المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرسالة الثانية في التربية للشيخ محمد الدويش



strawberry
29 Aug 2006, 04:04 AM
الرسالة الثانية في التربية للشيخ محمد الدويش


افتقار العمل التربوي للضوابط الشرعية
ثمة اعتبارات عدة تؤكد على أن تحاط الجهود التربوية بسياج ضوابط الشرع، منها:
الاعتبار الأول :التربية عبادة:
التربية عمل شرعي، وعبادة لله عز وجل، فلا بد لها أن تحاط بسياج الشريعة وتضبط بضوابطها، وإن سلامة المقصد وحسن النية ونبل العمل ليست مسوغاً أو مبرراً لتسور السياج الشرعي وتجاوز الضوابط.
وإذا كان الدافع للمربي هو تحصيل الأجر وابتغاء مرضاة الله عز وجل، فهذا لن يتحقق له مع مخالفة أمر الله وتجاوز حدوده }فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{ (الكهف:110).
الاعتبار الثاني:التربية وظيفة شرعية:
التربية شأنها شأن سائر الوظائف الشرعية الأخرى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحكم بين الناس، الجهاد....) فإذا كانت هذه الوظائف لابد من إحاطتها بسياج الضوابط الشرعية، فالتربية كذلك.
ولذلك ذكر أهل العلم آداباً للمحتسب والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي أن يحققها ويرعاها، وذكروا آداباً وأحكاماً للجهاد كالامتناع عن قتل النساء والولدان والرهبان وأهل الصوامع، وذكروا آداباً للقاضي في نظره وتعامله مع الخصوم ونطقه بالقضاء، وفي كتب أدب العالم والمتعلم ذكروا طائفة مما ينبغي أن يرعاه ويتمثله كلٌ من معلم العلم وطالبه.
الاعتبار الثالث:التربية قدوة:
التربية قدوة قبل أن تكون توجيهاً، وعمل قبل أن تكون قولاً، والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله، فحين يجاوز حدود الشرع فكيف سيربي غيره على الورع والتقوى ورعاية حدود الله والمتربي يرى المخالفة الشرعية ممن يربيه ويقتدي به؟
وأثر إخلال المربي بالتزام الضوابط الشرعية في تربيته وعمله لا يقف عند حد العمل التربوي بل يتجاوز ذلك لينتج جيلاً يتهاون بحرمات الله ويتجاوز حدوده ويقصر في أوامره في سائر ميادين حياته.
الاعتبار الرابع:المربي تحت المجهر:
وكما أن المربي يُنظر إليه بعين القدوة فهناك عيون أخرى ترقبه وتنظر إليه، فينظر إليه من الخارج باعتباره واحداً ممن يعمل للإسلام وعمله يمثل السمت والهدي الشرعي، وربما يُنظر إليه بعين تبحث عن الخطأ وتفرح به؛ فتتخذ من أخطائه مدخلاً للنيل من المصلحين، والوقوف في خندق واحد مع أعداء الله، وهو مسلك قديم ورثه هؤلاء عن أولئك الذين طعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام، ناسين أنهم واقعون فيما هو أكبر من ذلك من الصد عن سبيل الله والكفر به والمسجد الحرام { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} (البقرة:217).
وذلك كله يدعو المربي إلى أن يتقي الله ويتحرى الضوابط الشرعية فيما يأتي ويذر.
الاعتبار الخامس:التوفيق بيد الله:
إن التوفيق والنجاح ليس مرده إلى الجهد البشري وحده، بل قبل ذلك كله توفيق الله وعونه وتأييده؛ وهذا التوفيق له أسباب من أعظمها وأهمها رعاية العبد لحرمات الله، وما أحرى أولئك الذين يتجاوزون الحدود الشرعية بالبعد عن توفيقه سبحانه وتأييده، وفي التعقيب على غزوة أحد بيان أن ما أصاب المؤمنين إنما كان بسبب أنفسهم{أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هَـَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:165).
هذه الاعتبارات وغيرها تدعو وتؤكد على ضرورة أن يعنى المربون برعاية الآداب الشرعية، وأن يكون عملهم محاطاً بسياج الضوابط الشرعية.
والمتأمل في الساحة الإسلامية يرى أن هناك تجاوزات عدة في ميدان العمل التربوي للضوابط الشرعية تستوجب الوقوف والمراجعة.
ولعل أهم أسباب هذه التجاوزات ما يلي:
السبب الأول:
