المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقالة في التربية للشيخ محمد الدويش



strawberry
24 Aug 2006, 03:34 AM
مقالة في التربية للشيخ محمد الدويش
المقدمة



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :-


فإن العمل التربوي - على اختلاف مستوياته - ضرورة لا تستغني عنها الأمة الإسلامية، فهو الوسيلة لنقل الأحكام الشرعية من الحيز النظري إلى العمل والتطبيق، ويكفي في بيان علو منـزلة التربية وصف الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه مرب فقال{ هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الأمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} (الجمعة:2).


وقد رأينا اليوم ثمار ونتاج التربية التي تولاها جيل الصحوة المبارك، برغم هذا الواقع السيء للأمة، فخرَّج هذا الجيل نماذج فذة متميزة أعادت الأمل بتحقق مجد الأمة وعزها، وأسهمت في حماية الشباب المسلم من أبواب الفساد وطرقه، وأخذت بيده في مدارج الخير والهداية.

إن هذا الجيل المتميز الذي خرج برغم هذه العواصف والمعوقات، والذي يؤمل أن يكون فرطاً للأمة في حركة التغيير الشاملة التي تسعى إليها وقد بدأت بشائرها تلوح في الأفق، إن هذا الجيل كان نتاج جهد تربوي ضخم، جهد قام عليه أناس يرجون وجه الله والدار الآخرة -نحسبهم كذلك والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً-، ولا يسوغ أن يكون ما فيه من قصور أو ضعف بشري مدعاة للطعن والتثبيط فضلاً عن الاحتقار واستصغار الجهود.

والجهد التربوي جهد لا يطيقه أي إنسان، بل هو جهد في غاية الصعوبة والمشقة، إنه تعامل مع عالم الإنسان هذا العالم الغريب الذي يحوي عديداً من المتغيرات، وتؤثر فيه كثير من العوامل والمؤثرات، ويبقى تعميم التجربة الفردية غير ذي بال، فمتى يجد الباحث في هذا الميدان صورتين متكافئتين؟
وهو جهد يحتاج لمزيد من المعارف والعلوم، ومزيد من القدرات والإمكانات والمواهب، ورصيد من التجارب والخبرات.
ومع ذلك كله يزداد الأمر صعوبة ومشقة حين يكون في مجتمع تتجه معظم وسائل التأثير فيه اتجاهاً مضاداً لما يريد المربي، فالشارع، والسوق، وزملاء المدرسة، ووسائل الإعلام، وربما المنـزل والمدرسة تربي الشاب والفتاة اليوم على خلاف المنهج الشرعي.
إن هذا كله يفرض على من ولاه الله مسؤولية التربية والتوجيه سواء كان أباً أو أماً أو معلماً أن يعنى بأداء هذه الأمانة والرسالة، وألا تتحول هذه الوظيفة إلى عمل آلي مجرد.
وهو يفرض على من آتاه الله علماً وفهماً وتجربة في هذه الميادين أن يسهم في تصحيح المسيرة وتقويمها مصوِّباً لما يراه صواباً من العمل، ومصلحاً لما يرى من خطأ وخلل، ومذكراً بما يُغفل عنه أو ينسى، ومعلماً لما يُجهل.
ومن هذا المنطلق كان للكاتب عناية بطرح الموضوعات والمسائل التربوية من خلال المحاضرة أو الكتابة؛ شعوراً منه بأهمية هذا الأمر ومسيس الحاجة إليه.
وهو حين يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق لا يرى أنه أصبح أستاذاً وموجهاً للمربين، ولا عَلَماً ينبغي أن يصدروا عن رأيه - عياذاً بالله من العجب والاعتداد بالنفس - بل يرى أن كثيراً من القائمين على هذه الثغور والميادين خير منه وأبر وأتقى لله.
وغاية ما في الأمر أنه رأى من نفسه قدرة على تقديم مايفيد بعض المربين فتصدى لطرح ما لديه.
ورغبة في لمِّ شتات ما تفرق من ذلك رأيت جمعه في هذه السلسلة، فما يطرح في المحاضرات المسجلة يُغفل عنه وينسى مع طول المدة، إضافة إلى صعوبة الرجوع إليه، إضافة إلى أن الحديث المسجل يغلب عليه السعي لإيصال فكرة معينة، وتفرض طبيعة الارتجال فيه نوعاً من قلة التحرير والضبط، ويسود فيه التكرار والإعادة.
لذا رغبت في تدوين وكتابة بعض ما سبق طرحه مما يخص المربين، ولما كانت بعض الموضوعات لا تستحق أن تفرد في كتاب مستقل، رأيت أن أصدرها في سلسلة تحوي كل مجموعة منها عدداً من الموضوعات سواء مما سبق طرحه في مقال أو محاضرة أو مما لم يكن كذلك.
وأشعر أن الحديث في المسائل التربوية لن يكون قضايا نهائية محسومة - حاشا ما كان فيه نص من قرآن أو سنة - بل ستكون مساحة الرأي الشخصي واسعة فيها، وتترك التجربة والخبرة الشخصية أثرها الواضح على المتحدث فيها.
والكاتب يأمل بعد ذلك كله من إخوانه ممن يقرؤون ما سطره في هذه الرسائل أن يتواصلوا معه بالنصح والتصويب، والاقتراح والتأييد والتسديد.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون في هذا الجهد ما يفيد، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، ويرزقنا فيه السداد والإصابة، وأن يمن علينا بصلاح أبنائنا وذرياتنا؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،،
محمد بن عبدالله الدويش
ص.ب / 52960 الرياض / 11573





