المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكمة القول في دعوة اليهود



القرني
19 May 2006, 08:28 PM
من حكمة القول مع اليهود في دعوتهم إلى الله – عز وجل – أن يسلك معهم الداعية المسلم المسالك التالية:
المسلك الأول : الأدلة العقلية والنقلية على نسخ الإسلام لجميع الشرائع .
المسلك الثاني: الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة.
المسلك الثالث: إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود.
المسلك الرابع: الأدلة على إثبات رسالة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
المسلك الأول : الأدلة العقلية والنقلية على نسخ الإسلام لجميع الشرائع :
دعوة الرسل – عليهم الصلاة والسلام – إلى توحيد الله تعالى دعوة واحدة ، فقد اتفقوا جميعاً على دعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ ) ، (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ).
فأصل دين الأنبياء صلى الله عليهم وسلم واحد ، وهو التوحيد ، وإن اختلفت الشرائع ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء أخوة لعلات، أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، ] وليس بيني وبين عيسى نبي [ ".
ثم ختم الله - تعالى – الشرائع كلها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فأرسله إلى جميع الثقلين: من إنس وجن، ونسخت شريعته جميع الشرائع السابقة، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ)
وقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي أو نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " .
والله – تعالى – حكيم عليم{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ، ولا غرابة في أن يرفع شرع بآخر مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق من علام الغيوب تبارك وتعالى ، ولكن اليهود والنصارى أنكروا نسخ الشريعة الإسلامية لجميع الشرائع السابقة ، فيكون الرد عليهم بالقول الحكيم كالآتي :
أولاً: الأدلة العقلية :
1- ليس هنالك محظور في النسخ عقلاً ، وكل ما لم يترتب عليه محظور كان جائزاً عقلاً ، فالنسخ جائز عقلاً .
2- الله – تعالى – يأمر بالشيء على قدر ما تقتضيه المصلحة ، فقد يأمر بالشيء في وقت وينهى عنه في وقت آخر ، لأنه – سبحانه – أعلم بمصالح عباده ، والطبيب الحكيم يأمر المريض بشرب الدواء ، أو استعمال دواء خاص في بعض الأزمنة إلى نوع من السياسة غير النوع الأول ، لما في ذلك من المصالح ، وقد يسوس الوالد الحكيم ولده في وقت باللطف ، وفي وقت آخر بالتأديب ، على قدر ما يرى في ذلك من المصلحة ، والله – عز وجل –{...وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وهو سبحانه لا يفعل شيئاً إلا لحمة بالغة ، فهو يحيي ثم يميت ثم يحيي ، وينقل الدولة من قوم أعزة إلى أذلة ، ومن قوم أذلة إلى أعزة ، ويعطي من شاء ما شاء ، ويمنع من شاء، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
3- يلزم من يقول بوقوع النسخ سمعاً وجوازه عقلاً أنهم ماداموا يجوزون أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته ، وقد وقع ذلك سمعاً فليجوزوا نسخ الشريعة الإسلامية للأديان السابقة .
ثانياً : الأدلة النقلية السمعية ، وهي نوعان :
النوع الأول : ما تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى الذين لم يعترفوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
النوع الثاني : ما تقوم به الحجة على من آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم قالوا : إنها خاصة بالعرب .
النوع الأول : تقوم الحجة على من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مطلقاً بالأدلة الواردة في التوراة والإنجيل ، والداعية المسلم إذ يورد الأدلة من كتبهم لا يعتقد أن هذه النصوص كما أنزلت ، بل يحتمل أن تكون مما وقع عليه التحريف والتغيير ؛ فإن اليهود والنصارى قد غيروا وبدلوا كثيراً من كتبهم ، ولكن المسلم يقيم عليهم الحجة بما بين أيديهم من التوراة والإنجيل لا لثبوتها ، ولكن لإلزامهم بالتسليم ، أو يعترفوا بالتحريف ومن ذلك ما يلي :
1- جاء في التوراة أن الله - تعالى – أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه ، وورد أنه كان يولد له في كل بطن من البطون ذكر وأنثى ، فكان يزوج توأمه هذا للآخر ، ويزوج توأمه لهذا ، إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى .
2- جاء في السفر الأول من التوراة أن الله – تعالى – قال لنوح عند خروجه من السفينة : " إني جعلت كل مأكلاً لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ماخلا الدم فلا تأكلوه "، ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيراً على أصحاب الشرائع ، ومن ذلك الخنزير في شريعة موسى ، وهذا عين النسخ .
3- أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ولده ، ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل به ، وقد أقر منكروا النسخ بذلك .
4- الجمع بين الأختين كان مباحاً في شريعة يعقوب صلى الله عليه وسلم، ثم حرم في شريعة موسى صلى الله عليه وسلم.
5- أمر الله – تعالى – من عبد العجل من بني إسرائيل أن يقتتلوا، ثم أمرهم برفع السيف عنهم
وغير ذلك كثير.
النوع الثاني : تقوم الحجة به على من آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم واعترف بها ؛ ولكنه جعلها خاصة بالعرب دون غيرهم ، فهؤلاء متى سلموا واعترفوا برسالته صلى الله عليه وسلم وأنه صادق فيما بلغه عن الله –عز وجل –من الكتاب والسنة وجب عليهم الإيمان والتصديق بكل ما ثبت عنه ، وما جاء به من عموم الرسالة ، والنسخ الثابت بالكتاب والسنة ، ومن هذا النوع ما يأتي :
1- قال تعالى : {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.
2- وقال تعالى : {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
3- وقال تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
4- وقال سبحانه : {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ}.
5- وقال عز وجل : {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
6- وقال جل وعلا: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ . يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
7- إجماع سلف الأمة على أن النسخ وقع في الشريعة الإسلامية، كما أن النسخ وقع بها لجميع الشرائع السابقة .
وبهذه الأدلة العقلية والنقلية السمعية – التي دلت على جواز النسخ عقلاً ووقوعه نقلاً وسمعاً – سقطت أقوال منكري النسخ وأقوال من أنكر عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولله الحمد والمنة .
المسلك الثاني: الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة:
من حكمة القول في دعوة اليهود إلى الله - عز وجل – أن يبين لهم بالجدال بالتي هي أحسن أن الكتب التي بأيديهم قد دخلها التحريف والتبديل والتغيير.
واليهود والنصارى يقرون أن التوراة كانت طول مملكو بني إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحده ، وتقر اليهود أن سبعين كاهناً اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفاً من التوراة ، وذلك بعد المسيح صلى الله عليه وسلم في عصر القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم ، ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله فلا يؤمن من تحريف غيره .
واليهود تقر أيضاً أن السامرة حرفوا مواضع من التوراة وبدلوها تبديلاً ظاهراً ، وزادوا ونقصوا ، والسامرة تدعي على سائر اليهود بأن التوراة التي بأيديهم محرفة مبدلة .
والذي يحكم بين الجميع هو كلام الله – عز وجل – المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المهيمن على ما سبقه من الكتب المصدق لها، فقد سجل التحريف وأثبته على أهل الكتاب ، ونسب إليهم من تحريفهم للتوراة ، كالتالي :
النوع الأول: إلباس الحق بالباطل:
كان بنو إسرائيل يخلطون الحق بالباطل ، بحيث لا يتميز الحق من الباطل ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الجرم عليهم ، قال سبحانه : {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ . وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} الآية ، وقال سبحانه : {يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}الآية .
ومن أبلغ الصور وأقبحها في إلباس الحق ادعاء الكهنة والأحبار في التوراة التي بأيديهم أن هارون صلى الله عليه وسلم هو الذي جمع الذهب من بني إسرائيل واشترك معهم في صناعة العجل الذهبي ، ووافقهم على عبادته من دون الله – تعالى - ، وفي الوقت نفسه يبرءون السامري .
فهارون الذي تحمل المشاق صلى الله عليه وسلم في سبيل إقرار فرعون بالتوحيد جعلوه داعية إلى الشرك والكفر ، ولكن القرآن الكريم كان لهذه الدعوى بالمرصاد ، فكذبهم ، وبين حقيقة الأمر، قال تعالى : {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـذَآ إِلَـهُكُمْ وَإِلَـهُ مُوسَى..} إلى قوله تعالى : {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي. قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى..}الآيات ، فهذا هو الصدق حقاً ، إنما عمل لهم العجل السامري ، أما هارون فنهاهم ولكنهم عصوه وكادوا يقتلونه .