ضعف العلم الشرعي وقلة العناية به؛ فكثير من العاملين في الساحة الإسلامية يأخذ العلم الشرعي مرتبة متأخرة ضمن برامجهم، بل إن الأمر تجاوز مجرد إهمال العناية بالعلم الشرعي إلى تهميش دوره والتقليل من شأنه؛ فهو يشغل عن الدعوة إلى الله وهمومها، أو هو شأن الخاصة والمهتمين، أو أن العناية باستراتيجيات الدعوة وقضاياها الفكرية الساخنة أولى وأصدق دلالة على عمق صاحبها!… هذه حجج يواجَهُ بها من يدعو بعض العاملين للإسلام لإعطاء العلم الشرعي دوره اللائق به ضمن برامجهم الدعوية.
ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو أيضاً إلى أن يكون الجانب العلمي هو وحده الهم الأوحد للدعاة، وأن يهمل ما سواه، ولا إلى أن يكون كل جيل الصحوة فقهاء ومحدثين ومجتهدين، ولا أن تنسى الأولويات الدعوية ونعيش في إطار هامشي محدود.
لكننا ندعو إلى أن يأخذ مكانه اللائق به، وأن يكون البناء العلمي من أهم أهداف المربين للشباب اليوم؛ فبدونه يخرج جيل يجيد التقعر والتشدق، ويحسن الخطابة والحديث دون علم شرعي يحميه من الزلل والتجاوزات، ويسلك به منهج النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الدعوة.
وندعو إلى أن يجمع المربون بين الاعتناء بالعلم الشرعي، والتعاطي المنضبط مع الثقافة المعاصرة، والوعي بظروف العصر وأحواله.
السبب الثاني:
الغلو والمبالغة في دور المربي وواجباته وتعظيم ذلك، وهذا يؤدي إلى نقل كثير من المناهي الشرعية إلى دائرة الضرورة؛ إذ يرى المربي أن التربية لا تتم إلا بذلك، فهو بحاجة لمعرفة معلومات دقيقة عمن يربيه، والاطلاع على كوامن في نفسه، وإلى أن يتجاوز الوقوف عند حدود الظاهر...
وحين يعطى هذا الجانب أكثر من حقه فسيشعر المربي أن الضوابط الشرعية ستقف عائقاً دون تأدية أدوار كثيرة فيضطر لتجاوزها، كما يفعل بعض الزعماء حين يجنحون إلى إعلان حالة الطوارئ التي تسمح لهم بقدر من الحرية في تجاوز القوانين التي قد تحد من صلاحياتهم، مع فارق التشبيه.
وعلى أولئك الذين يضخمون حجم المربي ويعطونه هالة ليست له أن يدعموا موقفهم بنص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يؤيد ذلك؛ إذ هو من جملة المسلمين المخاطبين بسائر النصوص الشرعية.
والمربي -مع التقدير لدوره ووظيفته- شأنه شأن القائمين بكثير من الوظائف الشرعية كالتعليم والاحتساب، وقد اعتنى أهل العلم قديماً وحديثاً ببيان ضوابط عمل هؤلاء وحدود مسؤوليتهم، دون أن يعتقدوا أن خصوصية مهمتهم عامل في تجاوز الضوابط الشرعية.
ومع أهمية الجهاد وجواز الكذب فيه على الأعداء، إلا أنه مهما كانت المصالح فلا يجوز الغدر ولا الخيانة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي من يؤمره في الجهاد بمراعاة الأدب الشرعي؛ فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال:"اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً… وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنـزلهم على حكم الله فلا تنـزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"( رواه مسلم (1731).
السبب الثالث:
ضعف الورع والانضباط الشرعي، وهو باب بلي به كثير من الناس في هذا الزمان، ومن يضعف ورعه ويرق دينه ربما تجرأ على ما يعلم علم اليقين أنه محرم، أو تهاون فيما هو في دائرة المشتبهات، أو غلبه هواه.
وامتد أثر ذلك إلى بعض الصالحين فغلب عليهم التهاون وقلة الورع في حياتهم الخاصة، ومن ثم بدا أثره في أعمالهم وجهودهم الدعوية، بل بعضهم يرفض مبدأ النقاش في هذه القضايا من أساسه.
السبب الرابع:
الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص واستحضار النية واستشعار العبودية لله تعالى في هذه الأعمال، وحين يغيب هذا الأمر تسيطر الحسابات البشرية المادية، ويغفل المرء عظمة قدرة الله تبارك وتعالى، والتي من أعظم نتائجها وآثارها التسليم والتفويض له، والشعور بأن العمل مالم يبارك الله فيه ويكتب التوفيق لصاحبه فهو إلى بوار وهلاك.
ولا نعني أن يهمل الدعاة إلى الله الأخذ بهذه الأسباب فهي مما لابد منه، لكنها ينبغي أن لا تنسينا استحضار النية والعبادة في هذه الأعمال.
