو لم يكن إلاَّ أن يُقاتل كل رجلٍ وحده ، لكان واجبًا عليه القتال وحدهُ ، ولكنَّ توحيد الراية واجبٌ على المسلمين هنالك ما استطاعوا.
والمُتراجعان لا يشترطان اتحاد الراية بدليل تأييدِهِما الجهادَ في فلسطينَ ، وقولِهِما بمشروعيَّته ، وكلّ ما يرد في الراية من إشكالات موجود في فلسطين ، ومع ذلك فلا تجد مسلمًا يطعن في وجوب جهاد اليهود في أكنافِ بيتِ المقدسِ.
أمَّا صورة الاقتتال الَّذي لا يدري القاتل فيه لم قَتَل ، ولا المقتول لم قُتل؟ فلا وجود لها في العراق البتّة ، بل المحتلّ يعلم أنَّه قُتل لاحتلاله ، والمتعاون مع المحتلِّ يعلم أنَّه قُتل لتَعَاوُنِهِ مع المُحْتَلِّ ، والقاتل يعلم أنَّه قتل من أمره الله بقتله لعدوانِهِ على المسلمين وديارِهِم.

واقع الجهاد في جزيرة العرب :
المجاهدون من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ، من أسلمِ الناس منهجًا وأقومهم طريقةً ، انبعثوا لقتال الصليبيين المحتلين لبلاد الحرمين ، ولتطهير الجزيرة من الشرك والمشركين ، وهم ماضون في طريقِهم ذلك لن يثنيهم بإذن الله عنه أحدٌ مهما كان وبلغ ، فيما نحسبهم والله حسيبهم ، وندعو لهم به ، ونحرضهم عليهِ.
والمجاهدون في بلاد الحرمين ، يواجهون أعتى منافقي العصر ، وأعظم فراعنته مكرًا وكذبًا وكيدًا ، ﴿قل الله أسرعُ مكرًا إنَّ رسلنا يكتبون ما تمكرون﴾.
وقد شوِّه واقع جهادِهِم بألسنةِ إعلام الطواغيتِ لدى السمَّاعين لهُم ، ونُسب إليهم من الزور ما لا يصدّقه ذو عقلٍ ، فاتّهموهم باستهداف المسلمين من أهل بلاد الحرمين ، وصدّقهم سذّج الحمقى مع رؤيتهم لهم يتجنَّبُون الأحياء المكتظَّة بالناس ، ويقصدون المجمّعات المحروسة حراساتٍ مشدَّدةً.
وادَّعى عليهم نايفٌ وزمرته كذبتهم الصلعاءَ التي لا يقبلها عقلٌ إلاَّ عقلَ مفتريها إن صحَّت تسميته عقلاً ، حين اتّهموا المجاهدين بأنَّهم ينوون استهداف المعتمرين والتفجير في بيت الله الحرامِ ، مع أنَّ المجاهدين يتجنّبون مقاتلته وأمثاله ويكتفون بالصليبيين ليعلم الناس حقيقةَ الصراع وحقيقةَ ما يقوم به الصليبيون في بلاد الحرمين وما جاؤوا من أجله.
وادَّعوا على المجاهدين أنَّهم فاشلون محطّمون ، ما اندفعوا لمبدأ ولا ساقهم إلى الجهاد معتقد ، والعارف بالمجاهدين يعلم أنَّ الكذبة لا محلَّ لها في الواقع ، وأنَّ كثيرًا منهم ممن تطلبه الدنيا ويفرُّ منها ويعرض عنها ، إلاَّ أنَّ همًّا يدفعهم لنصر الدين لم يجده الخليُّ من الهموم ، والمنشغل بدنياه العاكف على ملذَّاتِهِ ، حتَّى رآهم من لم يعرف إلاّ الهموم الدنيويَّة ، ولم يُؤرّقه إلاَّ التزوُّدُ من ملذَّاتِهِ ؛ فاستغرب أحوالَهُم وأقوالهم وأفعالَهُم وأبى إلاَّ أن يفهمها وفق واقعِهِ ، وأن يقيسهم على نفسِهِ.
ونُسبَ إلى المجاهدين في التَّراجعات أمورٌ عدّة ، متعلِّقةٌ بأصولِهِم العامَّةِ ومناهجِهِم ، وبوقائعِ عمليَّاتِهِم التي قاموا بها في مشارق الأرضِ ومغارِبِها ، والمُنصف يأخذ عن بياناتهم ونشراتهم ليعرفَ حقيقة حالِهِم ولا يصدِّق الكفرة والمرتدِّين عليهم.
وقد كتب المجاهدون في عمليَّة شرق الرياض رسالةً فيها بعض المباحث الشرعيَّةِ ، وبيانٌ لكثيرٍ من وقائِعِها ، وفي التَّراجعات الأخيرة ذكرُ أنَّ القتلى والجرحى في عملية غرب الرياض من المسلمين ، وصوِّرت العمليَّة على غير ما كانت ، وسأورد التقرير الّذي كتبه المجاهدون في العمليَّة المباركةِ أنقله عن مجلَّة صوت الجهاد المهتمّة بشؤون الجهاد في أرض الحرمين:
العملية العسكريَّة على مجمَّع الصليبيِّين بإسكان المحيَّا
في ليلة الأحد الخامس عشر من رمضان لهذا العام ، قامت إحدى خلايا المجاهدين باقتحام مستوطنة صليبية ، وهو مجمّع تابعٌ للسفارة الأمريكيَّة في الرياض باعتراف إذاعة صوت أمريكا من واشنطن خلال السَّاعةِ الأُولى من العمليَّة المباركة.
والمجمّع الصليبي (مجمّع المحيَّا) يقع في وادي لبن القريب من حي السفارات وفيه أزيدُ من مائتي وحدة سكنية ، جُزءٌ منها غير مسكونٍ بل يُستعمل لأغراضٍ أُخرى ، وفي المجمَّع كنيسةٌ يقيم فيها الصليبيون قُدّاس الأحد وليس فيه مساجد.
وقد كان المجمَّع أيَّام حرب الخليج الثانية سكنًا لوحداتٍ من الجيش الأمريكيّ ، وأُخلي بعد ذلك بسنواتٍ ، وبعد عمليَّة شرقِ الرِّياض نُقلَ إليه الصَّليبيون في حركة النقل الواسعة التي شملت مجمّعات الصليبيين في الرِّياض.
والمستوطنة محاطة بحراسات يبلغ عددها ثلاثين جنديًّا من الحَرَس الوطنيِّ يتناوبون حراسته إضافةً إلى طاقم الحراسة التابع لإدارة المجمَّع ، وأثناء المداهمة كان عدد الجنود الموجودين قرابة العشرة مسلحين بأسلحة رشاشة ، إضافةً إلى آليَّةٍ عسكريَّةٍ واحدةٍ.
يتكون المجمّع من 250 وحدة سكنية ويسكن فيه قرابة 600 فردًا ، منهم :
وكلهم من الصليبيين من جنسيَّات متفرقة : الأمريكيَّة ، والبريطانيَّة ، والأسترالية ، وجنسيّات أوروبيَّة متفرّقة ، وكذلك مجموعة من نصارى العرب لبنانيين وغيرهم ، إضافةً إلى عائلةٍ مصريَّةٍ ، وأخرى سعوديَّة أصيب أحد أفرادها ورفض الظهور في وسائل الإعلام وقلائل من الأفراد الذين ارتضوا العيش بين الصليبيين وحمايتهم والتترس بهم .
وقد بدأ الهجومُ من قبل مجموعة الاقتحام على البوابة الرئيسة بعد تعطيل الحراسة وتطهير المنطقة ، بعدها قامت مجموعة الهجوم " السيارة المفخخة " بالدخول من البوابة الرئيسية ، بواسطة التغطية التي قامت بها مجموعة الاقتحام وعند وصول السيارة إلى النقطة المحدّدة سلفًا ، قامت بتفجير الحشوة ، وفي هذه الأثناء استطاعت مجموعة الاقتحام من الانسحاب من المنطقة تحت تغطية وحماية " مجموعة الحماية " التي كانت ترابط وتراقب المنطقة عن كثب ، واستغرقت العمليَّة من إطلاق الرصاصة الأولى إلى انسحاب المجاهدين من محيط العملية دقيقتين ونصف الدقيقة ، وأرغم الله بهذه العملية أنف الصليب وأذلَّ أعداء الدين ونكّس العلم الأمريكيَّ الصليبيّ وحماته وحملته ، وزف المجاهدون في هذه العملية شهيدين هما : أبو أيُّوب الشرقي وأبوخيثمة التبوكي ، نسأل الله أن يتقبلهما في الشهداء .
وقد أصدر المجاهدون بياناً في ذلك هذا نصه :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، أما بعد:
قال تعالى ﴿ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفقون أموالهَم ليَصدُّوا عن سَبيل الله ، فسيُنفقونها ، ثمّ تكونُ عليهم حسرةً ثمَّ يُغلبون والَّذين كَفَروا إلى جهنَّم يُحشرون ﴾ ، وقال تعالى ﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
في هَذَا الزمان الذي تكالبت فيه الأُمم على المسلمين ، وقاد الحلف الصليبيَّ الكافر على المسلمين أمريكا وإسرائيلُ وأذنابُهما ، أخرج الله طائفةً مجاهدةً تُقاتل في سبيله ولا تخاف لومةَ لائمٍ ، وحشدَ الكُفَّار حشودَهُم وحزّبُوا أحزابَهُم ومضوا في أكبرِ حملةٍ صليبيّةٍ على الإسلام والمجاهدين ، فما وهن جندُ الله لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يُحبُّ الصَّابرين.
ومضى المجاهدون في حرب استنزافٍ لدولِ الصليب لا تستثني مكانًا من الأرضِ ، ولا تتحاشى عن مستوطنةٍ امتثالاً لأمر الله الذي أمرنا بقتالهم حيثُ ثقفوا ، ولم تتوقف العمليات منذ الحادي عشر من سبتمبر ضدَّ أمريكا وحلفائها من الدول الصليبية.
وكان من آخر العمليات غزوة الحادي عشر من ربيع الأولِ لهذا العام ، حينَ شنَّ المجاهدون في سبيل الله غارةً ناجحةً بفضل الله على ثلاثةٍ من مجمّعات الصليب في الرياض امتثالاً لوصية النبي صلى الله عليه وسلَّم ، واستمرارًا للحرب مع أمريكا وعملائها ، سقط جرَّاءَهَا قُرابةُ ثلاثمائةِ صليبيٍّ ، ووعد المجاهدون بالاستمرار في جهادهم.
وفي ليلة الأحد الخامس عشر من رمضان لهذا العام ، قامت إحدى خلايا المجاهدين باقتحام مستوطنة صليبية ، وهو مجمّع تابعٌ للسفارة الأمريكيَّة في الرياض وقتل على إثر ذلك ما يزيد على خمسين صليبي ، تشهد بذلك مراسم التأبين التي أقيمت لهم في الكنائس والسفارات التابعة لبلدانهم .
وتأتي هذه العملية ضمن منظومة العمليات التي يقوم بها تنظيم القاعدة في حرب الصليبيين واليهود ، وضمن مشروع إخراجهم المشركين من جزيرة العرب .
مما حمل أولياء أمريكا وحماتِها وأنصارَها من الطواغيت المتسلطين على بلاد الحرمين وشعبها على القيام بحملاتٍ عنيفةٍ على المجاهدين في كل مكان منذُ الحادي عشر من سبتمبر ، ثمَّ ازدادت حملتهم بعد ضرب المجمَّعات الصليبيَّة في شرق الرياض ، وأكثر ضرباتهم واعتقالاتهم طالت تجار الأسلحة ، وبعض الشباب الذين ليس لهم في العمل ناقةٌ ولا جملٌ ، وافتروا عليهم ونسبوا إليهم ما لم يفعلوا ، وصوّروا من الأسلحة والمتفجِّراتِ التي ادّعوا أنَّهم قبضوا عليها ما لم تره أعينُ كثيرٍ منهم.
ومع هذه الحملات العنيفة والحصار الأمني الشديد واستنفاد القدرات ، جعل الله ما أنفقت الحكومة العميلة حسرةً عليهم وغُلبوا في هذه الوقعة ، ومكَّن الله المجاهدين من ضربِ أعداءِ الدِّين من الأمريكان المحتلِّين لبلاد الحرمين ، في أحد مجمَّعاتهم التي عمروها بما يسخطُ الله من الكنائسِ التي يُعبد فيها الصليبُ من دون الله ، وألوانٍ من المنكرات والفسوق ، وقبل ذلك وجودهم الذي يُدنّس بلاد الحرمين.
ولمّا علمت الحكومة العميلة في بلاد الحرمين أنّها بجميع قدراتها لا تستطيع أن تصدّ المجاهدين عن أهدافِهِم ، ولا أن تحفظَ دماء أسيادِها الأمريكان ، جمعت خيلَها ورجلَها في ميدانِ الكذبِ الَّذي ما زالوا فُرسانَهُ مُذ دخلوه ، ونقول لمن يقرأ هذا البيان :
أولاً : على كلِّ يهوديٍّ ونصرانيٍّ في جزيرةِ العرب أن يخرج منها فورًا ، وإلاَّ فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه ، وهذه وصيَّةُ نبيّنا صلى الله عليه وسلم إلينا ، وسنبذل نفوسنا وأموالنا وأعمارنا في العمل بوصيَّته أو نموتَ دونَهَا فنُعذر ، وأمَّا إسرائيل وأمريكا ومن حالفَها من الدول الصليبيَّة فستبقى هدفًا للمسلمين في كلِّ مكانٍ ما دامت محتلَّةً المسجد الأقصى وبلاد المسلمين الأخرى ، وأسود الإسلام لها بالمرصادِ في كلِّ شبرٍ تنزلُ فيه ، وأوَّل ذلك وأولاه جزيرة العرب والمسجد الأقصى.
ثانيًا : نحذّر المسلمين من تصديق أعداء الدين وقد أمر الله بالتبيّن في خبر الفاسق ، فكيف بأمريكا وعملائها المرتدِّين؟ ] لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [
فبعدَ أن افتروا على المجاهدين المطاردين في مكّة وزعموا أنَّهم كانوا يستهدفون المعتمرينَ في شهر رمضان ، ادّعوا أنّ المجاهدين استهدفوا عربًا ومسلمينَ في هذه العمليَّة وأنَّ القتلى فيها والجرحى كانوا مسلمين ليس بينهم أمريكيّ.
وإنَّا لا نستغربُ هذه الكذبة ممن الكذبُ دينُهُ وديدَنُهُ ، وإنّما نعتب على من يُصدِّقُهُم من المؤمنين الصادقين ، الذين يحبُّون المجاهدين ، ويبغضون الصليبيين وعملاءهم ، وقد أمر الله بالتبيُّن في خبر الفاسق فكيف بالكافر المرتدّ العميل؟ وهذه الحكومة العميلة لا تصدقُ في شيءٍ مما تقول ، فكيفَ تُصدَّقُ على أعدائها ، ومن يسعَون جاهدين إلى قتلِ أسيادِها ، فاتَّهموا بالأمس شيخ المجاهدين أسامة بن لادن بأنَّه تاجر مخدّرات ، واتّهموا اليوم المجاهدين من جنودِهِ باستهداف المعتمرين وقتل المؤمنين.
ثالثًا : المجاهدون في اختيارهم للأهداف يبذلون جهدًا لا يعلمه من يلوك أعراض المجاهدين بلسانه ، ولا يحدّدون الهدف إلاّ بعد أن يتجاوزَ مراحلَ عدَّةً من الاستطلاع والرصد وجمع المعلومات ، ولا يمكن أن يختاروا هدفًا يسكنُهُ مُسلمون ، وهذا المجمّع أكَّدت عمليّات الرصد والمتابعة أنَّ الغالبية العظمى من سكّانه من الأمريكيين النصارى ،مع عددٍ من البريطانيِّين والكنديِّين والأستراليِّين النصارى،وقلةٍ من نصارى العرب.
رابعًا : موّه الإعلام بذكر العرب وتكرار الكلمة ليُوهم الناس أنَّهم من المسلمين ، وليس كلّ العرب مسلمين ، والعرب الَّذين كانوا يقطنون المجمَّع هم من نصارى العرب ، ونصارى العرب محرّمٌ بقاؤهم في الجزيرة كغيرهم من النصارى ، ودماؤهم مباحةٌ للمسلمين وإن لم يكن من استراتيجيتنا في هذه المرحلة استهدافهم منفردين.
خامسًا : بعد تفجيراتِ الرِّياضِ المباركةِ علم الحكَّام العملاء ، وعلماء السوء أنَّ ترديدهم لذكر العهد والأمان وإلصاقهم ذلك بالصليبيِّين المحتلِّين لبلاد الحرمين لا يروجُ على من قرأ كتاب الله ، وعرف الأصول من الأحكام الشرعيَّة ، كما أنَّه لا يلقى أُذُنًا صاغيةً من ذوي الفطر السويَّة الَّذين يفرحون بما يصيبُ أعداءَ الله من النَّكال والتعذيب بأيدي المُؤمنين ، فاستدنوا الكذب وكان أقرب المطايا إليهِم وأهوَنَها ركوبًا عليهِم ، وأخفوا القتلى من الأمريكان وحتّى عندما ذكروا بعض الأمريكان ادَّعوا أنَّهم من أصول عربيَّة ، وارتكبوا في سبيل هذا كمًّا كبيرًا من الأكاذيب ، خوفًا من أن يتعاطفَ الناس مع العمليَّة إذا علموا أنَّ ضحاياها من الأمريكان والبريطانيِّين.
ونحن نعلم أنّ خطَّ الدفاع الأخير للطواغيتِ هو تكميم الحقيقة ، وإنكار وجود أمريكيِّين في قتلى المجمّع أو التقليل من عددهم كما وقع في تفجير الحادي عشر من ربيع الأوّل لولا أن أجرى الله بعض الحقيقة على لسان مسؤول أمريكيٍّ.
وقد رأينا أبواق الحكومة من إعلام وعملاء بالأمس يدافعون عن الصليبيين القتلى في برجي التجارة ، ثمّ عن القتلى في مجمّع شركة فينيل ، ويكذبون على الله بتسمية الأمريكان معاهدين ومستأمنين ، فلمَّا رأوا أنّ الفطر السويَّة لم تقبل هذا ، عقدوا العزمَ على الكذب في جنسيّات القتلى ، والتمويهِ في خبر التفجيرِ ، وحرصوا على التركيز على القلَّة القليلة من العرب النصارى في وسائل الإعلام لإيهامِ النَّاس أنَّهم جميعُ الضَّحايا وأنّ الأمريكان الَّذين يفرح المسلمون لقتلهم في كل مكان لم يُقتل منهم أحدٌ.
سادسًا : المجمّع الَّذي استهدف كانت تحرسُهُ آليّاتٌ عسكريَّة ، وأسلحة رشاشة ، وقرابة الثلاثين من الجنودِ المكلّفين بالتَّناوب على حراسته ليل نهار ، وهل عُهد عن هذه الحكومة حراسة مجمّعاتٍ يسكنها مسلمون؟ أو عُرف عنها الحرص على دماء المسلمين والدفاع عنها والغضب من إراقتها؟ وهل عرفهم التاريخ الماضي والحاضر إلاَّ بالتنكيل بالمسلمين والإعانة عليهم ، وعدم المبالاة بهم في أحسن الأحوال؟
سابعًا: نكرِّر الإنذار لكلِّ من رضي أن يحرس الصليبيين ، بأنَّ سيوف المجاهدين ليست عنه بمنأى ، وأنَّه حين ربط مصيره بمصيرهم أذن للمجاهدين أن يُعاملوه معاملتهم ، وسينالُه ما ينالُهُم حتَّى يبتعدَ عن حراسة أعداء الدين ومن رضي أن يكون شريكًا لهم في كلِّ كفرٍ وإثمٍ وعصيانٍ مما يقعُ في المجمّع ، فلا يجزعْ ولا يُجزعْ عليهِ إن كان شريكًا في كلِّ قتلٍ وتفجيرٍ يحلُّ بالصليبيين فيه.
ثامنًا : من أراد السَّلامةَ من ضرباتِ المجاهدين ممن ليس هدفًا لهم ، فعليهِ أن ينأى بنفسِهِ عن مساكنِ الصليبيين ، وقد برئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن أقام بين ظهري المشركينَ ، ولو لم يكن في مساكنتهم خطرٌ من هجمات المجاهدين ، لكان يكفي من في قلبه إيمانٌ أو غيرةٌ على عرضِهِ ما فيه من منكراتٍ وفسوقٍ وفواحشَ وفجورٍ ومسكراتٍ وخمورٍ ؛ فكيف يقبلُ مسلمٌ أن يسكن في تلك المساكن ، ويُربِّيَ أبناءه في هذه الأماكن ؟
تاسعًا : اعلموا أنَّ المجاهدينَ ماضون على دربهم ثابتون على طريقِهم ، ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ، بل صبروا بفضل الله عليهم وتوفيقِه لهم ، ولن يضرّهم مع نصر الله لهم من خذلَهم ولا من خالفَهَم ، بل إنَّ ما جمعه أعداء الدين لهم زادَهُم إيمانًا وقالوا حسبُنا الله ونعم الوكيل ، وقافلةُ الجهاد ماضيةٌ أدركَهَا من أدرَك ، وتركَهَا من تركَ ، ومن جاهد فإنَّما يُجاهدُ لنفسِهِ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلواتُ الله وسلامُهُ على إمام المجاهدين ، وقائد الغرِّ المحجّلين ، وعلى آله وصحابته حاملي راية الدين ، وعلى تابعيهم ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
انتهى التقرير والبيانُ بنصِّهِما عن العدد الخامس من مجلَّة صوت الجهاد.