الرياض 21/5/1421هـ


من صفات المربي



من البدهيات المقررة لدى الناس أجمع أنه لابد لكل وظيفة وعمل يقوم به الإنسان من إعداد وتهيئة، فالبناء لا يمكن أن يقوم به إلا متخصص، والصيانة لأعمال المنـزل، أو السيارة لا يمكن أن تتم إلا على يد من يعرف هذا العمل ويدرك أصوله، فكيف ببناء الإنسان وإعداده؟


والتربية عملية مهمة وصعبة، إنها إعداد للإنسان وغرس للقيم والمعاني، وهي وسيلة لإزالة الرواسب السيئة التي ترسخت لدى الإنسان بفعل عوامل ومؤثرات شتى.


إنها تعامل مع عالم الإنسان، العالم الغريب بأحواله ومشاعره وعواطفه وسائر أموره.

إن من يتعامل مع غير الإنسان يتعامل مع آلة صماء، أو حتى كائن حي يمكن السيطرة عليه وترويضه، أما التعامل مع الإنسان فهو أمر عسير؛ إنه التعامل مع الند والقرين، فإذا كانت التربية كذلك فلا يمكن ولا يسوغ أن تتاح لكل إنسان، بل وليس حمل المفاهيم الصحيحة، والخلفية العلمية والقدرة على الحديث والحوار، ليس ذلك وحده كاف في أن يتأهل الشخص للتربية.