النوع الثاني : كتمان الحق :
لا شك أن الله حق ، ولا يقول إلا حقاً ، والتوراة التي أنزلت على موسى كلها حق ؛ لأنها كلام الله – تعالى - ؛ ولكن بني إسرائيل كانوا يكتمون الحق ، قاصدين بذلك إخضاع كتاب الله لأهوائهم وشهواتهم ، فالآيات التي يرون فيها منفعة لهم عاجلة أو تكون في جانب حجتهم يقرونها ، أما الآيات التي يرون أن فيها دليلاً عليهم فيكتمونها ، ولهذا سجل الله عليهم هذا الكتم في كتابه ، فقال سبحانه :{يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ومن أعظم ما كتمه أهل الكتاب هو ما وجدوه في كتبهم من صفات محمد صلى الله عليه وسلم ، واختيار الله له رسولاً إلى الناس أجمعين ، وقد كانوا يعرفونه في كتبهم كما يعرفون أبناءهم ، ولكنهم إذا سئلوا عن ذلك كتموه ، قال تعالى : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} .
وقد بين عز وجل صفاته صلى الله عليه وسلم الكاملة في التوراة والإنجيل ، فقال عز وجل : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}.
ومع هذه الأوصاف العظيمة التي كانوا يعرفونها مكتوبة عندهم ، أنكروا نبوته صلى الله عليه وسلم وكتموا ما علموه .
النوع الثالث : إخفاء الحق :
الإخفاء قريب من الكتمان ، وقد كان أهل الكتاب يخفون من أحكام التوراة الشيء الكثير ، قال تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}.
ومن الأحكام التي أخفاها اليهود حكم رجم الزاني المحصن، فقد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: ( كيف تفعلون بمن زنى منكم ؟ ) 0 قالوا : نحممهما ونضربهما 0 فقال : ( لا تجدون في التوراة الرجم ؟ ) 0 فقالوا : لا نجد فيها شيئاً . فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم ، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فوضع مدارسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم ، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ، ولا يقرأ آية الرجم ، فنزع يده عن آية الرجم ، فقال : ما هذه ؟ فلما رأوا ذلك قالوا : هي آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ... الحديث .
ولهذا قال سبحانه : {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} إلى قوله : {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَمَآ أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}، وقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ}.
فأنكر سبحانه على أهل الكتاب المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم : التوراة ولإنجيل ، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من إتباع محمد صلى الله عليه وسلم تولوا وهم معرضون عنهما ، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم .
النوع الرابع: لي اللسان:
من أنواع تحريف اليهود للتوراة : لي اللسان ، فهم يلوون ألسنتهم ويعطفونها بالتحريف ، ليلبسوا على السامع اللفظ المنزل بغيره ، ويفتلون ألسنتهم حين يقرؤون كلام الله – تعالى – لإمالته عما أنزله الله عليه إلى اللفظ الذي يريدونه ، قال تعالى : {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
ومن التحريف بلي اللسان ما كان يفعله اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم : (واسمع غير مسمع ) ويقصدون معنى : اسمع لا سمعت ، أي يدعون على النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا ، من المراعاة ، والمعنى : فرغ سمعك لكل منا ، فلما سمع اليهود هذه اللفظة اغتنموا الفرصة في التحريف ، لأن معناها عندهم السب والطعن بمعنى : يا أحمق ، ولكن الله – عز وجل – كشف سترهم ، فقال : {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} .
ونهى الله المؤمنين عن اليهود فقال : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
النوع الخامس: تحريف الكلام عن مواضعه:
أثبت الله - عز وجل – على أهل الكتاب هذا النوع من التحريف، فقال عز وجل: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ... } ، {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ... } ، وقال – عز وجل - : {وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ... }.
وهذا النوع من التحريف له أربع صور كالتالي :
1- تحريف التبديل : وهو وضع كلمة مكان كلمة ، أو جملة مكان جملة .
2- تحريف بالزيادة: ويكون بزيادة كلمة أو جملة.