حال المجاهدين في مسائل التكفير :
افترى الإعلام السعودي العميل على المجاهدين أنَّهم يكفِّرون عامَّة المسلمين ، وأجاب عن هذه الفرية الصلعاء شهيدُ الجزيرة العالم المجاهد الشهيد يوسف العييري تقبّله الله في الشهداءِ في بيانٍ نشره بعد إعلان اسمه في قائمةِ المطلوبينَ ، وبيّن أنَّهم لو كانوا يكفّرون عامَّة المسلمين ما انطلقوا إلى أفغانستان والشيشان والبوسنة يُدافعون عن أناسٍ من المسلمين لم يعرفوا من الإسلام إلاَّ اسمه.
ولُمز المجاهدون لمزًا خفيًّا في التَّراجعات الأخيرة بأنَّهُم يطردون التكفير ويلتزمون التسلسل فيه ، وهذا من الكذب والافتراء الَّذي يعلمُهُ كُلُّ أحَدٍ ، وسيأتي الحديث عن ذلك في الباب القادم بإذن الله.
ومنهج المجاهدين في مسائل التكفير ، حسب ما وجدته من تتبُّعِ بياناتِهم ، ومعرفتي بمن أعرفه منهم هو المنهج الحقُّ الوسط الَّذي بيّنه أئمَّة الإسلام منذُ العصور المفضَّلة ، حتى المجددين الَّذين جدَّدوا في هذا الباب بعدَ أن ظهر الضلال فيه كشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله ، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، وتلاميذه وتلاميذهم من الأئمَّة.
والأخطاء المعروفة في التكفير : من الجنوح إلى الإرجاء ، والتوقف في تكفير من تبين كفره ، والتورع البارد عن تكفير الأعيان واتخاذ ذلك منهجًا ، ومن الجنوح إلى الغلو ، وطرد التكفير بالتسلسل ، وبالدار ، والتكفير بالمشتبهات والمحتملات ، والتكفير لأجل العداوة لا غير ، كلُّ ذلكَ برَّأَ الله منه المجاهدين وسلَّمهم منه فيما نعلمه عنهم ، وما وقع في أماكن متفرقة من طوائف مختلفة لا يحسب على عموم المجاهدين كما لا يحسب على عموم المسلمين ، ومرادي حين تحدثت عن المجاهدين المجاهدون في جزيرة العرب من تنظيم القاعدة.
وأُحيل من أراد الاستزادة في هذه المسألة على رسالةٍ للشهيد يوسف العييري ردَّ فيها على كذب من رمى المجاهدين بذلكَ ، وعنوانها : "ما هكذا العدل يا فضيلة الشيخ – رد على سفر الحوالي" ، وكاتب الرسالة رحمه الله أحد المجاهدين ، وأعرف الناس بالمجاهدينَ.


فصل : واقع العلماء والمنتسبين إلى العلم
للعالم في الشريعة المكان الَّذي لا يخفَى ، حتّى استشهده الله على أعظم شهادةٍ فقال ﴿شهدَ اللهُ أنَّه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولوا العلم﴾ ، وقال سبحانه : ﴿إنَّما يخشى اللهَ من عبادِهِ العلماءُ﴾ ، وخصَّهم بمزيدٍ من الرفعة في قوله سبحانه : ﴿وإذا قِيْلَ انشُزوا فانشُزُوا يَرفعِ الله الَّذينَ آمنوا مِنكُم والَّذين أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾.
والعلماء ورثة النبوّة ، وحرّاس الشريعة ، وعلماء هذه الأمَّةِ فيها بمنزلة أنبياء بني إسرائيلَ يسوسونهم ويبصّرونهم بدين الله عزَّ وجلَّ.
والعالم هو المبلِّغ دين الله ، المُؤتمنُ على شريعة الله ، الموقِّع عن ربِّ العالمين ، المكلَّف بتبيان الكتاب للناس.
وأعظم أمانةٍ حُمِّلها أحدٌ أمانةُ العلماء من وراثة الأنبياء والقيامِ في مقامِهِم ، فكان لمن أدَّى الأمانة أعظمُ المراتبِ وأجزلُ الثوابِ من الله سبحانَهُ ، وكان على من خانَ منهم أشدُّ العقوبة ، وله أسوأ الأمثال.
فضرب الله لعالم السوء في كتابِهِ مثَلَي سوءٍ ما ضربَهُما لغير العالم ، ﴿واتلُ عليهِم نبأ الَّذي آتيناهُ آياتِنا فانسلخَ منها فأتبعَهُ الشَّيطانُ فكانَ من الغَاوينَ * ولو شِئنا لرفَعناهُ بِها ولكنَّهُ أخلَدَ إلى الأَرضِ واتَّبَعَ هواهُ فمثلُهُ كمثَلِ الكَلبِ إن تَحمِل عليهِ يَلهَثْ أو تَترُكْهُ يَلهَثْ﴾ ، ﴿مثلُ الَّذين حُمِّلوا التَّوراةَ ثُمَّ لم يحملوها كمثلِ الحمارِ يحمِلُ أسفارًا﴾ فهم بين صفتي الكلب والحمار.
ولو تأمَّلتَ ما قصَّ الله من ضلالِ بني إسرائيلَ وذمَّه عزَّ وجلَّ لهم ، لوجدتَ أكثرَ الذَّمِّ فيهِ لعلمائِهِم وأحبارِهِم ، الَّذين افتروا على الله الأكاذيب ، واختلقوا الطرائقَ للكذب على الله وتدليس الدين على الناس.
ومن الجهل البالغِ ، والبُعدِ عن فهمِ الشريعةِ ونصوصِهَا ومقاصِدِها المطالبةُ بالسُّكوتِ عن كلِّ من سُمِّي عالمًا ، والمبالغةُ في تعظيمه وتحريم مراجعته فتاواه ، أو الرد عليه فيما أخطأ فيه.
ويلزمُ من يقولُ بهذَا أنَّ عالم السوءِ يجبُ السكوت عنه وتركُهُ يفسد الدين والدنيا ، فإن قيلَ عالمُ السُّوءِ خارجٌ من هذا ، فلا بدَّ من معرفةِ عالمِ السوءِ من هو ، ومعرفة العالم المعيَّنِ هل هو عالمُ سوءٍ أم لا؟ وإن مُنعَ من تتبع ما أعلنَ من أقوال ، وما سلك من طرائق ، وعرض ذلك على الكتاب والسنّةِ ، والحكم عليه بما ينتُجُ من ذلك العرضِ ، إن مُنع ذلكَ لم يمكن معرفةُ عالمِ السوء بحال ، بل يبقى في الأمة يفتك بدينها وأخلاقِها ، ويحرسُ أعداءها ، ويزكِّي من ينوي الشر والفساد بها ، باسم حرمة العالم ومكانةِ حَمَلَة الشريعة التي هو منها بريء وهي منه براء ، ولو أُدخل على قومٍ من ليس منهم في النسب غضبوا ولم يرضوا بذلك ولو كان فاضلاً ، فكيف يدخل في صفِّ العلماء من شبَّهه الله بالحمار والكلب.
والعالمُ بمعناه الشرعيِّ الخاصِّ ، وهو المعنى المحمود لا يكون إلاَّ صادقًا صادعًا بالحقِّ ، ولهذا وصف الله العلماء بخشيتِهِ حقًّا ، وذكر ابن القيِّم إجماع السلف على أنّ اسم الفقيه لا يستحقُّه أحدٌ بالعلم دون العمل.
وأمَّا العالم الَّذي يكتُمُ الحقّ ، ويلبسُهُ بالباطِلِ ، ويصدُّ عن دين اللهِ ، فهو وإن كان داخلاً في مطلق اسم العالم ، إلاّ أنَّه لا يسوغ تسميته بالعالم إلاّ مقيّدًا فيُقال : عالمُ سوءٍ ، وعالمُ ضلالةٍ.
وقد فصَّلَ الله عزَّ وجلَّ في كتابِهِ أحوالَ عُلماء السوء أكثرَ ممّا فصَّل أحوال العلماء الصادقين ، لئلاَّ يلتبس عبدُ دنياه المتّخذ دينَه أحبولةً لدنياهُ ، بالعالم الَّذي عُلِّقت به الأحكامُ ، وفُضِّل على سائر الأنام.
فلا يسوغُ لمن يُؤمن بالله أن يطلق اسم العالم على من ذمَّه الله وحذَّر منه ، وأن يعظّمه ويأتمنه على الشريعة والعبادِ ، وأماراتُ عالمِ السوء في كتاب الله ظاهرةٌ فمنها :
كتمانُ ما أخذ الله ميثاقَهُ ببيانِهِ كما في قول الله عزَّ وجلَّ : ﴿وإذ أخذَ اللهُ ميثاقَ الَّذين أُوتوا الكتاب لتُبيِّنُنَّه للنَّاسِ ولا تكتُمُونَهُ فنبذُوهُ وراءَ ظُهُورِهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون﴾﴿إنَّ الَّذين يكتمون ما أنزلنا من البيِّنات والهُدى من بعد ما بيَّنَّاه للناس في الكتاب أولئكَ يلعُنُهم الله ويلعنُهم اللاعنون﴾.
وقد أشار الله عزَّ وجلَّ إلى عظيم جرم الكاتم لما أنزل الله من البيّنات والهدى بقوله : ﴿من بعدِ ما بيّنّاه للناس﴾ ، فإنَّ من الظلم العظيم أن يحبس عن الناس حقًّا لهم وهم في حاجةٍ إليه ، فكيف بالهدى الذي هم أحوجُ إليهِ منهُم إلى الطعام والشراب؟ ، والله يخبر أنَّه بيّنه للناس في الكتاب ولكنَّ هذا الظالم يكتُمُه ، والّذي كتمه هذا الظالم المبدّل بيّناتٌ ، وأدلّةٌ وأماراتٌ توضح للناس السبيلَ ، وتكشف الشبهة وتنير الطريقَ ، وهو هدىً يهديهم به الله إلى ما هو خيرٌ لهم في كل صغيرٍ وكبيرٍ من أمر دُنياهم وآخرتِهِم ، فمن كانت هذه جريمته فلا غرو أن يلعَنَهُ الله الذي ائتمنه على الكتاب فخان الأمانة ، ولا عجبَ أن يلعنه اللاعنون الَّذين حبسَ عنهم الهدى وكتم عنهم البيّناتِ ، وأن تناله لعنةُ كلِّ لاعنٍ ؛ إذ ليسَ من معنىً يستوجبُ اللَّعنَ إلاَّ هو فيه.
وبئسَ ما اشترى هذا المشتري الَّذي نبذ كتاب الله وراء ظهرهِ ، واستوجب هذه اللعنات العظيمة ، وأضلَّ الناس عن علمٍ وعمدٍ ، لقاءَ دراهِمَ معدودةٍ ، وثمنٍ قليلٍ من الدنيا الزائلةِ.
وأشدُّ من هذا حالُُ الّذين : ﴿يكتُبُون الكتابَ بأيدِيهِم ثمَّ يقُولونَ هذا من عندِ اللهِ ليشتروا به ثمنًا قليلاً﴾ ، و﴿يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسَبُوه من الكتابِ وما هو من الكتابِ ويقولونَ هو من عند اللهِ وما هو من عندِ اللهِ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون﴾
﴿ألم تر إلى الَّذين أُوتوا نصيبًا من الكتاب يُؤمنون بالجبتِ والطَّاغُوتِ ويقولون للَّذين كفروا هؤلاءِ أهدَى من الَّذينَ آمنُوا سبيلاً * أولئكَ الَّذين لعنهُمُ اللهُ ومن يلعنِ اللهُ فلن تجِدَ لهُ نصيرًا﴾
﴿فخَلَفَ من بعدِهِم خلْفٌ ورِثوا الكِتابَ يأخُذُون عَرَضَ هذا الأدنى ويقولون سيُغفرُ لنا وإن يأتِهِم عَرَضٌ مثلُهُ يأخذُوه ، ألم يُؤخذ عليهِم ميثاقُ الكِتابِ أن لا يقُولوا على اللهِ إلاَّ الحقَّ؟ ودرسوا ما فيه ، والدَّار الآخرة خيرٌ للَّذين يتّقون ، أفلا تعقلون؟﴾
﴿ألم يأنِ للَّذين آمنوا أن تخشَعَ قُلُوبُهم لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ من الحقِّ ولا يكونوا كالَّذين أُوتوا الكتابَ من قبلُ فطالَ عليهِمُ الأمَدُ فقَسَت قُلُوبُهم وكثيرٌ منهم فاسِقُون﴾
وهذه مقدّمةٌ بين يدي الحديثِ عن العلماء الرسميِّين في بلاد الحرمينِ ، وعن كفايتِهِم المزعومة لقيادة الأمَّة ، وتحمّل أمانة وراثةِ النبوَّة.
والمتكلم في الفتيا يحتاج إلى نوعين من الفقه كما تقدَّم ، أحدهما الفقه عن الله وفهم نصوص الشريعة ، والثاني فقه معرفة الواقع الَّذي تُنزَّل عليه الفُتيا.
وكلا هذين الجانبين ليس للعلماء الرسميِّين منهُ ما تحصلُ به الكفايةُ المزعومةُ ، وسأتجنَّبُ الحديثَ عنهم بالأسماء إذ المقصودُ الحديثُ عن صحّة وجود المرجعيَّة العلميَّة الكافية الَّتي ذكرها ناصرٌ الفهد في تراجعه ، ولا بدَّ من الحديثِ عن هذا الجانب بوضوحٍ لأهمِّيَّته وخطورةِ مُخادَعَةِ الأُمَّةِ فيهِ ، ولا يَقول عاقلٌ بالسُّكوتِ عن حَقِيقةٍ أُنيطت بها أحكامٌ شرعيَّةٌ عظيمَةٌ ، فكيف بما كان بهذه المنزلةِ؟ ، وأوجزتُ الحديثَ عن الكفاية العلميَّة لدى الرسميِّين في معالمَ ثلاثةٍ:
المعلم الأوَّل : القُصُور في مَعْرفَة الأحْكامِ الشرعيَّة.
المعلم الثاني : الجهل بالواقع.
المعلم الثالث : التهرُّب من تنزيل الأحكام الشَّرعيَّة على الواقِع.