ومن ثم يأتي الحديث عن صفات المربي وتحديد هذه الصفات لأمور عدة:
فالأمر الأول: أن هذا يسهم في وضع ضوابط ومعايير يمكن أن يختار المربون على أساسها؛ فلا يتولى التربية إلا من يملك هذه الصفات ويتمثلها؛ فليست الأقدمية وطول الخبرة، ولا المؤهل العلمي وحده كافياً في تأهل الشخص للتربية.
الأمر الثاني: أن تكون منطلقاً لتربية وتوجيه من يُعدُّون للتربية، بحيث يُسعى إلى تحقيق وتكوين هذه الصفات لديهم؛ فالمربون ليسوا هم الأفراد الذين يحفظون كماً من المعلومات أكثر من غيرهم، ولا أفراداً يجيدون الحديث أكثر من الآخرين، إنهم القادرون على أداء تلك المهمة العالية: مهمة بناء النفوس وإعدادها.
الأمر الثالث: أن ذلك يقود المربين إلى مراجعة أنفسهم على ضوئها حتى يزداد عطاؤهم وترتفع قدرتهم ويعظم أثرهم ونتاجهم بإذن الله.
الأمر الرابع: أن هناك مفاهيم واقتناعات غير صحيحة ترسخت اليوم عن العمل التربوي لدى طائفة من جيل الصحوة، ومنها:
أ - اعتقاد أن كل الناس يجيدون التربية، وأن من استكمل مرحلة معينة في البناء التربوي وحصل قدراً من العلم الشرعي والمفاهيم فهو مؤهل لتربية غيره، ولو لم يكن يملك تلك الصفات الشخصية التي تؤهله لذلك.
ب - اعتقاد أن الميدان التربوي هو وحده أفضل الميادين، وأنه ميدان الناجحين، وأن الفشل فيه دليل على ضعف تربية صاحبه أو ضعف قدراته .
ومع الإيمان بأهمية هذا الميدان فليس هو الميدان الوحيد، وقد يفشل فيه من ينجح فيما سواه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تفاوت أصحابه وتباين قدراتهم، ومع ذلك لم يكن هذا مدعاة لانتقاص ما امتاز به فرد على آخر.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"( رواه أحمد (12493) 3/183 والترمذي (3790) وابن ماجه (154).
وكتب عبدالله ‏القمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل فكتب إليه مالك رحمه الله: " إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، ‏وآخر فتح له في الصدقة‏ ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد . فنشر العلم أفضل أعمال البر ، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر".
فلابد أن نملك الجرأة التي نواجه بها أنفسنا حين نرى أنها لا تصلح لهذا الميدان فننأى بها عنه، وأن نملك الجرأة التي تدفعنا لمصارحة من نراه غير مؤهل لذلك.
ومع أهمية الحديث عن صفات المربي فإن السعي لاستجماعها يطول، ويدعو الكاتب للحديث عن بدهياتٍ وقتُ المربي أثمن من أن يقرأها، خاصة أن كثيراً من المخاطبين بهذا الخطاب على قدر من العلم والوعي، ومن ثم رأيت الاقتصار على بعض الصفات التي أحسب أن هناك من القراء من يحتاج للتنبيه عليها، لكونها لم تخطر بباله، أو أنها قد خطرت لكنها تحتاج للوقوف عند بعض جوانبها.
لذا فهذه الصفات هي أهم الصفات التي يرى الكاتب أن المربي يحتاج إلى أن يُحَدَّث عنها، لا الصفات التي يجب أن يتحلى بها.
1 - العلم:
والعلم الذي يحتاجه المربي يشمل جوانب عدة، منها:
أ - العلم الشرعي: فالتربية في الإسلام إعداد للمرء للعبودية لله تبارك وتعالى، وذلك لا يُعرف إلا بالعلم الشرعي، والعلم الشرعي يعطي المرء الوسيلة للإقناع والحوار، ويعطيه القدرة على مراجعة المسائل الشرعية وبحثها، وهو يمنعه من الانزلاق أو الوقوع في وسائل يمنعها الشرع.
والعلم الشرعي الذي يراد من المربي لا يعني بالضرورة أن يكون عالماً أو طالب علم مختص، لكن أن يملك القدرة على البحث والقراءة والإعداد للموضوعات الشرعية، وأن يملك قاعدة مناسبة من العلوم الشرعية، ويبقى بعد ذلك التطلع لمزيد من التحصيل لزيادة رصيده من العلم الشرعي.
ب - الثقافة العامة المناسبة، وإدراكه لما يدور في عصره.
ج - العلم بما يحتاج إليه من الدراسات الإنسانية، كطبيعة المرحلة التي يتعامل معها (أطفال، مراهقين، رجال….)، وطبيعة الإنسان ودوافعه وغرائزه واستعداداته، واطلاعه على عدد من الدراسات التي تخص الفئة التي يتعامل معها.
وهذا أيضاً لا يلزم منه أن يكون مختصاً بعلم النفس أو التربية، لكن أن يملك الأسس العامة، وأن يكون قادراً على فهم الدراسات والبحوث المتخصصة في هذا المجال.
د - المعرفة بالشخص نفسه من حيث قدراته واستعداداته وإمكاناته، ويظهر هذا الأمر لمن يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته لأصحابه.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"(رواه الترمذي (3790) وابن ماجه (154) وأحمد (12493) 3/183)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه"(رواه البخاري (6570).
وأوصى صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر -رضي الله عنه- بوصية تنبيء عن معرفته به، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم"(رواه مسلم (1826).