السبب الخامس:
قلة العناية بالمراجعة والمحاسبة؛ إذ هي توقف المرء على مدى تقصيره، وعلى جوانب الخلل في عمله، ولا يسوغ أن يكون الاعتياد على عمل وإرثه عن السابقين حائلاً ومانعاً عن المراجعة والمحاسبة.
وقد يسمع المربي النقد لبعض أوضاعه، والحديث عن بعض التجاوزات الشرعية التي يقع فيها، فتحول نظرته لنبل عمله وسلامة مقصده، أو أنه ورث هذا العمل عن من يحسن الظن بهم ويثق بمسلكهم عن الاقتناع بخطأ مسلكه.
أو أن يكون النقد صادراً ممن لا يرعى فيه الأدب الشرعي، أو من أهل الإثارة واللغط على المصلحين، والمؤمن يقبل الحق ممن جاء به ولو ساءت نيته أو أساء الأدب في عرضه.
الصورة الأولى:
الاتكاء والاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة دون النظر للنصوص الخاصة في المسألة، والشريعة باب واحد لا يمكن أن تتناقض أو تضطرب، والقواعد العامة للشرع إنما تفهم في إطار سائر النصوص، وتسليط الأفهام البشرية عليها يؤدي إلى فوضى واستهانة بحدود الله.
ومن أهم هذه القواعد مراعاة المصلحة، إذ كثيرٌ من المخالفات العظام في الساحة الإسلامية تجرأ عليها أصحابها باسم المصلحة، وهو المنهج نفسه الذي يسلكه بعض علماء السوء وأهل الأهواء في تبرير مواقف العلية من الناس، مع اختلاف الدوافع.
إن جلب المصلحة ودرء المفسدة قاعدة شرعية عظيمة لا جدال فيها ولا نقاش لكنها يجب أن تكون ضمن ضوابط من أهمها أن لا تخالف نصاً أو حكماً شرعياً، وإلا كانت مصلحة ملغاة.
الصورة الثانية: عدم وضوح قضية الظاهر والباطن:
من القواعد الشرعية أخذ الناس بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك، وما ورد في الشرع من النهي عن التجسس والتطلع داخل ضمن هذه القاعدة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :"إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" (رواه البخاري (4351) ومسلم (1064).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال:"يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" (رواه الترمذي (2032).
عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته"( رواه أحمد (19277[4/421]) وأبو داود (4880).
وقال أيضاً لمعاوية:"إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم". فقال أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله تعالى بها(رواه أبو داود (4888).
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "من أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه".
وقد نص طائفة من أهل العلم على أن أحكام الشرع مبناها على الظاهر، قال ابن القيم رحمه الله: "فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر بل على الظواهر والسرائر تبع لها، وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر والظواهر تبع لــها"( أعلام الموقعين (1/129).
وقال الشاطبي:"ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منحرفاً حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام والعاديات والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً، والأدلة على صحته كثيرة جداً، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرحة المجرح" (الموافقات (1/171).
ومن صور التجاوز نتيجة غياب هذا المفهوم ما قد يمارسه بعض المربين:من التجسس، والاستماع لحديث غيره دون علمه، والاطلاع على ما يخصه دون إذنه... كل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله تعالى { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ} (الحجرات:12) وقوله صلى الله عليه وسلم:"من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة... " (رواه البخاري (7042).