المعلم الأوَّل : القُصُور في معرفة الأحْكام الشَّرعِيَّة
يتوهّم من ينظر إلى المنتسبين إلى العلم من بعيدٍ ، ويرقبُ شيئًا من المظاهر العلميّة كجداول الدُّروس والمحاضرات ، أنَّ الرَّسمِيِّين ممن تضلَّع بالعلوم الشرعيَّة وتشبَّعَ بكُتبِ الفقهِ والحَدِيثِ حفظًا وفهمًا ، وألفَ كتبَ الفروعِ والقواعدِ الفقهيَّة ، وجردَ مطوّلاتِ الأصول والاعتقاد ، ولم يبقَ لهُ إلاَّ العَمَلُ بما يعلَم والصَّدعُ بالحقِّ وبيانُهُ.
وهذا التصوُّرُ لا نصيبَ له من الصحَّة ، وهو أبعدُ ما يكون عن واقع هؤلاء الرسميِّين ، إلاَّ أنَّ القريبَ من الواقعِ يلحَظُ بعدَهُم عنه وعزوفَهم عن معايشته ، والقريبَ من الأوساطِ العلميَّة يلحَظُ قصورَهُم الظَّاهرَ في العلوم الشرعيَّة.
ومثلُ هذا النسبة الزائفة إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة النجديَّة ، التي يتوهَّمُها البعيد عنهم ، أو البعيدُ عن أئمَّة الدعوة النجديَّة ، وقد برَّأ الله أولئك الأئمَّة الأعلام من هؤلاء المدّعين ، والأدهى والأغربُ أنَّهم يتصوّرون تمثيلهم لهذه الدعوة المباركة وقيامَهُم بها على أتمِّ وجهٍ.
وواقعُ الرسميِّين في علومِ الاعتقادِ ، والتفسيرِ ، والفقهِ ، والحديثِ ، وأُصول الفقهِ ، واللغةِ ؛ يمثّل صورةً من غياب العلم الشرعيِّ واندراسِهِ ، ويُذكِّر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "حتّى إذا لم يُبقِ عالمًا اتّخذ النَّاسُ رؤوسًا جهّالاً ؛ فسُئلوا فأفتوا بغيرِ علمٍ فضلُّوا وأضلُّوا".
وهم مع هذا قليلو الاطّلاع على كتب فنون العلم ، لا تكاد تجد فيهم من اطَّلع في الفقه على أكثر من الروض المربع والمُغني في بعض المسائل ، ولا من قرأ الدرر السنيَّة ، أو طالع شيئًا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيّم في الاعتقاد حاشا المتون المختصرة كالواسطية والتدمرية ، ولا من له اطّلاع متوسّط على كتبِ شروحِ الحديثِ ، أو على الكتب الأُمَّاتِ في التفسير كالقرطبي وابن جريرٍ الطبريِّ.
وهذا لا يعني انعدامَ من يُحسنُ شيئًا من العلوم نظريًّا ، فمنهم من يجيد مسائل الاعتقاد ، ومنهم من له بصرٌ بالأصول والقواعد وتعمُّقٌ فيها ، مع انعدامِ من له بأوّلياتِ علومِ الحديثِ المتنوّعة إلمامٌ ، ومع خلوِّهم التامِّ من إدراكِ شيءٍ من علوم اللغة ، حتّى إنَّ من يُحسن متن الآجرُّوميَّة في النحو ولا يحسن غيره في النحو ولا سائر علوم اللغة ، يعدُّ إذا قيس إليهم لُغويًّا مُجيدًا.
وقد تأمَّلتُ كثيرًا من فتاواهُم فرأيتُها فتاوى معتزلةٍ ، لا تستند إلاّ إلى التحسين والتقبيح في كثيرٍ منها ، بل سمعتُ منهم من يجوِّز صورةً من صور الرِّبا الصريح الذي لا يُختلفُ فيه متعلّلاً بأنَّ من الناس من يحتاجُ إليهِ ، ولو جُمعَت الفتاوى المنكرة التي تصدر عنهم لاحتاجت إلى مُجلَّداتٍ.
أمَّا منزلةُ من يُفتي بالنصوص بعد أن يعرف ناسخَها ومنسوخَها ، ومُجْملَها ومُبيَّنها ، ويجمع بين متعارِضِها ، بعد أن ينقُدَها ويستخرِجَ صحيحَها من ضعيفِها ، ومحفوظَها من شاذِّها ، وغريبَها من مشهورِها ، ويحقِّق في معاني الآياتِ واختلاف المفسِّرينَ ، ثمَّ يُخرِّج الفروع على الأصولِ ، ويُعيدُ المسائلَ إلى القواعِدِ = أمَّا هذه المنزلةُ فلا ذكرَ لها ولا وجودَ لمن يحسنها ، مع كثرةِ ما يطرقُ سمعَكَ اسمُ العالم العلاّمة ، والألقاب الأعجميَّة من السماحةِ والفضيلةِ ، ولكنَّها:
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضِعِها * * * كالهرِّ يحكي انتفاخًا صَولةَ الأسدِ
ولو تأمَّلتَ واقعَ طلبَةِ العلمِ وتحصيلَهُم وقستَ إليهِ ما لدى هؤلاء الرسميِّينَ وجدتَ لكثيرٍ من طلبةِ العلمِ من الفهمِ والتحقيقِ ، مع التفنُّنِ والتوسُّعِ في علوم الشريعة ، وجودة الفهم وحسن الاطّلاع والمعرفة بمظانِّ المسائل ومواضعِ الأدلَّةِ ، ما ليسَ للرسميِّينَ عُشرُ معشارِهِ.
وهذا الجانبُ لا بدَّ من بيانِهِ وإيضاحِهِ ، وإن كانَ المُتكلِّمُ أقلَّ حظًّا في العلمِ من الحال التي وصفَ ، وأبعدَ عن الكفايةِ من هؤلاءِ الرسميِّينَ ، فمن الجنايةِ على الدينِ وأهلهِ أن يُقدَّمَ فاقد الأهليَّةِ للأمّة عالمًا ومُفتيًا ومُوجّهًا وقَائدًا ، ويُطالبُ الناس بتعطيلِ الأحكامِ من أجلِهِ ، ويُعطى من الحقوقِ ما ليسَ إلاَّ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بحجّة كونه عالمًا ، ثمَّ يُسكتُ عن بيانِ حقيقةِ حالِهِ ، ومقدارِ أهليَّتِهِ.
ولهذا المَعلمِ تمامٌ يردُ بإذنِ اللهِ في المعلمِ الثَّالثِ.

المعلم الثَّانِي : الجَهلُ بالوَاقِع
مما امتازَ به الرسميُّونَ حتّى عرفهم به القاصي والداني ، واعترف به المحبُّ لهم والشَّاني ، الجهل بالواقع وعدم المعرفة بالأحداث والوقائعِ ، والغيابُ التامُّ عن أمورِ الأُمَّة العظام ، وقلّة الاكتراث بمآسي المسلمين وما ينزل بهم من البلايا ، بل عدمُ الاكتراثِ بذلك أصْلاً.
فلا يدرون ما يحدث للأمّة ، ولا يتتبّعون أخبار المسلمين وما يجري لهم ويَقَعُ عليهِم ، ولا لهم معرفةٌ بالحركات الإصلاحيَّةِ والجهاديَّة التي تقوم في مشارق الأرضِ ومغاربِها ، ويصرِّحون إذا تكلّموا عن الحكومات الطاغوتيَّة التي تحكم بلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أنَّهم لا يعلمون من أخبارها شيئًا ، ولا يستطيعون الحكم عليها لجهلهم التام بها ، وهذا ما سمعتُهُ من بعضِهِم ، وهو حال جميعِهِم ، مع أهمّيَّة ذلك وحاجة الأُمَّةِ إلى معرفته ، بل وإقدامهم على الكلام فيه بجهلٍ وتغليط من تكلَّم بعلمٍ والتحذير منه.
وأمَّا الأمم المتحدة ، وقوانينُها وأحكامها ومللها ودولُها ، والقرارات الصادرة عنها ، والاجتماعات والأحداث المنبثقة منها ، وبنود اتّفاقيَّاتِها ، فهم صمٌّ عنها وعميٌ لا يدرون ما الأمر ، مع أنَّ الحكومة العميلة من الدول المُؤسِّسة لها ، ومع كون أنواع الكفر وألوانه من الحكومة العميلة في الجزيرة تابعةً لها منبثقةً عنها.
ولا تسألهم عن ثغور الإسلام وجبهاتِهِ ، ومعاركه وغزواتِه ، وجيوشه وحركاتِهِ ؛ فهم عن هذا بمعزل ، ومنزلهم غير ذاك المنزِل ، وجهلهم بالواقع كجهلهم بالتأريخ ، ونيّتهم للمستقبلِ كحالهم اليوم.
لذا يجدُ من يريد أن يحدّثهم عن شيءٍ من أمور المسلمين العامَّة ، ويُراجعهم في الواجب تجاههم ، أنّه ينعقُ بما لا يسمعُ إلاَّ دعاءً ونداءً ، صمٌّ بكمٌ عميٌ في هذه المسائل فهم لا يعقلون.

المعلم الثالث : التهرب من تنزيل الأحكام على الواقع وبيانِ الحقّ
﴿كان النَّاسُ أُمَّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مُبشِّرين ومُنذرين ، وأنزلَ معهُم الكِتابَ بالحقِّ ليحكُمَ بينَ النَّاسِ فيما اختلفوا فيهِ﴾
﴿فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى الله والرسول إن كُنتم تُؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ ، ﴿وكيف يُحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثمّ يتولّون من بعد ذلك﴾
فالله أنزلَ الكتابَ ليُعملَ به في الواقعِ ويُنزّلَ عليهِ ، ويُحكّم في أفعال الناس وأقوالهم ، ويُستنار به فيما يحدثُ من أحداثٍ.
والبيانُ الَّذي أخذه الله على العلماءِ كما يشملُ الصدع بالحق والآياتِ والبيِّناتِ ، يشملُ تنزيلها على الواقع وبيان حكم الله فيها ، وإلاّ فالآياتُ محفوظةٌ في القراطيس والصدور ، والأحاديث مزبورةٌ في الصحاح والمسانيد ، فما يفعل العالم وما الحاجة إليه ، إن لم يصدع بحكم الله في واقعه ويبيِّنْ ما أمر الله به وينزّله في مواضعِهِ؟
وما الفرق بين من يردِّد النصوص دون تنزيل لها وتحكيمٍ في الواقع ، وأهل الكتاب الَّذين ذكر الله عنهم : ﴿ومنهُم أُمِّيُّون لا يعلمون الكِتابَ إلاَّ أمانيَّ وإن هُم إلاَّ يظُنُّون﴾ فهم لا يعلمون من الكتاب إلاّ تلاوتَه والأمنيَّة التلاوة ، وهؤلاء يزيدون على الأحبار بأنَّهم يعلمون شيئًا من الكتاب وشيئًا من السنة ، وشيئًا من مقالات العلماء ، ومعرفتهم لها جميعِها ما هي إلاّ أمانيَّ.
ومن المعروف عن الرسميين في بلاد الحرمين ، الَّذي اعتادوه حتى صار سنَّةً لهم ، أنَّهم يقلّدون الأئمة في تأصيل المسائل وتقريرِها ، ويُخالِفُونَهم في تنزيلِها على الأحداثِ والتعاملِ مَعَهَا ، حتّى إنَّ منهم من سُئل عن فتواه في تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله ، وقيل له إنّ من الناس من يحتجُّ بفتواك على تكفير حكام الخليج ، فغضب وقال هؤلاء أصحاب أهواء ، أنا فتواي عامَّة وحكام الخليج ما أدري عن حالهم ، وكأنَّ الفتوى العامَّة يجب أن تبقى عامَّة ولا تنزّل على أرض الواقع بحالٍ من الأحوالِ ، وكأنَّ جهله بالواقعِ يوجبُ على الناس كلِّهم أن يقفوا لا عند علمِهِ ، بل عندَ جهلهِ ، فما اكتفى المسكينُ بتعطيله لحكم الله ، حتَّى غضبَ حينَ سمعَ بمن أقدم على الواجب الذي عطّله ، فيُريد من الناس كلِّهِم أن يكونوا مثلَه.
وإذا كان العالم وريثًا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أمر الله النبي ﴿وأنزَلنا إليكَ الذِّكرَ لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهِم لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ﴾ مع قولِهِ تعالى : ﴿ما على الرَّسُول إلاَّ البلاغ﴾ ، فدلَّ على أنَّ البلاغ شاملٌ لتوضيح النصوص ودلالاتِها.
وأيضًا فالبلاغ ليس بلاغًا للحروف فقط ، بل المطلوب به البيانُ ومعرفةُ المعاني ، ولذا قال تعالى ﴿وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بلسانِ قومِهِ ليُبيِّن لهم﴾ ، فجعل الله بعض كتبِهِ ورسالاتِهِ بغير العربيَّةِ وهي خيرُ اللُّغاتِ وأمثلُها لحكمةِ البلاغِ والبيانِ للناسِ ، ولا فرق بين أعجميٍّ لا يفقهُ من القرآن شيئًا أصلاً ، وعربيٍّ لا يعرف كلامًا مُعيَّنًا في اللغة ، مع الأمر بالبيانِ في كليهِما ، ومسيس الحاجةِ إليهِما.
وإذا كان ترك البلاغِ بالكلِّيَّةِ من خيانِةِ الأمَّة وإضاعةِ الأمانةِ ، فإنَّ ترك ما لا يقصد البلاغُ إلاَّ لأجلِهِ كذلكَ ، وإن كان حظّ العلماء بلاغ الآيات بنصوصِها ، وحظّ العامَّةِ تنزيلها على الواقع ، فالعامَّة أحقُّ باسمِ الفقهِ وأَولى ، ولو كان ذلك لما كان للعلماء على القراطيس فضلٌ ولا مزيَّة ، ولكانوا ﴿كمثلِ الحمارِ يحملُ أسفارًا﴾.
والرسميُّون في بلاد الحرمين : يدرّسون كتاب التوحيدِ ، ويتحدّثون عن الولاء والبراء ، ويفصّلون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله ، وينقلون الإجماعات في المستهزئين بالدين ، ويتلون بألسنتِهِم آياتِ الجهادِ ، ثمَّ لا تجد منهم من يفتح فاهُ مبيّنًا حكمًا شرعيًّا في واقعةٍ واحدةٍ ، إلاَّ ما وافقَ هوى الطَّاغوتِ.
من أجلِ ذلك لا تجدُ فرقًا بين أكثرِ كتاباتِ أبي محمدٍ المقدسيِّ ثبّته الله وفكَّ أسرَه ، وكتابات كثيرٍ منهم في مسائل الاعتقادِ من حيثُ التأصيلُ ، إلاَّ أنَّهُ امتاز بصدقِهِ فيما يقول ، وتنزيلِهِ الأحكامَ في مواضِعِها التي يعلمُونَها ويُعرضون عنها ويكتمونها كتمان اليهودِ آيةَ الرَّجم.
ومن أقبحِ ما في هذا المعلم ، أنَّهم إذا أحجموا عن أمرٍ من بيان الحقِّ والصدعِ به بحجَّةٍ يُمليها عليهم إبليسُ من التريُّث والتأنِّي ، أو التورُّع والاحتياطِ ؛ لم يحجموا أو يتورّعوا أو يحتاطوا في مُهاجَمة من بيَّن الحقَّ وصَدَعَ بِهِ وتحمَّل ما تحمَّل لأجلِهِ ، بل يصبّون عليه أحقادهم ويناصبونه العداء دون تفصيلٍ ولا تأنٍّ ولا احتياط ، ومثل هذا يُعلم منهُ حقيقةُ احتياطِهِم وورعِهِم البارد ، فيتورّعون عمَّا فيه بطشُ الطَّاغوت وبأسُهُ ، ولا يتورَّعون عن أولياءِ اللهِ ولا يتأنّون ولا يتثبَّتون حين لم يكن وليَّهم إلاَّ اللهُ وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا.
هذا مع علمِهِم أنَّ من أقدمَ على هذا الأمر وصدعَ بما جبنوا عنه من الحقِّ ، لم يخرج عن أن يكون قولاً اجتهاديًّا لو كانوا صادقين في احتياطهم وتوقّفهم ، والأصلُ أنَّ الاحتياطَ لا يجبُ ولا يحرمُ كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فضلاً عن أنَّ المحتاط في أمرٍ لالتباسه لا يحقّ له أن يحكم على الناس بالتباسِهِ عليهِم ، بل لا يمكن أن يكون الحقُّ ملتبسًا على كل أحدٍ ، وإن كان قد يخفى على بعض الأفرادِ بعضُ مسائلِهِ.
وأعرف عددًا من المنتسبين إلى العلم ، المتصدّرين للتدريس والإفتاءِ ، إذا حُوجِج في مجالسه في كفر دولة آل سعود أقرَّ بارتكابِهِم المكفّرات ، وادّعى الاشتباه والتردد عنده وعدم تحرير بعض المسائل وامتنع بذلك عن تنزيل حكم الله الَّذي قضى به كتابُهُ عليهِم ، فإذا برز للناس في العلن سبَّ وشتَمَ من علم أنَّ الحقّ معه والدليل عندَهُ والبرهان يؤيِّده ، ولكنَّهُ حين تهرّب من تنزيل الحكم على الواقع لعلّةٍ لم تكن الاحتياط للدين ولا الاشتباه في المسألة ، بل هي رعاية جناب الطاغوت واسترضاؤه ، علم أنَّ تلك العلَّة توجب عليه أمرًا آخر ، ولا تتركه حتَّى يبرأ من الموحّدين ، ويتزلَّفَ إلى الطواغيتِ ، ويجحد الحقّ وينصر الباطل.
﴿ألم تر إلى الَّذين أُوتوا نصيبًا من الكتابِ يُؤمِنون بالجبتِ والطَّاغُوتِ ويقولونَ للَّذين كفروا هؤلاءِ أهدى من الَّذين آمنوا سبيلاً * أولئك الَّذين لعنهم الله ومن يلعنِ الله فلن تجدَ له نصيرًا﴾