3- تحريف بالنقص: وهو إسقاط كلمة، أو جملة من الكلام المنزل على موسى صلى الله عليه وسلم.
4- تحريف المعنى: تبقى الكلمة أو الجملة كما هي، ولكنهم يجعلونها محتملة لمعنيين، ثم يختارون المعنى الذي يتفق مع أهوائهم وأغراضهم .
وهذه الصور لها أمثلة كثيرة من التوراة لا يتسع المقام لذكرها .
وقد بين الله – عز وجل – أن أهل الكتاب يعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ، لما يجدونه في كتبهم من نعته صلى الله عليه وسلم وأمته ، وما شرفه الله به من الشريعة الكاملة ، قال سبحانه : {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، {يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
ومن رحمة الله – تعالى – بهم وكرمه أنه عندما ذكر ما فعلوه من العظائم دعاهم إلى التوبة ، فقال تعالى : {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}، فلو آمنوا بالله وملائكته وجميع كتبه ورسله لكفر عنهم سيئاتهم وأدخلهم الجنة ، قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ}،{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.
المسلك الثالث : إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود
لا شك أن من حكمة القول مع أهل الكتاب في دعوتهم إلى الله - عز وجل – الاستشهاد عليهم بشهادة علماء أهل الكتاب المنصفين، الذين وفقهم الله - تعالى - وقبلوا الحق، وبينوه ولم يكتموه، وهذا من باب قوله تعالى : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ}.
وأذكر على سبيل المثال من هؤلاء العلماء الذين يعترف اليهود بأنهم كانوا منهم فأقروا بالإسلام وأنه الدين الحق ما يلي :
أ- عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه :
لو لم يسلم من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا سيد اليهود على الإطلاق وابن سيدهم، وعالمهم وابن عالمهم، وخيرهم وابن خيرهم، باعترافهم وشهادتهم ,لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض , فكيف وقد تابعه من الأحبار والرهبان من لا يحصي عددهم إلا الله .
وقد آمن هذا الرجل بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم , فعن أنس _رضي الله عنه _قال : بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي . قال : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه وإلى أمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خبرني بهن آنفاً جبريل " قال ابن سلام : ذلك عدو اليهود من الملائكة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها، ]قال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله[ قال : يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فادعهم ]فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي [ ، ]فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا[، فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحقٍ فأسلموا " قالوا : ما نعلمه – قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، قالها ثلاث مراراً – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟" قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، وأخبرنا وابن أخبرنا، ]خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا[، قال : "أفرأيتم إن أسلم ؟" قالوا : أعاذه الله من ذلك، حاشا لله ما كان ليسلم . قال : "أفرأيتم إن أسلم؟" قالوا : حاشا لله ما كان ليسلم . قال : "أفرأيتم إن أسلم" . قالوا : حاشا لله ما كان ليسلم . قال : "يا ابن سلام اخرج عليهم" ]فخرج عليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله[ ، ]يا معشر اليهود اتقوا الله ، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسل الله ، وأنه جاء بحق فقالوا : كذبت[، ]شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه[ ]فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم[.
وعن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه – قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قبله، وقيل قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيءٍ سمعته تكلم به أن قال : " يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام " .
وقد أثنى الله على هذا العالم الرباني ، فعن سعد بن أبي وقاص قال : ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال : وفيه نزلت هذه الآية : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} .
2- زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود رضي الله عنه :
قال – رضي الله عنه - : ما من علامات النبوة شيءٌ إلا وقد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه : يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، وقد اختبرتهما ، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وأشهدك أن شطر مالي – فإني أكثرها مالاً – صدقة على أمة محمد . قال عمر : أو على بعضهم ، فإنك لا تسعهم . قلت : أو على بعضهم . فخرج عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال زيد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله ، وآمن به، وصدقه، وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة، ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر، رضي الله عنه ورحمه .
3- من أسلم عند الموت :
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟" فقال برأسه هكذا، أي : لا . فقال ابنه : إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فقال : " أقيما اليهودي عن أخيكم "، ثم ولي كفنه، وحنطه، وصلى عليه صلى الله عليه وسلم .