هـ - المعرفة بالبيئة التي يعيشها المتربي بصفة عامة؛ إذ هي تترك آثارها الواضحة على شخصيته، ومعرفة المربي بها تعينه على التفسير الصحيح لكثير من المواقف التي يراها.
2 - أن يكون أعلى من المتربي:
فالتربية عطاء وإعطاء، وأداء وتلقٍّ، ومن ثم كان لابد أن يكون المربي أعلى ممن يربيه، وليس بالضرورة أعلى سناً - وإن كان عامل السن له أهميته- لكن أن يكون أعلى قدرات وخبرات وإمكانات.
"وتلك حقيقة نفسية تعمل عملها في النفوس، فأنت لكي تتلقى لابد أن تقتنع أنك في موقف المتلقي، وإلا فلو أحسست أنك في الموقف الأعلى فما الذي يدفعك أن تتلقى من شخص بعينه من الناس؟"(منهج التربية الإسلامية (2/44).
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك أعلى صفات البشرية في كل جانب من الجوانب فهو من خير الناس نسباً ومنـزلة، وهو أوسعهم خلقاً فكان أحلم الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس. وهاهم أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ يسجلون هذه الشهادة: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قِبَل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: "لن تراعوا لن تراعوا" وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، في عنقه سيف فقال: "لقد وجدته بحراً أو إنه لبحر"(رواه البخاري (6033) ومسلم (2307).
وهو صلى الله عليه وسلم أتقاهم لله وأعبدهم له عز وجل، كما قال عن نفسه: "قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم" (رواه البخاري (7367).
ولهذا يتفاوت الناس في مدى قدرتهم على التربية، فمعظم الآباء نظراً لفارق السن والخبرة يجيدون تربية أبنائهم، أو بمعنى أدق: يتجاوب معهم أبناؤهم في الصغر لشعورهم بأنهم أعلى، لكن كلما تقدم السن ازداد الأمر صعوبة، وقلَّ أولئك الذين يستجيب لهم أبناؤهم.
ولهذا فمن الناس من تكون طاقته أن يربي أبناءه الصغار، ومنهم من يجيد تربية مجموعة محددة من الناس، ومنهم من تكون أكثر من ذلك، ومنهم من يربي مجتمعاً بأسره، أما الأمة كلها على امتداد الزمان والمكان فاختار الله لها المربي الأول صلى الله عليه وسلم.
3 - أن يملك المربي ما يقدمه:
"وينبغي أن يحس المتلقي ثانياً أن مربيه -بالإضافة إلى أنه أكبر شخصية منه - عنده ما يعطيه، فليس يكفي أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي - وهي البديهية الأولى في عالم التربية - إنما ينبغي أن تكون عنده حصيلة يعطيها الآخرين في صورة تجربة واقعية" (منهج التربية الإسلامية (2/44) .
وتتمثل هذه الحصيلة في جوانب عدة منها:
أ ـ الرصيد العلمي الشرعي وهو أمر له أهميته وسبقت الإشارة إلى ذلك.
ب ـ القدرة على الإجابة على التساؤلات الملحة التي يطرحها المتربون والمتلقون.
ج ـ القدرة العقلية والخبرة العملية التي تعينه على مساعدة من يربيهم على تجاوز مشكلاتهم فيجيد التعامل معها، ويجيد طرح الرأي المناسب لحلها.
وحين يفقد المربي هذا وذاك يشعر المتربون، أنه ليس ثمة ما يدعوهم للارتباط بفلان من الناس، وليس عنده ما يؤهله لأن يتولى تربيتهم.
4 - أن يملك القدرة على العطاء:
"هناك شخصيات كبيرة لا تستطيع أن تعطي، ومن ثم لا تستطيع أن تربي، هو في ذاته شخصية فائقة التكوين، متفوق عقلياً أو روحياً أو نفسياً أو عصبياً أو أخلاقياً… ولكنه لسبب ما لا يستطيع أن يعطي التجربة الواقعية لأنه عزوف عن الناس، لأنه صاحب تجربة فكرية فقط بغير رصيد من التجربة الواقعة، لأنه رجل مثالي حالم، يحلم بالمثل ولا يمارس التطبيق الواقعي، أو لا يحسنه…. ومن الأمثلة المعهودة أن تجد أستاذاً جامعياً ممتازاً في علمه، ممتازاً في خلقه، ممتازاً في محاضرته...ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يربي، ولا أن يُكوِّن جيلاً من التلاميذ بمعنى الحواريين والأتباع" (منهج التربية الإسلامية (2/44-45) .
إنهم كثير أولئك الذين نراهم في المجالس والملتقيات يجيدون الحديث، ويجيدون التنظير والنقاش، وربما يملكون من الخبرة والعلم والمعرفة، لكن ذلك وحده لا يؤهلهم لأن يتولوا التربية، فقد لا يستطيعون العطاء، وكثيراً ما تأسرنا شخصيات أمثال هؤلاء، ونظن أنهم أفضل الطاقات المؤهلة للتربية دون النظر إلى الجوانب الأخرى.
وكونه أيضاً قادراً على الإعطاء لا يكفي بل لابد من أمر آخر ألا وهو:
5 - أن يكون حسن العطاء:
"فمجرد أن يكون لديه ما يعطيه ليس كافياً في شؤون التربية، إنما ينبغي أن يعطيه بطريقة حسنة كذلك، وإلا ضاع الأثر المطلوب أو انقلب إلى الضد حين يعطي المربي ما عنده بطريقة منفرة" (منهج التربية الإسلامية (2/45).


