مسألة : تدافع الفتيا وكتمان العلم
علَّل ناصرٌ الفهد تراجعه عن بعض الفتاوى أو كثيرٍ منها بأنَّ الإقدام على الفتوى غيرُ طيِّب ، واستند إلى تدافع الصحابة للفتيا.
وهذا خلطٌ ، ولو فرضَ أنَّ عمل الصحابة دالٌّ على ما أخذ به من كتمان العلم والسكوت عن تبيانه لكان مردودًا بالآيات الصريحةِ.
وتدافع الصحابةِ للفُتيا يُفهم بعد النظر في ثلاثة مسائل :
الأولى : التفريقُ بين الفُتيا في المشكلاتِ ، والصدعِ بالواضِحاتِ ، فإذا كان الإقدامُ والتسابقُ إلى الفُتيا مذمومًا ، فإنَّ الصدع بالحقِّ الظاهر البيِّن محمودٌ مطلوبٌ ، والمسابقُ إليه مأجورٌ ، والمتخاذلُ عنها عند الحاجة إليه آثمٌ مأزورٌ ، لا يُنازع في ذلك أحدٌ ، والمسائل التي فيها الخصومة اليوم مسائلُ بيّنة ظاهرةٌ ليس مع المخالفين فيها دليل ولا حجّة.
الثانية : أنَّ التدافعَ يكون عند الثقة بوجود من يُبيِّن الحقَّ ، فلا يكون من كتمانِ العلمِ ، بل من الإحالةِ على مليءٍ في العلم ، والخروجِ عمَّا لم يتعيَّن عليه ، أمَّا من يعلمُ أنَّ الحقَّ لا يُبيِّنه غيره فلا يجوز له السكوت البتّة ، وهذا ما فهمه الصحابيُّ الفقيه : معاذُ بن جبلٍ رضي الله عنه حين أخبر بحديث الرجاء المشهور عند موته تأثمًا مع إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يُحدِّث به.
ودليلُ ذلك قوله تعالى : ﴿وإذ أخذ الله ميثاقَ الَّذين أُوتوا الكتاب لتُبيِّننَّه للناس ولا تكتمونه﴾ فأخذ الميثاقِ عامٌّ على كلِّ من أُوتوا الكتابَ ، فإن بيّن من تحصل به الكفايةُ سقط الوجوب ، وإن لم يُبيِّن أحدٌ أثمَ الجميعُ ، ومثله قوله عزَّ وجلَّ : ﴿إنَّ الَّذين يكتمون ما أنزلنا من البيِّنات والهدى من بعدِ ما بيّنَّاهُ للناس في الكتابِ أولئكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنونَ﴾ فليس الأمر إثمًا فقط ، بل هو لعنةٌ على من كتَم ، ولو ساغ للكاتمين الاحتجاج بتدافع الفتيا وقال كلٌّ سكتُّ ليُفتي غيري ما كان للوعيدِ معنًى.
الثالثة : أنَّ الصحابة لم يكونوا يسكتون في حالٍ من الأحوال على التلبيس وتغيير الدين ، ونحن لسنا اليوم في واقعٍ لم يتكلم فيه أحدٌ والسائل لا يجد من يجيبه حتَّى يزعم من يزعم أنَّه يُدافع الناس الفتيا ، وإنَّما نرى التلبيس والتبديل للأحكامِ ، والقول على الله بغير علمٍ ، فإذا لم يجب على من آتاه الله علمًا البيانُ ابتداءً ، فلا شكَّ في وجوبِ الذبِّ عن الشريعة وتبيان الحكم الشرعيِّ إذا زوّره الأحبار والرهبان ، وهذه وظيفةُ أهل العلم والسنة الَّذين ينفون عن الدين تأويل الجاهلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المُبطلين.

فصل : أغلوطة المحافظة على الواقع
يُطالبُ كثيرٌ من الناس بالمحافظة على الأمن ، والرضا بالواقع ، والسكوت عن العظائم الموجودة ، والكبائر القائمة في بلاد المسلمين ، وينظرون إلى الخسائر التي قد تكون في محاولة تغيير الواقع بالطريقة الشرعيَّة إن كان فيها ألمٌ وقرحٌ.
وهذه الحجَّة صحيحةٌ ، وهذا المطلب مقبولٌ ، لو كان الواقع مرضيًّا شرعًا ، وكان العاملُ على تغييرِهِ يُريد الاستزادة من الخير ، والاستكثار من نوافل الطاعاتِ ، ويسعى إلى الكمال أو مُقاربتِهِ.
أمَّا والواقع فيه من المنكرات والكبائر بل والشرك والكُفريَّات ما لا يُحتمل ، فإنَّ تغييرَه من أوجب الواجبات ، والمطالب بالمحافظة على الواقع لو وازن بين الواقع القائم بما فيه ، والمفاسد التي يخشاها من التغيير علمَ أنَّ الواقع لا يمكن السكوت عنه واحتماله بحالٍ من الأحوالِ ، ولكنَّه الإلفُ والاعتيادُ ، الَّذي يجعل الناس يستسهلون ما نشؤوا عليه أو تعوَّدوه وسهل عليهم ، وكثرة المساسِ تُفقد الإحساسَ ، والقلب الَّذي غشيته الذنوب ، وغلفه الران ، وطغت عليه الدنيا ، لا يحرِّكه إلاَّ حظوظُ نفسِهِ ، ولا يألمُ إلاَّ لدنياهُ الدنيَّةِ وشهواتِه.
وإلاَّ فهل يستطيع مسلمٌ احتمال المحاكم الطاغوتيَّةِ الوضعيَّةِ التي تحكم بين المسلمين بدساتير كافرةٍ وضعيَّةٍ جائرةٍ ، وهو يعلمُ أنَّ هذا من الكفر الأكبر المستبين؟&#33; وهل يقبل قلبٌ فيه حياةٌ أن يُدنّس بلاد المسلمين عامَّة ، وجزيرة العرب خاصَّة ، شرذمةٌ من العلوج الصليبيين؟&#33; وإذا احتمل هذا ، فهل يحتمله مع حربهم للمسلمين في كل مكان ، وتقتيلهم إخوانه وانتهاكهم أعراض أخواتِهِ؟ وإذا كان من حجرٍ ولم يلن لهذا ؛ فهل يحتملُ بعد أن يعلم أنَّ المسلمين الَّذين قتّلوا وشرّدوا وأهلكت ديارهم وأموالهم ، إنَّما كان ضربُهُم والعدوان عليهم بطائراتٍ تخرج من بلادهِ ، وجيوشٍ تُقاد من أرضه؟&#33;
هذا لو لم يكن من الله أمرٌ صريحٌ ظاهرٌ ، لا يُدفع بمثل هذه التعلُّلاتِ والأباطيلِ ، فكيف والأمر صريحٌ صحيحٌ بيّنٌ بقتال المشركين ، من كفّارٍ أصليِّين معتدين ، وخونةٍ عملاءَ مرتدِّين متسلّطين على رقاب المسلمين؟
فليست القضيَّةُ مكاسبَ مقدّرةً يُراد الوصول إليها فيُدفع ذلك بالمفاسد الناجمة عنها ، بل هي مفاسدُ قائمةٌ ، على صدر الأُمَّةِ جاثمةٌ ، والتغيير إزالةٌ للمفسدةِ لا استجلابٌ للمصلحةِ ، فلو لم يكن فيه نصٌّ لكان العقل السويُّ ، والفطرة السليمة مقتضِيَينِ للعمل على اقتلاع هذا الفساد ، وإراحة العباد والبلاد.
ولو كان الفسادُ لازمًا مواضعه ، كامنًا في مكامنه ، لا يتعدَّى إلى الناس ولا يُبدِّلُ دينَهم ، بل لو كان يثبت على حاله ولا يزيد كلَّ يومٍ في إفسادِهِ ، لكانت حجَّة المنادي بالإبقاءِ عليه قريبةً من القبول ، سائغةً في العقول ، أمَّا والفساد لا يسلم منه أحدٌ ، ولا يخلو منه بلدٌ ، ثمَّ هو يزيد كلَّ يومٍ ويتضاعفُ ، فمن الحماقة السكوت والتعامي عنه ، والمطالبة بالإبقاء عليهِ.
وفسادُ هؤلاء الطواغيت ليس في الدين فقط فيحتمله أهل الدنيا وعبّاد الشهوات فحسب ، بل فسادهم لكل شيءٍ في أمر الدنيا والدين ، فهم محنةٌ على العباد ، جنايةٌ على البلادِ ، نهبوا خيراتِ الأمَّة وأسلموها إلى أعدائها ، وباعوا في سبيل عروشٍ من صورٍ كلَّ ذي شأنٍ وخطرٍ.
وإذا كانت الأمم تسعى للتقوِّي والتحصّن بالشَّوكةِ ، وتعملُ على جمع ما استطاعت من قوَّةٍ ، فإنَّ طواغيت الجزيرة تركوها أضعفَ من أضعف البلادِ ، ولو فرض أن التقويَ والإعدادَ ليس فيه أمرٌ من الله متحتّم وحكم شرعيٌّ لا محيد عنه ؛ لكان من معالم هويَّةِ الأُمَّة ، ومن ضروريَّاتِ حياتِها التي يدركها كلُّ ذي عقلٍ سليمٍ.
بل زاد الطواغيتُ في بلاد الحرمين ، وعملوا على سلب الأمة سلاحها ، وتجريدِها منه في حملات نزع السلاح ، وصدق الله القائل ﴿ودَّ الَّذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلةً واحدةً﴾.
وطاغوت العراق صدَّام حسين الَّذي لا يختلف عن طواغيت الجزيرة وغيرهم في الكفر ، إلاَّ أنَّه يزيد عليهم بشيءٍ من كرامة البشر ، وأنفةِ بني آدم ، حتَّى لقد حرص على توزيع السلاح على أهل السنة في بعض مناطق حكمه لمَّا أوشكت جيوش الصَّليبِ على دخول بلده ، فسلَّح ستَّةَ آلافِ ألفٍ من أهل السنَّة ، كلاًّ منهم برشّاش (كلاشنكوف) ، وصندوق ذخيرةٍ.
فالواقع الَّذي يَدْعُونَ إلى المحَافظةِ عَلَيه جمَعَ من العَوامل التي توجِب إزالتَهُ أمورًا : فهو واقعٌ مليءٌ بالمنكرات التي لا يجوز السكوت عنها وإقرارها ، وهو مع هذا يزداد كلَّ يومٍ من الفساد والمنكرات ، ثمَّ إنَّ الجوانب الحميدة منه على شفا جرفٍ هارٍ ، توشكُ أن تُسقطها أيدي الحكومة العميلة ، بل هي تعمل على ذلك منذ سنين والأعمى والبصير يريانِ الخطواتِ التي تسلكها الحكومة في هدمِها ، والجوانب الدنيويَّة التي يأنس لها صاحب الدنيا من أمنٍ ورفاهٍ ونحوها لا ثبات لها ، بل البلد يتربّصُ به أعداء كثر ، وليس له منعةٌ ولا قوَّةٌ ولا قدرةٌ على دفع الصائل ، بل إنَّ العدوَّ المتربِّص موجودٌ بين ظهرانينا ، مقيمٌ في بلادِنا ، يشاطرنا الأرض وينشرُ فيهَا قواعِدَهُ ، والحكومة القائمة لا تزيد بجميع إداراتها ووزاراتها عن كونها دائرةً للحفاظ على مصالح الصليبيين وحراسة إسرائيل دون أن يضطرب البلد.

الباب الثالث : مراجعاتهم في التكفير.
تطرّق المتراجعون في تراجعاتهم إلى مسائل من مسائل التكفير ، وأكثر ما جاء من ذلك لمزُ المجاهدين ببعض المقالات التي هم منها براءٌ ، والتعميم في مواضعَ لإيهام السامع أنَّ المجاهدين غلطوا فيها.
والغلوّ في التكفير وإن كان له وجودٌ ، إلاَّ أنَّه لا يقارب الإرجاء وأنواعه وألوانه الموجودة اليوم ، والمرجئة يعيبون على أهل السنة تكفيرهم من كفَّره الله ورسولُه ، والمجاهدون في التكفيرِ على مذهب أهل السنة لم يقولوا بمقولةٍ واحدةٍ خارجةٍ عن مذاهب أهل السنة فيما تتبعتُ ، وإنَّما عيبهم بالتكفير لوثة إرجاءٍ ، والإرجاء دينٌ يحبُّهُ الملوك كما قال الزهري رحمه الله.
وقد عرضت في هذا البابِ إلى مسائلَ قسمتُها على فصول :
الأول : من قال لأخيه يا كافر.
الثاني : تسلسل التكفير.
الثالث : ضبط ضوابط التكفير.
الرابع : مفسدة التكفير ومفسدة تعطيله.
الخامس : كفر الحكومة السعودية.


فصل : من قال لأخيه يا كافر
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من قال لأخيهِ يا كافرُ فقد باء بها أحدُهُما" والحديث وعيدٌ شديدٌ لمن رمى أخاه بالكفر ، واتَّهمه بالخروج من الإسلام والمروقِ من الدين ، ولكنَّ الحديثَ لا يشملُ المجتهد في التكفير ولا هو إليه بسبيلٍ ، بل المراد به من رمى أخاه بالكفر عن هوىً أو على جهة المشاتمةِ ، أمَّا المجتهد اجتهادًا شرعيًّا فهو مأمورٌ بالقول بما أدَّاهُ إليهِ اجتهادُهُ ، ولذلك لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطَّابِ رضوانُ اللهِ عليهِ تكفيرهُ لمن كفَّره باجتهادٍ كتكفيرهِ لحاطبِ بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، وحاطبٌ بدريٌّ براءٌ من الكفر بتبرئة الله ورسوله له ، وكذا أسيد بن حضير حين قال لسعد بن عبادة : "ولكنَّك منافقٌ تُجادل عن المنافقينَ" ، بل أصول الشريعة وقواعدها ونصوصها متوافرةٌ على أنَّ المجتهد في موضع الاجتهاد أيًّا كان مأجورٌ غير مأزورٌ ، وهو بالقول بما يصل إليه اجتهاده مأمورٌ ، ولا يُستثنى من الاجتهاد وأصوله وضوابطه مسائل التكفير ، لا في تأصيلِها ولا في تنزيلِها على الأعيانِ.
فالحديث في قوله صلى الله عليه وسلم : "من قال لأخيه" علّق النهي بكونه أخًا له ، ومعرفة كونه أخًا مما يجتهد فيه المجتهدُ ، فمن علم أنَّه أخٌ له ثمَّ قال له يا كافر ، فهو داخلٌ في الوعيد ولا شكَّ ، ومن رأى أنَّ فلانًا ليس له بأخٍ ، وقامت الدلائل والبيِّناتُ عنده على أنَّه عَدُوٌّ للهِ ، ثمَّ قال له يا كافر ، وهو عنده في اجتهاده كافر ، ويلتزم معاملته في أحكامه معاملة الكافر ، لا استنادًا إلى وهم توهَّمه ، أو هوىً تعلَّقه بل استنادًا إلى النصوص التي أُمر باتّباع ما تدلُّ عليهِ ، من كانت هذه حالُهُ فليس مخاطبًا بالحديث أصلاً ، ولا داخلاً في الوعيدِ فيه بل لهذا موضعٌ ولهذا موضعٌ.
ومسألةُ إلحاق الوعيد بالمجتهدينَ في عمومِ المسائل التي فيها وعيدٌ –ومنها مسألةُ التكفير- مسألةٌ مشهورةٌ ، وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الكلام فيها ، وحاصل كلامه وكلام غيره من المحققين في الباب:
أنَّ من اجتهدَ في مسألةٍ هي موضع اجتهاد ، وأعطى الاجتهاد حقَّه ، ثمَّ أخطأ بعد ذلك فهو المستحقُّ للثَّوابِ لا العقاب ، ولا يمكن أن يناله الوعيد بحالٍ ، وليس الوعيد متوجّهًا إليه أصلاً حتَّى يُنظر هل في حاله مانعٌ من لحوق الوعيد أم لا؟ وهو كمن ارتكب ما يعلمه مباحًا قبل أن يبلغه النَّاسخُ لإباحته.
ومن اجتهدَ في مسألةٍ ليست موضع اجتهادٍ ، أو لم يعطِ الاجْتهَادَ حقَّه شرعًا وأخطأ في اجتهادِهِ ، فهذا يتوجّهُ إليه الوعيد ، وقد يكون في حاله مانعٌ كتأويلٍ أو شبهةٍ أو غيرها يندفع عنه بها الوعيدُ.
وهذا كلُّه فيمن اجتهد فحكم بكفر من لم يثبت كفرُهُ ، أمَّا من كفَّر الكافر المستبينَ كفرُهُ ، الَّذي بلغ من الكفر منازل أئمَّة الكفر ، فليس في مسألتِنا ، وهذا آمنٌ من العقوبةِ والوعيد ، كمن قال إنَّ فهدًا كافرٌ ، أو كفَّر إخوانه في الكفر من مثل ياسر عرفات ، وحسني مبارك ، وبوشٍ وشارونَ وكرزاي وبرويز مشرّف ، ممن لا يشكُّ في كفرهم إلاَّ من طمس الله على بصيرته ، فمن كفَّر هؤلاء وأمثالَهم وحلف على ذلك الأيمانَ المغلَّظة فهو آمنٌ من الوعيد لظهور كفرهم وتبيّنه بل وعظمةِ كفرِهِم وطغيانهم فيه ، ومجاوزتهم أكابر الكفرة والمجرمين ، فمن الكفَّار إن لم يكن هؤلاء كفارًا؟ وما الطواغيتُ إن لم يكونوا طواغيت؟&#33;