والشعور بالأمانة والمسؤولية ليس عذراً للمرء أن يتطلع إلى مالا يحل له التطلع إليه، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يطرق أهله ليلاً، معللاً ذلك بقوله:"يتخونهم أو يلتمس عثراتهم" (رواه مسلم (715)، ولا أظن أن مسؤولية المربي وخصوصية دوره تتجاوز مسؤولية الزوج عن أهله.
وتدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى التطلع ومحاولة معرفة ما وراء الظاهر، والدافع لذلك كله حسن؛ فهو يسعى للتربية والإصلاح، ويريد قياس نتاج تربيته، ويخشى أن يغتر بالمظاهر، لكن ذلك كله لا يسوغ أن يكون على حساب الضوابط الشرعية.
ومما يعين المربي على الاقتناع بالوقوف عند حدود الظاهر وتجاوز التطلع، علمه أنه غير مكلف شرعاً بما لا يظهر له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عن نفسه:"إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار.. " (رواه البخاري (6967) ومسلم (1713)، فإذا كان هذا الشأن في الحقوق والأحكام فكيف بما هو دونها من أمور التربية والتوجيه؟
وكذلك فالداعية والمربي ليست مهمته إصلاح الناس وهدايتهم، بل ذلك أمره إلى الله وحده، إنما مهمته دعوتهم والاجتهاد في سلوك أقرب الطرق الموصلة لاستجابتهم، وحين لا يتحقق ذلك فالأمر خارجٌ عن دائرة مسؤوليته، وهاهو محمد صلى الله عليه وسلم لم يستطع هداية عمه، وهاهو نوح مع ابنه، وإبراهيم مع أبيه، ونوح ولوط مع زوجيهما، فوقوع المتربي في المعصية وانحرافه ليس بالضرورة دليلاً على فشل المربي أو تقصيره في مهمته التي تنتهي عند أداء الجهد قدر استطاعته.
وثمة سؤال له أهميته هنا: ذلك أن العبرة بصلاح الباطن، وأن صلاح الظاهر وفساد الباطن باب من أبواب النفاق، فكيف مع ذلك نقف عند حدود الظاهر فقط؟ وكيف لا تكون عناية المربي متجهة إلى الباطن؟
والجواب: أن ثمة فرق بين الدعوة والتربية، وبين التعامل وإجراء الأحكام؛ فالدعوة والتربية يجب أن تتجه إلى إصلاح القلوب، وتنقية السرائر؛ فصلاح الباطن هو الأساس، أما التعامل وإجراء الأحكام فهو على أساس الظواهر، ولا يسوغ للإنسان السعي للتنقيب عن الباطن، وحديثنا ونقدنا إنما هو منصب على دائرة التعامل وإجراء الأحكام، وليس على اعتناء المربي بتوجيه الدعوة لإصلاح الباطن.
ومما يعين المربي على تحقيق الاتزان في هذه القضية إدراك الارتباط بين صلاح الظاهر والباطن، فصلاح الباطن أو فساده لا بد أن يبدو أثره على ظاهر الإنسان، ومن ثم فليس بحاجة إلى التطلع إلى الباطن والتفتيش عنه، وفي المقابل فالأعمال الصالحة الظاهرة لها أثر في صلاح باطن المرء؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصدقة تطهر وتزكي، والصيام طريق لتحقيق التقوى، والذكر تطمئن به القلوب، وهكذا سائر الأعمال الصالحة.
وأولئك الذين يكلفون أنفسهم عناء البحث عن البواطن والتفتيش في الدواخل تبدو لهم مشكلات لا يطيقون حلها، فيعيشون حالة من القلق كان بإمكانهم تجاوزها لو اتبعوا المنهج الشرعي في الوقوف عند حدود الظاهر.
الصورة الثالثة: التهاون بحجة مسائل الاجتهاد:
ثمة قضايا كثيرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية اختلف فيها أهل العلم حلاً وحرمة، ولكل منهم مأخذه ودليله، فهي دائرة ضمن مسائل الاجتهاد.
والأمر في مسائل الاجتهاد واسع، ولا يسوغ في ذلك الإنكار والإغلاظ والتهارج، لكن ذلك قد يشعر بعض المربين أن هذه الأمور ما دامت ضمن مسائل الاجتهاد فالباب فيها مفتوح على مصراعيه دون ضوابط، فيسلك فيها ما يهواه دون أي اعتبار لأمر آخر.
وكون المسألة من مسائل الاجتهاد لا يُسوَّغ أن يتبع فيها المرء ما يحلو له، بل لا بد أن يتحرى ويجتهد في اتباع ما يؤدي إليه الدليل الشرعي -وليس هذا مقام بسط هذه المسألة-.
الصورة الرابعة: إهمال الورع الشرعي الواجب:
ومن ذلك:
أ - ما يتعلق بصحبة الأمرد مثلاً، فقد شدد السلف في ذلك والآثار عنهم يضيق هذا المقام عن حصرها، ومنها:
ما رواه البيهقي في الشعب عن بعض التابعين قال:"كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل" (شعب الإيمان [(5395) 4/358]).