إن التربية ليست مجرد معلومات أو توجيهات تقال للناس، وليست مجرد أوامر أو نواهي، بل هي عطاء واسع يشمل جوانب النفس شتى، ويتعامل معها في أحوالها وأطوارها المختلفة والمتفاوتة.


ومن ثم فالذي يتولى هذه المهمة لابد أن يملك القدرة على التعامل مع هذا الواقع، وبناء النفس في هذه الأطوار المتفاوتة.


إن البائع الذي يسعى لترويج سلعته يدرك أن مجرد عرضها على الناس للبيع ليس كافياً في ترويجها، فهو يحتاج لحسن عرضها، ويحتاج للحديث عنها مع الناس بالطريقة التي تشعرهم بحاجتهم إليها، وإلى وسائل للدعاية والإعلان….إلخ.

ويتحدث المختصون اليوم عن أساليب لتسويق الأفكار وترويجها، ووسائل للإقناع والتأثير على الناس.

فكيف بالتربية التي هي فوق ذلك كله؟
ولقد تحدث من كتب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طائفة من صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومنها أن يكون: رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه.
وقد يشعر المربي أنه يكفيه إثبات حبه لمن يربيه، ووجود الحب أمر ضروري للتلقي لكن الحب وحده "لا يكفي، فقد تحب طفلك وتحب له الخير، ولكن طريقتك في تقديم الخير إليه تشككه في حبك له، وتوهمه أنك تكرهه"(منهج التربية الإسلامية (2/45).
إن المربي الذي يملك حسن الإعطاء هو الذي يجيد استخدام الأسلوب الأمثل، وأن يحقق لكل مقام مقاله المناسب.
6 - القدرة على القيادة:
والتربية كما أنها إعطاء وتلقٍ، فهي تتضمن جوانب أخرى لها أهميتها، تتمثل في قيادة الناس وإدارتهم، وهي صفة لا يملكها كل الناس، فالناس يستطيعون اتخاذ قرارات إدارية، وقد يستطيع بعضهم إدارة عمل أو مؤسسة، لكن القيادة فوق ذلك كله.
خاصة إذا علمنا أن التلقي والتربية يصعب فرضها على الناس فرضاً، فقد يستطيع العسكري أو السلطان أن يسوق الناس بعصاه، أما المربي فما لم يكن قائداً قادراً على القيادة والإقناع فلن يستطيع تربية الناس.
7 - القدرة على المتابعة:
"فالتربية عملية مستمرة لا يكفي فيها توجيه عابر -مهما كان مخلصاً ومهما كان صواباً في ذاته- إنما يحتاج الأمر إلى المتابعة والتوجيه المستمر" (منهج التربية الإسلامية (2/46-47).
"والشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية، ولو كان فيه كل جميل من الخصال، وليس معنى التوجيه المستمر هو المحاسبة على كل هفوة! فذلك ينفر ولا يربي فالمربي الحكيم يتغاضى أحياناً أو كثيراً عن الهفوة وهو كاره لها، لأنه يدرك أن استمرار التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وحكمة المربي وخبرته هي التي تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي، والوقت الذي يحسن فيه التوجيه، ولكن ينبغي التنبه دائماً من جانب المربي إلى سلوك من يربيه، سواء قرر تنبيهه في هذه المرة أو التغاضي عما يفعل؛ فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبيه شيء آخر أولهما قد يكون مطلوباً بين الحين والحين، أما الثاني فعيب في التربية خطير" (منهج التربية الإسلامية (2/47-48).
8 - القدرة على التقويم:
التقويم لا يفارق التربية ولا تستغني عنه، بل هو لا يفارق أي عمل جاد مستمر، ويحتاج المربي للتقويم حتى:
أ ـ يُقوِّم الأفراد ويحدد قدراتهم ليعطي كل شخص ما يناسبه.
ب ـ يُقوِّم الأفراد بعد تلقيهم للتربية ليقيس مدى ما تلقوه وأثره عليهم.
ج ـ ويُقوِّم الأعمال والبرامج والحلول.
د ـ ويُقوِّم المشكلات ليضعها في إطارها وموقعها الصحيح دون مبالغة أو تهوين من شأنها.
والتقويم الذي يحتاجه المربي هنا هو التقويم العلمي الموضوعي الذي ينطلق من أسس محددة موضوعية، لا الانطباع الشخصي لديه تجاه عمل أو فرد ما.
ومن ثم يحتاج المربي إلى أن يتعرف على العوامل والعناصر الموضوعية التي يُقوِّم من خلالها ويعطي كل عامل نسبته ووزنه المناسب.
ثم يحتاج ثانياً إلى أن يملك القدرة على التحقق من وجود هذه المعايير ودرجة ذلك.
والخبرة والتجربة بالإضافة إلى المناقشات الجماعية مع الاطلاع والممارسة، كل ذلك مما يسهم في زيادة قدرة المربي على التقويم.
9 - القدرة على بناء العلاقات الإنسانية:
التلقي فرع عن المحبة، وللعلاقة بين التلقي والمحبة من الاتصال قدر أكبر مما قد نتصور أحياناً، فمن لم يغرس المحبة له في نفوس الطلاب فكثير مما يقوله ستكون نهايته عندما يتلفظ به، ولن يأخذ طريقه نحو القلوب، فضلاً عن أن يتحول إلى رصيد عملي.
وهب أن إنساناً بلغ الغاية في التأثير وقوة المنطق ورصانة الحجة، أتراه يكون أعلم، أو أفصح، أو أكثر تأثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ومع ذلك قال الله سبحانه في شأنه }فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ{ (آل عمران:159). فالنبي صلى الله عليه وسلم مع ما آتاه الله سبحانه من وسائل التأثير، ومع شعور الناس أن الحق معه وحده، مأمور بأن يلين لأصحابه وإلا انفضوا عنه، فكيف بغيره ممن يحمل قائمة طويلة من صفات القصور والنقص؛ فهو حين لا يحظى بقبول تلامذته له سيرون فيه من القصور ما يبررون به رفضهم وإهمالهم لما يقول؛ بل تفسير نصحه وتوجيهه على غير وجهه.
لذا يؤكد الأستاذ محمد قطب على هذا الارتباط فيقول:"والضمان لذلك هو الحب… فما لم يشعر المتلقي أن مربيه يحبه، ويحب له الخير، فلن يقبل على التلقي منه، ولو أيقن أن عنده الخير كله بل لو أيقن أنه لن يجد الخير إلا عنده؛ وأي خير يمكن أن يتم بغير حب" (منهج التربية الإسلامية ( 2 /45 ).