فصل : تسلسل التكفير
جاء في التَّراجعات الأخيرة ذكرُ مَسألةِ التَّسلسُلِ في التَّكفيرِ ، والتشنيع على المجاهدين بها وليست من مذاهبهم ولا عُرفت عنهم ، والتسلسل في التكفير يعني التوسع في تكفير من لم يرتكب المكفر إلحاقًا له بكافرٍ آخرَ بشبهةٍ ، ويستلزم تكفير الثاني تكفير ثالثٍ ، إلى أن يصل إلى تكفير عموم المسلمين أو أكثرِهم دون أن يرتكبوا مكفّرًا ظاهرًا.
ويكون التسلسل في التكفير فرعًا على مسألةِ تكفيرِ الكافرِ ، فيُكفِّرون من لم يكفّر كافرًا معيَّنًا ، دون تفصيلٍ في ظهور كفرِهِ والتباسِهِ ، ويلزمُ من ذلك أنَّ هذا الذي لم يكفّر الكافر يلزمُ الناس أن يكفِّروه فمن لم يكفّره فهو كافرٌ ، ويتسلسلُ.
أو يكفّرون من تولَّى فلانًا الكافر ، ومن لم يكفِّر المتولِّي له ، ومن تولَّى ذلك المُتولِّي ، ويتسلسل التكفير عندهم بعد ذلك.
وهاتانِ صورتان من صورِ الغلوِّ في التكفير ، وغيرُها كثيرٌ كتكفير كلِّ من سكتَ عن الطواغيتِ ، أو من عمل لديهِم في أي عملٍ بإجارةٍ ونحوِها ، أو التكفيرِ بالدِّيارِ فيكفّر كل من هو تحت حكم طاغوتٍ أو يعيش في أرضِهِ.
وهذه المقالات إنَّما انتشرت وتسامعَ بها الناس لما فيها من الشُّنعةِ والباطلِ ، وإلاَّ فالقائلون بها قليلٌ لا يكاد المتقفِّر يعثر لهم على أثرٍ ، ولو تتبَّعتَ هؤلاء القليل ومقالاتهم ما وجدتَ من ردَّ عليهِم وكشف شُبُهاتِهِم إلاَّ أصحاب تحقيق التوحيد ممَّن يُوصمون بالتكفيرِ ، فلا تجدُ ردًّا أمثلَ من ردِّ أبي محمَّدٍ المقدسيِّ فكَّ الله أسره على من غلا في التكفير في رسالته النافعة الموسومة بـ"الثلاثينية في التحذير من الغلوِّ في التَّكفير".
وسببُ هذه الصور من الغلوِّ ، عدم التفريق بين الكفر في العلميَّاتِ ، والكفرِ في العمليَّاتِ ، وعدم الفصلِ بينَ التَّكفيرِ باللازمِ ، والتكفير بارتكاب المكفِّر ، وسوء الفهم لبعض الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ وتنزيلها في غير مواضِعِها ، أو تنزيلُ الأحكام دون النظر في الشروط المشترطة لتنزيلها ، والموانعِ المانعةِ من ذلكَ.
ولكنَّ وجودَ من يقول بالتكفير المُتسلسِلِ لا يمنعُ من إجراءِ الحكمِ على من ثبتَ كفره ، سواءٌ كان كفره بارتكابه المكفّر ، أو كان بموالاته الكافر أو عدم تكفيره إيَّاه بعد استيفاء الشروط وانتفاءِ الموانعِ.
وإيرادُ مسألةِ التَّسلسُلِ على من حكم بكفرِ من كفَّرَهُ اللهُ ورسولُهُ إيرادٌ قديمٌ ، وشبهةٌ مكرورةٌ ، أُوردت على أئمَّة الدعوة النجديَّة وأجابوا عنها ، وللمجدِّد الثاني عبد الرحمن بن حسنٍ رحمه الله جوابٌ مفصَّلٌ على هذا.
والغلاة في التسلسل استندوا في الأصل إلى قواعد صحيحةٍ ، وأصولٍ معروفةٍ متفقٍ عليها في التكفير ، وإنَّما غلطهم وغلوُّهم في تطبيقها وتنزيلها ، فإنَّ من المعلوم عند أهل العلم المستعمل بينهم قاعدة : من لم يكفِّر الكافر فهو كافرٌ ، والكلام في هذه القاعدة يطولُ ، ولا يُنازع أحدٌ في صحَّةِ أصلِها ، ولكنَّ محلَّها في من لم يكفِّر الكافر متبيِّن الكفر بعد قيام بيّنات كفره لديه وعلمه أنَّها كفرٌ.
وكذا تكفير من تولَّى الكافرَ وظاهره على المسلمين ، قاعدةٌ صحيحةٌ ولا ريبَ ، ولكنَّ محلَّها الكافر المتبيّن الكفر ، والإعانة التي يعلم من يفعلها أنَّها إعانةٌ ، وهذا في أحكام الأفرادِ ، أمَّا الطوائفُ فلها أحكامٌ غيرُ هذهِ تُفصَّل في أطولَ من هذا المقام.

فصل : ضبط ضوابط التكفير.
يدندن المرجئة واللابسون الحق بالباطل كثيرًا على ضوابط التكفير عند إرادةِ الدفاعِ عن طاغوتٍ بيّنٍ الكفر ، أو التشنيع على مُكفِّر من كفَّره الله ورسوله ، ومن ذلك ما ذكر المتراجعون وغيرهم ، وضوابط التكفير ليست مخرجًا لكلِّ من ارتكب الكفر ومرق من الدين وخرج من الملَّة ، بل هي حدودٌ بيّنةٌ ومعالم واضحة ، وهؤلاء يستعملون هذه الحجَّة لا إرادة تطبيقِها ، بل للدفع في صدور النصوص الصحيحة ، عندما ينزّلها الصادقون الصادعون بالحقِّ على من توفّرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانِعُ من الكفَّارِ المرتدِّينَ.
فمما يُكثرون الحديث عنه وجاء في التَّراجعات ذكرهم قيامَ الحجَّة ، واشتراطَهُ ، في معرض الحديث عن حكم المجاهدين بكفر طواغيت الجزيرة كنايفٍ أخزاه الله وقد فعل.
وقيامُ الحجَّةِ يُستعمل في مواطنَ :
منها : بلوغ الدعوة ، وقيامُ الحجَّةِ الرساليَّة ، وهذا الموطن لا يمتنع معه الكفر ، بل هو في حقِّ الكفَّار أصحاب الفترات الَّذين لا يُنازع في كفرهم ، وإنَّما أثر بلوغ الدعوة خلودهم في النارِ على أحد قولي أهل العلم ، فلا يصحُّ إيراده على هذا المعنى في مسألتِنا.
والثاني : بلوغ العلم بتحريم المكفِّر المعيَّن ، وهذا فيه تفصيل :
فمن المكفِّرات ، ما يكون جهل الجاهل بتحريمه كفرًا مستقلاًّ ، كالجهل بأصل الدين وانفراد الله باستحقاق العبادةِ ، فمثل هذا إن ارتكبه المرتكب عالمًا كفر ، وإن جهله فليس بمسلمٍ.
وهذا مما يحكم ببلوغه إلى كل أحدٍ ، كالمسائل الظاهرة المعلومة من الدين بالضرورة ، إلاَّ من كان بباديةٍ بعيدةٍ ونحوه في الصور التي ذكرها أهل العلم ، فهذا إن ارتكب المكفِّر يُحكم بكفره دون استفصالٍ عن العلم وبلوغِهِ إيَّاهُ ، ويكون ذلك حكمه الدنيويَّ الظاهر.
ومن الجهل ما يكون عن تفريطٍ ومع تمكّن من العلم ، فالجاهل المفرّط في أصول الدِّين لا يُعذر ، وعدم إعذار الجاهل المتمكِّن من العلم المفرِّط في طلبه إن ارتكب الكفر محلُّ اتّفاقٍ فيما أعلمُ بين أهل العلم.
وممن أحسن التفصيل والاستدلال في مسألةِ العذرِ بالجهل إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في رسالتِه عن العذر بالجهل ، والتي طُبعت بعنوان : [تكفير المعيَّن].
وفي قيامِ الحجَّةِ غلطٌ يكثر عند من استعجل عن تحرير المسألةِ ، فتجد كثيرًا من المتكلِّمين في المسألة يتوهّم العلم المشترط بلوغُهُ العلمَ بكون الفعل المعيَّنِ كفرًا ، وإنَّما المشترط اتّفاقًا العلم بالتحريم ، ولا يشترط في شيءٍ من الأحكام علم الفاعل بالأثر ليترتّب الأثرُ على فعلِه ، وإنَّما يشترط علمه بالنهي ، ولو كان الأمر كما توهَّم المُتوهَّم لما كُفِّر المستهزئون في غزوة العسرة حتَّى يُعلَموا أنَّ فعلهم كفرٌ ، ولما كُفِّر المرتدّون زمن الصحابة حتَّى يُوضَّح لهم هذا الأمر ، وهذا ما لم يكن ولم يقُل به أحدٌ.
ولو كان ذلك كذلك لكان من أوَّلِ نتائجه ومستلزماته أنَّ من ارتكب كفرًا مختلفًا فيه كترك الصلاة لا يكفر إن احتجَّ بالخلاف في ذلك ، فضلاً عن تارك الصلاة الَّذي لم يعلم ولم يطرق سمعه كفر تارك الصلاة.
ومن الأعذار التي يلجأ إليهَا المُجادلون عن الطواغيت : الاحتجاج بمانع الإكراهِ ، ودعوى أنَّ هؤلاء الطواغيت مكرهون على ما يفعلونه من المكفِّراتِ ، وهذه من أوهى الشبه إلاَّ أنَّ الغريق يتشبّث بعودٍ.
والإكراهُ متى كان مانعًا كان في موضع الإكراه لا أكثر ، فمن أُكره على كلمةٍ لم يكن له أن يتلفّظ بكلمتين ، ومن أكرهَ على سبِّ رسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم لم يُعذر بأن يسبّ جميع الرسل ، ومن أُكره على السجود لصنم لم يكن له أن يطيل السجود ويرفع صوته بالدعاء والتضرُّع.
بل من كانت هذه حالُهُ كان أبعدَ الناس عن الإكراه ، ودلَّت حاله على محبّته ذلك الكفر وإرادته له ، وإذا كان معذورًا بالإكراه فيما أكره عليه ، فإنَّه كافرٌ بارتكابه ما زاد على ما أُكره عليه.
وليس الإكراه ، إكراه من يريد الحفاظ على منصبه وكرسيِّه ، ويرى سقوطه عنها أو قتله دونها إكراهًا ، ويخشى من العمل بدين الله والقيام بشريعتهِ إن هو فَعَلَ أن تفوت حظوظه الدنيويَّة وأهوائه ورغباته.
ولا الإكراه أن يُكره على عملٍ في يومينِ ، فيسابق إليهِ في الثالثِ ، وأن يُكره على دخول مجلسٍ فيواظبَ على جلساتِهِ ، أو يُكره على دخول معاهدة كفريَّةٍ فيلتزم بنودها ويعمل بها.
وليس من الإكراه في شيءٍ أن يخشى ضررًا يأتيه لا يحقّقُ قدومَه ونزولَه به ، فيُسارع في أعداء الله في موالاتِهم ومُوادَّتِهِم والتقرُّبِ إليهِم بما يُحبُّون.
ولو كان هذا من الإكراه لعذر الله المنافقين الَّذين ذكرهم الله : ﴿فَتَرى الَّذين في قلوبِهِم مرضٌ يُسارعون فيهم يقُولونَ نخشَى أن تُصيبَنا دائرةٌ﴾.
وليس من الإكراهِ أن يبيع المنافق الأمَّة والبلاد ، ويغيّر الدين في الناس كلهم ثم يستديمونه ويبقون عليه ، بل لو وقع الإكراه عليهم جميعًا بذلك لم يكن لهم إلاَّ فعل أصحاب الأخدود.
ومن الموانِعِ التي استند إليها المجادلون عن الَّذين يختانون أنفسهم مانعُ التَّأويلِ ، ولو كان الأمرُ على ما فهموه ما كفر إبليس ولا مشركو قريشٍ ، فإنِّي وجدتُ من وجدتُهُ يُحاجُّ بذلِكَ يدّعي عذر كلِّ من سوَّغ لنفسه الكفر وسهَّله على نفسه بمتشابهٍ أو ما شُبِّه بدليلٍ شرعيٍّ ، ولو كان ذلك كذلك لعُذر إبليس فقد كان له تأويلٌ ولكنَّه تأويلٌ شيطانيٌّ ، والمشركون كان لهم تأويلاتٌ وحججٌ داحضةٌ ﴿ما نعبدهم إلاَّ ليُقرِّبونا إلى الله زُلفى﴾﴿لو شاء الله لأنزلَ ملائكةً﴾ بل كانوا يتوهَّمون ما هم عليه من كفرٍ وفحشاءَ أمرًا من الله ورثوه عن آبائِهم ﴿وإذا فعلوا فاحشةً قالوا : وجدنا عليها آباءنا ، واللهُ أمرنا بها﴾.
والتأويل الَّذي هو مانعٌ من موانعِ الكفرِ هو تأويلُ من يتأوَّلُ أنَّ فعلَهُ مباحٌ مشروعٌ ، لا من يعلم أنَّ الله نهى عنه وحرَّمه ، ويتأوَّلُ بفهمه أنَّه ليس بكفرٍ ولكنَّه معصيَةٌ.
والتأويل المانعُ من الكفرِ يردُ في موضعين :
الأوَّل : في حقيقة الفعل الَّذي يفعلهُ ، كمن يرى أنَّ فعله ليس إعانةً للكفَّار وإن كان في تلك الصورة ، كما هو الراجحُ فيما فعله حاطب رضي الله عنه.
والثاني : في تحريم ما يفعله أو يقوله أو يعتقده من المكفِّراتِ ، وهذا يكون مانعًا بضوابطَ :
أولها : أن لا يكون جهله وتأويله ناتجينِ عن الإعراض عن الدين ومعرفة أصول المعتقد ، فمن تأوَّلَ في استهزائه بالدينِ أنَّه يقطع عناء الطريقِ ويهوِّنه على نفسِهِ فيتسمّح في الكلام كفر ، كما حكم الله بكفر المستهزئين برسول اللهِ صلى الله عليه وسلَّم وإن تعلَّلوا بهذه العلَّة.
وثانيها : أن يكون تأويله في إباحة فعله ، لا في كونه كفرًا مع علمه بتحريمه ، فمن علم تحريم الاستهزاء بالدين وفعله كفرَ وإن لم يعلم أنَّ المستهزئ بالدين كافرٌ.
وثالثها : أن يكونَ تأويلُهُ مستندًا إلى فهمٍ للشريعةِ غلطٍ لا إلى هواهُ وظنونِهِ ، فمن ظنَّ أنَّ فعله مشروعٌ فارتكبه ، غيرُ من ارتكبه لهوىً رآه ورأى أنَّ فعله سيكون أنفع له أو لفلانٍ من الناس الَّذي يحبُّ منفَعَته ، ولم يلتفت إلى تحريمٍ أو جوازٍ.
ورابعها : عدم قيام الحجّة عليه في تأويله وزوال الشُّبهةِ عنه بما تزولُ بمثلِهِ ، فمن أُزيلت شبهته ودحضت حججه ثمَّ أصرَّ وعاندَ وبقي على ما هو عليه من الكفر فليس لتأويلِهِ معنًى.