وروى أيضاً عن بعض التابعين:"ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه" (شعب الإيمان [(5396) 4/358]).
وروى عن الحسن بن ذكوان قال:"لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى" (شعب الإيمان [(5397) 4/358]).
وروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال:دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح، فقال:"أخرجوه؛ فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل غلام بضعة عشر شيطاناً" (شعب الإيمان [(5405) 4/360]().
وقال ابن جماعة :"والأولى أن لا يسكنها -المدرسة- وسيم الوجه أو صبي ليس له فيها ولي فطن" (تذكرة السامع والمتكلم (295).
وقد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحة، ولا يسوغ أن يُهمَلوا أو يُنهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا، فَلَمْ يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط، أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس والمفسدين، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد.
ومثل ذلك الحاجة إلى دخول رجال الحسبة للأسواق والمواطن التي تكثر فيها المنكرات، ويتعرضون فيها للنظر المحرم ورؤية المنكرات، وفي ذلك من الأثر على النفس ما فيه، لكن للحاجة أجاز أهل العلم ذلك.
ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها: عدم الخلوة، أو السفر مع الأمرد وحده، ومراعاة المبيت وما يتعلق به، وهي أمور قد يخل بها بعض المربين، مما ينشأ عنه نتائج غير محمودة.
ومن الضوابط المهمة في ذلك: أن يُبعَد من ينشأ منه تقصير وتهاون في هذا الأمر ويلحظ منه ميل للأحداث؛ أن يبعد عن هذه الميادين التي تتطلب اتصالاً مباشراً بهم، وفي الميادين الدعوية الأخرى بديل عن ذلك(وقد يلحق بذلك من تصدر منه تجاوزات لا تليق بأمثاله وإن تاب منها، ففرق بين التوبة التي لا يغلق بابها، وبين).
ب - ومن صور إهمال الورع الشرعي الواجب: التوسع في الوقوع في الأعراض، فقد تدعو طبيعة العمل التربوي للحديث عن قضايا خاصة للمتربين وانتقادهم، وقد يتحدث بعض الأساتذة عن طالب معين بما يكرهه، والأصل في ذلك كله هو المنع والتحريم؛ إذ هو داخل تحت النصوص التي تحرم الغيبة وتشدد فيها، بل تجعل حرمة أعراض المسلمين كحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام، إلا ما كان له حاجة ومصلحة شرعية واضحة.
ومن أخطر هذه الأبواب ما يتعلق بالأعراض، إذ قد يصارح تلميذ أستاذه ومربيه بمشكلة تتعلق بهذا الباب فيتجرأ هذا المربي على الحديث عنها لغيره بما لا ضرورة له.
أما الحاجة للتقويم ووضع الرجل في المكان المناسب فينبغي أن تقدر بقدرها، ومن ذلك ما ذكره بعضهم في ضوابط الصور المستثناة من الغيبة.
وبعد:
فحين نتحدث عن مثل هذه الأخطاء والتجاوزات فيجب أن نعتدل ونتوسط، فلا يسوغ أن تكون مجالاً للتندر والانتقاص للعاملين لله، أو أن تحول إلى معول هدم للصروح التربوية ويسعى إلى القضاء عليها بحجة الانضباط الشرعي.
وندرك أيضاً أن كثيراً ممن يقع في مثل هذه التجاوزات إنما أتي من باب الغفلة، والذهول عن مراعاتها لا من قبل رقة الدين، بل أكثرهم خير وأتقى لله منا.
وندرك المنجزات الرائعة التي قدمها هؤلاء المربون نسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتهم وأن يبارك في جهودهم، ويكلل أعمالهم بالتأييد والنجاح والتوفيق.

نزوف
30 Aug 2006, 03:19 AM
حقيقه قرأت الموضوع كاملاً ووقفت عند حديث عظيم ,, الله المستعان وهو :

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال:يا معشر من قد

أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه

المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله


اللهم إنا نسألك أن لا نكون منهم ,,

جزاكم الله خيراً وبارك بكم على هذا الموضوع ..

strawberry
05 Sep 2006, 01:37 PM
جزاك الله خير الجزاء ونفعنا الله واياك بما نقرا ونسمع