ولأجل ذلك عني من كتب في أدب العالم والمتعلم من الأسبقين بالتأكيد على حسن الخلق وجميل الرعاية، فيوصي ابن جماعة المربي بذلك فيقول: "وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب، ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه، والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه نقص لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسيء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة فلا حاجة لصريح العبارة، وإن لم يفهم إلا بصريحها أتى بها وراعى التدريج في التلطف" (تذكرة السامع والمتكلم ( 50 ).
ويكرر الغزالي الوصية نفسها فيرى أن من آداب المعلم:"أن يزجر المتعلم عن سيء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ"(إحياء علوم الدين ( 1/57 ).
ويؤكد الإمام النووي هذا المعنى فيقول:"ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه، والصبر على جفائه وسوء أدبه، ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرضٌ للنقائص"(المجموع شرح المهذب (1/30) .
10 - الاستقرار النفسي:
حيث إن المربي يتعامل مع الناس، ومع الطبيعة الإنسانية المعقدة فلابد أن يملك قدراً من الاستقرار النفسي، فلا يكون متقلب المزاج سريع التغير مضطرباً، أو يعاني من حدة انفعالات أو سوء ظن وحساسية مفرطة، فضلاً عن كونه غير مصاب بمرض نفسي.
إن المتربي بحاجة إلى أن يتعامل مع إنسان مستقر، بحاجة إلى أن يتعامل مع شخص يتوقع ويتنبأ بتصرفاته، أما حين لا يكون مربيه كذلك فلن يعيش هذا الفرد في جو مريح، وسوف يسيطر عليه الخوف والقلق.
11 - التوازن الاتصالي:
إن التربية ليست عملاً من طرف واحد، وليست تعاملاً مع آلة صماء، ومما لا يقبل أن يحول المربي المتلقي إلى شخص مهمته أن يحسن الاستماع والاستقبال فحسب، بل لابد من قدر من التوازن الاتصالي فالتربية عملية اتصال من طرفين لا من طرف واحد.
ومن ثم فلابد من العناية بحسن الخطاب والحوار مع المتربي، وحسن الإنصات والاستماع له، وكذلك كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم جامعاً بين الأمرين.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ -والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم- فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: يا ابن عبدالمطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"قد أجبتك" فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال: "سل عما بدا لك" فقال: أسألك بربك ورب من قبلك أالله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ فقال : "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ فقال : "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"اللهم نعم"، فقال: الرجل آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام ابن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر (رواه البخاري (63).
فانظر إلى عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالإنصات والاستماع لهذا الرجل، ومثل ذلك استماعه صلى الله عليه وسلم للشاب الذي جاء يستأذن بالزنا.
وكما كان يعتني صلى الله عليه وسلم بالاستماع والإنصات، فقد كان يعتني بالخطاب والحديث، فكان حسن الحديث، تصفه عائشة -رضي الله عنها- بقولها : "لم يكن يسرد الحديث كسردكم" (رواه البخاري (3568) وفي لفظ "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بينه فصل يحفظه من جلس إليه" (رواه الترمذي (3639) وانظر في الحديث حول التوازن الاتصالي علم النفس الدعوي (304-307).
12 - السمت والهدي الحسن:
إن المربي قدوة بأعماله وسلوكه قبل أن يكون موجهاً للناس بقوله، والفعل والهدي يترك أثراً على النفس أعظم من أثر القول؛ وفي حديث جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه- ما يؤيد هذا المعنى، فعنه -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: "}يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ{ إلى آخر الآية }إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً{ والآية التي في الحشر }اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله{ تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره حتى قال: "ولو بشق تمرة" قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (رواه مسلم (1017).
فالناس قد سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وتأكيده، لكنهم لما رأوا هذا الموقف من هذا الرجل تتابعوا في الإنفاق.
ولهذا عني السلف بالتأكيد على جانب الهدي والسمت الحسن لدى المربي؛ روى الرامهرمزي بإسناده عن أبي العالية قال:"كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء الصلاة لم نأخذ عنه"( المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للقاضي الحسن بن عبدالرحمن الرامهرمزي (409).
وقال محمد بن سيرين: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"( رواه مسلم في مقدمة صحيحه. والخطيب في الكفاية 121. والرامهرمزي في المحدث الفاصل(437).
وقال حماد بن زيد: دخلنا على أنس بن سيرين في مرضه فقال:"اتقوا الله يا معشر الشباب، وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث فإنها دينكم" (رواه الخطيب في الكفاية (122). والرامهرمزي في المحدث الفاصل (440).
وقال الإمام مالك رحمه الله:"إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تسأل يوم القيامة فانظر عن من تأخذه" (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (444).
وقال مجالد:" لا يؤخذ الدين إلا عن أهل الدين" (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (445).
فما أحوج المربين اليوم إلى تحقيق السمت الحسن والهدي الصالح في نفوسهم.
13- الاعتدال والاتزان:
سنة الله تبارك وتعالى في خلقه قائمة على الاعتدال والتوازن، وهي سنة مطردة لا يشذ عنها شيء؛ فالشمس والنجوم والأفلاك والأرض بما فيها قائمة على أساس ذلك، وحياة الإنسان الجسمية والعقلية قائمة على أساس هذا الاعتدال والتوازن.