هذه ثلاثة أمثلة لاعترافات أحبار اليهود بأن محمداً صلى الله عليه وسلم حقاً، وأن صفته موجودة في التوراة، ويعرفه اليهود كما يعرفون أبناءهم {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}.
المسلك الرابع: الأدلة على إثبات رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
من حكمة القول مع اليهود في دعوتهم إلى الله – تعالى – إثبات نبوة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، وذلك بما ظهر على يديهما من المعجزات الباهرات، والآيات البينات الظاهرة التي لا يقدر أحد أنم يأتي بمثلها، كالتالي:
(أ) البراهين والبينات على صدق نبوة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم :
ثبتت نبوة عيسى صلى الله عليه وسلم بما ظهر على يده من المعجزات الخارقة للعادات من : إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم، وإبراء الأكمه، والأبرص، وخلق الطير من الطين بإذن الله، والإخبار بالغيوب، وإنزال المطر من السماء، وولادته من أم بغير أب، وكلامه في المهد، وغير ذلك من المعجزات .
ومعجزات عيسى لم تكن دون معجزات موسى، عليهما الصلاة والسلام، فكلا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة، فإن قيل إن أحدهما قد تعلمها بحيلةٍ فلآخر يمكن أن يقال ذلك في حقه، وقد أخبرا جميعاً أن الله – تعالى – هو الذي أجرى ذلك على أيديهما، وأنه ليس من صنعهما، فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين، وليس هناك دليل على أن موسى صلى الله عليه وسلم تلقى المعجزات عن الله – تعالى - إلا وهو يدل على أن عيسى صلى الله عليه وسلم تلقاها عن الله – تعالى -، فإن أمكن القدح في معجزات عيسى أمكن القدح في معجزات موسى، وإن كان ذلك باطلاً فهذا باطل أيضاً، ولا شك أنه لا يمكن القدح في شيء من ذلك أبداً.
(ب) الحجج والبراهين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم :
ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات الخارقة للعادات عند التحدي أكثر من سائر الأنبياء ، والعهد بهذه المعجزات قريب ، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم ، ونقلها ثابت بالتواتر قرناً بعد قرن ، وأعظمها معجزة : القرآن ، لم يتغير ولم يتبدل منه شيء ، بل كأنه منزل الآن ، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به ، كأنه يشاهده عياناً ، وقد عجز الأولون والآخرون عن الإتيان بمثله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
ولا يمكن ليهودي أن يؤمن بنبوة موسى صلى الله عليه وسلم إن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يمكن لنصراني أن يقر بنبوة المسيح صلى الله عليه وسلم إلا بعد إقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن من كفر بنبوة نبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم ، ولم ينفعه إيمانه ببعضهم دون بعض ، كما قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً. وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.
ولا ينفع أهل الكتاب شهادة المسلمين بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام؛ لأن المسلمين آمنوا بهما على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولاسيما وليس بأيدي أهل الكتاب عن أنبيائهم مايوجب الإيمان بهم، فلولا القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ما عرفنا شيئاً من آيات الأنبياء المتقدمين، فمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى وعيسى، لا اليهود والنصارى، بل نفس ظهوره ومجيئه تصديقاً لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا بظهوره، وبشرا بظهوره :{ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، فلما بعث كان بعثه تصديقاً لهما، قال تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم : {بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}.
فمجيئه تصديق لهما من جهتين : من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به وشهادته بنبوتهم، ولو كان كاذباً لم يصدق من قبله، كما يفعل أعداء الأنبياء.
ومن أعظم الأدلة على صدقه صلى الله عليه وسلم أنه قال لليهود لما بهتوه : {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، ولم يجسر أحد منهم على ذلك – مع اجتماعهم على تكذيبه وعداوته – لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم به لسألوا الله الموت لأي الفريقين أكذب، منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونظير ذلك قوله تعالى : {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
والله الموفق

البركات
05 Jul 2006, 07:54 PM
شكر الله لك
مليون مرة
على هذا النقل العظيم
لمعرفة كيفية مناقشة
اليهود الملاعين
وحسبنا الله ونعم الوكيل

أبو فراس
05 Jul 2006, 08:13 PM
بارك الله فيك اخي القرني على هذا الموضوع نسأل الله ان يبارك فيك