فصل : مفسدة التكفير ومفسدة تعطيله
يدندن المرجئة كثيرًا حول مفاسد التكفير والآثار المترتّبة عليه ، والتكفير حين يكون حقًّا في محلّه الصحيح ليس بمفسدة البتّة ، ومن توهّمه مفسدةً فلفساد فهمه للشَّريعة وتصوّره لأحكامها فإنَّ المصالح الدنيويَّة والدينيَّة إنَّما تعرف بكلام الله وكلام رسوله ، وإنَّما هي عند حكمه عزَّ وجلَّ ، وما توهَّمه المتوهِّم مفسدةً منها هو مما أراده الله لحكمةٍ يضيقُ عنها عقله القاصر.
والأمر الَّذي فيه المفسَدَة البيِّنة الواضحة المنصُوص عليها في كِتاب الله ، هو تعطيل الأحكام المترتِّبة على التَّكفير ، فقال عزَّ وجلَّ ﴿والَّذين كفروا بعضُهُم أولياءُ بعضٍ إلاَّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ﴾ فبيّن عزَّ وجلَّ أن ترك هذا الأصل من الولاء والبراء ، وترك التبرؤ من الكافرين وإلحاق بعضهم ببعضٍ في أحكامهم سببٌ تامٌّ لوقوع الفتنة والفساد الكبير في الأرضِ ، وإن لم يُكفّر الكافر لم تنزّل عليه أحكام الكفر ومنها البراء منه وإلحاقه بإخوانه في الكفر ، وإذا فُعل ما في الآية سلمنا من الفتنة والفساد الكبير ، وإن فُعل بعضه وترك بعضه لم يكن قد فُعل ، ودخلت الفتنة والفساد الكبير بقدر ما ترك من هذا الأصل الشرعيِّ العظيم.
وفي التَّراجعات ذكر المحقق من مفاسد التكفير عدم الصلاة على من كُفِّر ، وتحريم زوجه عليه ، وإباحة دمه ، وهذا الإيراد عجيب&#33; فإنَّ تحريم زوجه عليه إذا كان كافرًا من أوجب الواجبات ، وهي حرامٌ عليه في نفس الأمر سواء كفّرناه أم لا ، والصلاة عليه منكرٌ عظيمٌ يجب التحذير منها والنهي عنها ، فهذه الأمور من أبين الدلائل على مفسدة تعطيل التكفيرِ عن مستحقِّه ، فتُترك في عصمته امرأةٌ مسلمةٌ لا يجوز له البقاء معها ولا النظر إليها ، فضلاً عن كونه ينالها ويعدّها زوجةً ، وهي عرضٌ من أعراض المسلمين يجب صيانته عن انتهاك الكافر له ، ويصلِّي مع ذلك عليه المسلمون إذا مات ويستغفرون له و﴿ما كان للنَّبيِّ والَّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قُربى﴾﴿ولا تصلِّ على أحدٍ منهُم ماتَ أبدًا ولا تقم على قبره﴾.
ومبنى الأحكام الشرعية على التفريق بين المسلم والكافر ، ﴿أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لكم كيف تحكمون؟﴾ ، فإذا عطّل التكفير عن مستحقِّه تعطَّل كلُّ ما علِّق به من أحكامٍ ، وهي أحكام شرعيَّةٌ من عند الله لا يجوز كفرانُها : ﴿أفتؤمنون ببعضِ الكتابِ وتكفرون ببعضٍ؟﴾

فصل : كفر الحكومة السعوديَّة
هذه الحكومةُ العميلة ما تركت بابًا من أبواب الكفر ، وطَرِيْقًا من طُرُقِ الرِّدَّة إلاَّ ولجت فيه فاستكثرت منه ، ووالله لقد أتعبت المرقِّعين لها والمدافعين عنها ، وسارت بهم في المسالك الوعرة ، لذا فرُّوا عن الحديث عن كفر الحكومة إلى المسابَّة والمشاتمة ، ونسوا ما يقتضيه ثوب العلم الَّذي يلبسونهُ زورًا وأخذوا في تهويشِ العوامِّ وطريقتهم في الجدال والمماحلة.
ولم أر فيما اطَّلعتُ عليه لمن يدافع عن هذه الحكومة ويحكم بإسلامها كلامًا ولا كتابةً فيه استدلالٌ على هذا القول ، وردٌّ على القول الآخر ولو باعتباره شبهةً ، وفي المقابل تجد الآياتِ والنصوصَ والأدلَّةَ والبيّناتِ مع القائلين بكفرِها ، وقد دعوا إلى الرَّدِّ عليهِم بعلمٍ ، ونادوا إلى مناظرتِهم فيما أُنكر عليهم ، ولا مجيبَ من المخالفين لعلمِهم بالجوابِ ، وإقرارِهم في قرارة أنفسهم بالصواب ، مع جحودهم بألسنتهم وإعراضهم بوجوهِهِم.
والحديثُ في الواضحات أصعبُ من غيره ، فليس فيها إشكال يُزاح ، أو شُبهة تُزال ، أو سؤال يُحتاج إلى جوابه ، أو كلامُ مخالفٍ ليبيّن خطؤه من صوابِه ، وإنَّما كلُّ ما فيها سوق النصوص وبيان معانيها وتنزيلها على الواقع ، ثمَّ الردّ على خصمٍ يدّعي الأدلَّة ولا يذكر دليلاً ، ويردُّ الأدلَّة ولا يذكر تأويلاً ، فالكلام مع من هذه حاله صعبٌ جدًّا.
والحكومة السعودية العميلة ، حكومةٌ طاغوتيَّةٌ تحكم بغير ما أنزل الله في أكثر القضايا ، ولا تحكِّم الشريعة إلاَّ في الأحوال الشخصيَّة ، والجناياتِ ، والحدود ، والخلافات الشخصية المالية ونحوها ، أما مسائل البيوعِ الرسميَّة عندهم بين المؤسسات ، أو الشركات ، ومسائل العمل والعمّال لكلِّ موظّفٍ في مؤسسة أو شركةٍ غير حكوميَّة ، ومسائل الشيكات والمصارف والبُنُوكِ ، وقضَايَا الرشاوى والتزوير ، وكل ما يتعلق بالإعلام على تنوّع جهاته ، أمَّا هذه كلُّها فيحكم فيها بالقانون الوضعيِّ الفرنسيِّ الكفريِّ ، والتزامُ حكمٍ واحدٍ من قانونٍ وضعيٍّ كفرٌ أكبرُ مستبين ، فكيف بهذه القوانين كلِّها؟
وهذه الحكومة تقرُّ أنواعًا من الكفر والشرك الأكبر وتحميها ، من أنواع شرك غلاة المتصوّفة في المسجد النبويِّ ، وعند عددٍ من القبور منها قبر آمنةَ والدةِ النبي صلى الله عليه وسلم التي ماتَت على الشِّرك ، ومن آخرها ما لا يُؤلم إلاَّ نفس الموحِّدِ المُؤمنِ بالله ربًّا وإلهًا ، مما فعله الرافضة من الجهر والإعلان بدعاء غير اللهِ ، والاستغاثة بالأولياء ، واجتماعهم على هذا الأمرِ ، مع سبِّ الصحابة الكرام والانتقاصِ منهم عليهم رضوان الله ، وكلُّ من أنكر بلسانِهِ من الموحِّدينَ أُودع السجون ، ولا شكَّ أنَّ من أقرَّ الكُفرَ كفرَ ، ومن أعان عليه أو منع من أنكره مرتدٌّ كافرٌ بالله العظيم.
وأمَّا تولِّي الكافرين على اختلاف أنواعِهِم ، فلا يمكن أن يدَّعيَ أحدٌ معنىً للتولِّي إلاَّ كان مما أمعنت فيه الحكومة العميلة ، واستكثرت منه وبالغت فيه ، وبلغت منه المبالغَ الكبار ، فهم عملاءُ أمريكا واليهودِ ، باعوا لهم الأرضَ وأباحوا لهم المال والدارَ ، وأعانوهم على المسلمين ، وبأيديهم على أرض الجزيرة كانت جيوش الصليب تستعدّ وتستمدّ لحملتها ، وتتزوّد منها ، وتدير حربها على الإسلام.
وإذا كانت الحملة الصليبيَّة التي لم تنهض إلاَّ بجهود حكومة طواغيت آل سعود من تولِّي الكفَّار ، فإنَّ فيها من الكفر ألوانًا عدَّةً يكفر بها كلُّ من دخلت يده في هذه الحملة ، وحسبُك أنَّها دعوةٌ لكفرٍ ، وقتالٌ تحت راية الصليب وعبادةٌ له وللأحبار والرهبان الَّذين يعبدونهم من دون الله عزَّ وجلَّ.
ولو نظرت إلى ألوان الكفر والكفرة وجدت الحكومة السعوديَّة معدنًا لها وبيتًا ، فالسحرة الطواغيتُ لا تنفق بضاعتهم كما تنفق لدى نايفٍ في أعمال وزارة الداخليَّةِ ، وقد جدَّد الطاغوت نايفٌ سنَّةَ فرعونَ في جمع السحرة من المدائن ، داخل الجزيرة وخارجها ، مستعينًا بهم على المجاهدين والمجاهدون وليُّهم الله ، ونايفٌ أولياؤه –مع الصليبيين- السحرة ﴿ولا يُفلِح السَّاحِرُون﴾.



الباب الرابع : مراجعاتهم في الجهاد.
كنتُ عزمتُ على حذف هذا الباب وتأخيرِهِ ، إلاَّ أنَّني رأيتُ شبهتين ذكرهما المتراجعون لا بدَّ من تعجيل الجواب عليهما باقتضابٍ ، وهما مسألتا : دفع الصائل من رجال الأمن ، وترك الجهاد المحافظة على الأمنِ.
فأما شبهة دفع الصائل ؛ فقد استدلَّ كلٌّ من الخضير والفهد والخالدي على منع دفع الصائل من رجال المباحثِ ، بما ذكره ابن المنذر حين قال : وأهل العلم كالمجمِعين على استثناء السلطان مما جاء في دفع الصائل.
وأولُ ما يُقال في هذه الشبهة : أنَّ محلّ كلام ابن المنذر السلطان المسلم لا الكافر ، والكافر يجوز ابتداؤه بالقتالِ فضلاً عن دفعِهِ إذا صالَ ، وطواغيت الجزيرة كفرةٌ مرتدّون بأدلةٍ لا يستطيع المخالف دفعها أو الجواب عنها.
ويُقال بعد ذلكَ : إنَّ ابن المنذرِ معروفٌ بتساهله في الإجماعِ ، وذلك معروفٌ عنه فلا يكاد يسلمُ نصفُ ما يحكيه من إجماعات ، ومن الإجماعات التي يحكيها ما فيه خلافٌ مشهورٌ ، ولا يُمكن تقديم إجماعٍ يحكيه ابن المنذرِ على عموم الحديث حين جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت إن جاءني رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال : فلا تعطه ، قال فإن قاتلني؟ قال : فقاتله ، والحديث دالٌّ على العموم من وجوهٍ ، منها ترك الاستفصالِ في مقام الاحتمال ، وهذا منزّلٌ منزلة العموم في المقال ، ومنها أنَّ قوله رجلٌ نكرةٌ في سياق شرطٍ ، وهو أيضًا نكرةٌ في سياق استفهامٍ ، وكلا هذين مفيدٌ للعموم.
فالعموم الظاهر الَّذي هو بهذه او بهذه المنزلةِ ، لا يُعترض عليه بإجماع ابن المنذر وابن المنذر معروفٌ بتساهله في حكاية الإجماع ، هذا لو كان ابن المنذر حكى الإجماع صريحًا ، فكيف وهو يقول كالمُجمعين ، ولم يجعله إجماعًا؟
وقد ثبتَ أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، لمَّا أرادَ عنبسة بن أبي سفيان وكان واليًا لمعاوية - عنه- أن يجري عين ماءٍ في أرض عبد الله ليوصلها إلى أرض عنبسة أبى عبد الله بن عمرو ، وركب هو وغلمانه وقال والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منَّا أحد ، ولمَّا كلَّمه خالد بن سعيد بن العاص في ذلك احتجَّ عليه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم : "من قُتل دون ماله فهو شهيدٌ" ، فهذا فهم صحابيٍّ وعمله بالحديث وهو موافقٌ لعمومه الَّذي لا مُخصِّص له ولم يُنقل خلافُه عن غيرِه من الصحابة.
ولو تُنزّل مع الخصم وفُرض جدلاً أنَّ الاستثناء الَّذي ذكره ابن المنذر صحيحٌ ، وأنَّ قوله كالإجماع كحكايته الإجماع الصريح ، وأنَّ إجماعاته مقبولةٌ يُستدلُّ بها على تخصيص الحديثِ ، وأنَّ اسم السلطان يشمل المسلم والكافِر ، لو سُلِّم بكلِّ هذا وأعرضنا عن عموم الحديث ، وعن عمل عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنه الَّذي لم يُخالفه أحدٌ من الصحابة.
لو تُنزِّل في كلِّ هذا ؛ فمحلُّه ولا ريبَ من أراد السلطان العدوان على مالِهِ ، ولا يقول أحدٌ بمثل ذلك في عرضِهِ ، وأهل العلم حين فرّقوا بين العرض والمال في وجوب الدفع في الأوَّل وجوازه في الثاني دون وجوبٍ على الأصحّ ، علَّلوا ذلك بأنَّ المال يجوز بذلُهُ ابتداءً بخلاف العرض ، وهذه العلَّة بعينها موجودةٌ في النفسِ ، فإن جازَ له الدفعُ عن العِرضِ الَّذي لا يجوز بذله ولو كان الصائل سلطانًا ، فإنَّ الدفع عن النفسِ جائزٌ لأنَّها كالمال لا يجوزُ بذلُها ابتداءً ، ولولا النصوص في الباب لقيلَ بوجوبِ الدفع عن النفسِ كما يُدفع عن العرض ، ولكنَّ النصوص فرَّقت بينهما في حكم الوجوب لعلَّةٍ أطال الفقهاء الكلام فيها.
هذا والصواب كما تقدَّم أنَّ كلام ابن المنذر في السلطان المسلم دون الكافر ، وهو غيرُ مسلَّمٍ حتَّى في السلطان المسلم بل عمل الصحابي وعموم الحديث دالٌّ على مشروعيَّة دفع الصائل ولو كان سلطانًا.
وهذا كلُّه مفروضٌ في صيالِ سلطانٍ كافرٍ على رعيَّته ، أمَّا الحال في بلاد الحرمين مع المجاهدين ، فهو صيالٌ من الصليبيين وعملائهم على شوكةِ المسلمين وقوّة الإسلامِ ، وعمل حثيثٌ دؤوبٌ على استئصال المجاهدينَ برمّتِهِم ، وأقلّ أحوالِه اعتقالهم سنين طويلةً لرعايةِ أمنِ الصليبيين في بلاد الحرمين ، كما أنَّه في حقِّ المجاهدين العاملين ، صيالٌ من كافرٍ على الجهادِ في سبيلِ اللهِ نفسِه وجزءٌ من مدافعةِ من خرج المجاهدون لجهادِهِ أصلاً ، وجمعوا ما جمعوا لإقامة أحكام الله فيه ، فما الفرقُ بين الصائل عليه ليحول بينه وبين الصليبيين إذا استقبلَ مجمّعاتِهم ، والصائلِ عليهِ وهو يعدُّ العدَّةَ لذلك؟ أو للذهاب للجهاد في سبيل الله في العراقِ وغيرِها من ثغور الإسلام؟
وأمَّا شبهةُ الأمن ، فيُقال فيها :
أولاً : الأمن مطلبٌ شرعيٌّ ، وهو نعمةٌ من نعم الله على عباده ، وامتنَّ الله بها على قريشٍ فقال : ﴿أولم يروا أنَّا جعلنا حرمًا آمنًا﴾﴿الَّذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوفٍ﴾ ، ووعد بها المؤمنين : ﴿الَّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمنُ وهم مهتدون﴾.
ثانيًا : لا يكون الأمن إلاَّ بحفظ الضروريات الخمس التي اجتمعت عليها الأديانُ ، وأهمُّ هذه الضروريَّات وأولاها حفظ الدينِ ، فليس لأحدٍ إغفال الأمن الديني عند الحديث عن الأمن ، فمتى لم يأمن الإنسان على دينِه ، لم يكن آمنًا ولم يكن ما هو فيه أمنًا.
ثالثًا : لا يمكن تحصيل الأمن بغير الطرق الشرعيَّة ، فقد جعل الله الأمن للَّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ ، فمن أراد أن يحصِّل الأمن بغير الإيمان فقد ضلَّ السبيل ، فضلاً عمّن يطالب بترك الإيمان لأجل الأمنِ.
رابعًا : الأمن نعمةٌ من نعم الله الدنيويَّة ، ومثله العافية والسلامة من الآفات والأدواء ، ولو فرض تعارض الأمنِ مع شيءٍ من الواجبات الشرعية وجب تقديم الواجب الشرعيِّ ، كما أنَّ الجهاد لا يسقط لاحتمال الجراحات فيه ، ولا شكَّ أنَّ الجراحة من فقدان نعمة السلامة والعافية البدنيَّة ، والاحتجاج بالأمن والمحافظة عليه من طريقة مشركي قريشٍ ﴿وقالوا إن نتَّبع الهُدى معك نُتخطَّفْ من أرضِنا أولم نمكّن لهم حرمًا آمنًا يُجبى إليه ثمرات كلِّ شيءٍ رزقًا من لدنّا ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون﴾ وأتبعَ سبحانه هذه الآية بقوله : ﴿وكم أهلكنا من قريةٍ بطِرت معيشتَها فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدِهم إلاّ قليلاً وكُنَّا نحنُ الوارثينَ﴾.
وقال سُبحانه : ﴿والفتنةُ أشدُّ من القتلِ﴾ مع كون القتلِ من أكبر صور ذهاب الأمنِ ، ولكنَّ الفتنة التي هي الشركُ ومنه الحكم بغير ما أنزل الله أكبرُ منه ، والعاقل فضلاً عن العالم يعلم أنَّ أدنى المفسدتين ترتكب لدفع الأعلى ، خاصةً وقد نصَّ على ترجيح إحداهما على الأخرى.
ولا بدَّ للإنسان من المرور بالخوف كما قال تعالى : ﴿ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين﴾ وإذا بُعث الرسل إلى أُممهم كان أمام من آمن منهم البلاءُ والامتحان يعقبهما اليُسر والفرج ، وأمام من لم يُؤمن العذاب والبلاء ، يعقبه خزي الآخرة ولعذاب الآخرة أخزى.
بل إنَّ ما يشتكيه كثيرٌ اليوم من ذهاب الأمن إذا استجابوا لله والرسول ، وموازنتهم بين الأخذ بفريضة الجهاد ، والركون إلى الدعة والأمن ، هو عين الابتلاء المذكور ، فمن يُبتلون بالخوف لا يكون لابتلائهم معنىً إن لم يكن الأمن متخايلاً لهم في طريق الضلالة إن هم سلكوه.
وقد ذاق الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخو

صقر 55
23 Dec 2003, 04:51 PM
وقد ذاق الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوف مرارًا ، حتى كان من أخبارهم في أحد والخندق وغيرها ما كان ، وثبتوا وصبروا لعلمهم بأمر الله وحكمه ، وعاقبة الاستجابة له والامتثال لأمره.
ولمَّا نوزع أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه في إخراج الجيوش من المدينة ، وبقاء المدينة بلا حاميةٍ تحميها ، قال قولته المشهورة : والله لو أخذت الكلاب بأرجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما تركت إنفاذ الجيش ، أو كما قال رضي الله عنه.
خامسًا : ما يُتشدَّق به من الحديث عن واقع الأمن في بلاد الحرمين ، لا نصيب له من الصحَّة في الواقع ، وإن كان من لا يعتمد إلاَّ الإعلام الرسميَّ في مصادره يوشك أن يتوهَّم ذلك ، ولا يمكن أن يكون الأمن في بلدٍ لا يُحكم فيها بشرع الله أبدًا ، بل الحصرُ والعمومُ في قوله تعالى ﴿أولئك لهم الأمنُ﴾ دالٌّ على انحصار الأمن فيهم ، وعلى شمول ذلك لكل الأمن في الدنيا والآخرة.
والواقع في بلاد الحرمين يؤكِّد ذلك ، فالأمن الدينيًُّ مفقودٌ في ظلِّ تعطيل الشريعة وتحكيم القوانين ، ودخول الرشاوى والشفاعات فيما يُطبَّق من الشريعة في المحاكم ، ومع وجود وسائل الإعلام التي تنقل الفجور والفسوق حتى تدخل بها البيوت.
والأمن على الأعراض تتنازعه الذئاب ، ومن نظر في شيءٍ مما يرد على الهيئات ، أبكاه ما يرى وهاله ما يسمع من البلايا التي تحدث ويستمريها كثير من الناس ، ونحن نرى خطوات الطواغيت في الدمج وبطاقة المرأة وتصويرها ، وما يقع من جرائم تحت شعارات بعض الجمعيات النسائية المشبوهة.
والأمن على الأموال وغيره ، وسائر أنواع الأمن مما يكاد يفقد في كثير من المناطق ، ويتناقص في المناطق الأخرى ، ولا يقول أحد إن بلدًا من البلاد زاد فيه الأمن في السنين الأخيرة يومًا واحدًا عما كان عليه قبله ، بل الحال في هذا الجانب على رداءتها تزداد كل يومٍ رداءةً ، نسأل الله أن يُصلح الحال.
ومن أراد أن يعرفَ طرفًا من هذا الباب ، فليسأل من هو قريبٌ من الواقع في الهيئات أو الشُّرط ، حتّى إنَّ كثيرًا من القضايا الكبيرة ، سواءٌ في الجنايات أو في غيرها ، صارت تعدّ قضايا صغيرة ، ولا تُسجَّل أصلاً ، ولا يُعمل على علاجها والنظر فيها.