والغلو والشذوذ أمر ممقوت أياً كان مصدره، حتى لو كان دافعه الاستزادة من الخير والاجتهاد في العبادة، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم طائفة ممن شددوا على أنفسهم في العبادة بالاعتدال وإعطاء كل ذي حق حقه.
وكما يبدو الغلو والتشدد في مواقف محددة، فهناك فئة من الناس يصبح الخروج عن الاعتدال سمتاً لهم وصفة ملازمة لتصرفاتهم وأحكامهم.
ويبدو أثر تلك السمة في الأحكام التي يصدرها الشخص على الناس والجهود البشرية؛ فتدور بين الثناء والذم المبالغ فيهما، وفي المواقف التي يتخذها؛ فتتسم بالحسم والقطع في الأمور النسبية التي تحتمل الرأي الآخر.
ومن آثار فقدان الاعتدال لدى المربي:
أ - أن يغرس هذه الصفة لدى طلابه فيربيهم على الغلو والتطرف في التفكير والآراء والمواقف؛ إذ هم لا يسمعون إلا رأياً واحداً يمثل الحق المطلق في كل قضية صغيرة وكبيرة، وكل ما خالف هذا الرأي فهو باطل بكل حال، وما لم يتمثل الاعتدال لدى المربي في صورة واقعية فلن يبقى أثر لما يطرحه من جوانب معرفية ونظرية.
ب - ويبدو ذلك أيضاً في تقويمه لأعماله وبرامجه، ولطلابه وتلامذته فيتسم بالتطرف والخروج عن الاعتدال.
ج - عدم القدرة على التعامل المتزن مع تصرفات طلابه وتلامذته؛ فيقف منها موقف المتشنج، وتزداد مساحة ردة الفعل في تعامله مع أخطائهم، أو مع ما يصنفه على أنه أخطاء، ولو لم يرق لذلك.
14 - التفاؤل:
إن الشعور بالنجاح وإمكانية تحقيق نتائج مرضية شرط لابد منه في أي عمل يعمله الإنسان؛ فالتاجر الذي يفقد الأمل في الربح يرى من العبث وإضاعة المال أن ينفق أمواله في التجارة، والكاتب الذي لا ينتظر رواجاً لفكرته وتحقيقاً لأهدافه من نشرها لن يسطر حرفاً…وهكذا سائر العاملين أياً كانت أهدافهم ومشاربهم.
ولما كان الجهد التربوي جهداً مضنياً وشاقاً، ويحتاج لطول نفس وصبر، ونتائجه حين تقاس بالمعايير الكمية تبدو ضئيلة لأول وهلة، أصبح التفاؤل سمة مهمة في من يتصدون للقيام بهذا الجهد.
ويزداد الاقتناع بأهمية هذه السمة حين ندرك أن نتائج التربية لا تبدو آثارها في الرقعة الزمنية المحدودة، وتحتاج إلى فترة قد لا يصل إلى مداها المتسرعون والمتشائمون.
إن هناك فئة من الناس يسيطر عليهم التشاؤم، ويسبق هاجس الفشل قيامهم بأي جهد أو عمل، فالأولى بهؤلاء أن يسلكوا الميادين التي تبدو نتائجها سريعة ومغرية.
إنهم حين يتصدون للتربية فلن تقنعهم النتائج والآثار التي يرونها على تلامذتهم لأنهم يتطلعون لما هو أكبر وأسرع من ذلك، وتسيطر عليهم النظرة للهفوات والأخطاء ليبرهنوا بها على فشل استجابة الناس، أو فشلهم هم في جهدهم وتربيتهم.
كما تبدو تلك الآثار في تفكيرهم وحوارهم وأحكامهم، فيغرسون الروح المتشائمة لدى من يتلقون عنهم، ويفشلوا في إقناع من تحت أيديهم بقدرتهم على النمو وتجاوز الأخطاء.
15 - القدرة على النمو:
قد يملك المربي قدرات ومعارف وخبرات جيدة، لكن هذا وحده لا يكفي؛ فلابد من أن يملك القدرة على النمو، وتبدو هذه الصفة ضرورية للمربي للأمور الآتية:
الأول: أن الحياة متجددة متطورة، فالوعي السياسي الذي يملكه شخص ما يصبح بعد عام أو أعوام قليلة مجرد ذاكرة تاريخية، وقل مثل ذلك في سائر المجالات المتطورة، بل حتى ميدان العلم الشرعي تتجدد فيه أمور عدة، فثمة كتب تطبع حديثاً، وثمة مؤلفون جدد ومحققون ومؤسسات علمية، كل ذلك يحتاج إليه طالب العلم المربي، فضلاً عن المسائل والنوازل المستجدة، وما لم يكن متابعاً قادراً على النمو فسوف تضمر لديه هذه الجوانب.
الثاني: أن تطور مجالات الحياة المتسارع -خاصة في هذا العصر- يترك آثاراً واضحة على المجتمع الذي ينشأ فيه، وما لم يدرك المربي ذلك ويعيه فإنه سيعيش مع جيل غير جيله، وسيضع مرآة أمام عينه مستوردة من الجيل السابق ينظر بها كل ما أمامه.
وما نراه اليوم من إصرار بعض المربين على تكرار تلك الأساليب والبرامج التي عهدوها وتلقوها إنما يمثل صورة من صور التعامل مع الجيل الحاضر بعقلية الجيل السابق.
الثالث: أن زاد المربي محدود لابد أن ينفد، ففي مبدأ الأمر يدرك المتربون على يديه أنه يملك رصيداً هائلاً لا يملكونه، وأنهم يلقون لديه الكثير، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يتناقص تبعاً لما حصلوه منه، حتى يروا أنه لم يعد لديه شيء ذي بال يذكر، وأنهم قد استوعبوا كل ما لديه من خبرات.
الرابع: أن المتربين ينمون ويتطورون، بل هم في موقف يشعرهم بأن المهمة الأساسة لهم هي التلقي، ولابد أن يكون لهم مصادر ذاتية أخرى غير ما يقدمه لهم من يربيهم، ومن ثم فهذا النمو ما لم يقابله نمو من المربي فإنه سيخل بمعادلة التفوق المفترضة، وسيجعل موقفه تجاههم أقل من ذي قبل.
والمربي الناجح الورع، الذي يتقي الله في الأمانة التي حمله الله إياها، والذي يسعى لمصالح تلامذته أكثر من سعيه لبناء المجد الشخصي والهالة الزائفة حول نفسه؛ الذي يكون بهذه الصفة يكون واقعياً ويشخص المشكلة بوضوح، ويسمح لأمثال هؤلاء أن ينتقلوا إلى بديل أفضل.
لكننا اليوم نرى فئاماً من الشباب يصبحون ضحية لطائفة من المربين أصحاب قدرات محدودة، ومع ذلك يتهمون الآخرين بالتمرد وعدم معرفة قدرهم، ويسعون لصنع هالة ضخمة لأنفسهم.
الخامس: أن انشغال المربي بالمهمة التربوية يجعله يشعر بأن الدور الأساس له هو العطاء والتوجيه، وأن مرحلة النمو والتلقي والأخذ قد انتهت وتجاوزها، فما أن يقضي وقتاً في هذا الميدان حتى يرى أن الآخرين قد فاقوه وسبقوه.