الباب الخامس : فقه المصالح والمفاسد
يكاد يجتمع المخالفون للمجاهدين والمعترضون عليهم في الاعتماد الكلِّيِّ على المصالح والمفاسد ، والإعراض التامِّ ، أو الحديث باقتضابٍ عن أصول الأدلَّةِ الشرعيَّة ، وقد تقدَّم في الحديث عن (أُغلوطة المحافظة على الواقعِ) أنَّ الواقع الموجود مفسدةٌ قائمةٌ لا تفتأ تزدادُ وتتضاعفُ بمرِّ الأيَّامِ ، فتمام الفقه في الدين القيام على درء هذه المفسدة ، لا لأنَّ المجاهدين رأوا فيه المصلحة ، بل لأنه الأمرُ الشرعيُّ من قبلَ ذلكَ مع تضمّنه للمصالح الظاهرة ، وما لا نعلمه من المصالح الباطنةِ ويعلمه اللهُ مما تضمَّنه الأمر الشرعيُّ.
وأكثر ما دخل منه المنافقون والعصرانيون والعلمانيون في تشويه الدين اليوم والتلاعب به وتحريف نصوصه وتبديل أحكامه باب المصالح والمفاسد ؛ لمَّا رأوا أنَّ الدخول فيه لا يحتاج إلى آلةٍ أو رسوخِ قدمٍ في العلم الشرعيِّ ، وكثيرٌ من الرسميين أو دعاة الصحوة الَّذين قلبوا للمجاهدين ظهر المجنِّ ، يستند استنادًا تامًّا إلى الاستدلال بالمصالح والمفاسد لضعفه العلميِّ ، سواء ضعفه في نفسه ، أو ضعفه في الموقف الَّذي وقفه أعزلَ عن الأدلَّة ، مجرّدًا عن البيِّنة والحجَّة.
ودليل الاستصلاح من أكثر ما تكلَّم فيه أهل العلم من الأدلَّة ، ومن أكثر ما اختلفوا فيه ، ومن أقلِّ الأبواب ضبطًا وتحريرًا في كلام الأصوليِّينَ ، والكلام في تأصيلِ البابِ وتفصيلِه يطول جدًّا ولا يستوعبه هذا المختصر ، ولا يمكن استعراضه في موطنٍ ورد فيه بالتبع ، وإنَّما أُنبِّهُ بالقواعدِ التسع التي ذكرتُها في رسالة : "انتقاض الاعتراض على تفجيرات الرياض" ، وأعيدُها هنا وإن كانت كُتبت أمثلةً لا على جهة الحصر:

أولاً : أنَّ المفسدة التي ثبت الحكم مع وجودها بدليلٍ (من نصٍّ أو تقريرٍ أو إجماع أو قياسٍ) غير معتبرة.
ثانـيًا : أنَّ المفسدة التي تُلغِي الحكم ، هي الخارجة عن المعتاد في مثلِه ، الزائدة عن المفسدة اللازمة لأصله.
ثالـثًا : أنَّ المفسدة التي يُفضي اعتبارها إلى تعطيل شعيرةٍ من شعائر الدين لاغيةٌ.
رابـعًا : أنَّ الضرر الخاص يحتمل لدفع الضرر العام.
خامسًا : أنَّ النَّاظر في المصالح والمفاسد في أمر يكون نظره فيه لكل من يناله هذا الأمر من المسلمين.
سادسًا : أنَّ ترك أصول الدِّين ووقوع الشِّرك أعظم المفاسد على الإطلاق.
سابعًا : أنَّ تقدير المفسدة في أمرٍ ، يكون لأهل العلم الشَّرعيِّ والمعرفة الدنيويِّة به.
ثامـنًا : أنَّ اجتهاد الأمير في تقدير المصالح والمفاسد ما لم يكن مفسدةً محضةً ، مقدَّمٌ على غيره.
تاسعًا : أنَّ النَّاظر في المصالح والمفاسد يُحاسب على ما كانت أماراته ظاهرةً وقت نظره ، لا على ما وقع في نفسِ الأمرِ ، إذ لا يعلم الغيبَ إلاَّ الله ، وقد قدَّر النّبي صلى الله عليه وسلم أمورًا من أمر الجهاد وكذا من بعده من المجاهدين ، فوقعت على غير ما ظنَّ وقدَّر.

أولاً : أنَّ المفسدة التي ثبت الحكم مع وجودها بدليلٍ (من نصٍّ أو تقريرٍ أو إجماع أو قياسٍ) غير معتبرة.
فأمَّا القاعدةُ الأولى ، فتُخرج إيرادَ من يُورد وجود مفسدةٍ في الجهاد مع العلم بأنَّ هذه المفسدة بعينها كانت موجودةً زمن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، كإيراد من يُورِدُ ذهاب الطَّاقات الدعويَّة ، ونحوه ويقول : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، وقد كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُخرج في الجهاد كلَّ أحدٍ دون تفريقٍ ، وكذا الصَّحابة حتّى قُتل في حرب مسيلمة مئاتٌ من القُرّاء ، وهذه الحُجَّة باطلةٌ بوجود المفسدة المذكورة زمن النّبي صلى الله عليه وسلم دون أن يُعطّل الحكم لها ، وبالنّصِّ على بطلانها ، والرد عليها في الآيات : "قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت" ، "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم.
كما تُخرج إيرادَ من يُورد جرَّ العدوِّ إلى بلاد المسلمين ، لوجود ذلك زمن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، حين بادأ قريشًا بالقتال ، وجاؤوا للمدينة في غزوة بدرٍ ، وأحدٍ.
وتُخرج أيضًا : من يُورد ذهاب الأمنِ ، وزعزعة البلاد ، فإنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق أخرج الجيوش ، وقال : والله لو جرّت الكلاب أرجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما تركت إخراج الجيوش ، أو كما قال رضي الله عنه ، مع أنَّه إن كان ملزمًا بإخراج جيش أسامة بالنّصِّ ، فإنَّ قتال المرتدِّين ليسوا كذلك ، مع علمه بأنَّ بعض الأعراب حول المدينةِ كانوا يتربّصون.

ثانيًا : أنَّ المفسدة التي تُلغِي الحكم ، هي الخارجة عن المعتاد في مثلِه ، الزائدة عن المفسدة اللازمة لأصله.
وأمَّا القاعدة الثانيَّة ، فلأنَّ من الأحكام ما بُني على نوعِ ضررٍ ، فالموتُ إن ترتّب على واجب الأمر المعروف والنهي عن المنكر ، كان ضررًا يسقط به الوجوب ، أمَّا إن ترتّب على القتال فلا ، لأنَّ القتال مبناه على تلف الأنفس والأموال.
كما أنَّ القتال يلزمُ منه ردُّ العدوِّ ، وانتقامه ، ومحاولة النيل من المسلمين ، وحصول شيءٍ من مآربه هذه له ولا محالة ، وقد سبى المشركون في أحدٍ امرأة من المسلمين ، فهذه المفاسد لا يُعطَّل الجهاد لها ، لأنَّها لم تخرج عن المعتاد في مثله ، وهي ملازمةٌ لكل قتال وجهادٍ.
وهذا مطّردٌ في سائر الأحكام ، فالزَّكاة يُدفع فيها المال الكثيرُ ، ولا تكون كثرتُه مسقطةً لها ، ولو أنَّ رجلاً ثريًّا احتاج الماء لطهارة الصَّلاة ، فلم يحصل له إلاَّ بأكثر من ثمن المثل ، لم يجب عليه أن يشتريه وجاز له التيمّم ، وإن كان يدفع في الزَّكاة أضعاف أضعافِ ثمن المال ، وهكذا.

ثالـثًا : أنَّ المفسدة التي يُفضي اعتبارها إلى تعطيل شعيرةٍ من شعائر الدين لاغيةٌ.
وأمَّا القاعدة الثالثة : فإنَّ الاستدلال بالمفسدة على إلغاء حكمٍ من الأحكام ، إن أريد به إلغاؤه لمدةٍ قليلةٍ ، أو في مكانٍ دون مكانٍ ، صحَّ ، بخلاف ما إذا أُريد به تعطيل أصل الحكم ، كما يفعل من يريد تعطيل الجهاد ، فيستدلُّ بشيءٍ من أدلّتهم المعروفة ، والتي لو طُردت لأغلق باب شعيرة الجهاد بالكلِّيَّة.

رابـعًا : أنَّ الضرر الخاص يحتمل لدفع الضرر العام.
والقاعدة الرابعةُ : تفيد احتمال ضرر قتل التُّرس مثلاً لدفع الضرر عن عموم المسلمين ، كما تفيد احتمال وقوع شيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمراتِ في شيءٍ من بلاد الإسلام ، لدفع الضرر عن عامَّة بلاد المسلمين.

خامسًا : أنَّ النَّاظر في المصالح والمفاسد في أمر يكون نظره فيه لكل من يناله هذا الأمر من المسلمين.
والقاعدة الخامسةُ : تردُّ على من يقيس المصالح والمفاسد في بلدٍ من بلاد الإسلام ، ويجزم بترجيح المفسدةِ ، دون أن يكون في نظرِه أصلاً ، ما تحصَّله من مصالح في بلاد المسلمين الأخرى ، فجهاد الكُفَّار يُحقّق مصلحة النكاية التي هي السبيل إلى دفعهم عن بلاد الإسلام ، وكلَّما وسِّع ميدان القتال ازدادت النكاية أضعافًا كثيرةً ، من جهة الخوف والرعب ، ومن جهة تكاليف الأمن المرهقة لاقتصادهم ، ومن جهة توقّعهم للعمليَّات في كلِّ بلدٍ فيه مسلمٌ يخشونه ، ومن جهة تعطُّل مصالحهم التي هي حربٌ لله ورسوله في كل بلد.
ومشروعُ القاعدة مشروعٌ جهاديٌّ عالميٌّ ، محصَّله لمجموع الأمة ، وهؤلاء ينظرون للجبهة الداخليَّة وحدها ، ويُغفلون عند النظر بلاد المسلمين الأخرى ، ولا يلتفتون إليها ، ولا يوردون ذكرها ، ولا هم يسعون في دفع العدوان عنها بما يندفع بمثله ، ولا يحرّضون على ذلك.

سادسًا : أنَّ ترك أصول الدِّين ووقوع الشِّرك أعظم المفاسد على الإطلاق.
والقاعدة السادسة : مهمَّةٌ في الرَّدِّ على من والى الكُفَّار ، أو سوّغ ذلك ، أو اعتذر لمن فعله بحجّة المصلحة ، فإنَّهم لن يحصّلوا مصلحةً أعظم مما فوّتوه من التوحيد ، ولن يتّقوا مفسدةً أعظم مما وقعوا فيه من الشِّرك.
ولا يُورد على هذا لزومُ قتال كل كافرٍ على الفور ، والخروج على كلِّ حاكمٍ مرتدٍّ مهما كانت القوّة والقدرة ، فإنَّ حديثنا عن الموازنة بين فعل الرجل للشرك وركوبه المفسدة ، وبين حفظه للتوحيد وتحصيله المصلحة ، لا عن تأخير إزالة الشِّرك الذي يفعله المشركون.

سابعًا : أنَّ تقدير المفسدة في أمرٍ ، يكون لأهل العلم الشَّرعيِّ والمعرفة الدنيويِّة به.
ومن القاعدة السابعة تعلم أنَّ من لا يعرف جنس المصالح الواقعة في الجهاد ، ولا بصر له به من تجربةٍ أو دراسةٍ ومعرفةٍ تقوم مقام التجربة = لا يمكنه النظر في عين المفسدة هل هي من المعتاد في الجهاد الذي لا يكون جهادٌ بدونه أم هي طارئة وخارجةٌ عن الطَّاقة ، ونحو ذلك.
كما أنَّ من ليس له علمٌ شرعيٌّ ونظرٌ صحيح ، لا يمكنه وإن عرف المفسدة ، أن يُوازن بين المفاسد الدنيويَّة التي تقع والأضرار الدينيَّة ، ونحو ذلك ، وكلٌّ من الجانبين له من الأهمِّيَّة ما يُحرّم على جاهله الحديث في المسألة.

ثامـنًا : أنَّ اجتهاد الأمير في تقدير المصالح والمفاسد ما لم يكن مفسدةً محضةً ، مقدَّمٌ على غيره.
والقاعدة الثَّامنة ، تكون في كلِّ جيشٍ ، كتنظيم القاعدة : يُقدم على عملٍ جهاديٍّ ، فإنَّ آحاد الجيش قد يختلف تقديرهم للمصالح والمفاسدِ ، ولا يمكن أن يُخالف الواحد منهم أميرهُ وقد فعل الأمير ما أمر به ، فنظر نظرًا صحيحًا في المسألةِ ، واختار ما أمرهم به.
والمجاهدون الذين قاموا بهذا العمل المبارك ، ائتمروا بأمر أميرهم ، سواء كان أسامة ، أو من أمَّره عليهم أسامة في الجزيرةِ ، وصدروا عنه ، وليس لهم أن يتركوا الجهاد لتقديرٍ يُقدّره أحدُهم.اهـ من الانتقاض.

والمتعلّلون بالمصالح والمفاسد المحتجّون بها من المتراجعين ، ينظرون في مصالح ويُهملون مصالح ، ويتحاشون مفاسد ويرتكبون مفاسدَ ، فمنها ضربهم المجاهدين والحركات الجهاديَّة ، وتوهينهم من جانبها ، في الحركات الَّتي يُقرُّ أكثر الناس بصحّتها كالجهاد في العراق.
ومنها تقوية الطاغوت المفسد وشدُّ أزرهِ ، حين شعر بالانتصار وتوهَّم أنَّه أمسك بزمام الأمور وما قد يتبع ذلك من طغيانِه وأذيّته للمؤمنين وسدِّه أبوابَ الخير.
ومنها : أنَّهم سهَّلوا للطاغوت التسلّط على من بيده من المجاهدين ، فلو قطع أعناقهم في الصفاة من الغدِ بعد أن أوهَم الناس أنَّهم لا مستند لهم ولا قائل بقولهم ، وأنَّ المؤيدين لهم تراجعوا عن تأييدِهم ، وأعلمُ من أحوال المجاهدين أنَّ الشهادة أحبُّ إلى كلِّ واحدٍ منهم من الحياة ، وأعلمُ من الشريعةِ أنَّ الشهادة لهم أختُ النصر فهما الحُسنيَانِ ، ولكنَّ كون العاقبة للمجاهدين مصلحة ، لا ينفي كون المعين عليهم مرتكبًا مفسدةً ، فالجهة منفكَّةٌ والحكم مختلفٌ في حقِّ كلٍّ.
وقد كان ناصرٌ الفهد يقول : لا أكتب كتابةً يُضرب بها المجاهدون ، وإن رأيتُ منهم خطأً بيّنتُ لهم فيما بيني وبينهم ، وفي هذا بعض النظر ، إلاَّ أنَّ المقصود الَّذي ذهب إليهِ مقصودٌ صحيحٌ ، والحقُّ أنَّ البيان الممنوع في أخطاء المجاهدين هو ما كان فيه تشويهٌ لصورتهم ولمزٌ لهم ، أو ما يُفهم منه البراءةُ منهم ، أمَّا ما كان تخطئة لفعلٍ من أفعال بعض المجاهدين مع حفظ حقوقهم الشرعية وسدّ الباب على المغرضِ فمشروعٌ ، كما يُشرع البيانُ في سائر الأفعالِ والأقوال.
ومن المهمّ التنبيه إلى النقل الَّذي ذكره ناصرٌ الفهد عن ابن القيِّم أنَّه قال : إذا كان الأمر ملتبسًا فلينظر إلى نتيجته ومآله ، واستدلَّ به على تحريم عملية المحيا المباركةِ ، وبقطع النظر عن كون النتائج التي استند إليها أكاذيب من الطواغيت ، فإنَّ القاعدةَ التي ذكرها ابنُ القيّم محلُّها الأمر الملتبسُ المتردّد ، فالنظر في النتيجة فيه قرينةٌ للترجيح بين قولين ، وليس دليلاً مستقلاً يقومُ بحكمٍ من الأحكامِ ، وسأوردُ التنبيهات التي ذكرها هو في التنكيل عند الكلام عن المصالح ، على ما في بعضها من إجمالٍ محتاجٍ إلى التبيين والتفصيل:

تنبيهات في مسألة المصلحة:
الأمر الأول : أن النظر إلى المصلحة يكون عند عدم الدليل الشرعي المعارض.
الأمر الثاني : أن أعظم مصلحة يُنظر إليها مصلحة الحفاظ على الدين.
الأمر الثالث : أن المصالح الشرعيَّة المعتبرة ليست منوطة بأهواء الناس وشهواتهم.
الأمر الرابع : أن الاستدلال بمجرد قاعدة المصالح لا يسوغ.
الأمر الخامس : أن الدليل الشرعي حيث وجد فهناك المصلحة ، وحيث وُجدت المصلحة فقد دل عليها الدليل.انتهى النقل عن التنكيل.


خاتمة :
اعلم رعاك الله ، أنَّا في دار ابتلاءٍ ، وأنَّا من دارِ الابتلاءِ في زمانِ فتنٍ ، يُصبح فيه الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا ، ويُمسي مُؤمنًا ويُصبح كافرًا ، يبيع دينه بعرضٍ من الدُّنيا ، فلا تنفكَّ سائلاً الله الثباتَ متضرّعًا إلى مقلِّب القلوب أن يُثبِّت قلبك على دينه ، واعلم أنَّ من خاف في الدنيا أمن في الآخرة ، ومن أمن في الدنيا خاف في الآخرة.
ومن كان متعلّقًا في دينه بالرجال ، أسرع إلى أودية الضلال ، ومن تمسَّك بالدليل ، هُديَ إلى سواءِ السَّبيلِ ، فلا تحد عن كتاب الله وسنة رسوله ، فإنَّهما الهدى الَّذي وعد الله من اتّبعه أن لا يضلَّ ولا يشقى.
وإذا رأيتَ من يُنازعك في أصول الإسلام ، وينهاك عن الكفر بالطاغوت والجهاد في سبيلِ اللهِ ، ويناديك إلى قومٍ تعلم خيانتهم لله ورسوله ، فإيَّاك وإياه ، ولا تدن إليه ، ولا تدنه إليك ، فإنَّه الداء العضال.
وإذا مضيتَ على هدىً من الله ، وعلى بصيرةٍ من نور الله ، فلا تلتفت إلى الهالكين فإنَّهم كثيرٌ ، ولا يغرنَّك المخذّلون والمرجفون والمعوِّقون عمَّا أمرك الله به.
واعلم أنَّك ولدتَ وحدَك ، وتموتُ وحدَك ، وتبعث وحدك ، وتحاسب وحدك ، ولن يحاسب معك من اتبعته وقلدته ، أو تركتَ أمر الله لرغبته وهواه ، فمثِّل موقفك يوم الحساب ، واعمل له اليوم.
وأنت ترى اليوم تخذيل المخذِّلين ، وإرجاف المرجفين ، وتشكيك المشكِّكين فيما أبصره الأعمى من عمالة طواغيت الجزيرة للصليبيين واليهود ، وكفرهم بالله ومحاربتهم دينه ، وفي أصول الإسلام التي لا مراء فيها من الجهاد في سبيل الله الذي لا يشك في وجوبه في هذه الأحوال التي نعيشها إلاَّ من طمس الله على بصيرته ، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
ومتى علمت الهدى فعض عليه بالنواجذ ، ولا يصرفك عنه صارف أو يشغلك شاغل ، واسأل الله الثبات عليه ، ومتى وجدت نفسك في سبيل من الهدى ترى أكثر الناس لم يوفّق إليه ، فلا تغترّ باختيارك وتظنّ أنّك مصطفى من الله منتخبٌ لهذا المنصب ، وأنَّ اختيارك له وتوفيقك خاتمٌ لك بخيري الدنيا والآخرة ، فالله يمتحن ويختار ، وكم رأينا ممن سلك الطريق ولم يبلغ غايته ، وعرف الحقّ وصُرف دون اتباعه ، أو اتبعه ولم يرزق الثبات عليه.
نسأل الله الثبات على الحق والهدى ، وأن يُرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، والله أعلم ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

وكتبه عبد الله بن ناصر الرشيد صبيحة الرابع من شوال عام أربعة وعشرين وأربعمائة وألف.
وتمت مراجعته وتحريره يوم الحادي والعشرين من الشهر.

الوقفة السابعة: السجن جنات ونار

لأبي محمد المقدسي فك الله أسره ونصره على عدوِّه

السجن بلاء إما أن يُثمر أو يَكسر أو يُعكر..

هذه المقولة نردّدها نحن خريجو السجون كما يحلوا للبعض تسميتنا وهي مقولة تكرّست من مشاهداتنا في السجون ، ولذلك فهي تصف حقيقة السجن وآثاره المتباينة على من يدخلونه ويعيشون في أقبيته وبين قضبانه ويمكثون في زنازينه ويعايشون ساحات تعذيبه.

ومن لم يعايش ذلك ويعرفه عن قرب فقد يعجب أو يفاجأ بما يصدر عن كثير من رواد السجون من تقلبات أو تصريحات..

أما من عايشه وذاق ويلات بلائه وصنوف الأذى وفنون التعذيب في ساحاته فربما تروّى وتريّث قبل أن يطلق أحكامه على بعض أهله إن بدرت منهم بعض التصريحات العكرة أو حتى المنكسرة ، ويتريّث في متابعة فتاويهم المناقضة لمنهجهم والتي قد تصدر تحت الإكراه..

فالسجين قاصر الأهلية لمظنة تعرضه للضغظ والإكراه ؛ ولذلك لا يحل أن يحمل المسؤولية الكاملة عن أقواله حتى يخرج من الأسر والقيد فيبين عن أقواله مختاراً دون أي ضغط أو إكراه ؛ ويتأكد ذلك في مشايخ التيار الجهادي لضراوة عداوة الطواغيت لهم وشدة ضغطهم عليهم.. فبدهي أن شدة عداوتهم لمن جرّد سيفه في وجوههم أو حرّض على ذلك ليست كعداوتهم لغيره..

ولذلك نصحنا كل من زارنا وراجعنا بما صدر عن الشيخ الخضير والشيخ ناصر الفهد وأمثالهم من المشايخ بعدم الإغترار بما صدر عنهم من الفتاوى أو التراجعات في الأسر أولا ، والتريث ثانيا وعدم إطالة ألسنتهم في أعراض هؤلاء المشايخ ، والدعاء لهم بأن ينجيهم الله من كيد الطواغيت والتريث إلى أن يفك الله أسرهم...

ولذلك كففنا ألسنتنا عن قيادات الجماعة الإسلامية في مصر لما خرج عنهم ما خرج من تراجعات في السجون تحت مسمى المراجعات ولازلنا إلى اليوم نتحفظ في كلامنا على من لا زال منهم في الأسر ونحفظ لهم سابقة دعوتهم وجهادهم وبلائهم في الله ، بخلاف من قد خرجوا أو كانوا بالخارج أصلاً فقد ساءنا إخلاد بعضهم إلى الأرض وما نسب إليهم من انتكاسات كما ساءنا جداً هجومهم على إخواننا المجاهدين في القاعدة ومبادرتهم بالتبري منهم ، ودعوتهم إلى التوبة مما يقومون به من عمليات جهادية ؛ وكأنهم قد اقترفوا منكراً من الفعل وزوراً ؛ معتمدين في التشنيع عليهم بدعاوى قتلهم للمسلمين واستهدافهم لمكة والمعتمرين ؛ على المعلومات التي تعلنها الحكومات الكافرة ويروجها إعلامها الخبيث , مع أنهم أنفسهم قد جربوا كذب هذه الحكومات وإعلامها وقد اكتووا بناره من قبل &#33;&#33; وإلا فهل يصدق مسلم عاقل أن مجاهدي القاعدة وأمثالهم من المجاهدين يمكن أن يستهدفوا المسلمين سواء كانوا في الرياض أو جدة أو غيرها ؛ فضلاً عن استهداف المعتمرين في مكة البلد الحرام ؟&#33; اللهم إلا إذا كانوا يعدََّون عملاء السي آي إيه والإف بي آي الذين قد طفحت بهم الجزيرة من المسلمين , أو أنهم يقصدون بالمعتمرين الطواغيت الذين يعتمرون لالتقاط صور يروجونها على شعوبهم وللتضييق على المسلمين في مناسكهم...

أعتذر للقارئ عن هذا الاسترسال , وأرجع إلى ما كنا فيه...


نعم السجن قد يثمر ثمرات عظيمة عندما يوفق صاحب الدعوة أو المجاهد في استغلاله في طاعة الله وعبادته وحفظ كتابه وطلب العلم ونشر الدعوة , والاستفادة من تجاربه وتجارب الآخرين ليخرج منه أصلب مراساً وأشد تمسّكاً بدعوته وثباتاً على جهاده ومنهاجه.


وقد يكسر بأن ينقلب المرء على عقبيه فيجعل فتنة الناس كعذاب الله فيبدّل ويغير ويتراجع ويُخلد إلى الأرض بعد أن عرف الحق وأبصره وسار على الدرب وتبيّنه.. فيغدو يُلبس الحق بالباطل وينحاز إلى عدوة أعداء الدين ، وصور ذلك كثيرة ومتنوعة ، نسأل الله العافية والسلامة وحسن الختام...


وقد يُعكّر.. والمعنى أنه قد يحرف المرء عن الجادة بحسب طبيعة المرء ، فإن كان إلى الشدة أميل انحرف به القيد والكبت والتعذيب إلى الغلو ، ومن كيس هؤلاء خرج الفكر السجوني التكفيري الذي كفّر الخلائق بالعموم والمجتمعات بالجملة ، وصار التكفير عندهم لا يتّبع الدليل بل عبارة عن ردود أفعال انتقامية وتشنجية لا تستثني أحداً إلا من كان على طريقتهم واعتقد معتقداتهم بحذافيرها وإن كانت طبيعة السجين إلى اللين أميل انحرف به إلى التجهم والإرجاء العصري أو التفريط والمداهنة وتتبّع الرخص أو قل زلات العلماء وأخطائهم وتبنيها لا عن قناعة وتفهّم واستدلال ؛ بل لمناسبتها لرغباته وتوجهاته التي مال إليها في ضيق السجن ، وبنات أفكاره التي ارتضاها وانحرف إليها عقله المعيشي لشدة القيد...

هذه كلها آفات عايشنا أهلها ، ونجانا الله تعالى بفضله ومنّه وكرمه وإحسانه وتوفيقه وتثبيته وحده ؛ من أهل الإفراط وإفراطهم وأهل التفريط وتفريطهم..

أضف إلى هذا أن فتنة السجن وأذى أعداء الله فيه تتفاوت تبعاً للبلاد المختلفة وضراوة التعذيب فيها ، وتبعاً لمجاهرة صاحب الدعوة بدعوته وعقيدته الحقة ، وتبعاً لمدى قربه من التيار الجهادي الأشد عداوة للطواغيت , وأيضاً تبعاً للمراحل التي يمر بها المعتقل , فأول أيام الاعتقال حيث الحبس الانفرادي والتحقيق المتواصل وساحات التعذيب ومنع الاتصال مع العالم الخارجي , هذه الظروف أشد من ظروف السجين بعد استقرار أمره ونقله إلى السجن العام ، حيث يتيسر اتصاله بالناس...

ومعرفة تفاصيل هذا كله ، وفي أي المراحل والظروف صدر ما صدر عن المعتقل يمكن من خلاله تقدير مصداقيته وقيمته..وعلى كل حال يبقى السجن عموما مظنة للضغط والإكراه فالسجين ما دام في القيد والأسر فهو عرضة لتقلب ظروفه ونقله وتحويله إلى سجن آخر وتعرضه إلى ضغوط مفاجئة ، وغير ذلك من الأحوال التي يجب مراعاتها والنظر فيها عند تمحيص ما يصدر عن السجناء من فتاوى وتصريحات.. ويتأكد ذلك إذا جاءت مناقضة لنهجهم وسيرتهم الأولى..

أذكر هذا لمن لم يعايش السجون وفتنها ليعرف ويتبصر بحال ما يصدر عن السجين فلا يتعجل بالحكم عليه , أو يتضرر بتقلباته في السجن أو تراجعاته إذا كان شيخاً أو متبوعاً , وإن كان الأولى فيمن كان كذلك أن يأخذ بالعزيمة ولو قُطّع ولو حرّق , وأن يختار القتل والأذى والهوان في سبيل صيانة دينه وعدم التلبيس على الأمة ويتأكد ذلك في حق رموز التيار الجهادي في زماننا لأنهم أقل من القليل والناس تنظر إليهم في خضم الملحمة الدائرة بين الإسلام والكفر ويسمعون ما يقولون , ولهم في ذلك قدوة وأسوة بمن سبقوهم كالإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام النابلسي الذي سُلخ جلده ليبدل فتواه في قتال العبيديين المرتدين فلم يفعل حتى قُتل رحمه الله وأمثالهم ممن رفع الله ذكرهم بثباتهم على الحق..

ولا يغفلوا عن قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) وليتذكروا دوماً حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما شكا له بعض أصحابه أذى المشركين في مكة فقال : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها , ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين , ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه , ما يصده ذلك عن دينه... الحديث ) رواه البخاري.

ومع هذا فلا بد من اعتبار ما قدمناه حتى لا يبادر المرء بالطعن في إخوانه المبتلين أو التضرر بتصريحاتهم وفتاواهم التي تصدر من وراء القضبان , بل يتأملها فإن كانت على ما كانوا عليه من الحق من قبل فبها ونعمت وإن تغيّرت إلى الإفراط أو التفريط لم يبادر إلى الثلب والطعن على قائلها حتى يعرف ظروف قوله لها ، وليتريّث حتى يفرج الله عنه , فإن أصر في السعة على ما قاله في القيد فلكل حادث حديث.. وإلا فقد كفى الله المؤمنين القتال وحفظنا أخانا في غيبته ، فالأصل إحسان الظن بالمسلمين فضلاً عن أنصار الدين..

وأخيراً فقد قال تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) فهذه قاعدة من قواعد أهل الإسلام أن الله كتب على نبيه صلى الله عليه وسلم الموت ( إنك ميت وإنهم ميتون ) ولم يُعلّق دينهم بحياته ووجود شخصه بينهم , وإنما علّق قلوبهم به سبحانه الحي الذي لا يموت وبدينه وكتابه الذي لا يغسله الماء , ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فمن تعلق به فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها , وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة لشخص النبي صلى الله عليه وسلم أعز الخلق وأحبهم إلى المسلمين , فغيره من البشر الذين قد تطرؤ عليهم إضافة إلى طوارئ الموت أو القتل ؛ طوارئ الردة والتغيير والتبديل من باب أولى أن لا يعلق المسلم دينه بأشخاصهم , والأصل فينا أهل الإسلام عموماً ودعاة التوحيد وأهل الجهاد على وجه الخصوص عدم التقليد , وعدم قبول قول القائل إلا بدليل شرعي..

قال تعالى لنبيه : ( قل إنما أنذركم بالوحي).

وقال سبحانه : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ).

ودين الله غني عن العالمين : ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد )..

ولو شاء الله لانتصر من أعدائه بغير أنصار ورجال ، ولكن ليبلو بعض الناس ببعض ويتخذ من المؤمنين شهداء..

وهذه الهزّات يتميّز بها أهل الثبات عن أهل الذبذبة والإرجاف..الظانين بالله ظن السوء الذين لا يزيدون الصف إلا خبالاً , فمن كان ينتظر مثل هذه الهنّات ليعلّل بها تخاذله ومفارقته للقافلة وتركه الصف , فأبعده الله وسيزداد الصف ببعده تماسكاً ورصّاً وثباتاً..

( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ).

فمن كان يعبد المشايخ الخضير أو ناصر الفهد أو أبا قتادة أو المقدسي أو غيرهم فإن المشايخ غير معصومين ولا تؤمن عليهم الفتنة , ومن كان يعبد الله فإن دين الله ثابت راسخ معصوم لا يعتريه التبديل ولا التغيير ( إن ربي على صراط مستقيم ) ومن علم الله منه خيراً وصدقاً ثبته وعصمه , ومن علم منه غير ذلك صفى الصفوف ونقاها منه ومن أمثاله بمثل هذه الهزات..

( وإن تتولوْا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ).
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

أنتهى هنا كتاب هَشِيْمُ التَّراجعات
وقفات مع مراجعات الفهد والخضير والخالدي
لمؤلفه : عَبْدُ اللهِ بْنُ نَاصِرٍ الرَّشِيْد
ولنا معه وقفات......... بأذن الله تكون على حلقات في هذا المنتدى المبارك
أخوكم صقر 55
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<