وكان السلف يؤكدون على من يتولى التعليم والتوجيه ألا يقف عند هذا الحد، فقد ذكر ابن جماعة من آداب المعلم : "ألا يستنكف عن أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه، بل يكون حريصاً على الفائدة حيث كانت، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، قال سعيد بن جبير: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون" وأنشد بعض العرب:
وليس العمى طول السؤال وإنما **** تمام العمى طول السكوت على الجهل
وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم"( تذكرة السامع والمتكلم (60).
والقدرة على النمو صفة مهمة قد تكون فطرية في النفس، فمن الناس من تؤهله قدراته إلى مستوى معين يقف عنده ويصعب عليه تجاوزه، ومن هنا تأتي مسؤولية أولئك الذين يختارون المربين في مراعاة تحقق هذا الجانب لدى من يؤهلون لتولي التربية.
ومع هذا الأمر الفطري تبقى هناك جوانب عدة تسهم في تحقق هذا النمو لدى المربي، ينبغي للمربين أن يسعوا لتحقيقها في أنفسهم، ومنها:
1- التحصيل الذاتي، من خلال القراءة والمطالعة، والتعامل مع أوعية المعلومات ومصادرها المختلفة، وينبغي أن يكون حازماً مع نفسه ويضع لها برنامجاً لا يخل به، وسيجد من أوقات الفراغ والإجازات، وتقليل الروابط الاجتماعية غير الضرورية، وإعادة تنظيم أوقاته مع طلابه، سيجد من ذلك كله ما يعينه على تحقيق هذا الجانب.
2- العناية بما يقدمه لطلابه من مشاركات ودروس، بحيث يعتني بالإعداد، ولا يقف إعداده على مجرد ما سوف يلقيه ويقدمه لهم، بل يجعل من إعداده لموضوع ما فرصة لاستيعاب أطرافه وما طرح وكتب فيه.
3- اللقاء مع المربين الأعلى منه قدرة، واستشارتهم والاستفادة من خبرتهم والحرص على السماع منهم.
4- اللقاء مع أقرانه بشكل مستمر ودائم؛ فهذا يسهم في تبادل الهموم والخبرات والتجارب، ويسهم في رفع مستوى تفكيره؛ ذلك أنه حين يعيش في أوساط من يربيهم وهم دونه سناً وخبرة، فلابد أن يتأثر باهتماماتهم وخبراتهم، فيسهم حديثه معهم وتلقيه لمشكلاتهم وتساؤلاتهم في حصر تفكيره وهمومه داخل هذه الدائرة، بل يشعر بالتفوق والأستاذية، لكنه حين يعيش مع أقرانه وطبقته فإن ذلك سوف يسهم في تحقيق التوازن لديه في هذا الجانب.
الكمال عزيز:
النقص من صفات البشر ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها، وحين نسعى لاستجماع هذه الصفات في كل من يربي وبالقدر الأمثل فنحن نبحث عن عناصر نادرة لا يمكن أن تفي بجزء من متطلبات الجهد التربوي المنوط بالصحوة اليوم.
لكنها منارات نسعى للتطلع إليها والاقتراب منها، متذكرين أن النقص والقصور سمة بشرية، وأن الكمال عزيز، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
ومتخذ القرار الحصيف الذي يجمع بين الواقعية وبين رعاية الأمانة والمسؤولية تجاه الجيل، لن يجهل أن هناك قدراً من الخلل في الصفات يغتفر ويسعى لعلاجه، ويكون احتماله خير من تعطيل الجهد والطاقات، وأن هناك قدراً لا يمكن اغتفاره.
ونختم حديثنا بالوصية للمربين والعاملين للإسلام بأمر بالغ الأهمية، وبدونه يصبح كل ما يقومون به من عمل وما يبذلونه من جهد غير ذي بال، ألا وهو الإخلاص لله تبارك وتعالى وإرادة وجهه.
ونحن ندرك أن عامة من يتصدون لتربية شباب الصحوة اليوم يدفعهم لذلك حسن النية والرغبة في تحصيل الثواب؛ إذ لانتائج دنيوية ترجى من وراء هذا العمل.
لكن ما نؤكد عليه هو استحضار النية الخالصة، وتذكرها واستشعارها، فهذا بإذن الله علاوة على ما يحقق لصاحبه من الثواب ورضا الله عز وجل، فهو يزيد الهمة ويعلي الحماسة للعمل، ويعين صاحبه على احتمال ما يواجه من مشاق وعقبات.
وفي النهاية يدرك المخلصون ثواب عملهم حين تسعر النار بأولئك الذين كانوا يبحثون عن عاجل حطام الدنيا ويبتغون رضا الناس بأعمالهم الصالحة.
عن شفي الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أنشدك بحق… وبحق…. (حُذفت من الراوي.)لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكث قليلا ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق فمسح وجهه فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق ومسح وجهه فقال: أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم مال خاراً على وجهه فأسندته علي طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتتل في سبيل الله ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يارب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقـال إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك.
ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يارب. قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك.
ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرتَ بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقـول الله تعـالى له: كـذبت، وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذاك.
ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة و قال الوليد أبو عثمان فأخبرني عقبة ابن مسلم أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا قال أبو عثمان وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافاً لمعاوية فدخل عليه رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس، ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشرٍّ، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} ( رواه الترمذي (2382) وأصله عند مسلم (1905) بأخصر من هذا.).
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلصين، العاملين له ابتغاء وجهه، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،،

والي اللقاء في رسالة أخري

وهج امين
24 Aug 2006, 06:36 PM
حقيقة كلمات رائعة كالعادة لمربينا الفاضل الشيخ محمد الدويش
trawberry
نسأل الله ان يبارك لك فيما كتبت وان ينفع به الجمdi