القرني
22 Dec 2005, 08:46 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :
فأصل هذا الكتيب محاضرة كنت قد ألقيتها في مدينة تبوك بجامع الملك عبد العزيز ضمن سلسلة المحاضرات التربوية بعنوان ( رحيل الأعـوام ) .
فرغب إليّ بعض الأخوة بطباعتها والاستفادة منها فأجبت لذلك رجاء النفع بها وإن كنت أرى أنها ليست على المستوى المأمول ، ولكن حسبي أن أكون موقظا لنفسي وإخوتي بما ضمنته من تذكير المذكرين ووعظ الناصحين في وقت ما أحوجنا فيه إلى ترقيق القلوب ، وتحصين النفوس ، وخصوصا في مثل هذا الزمن الذي تلاطمت فيه أمواج الفتن ، وكثرت فيه المشغلات والملهيات ، وقل فيه النصير والعضد إلا ما رحم الله ، سائلا المولى أن يغفر لي ويثبتني على دينه إنه سميع مجيب .
إن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في حياته يتقلب أطواراً ويعيش أحوالاً ، لحكمةٍ أرادها خالقه سبحانه وتعالى ولعظةٍ يستشعرها المحظوظون من عباد الله عز وجل ، فها هو الإنسان يتقلب في مراحل نموه في بطن أمه ، فتضعه أمه صغيراً يكبر شيئاً فشيئاً ، طفولة فشباب ، فكهولة فشيخوخة ، وهكذا ينمو فيكتمل ثم يتقوى ويزداد قوة إلى قوة ، وبعد ذلك يبدأ بعدٍّ تنازلي من الضعف إلى الضعف ثم تنتهي رحلته في هذه الحياة حسبما قدر الله سبحانه وتعالى له من الأجل ، يقـول تعالى : الله الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة ثم جعل من بعد قوةٍ ضعفاً وشيباً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [ سورة الروم آية ( 54 ) ] .
وأنت إذا تأملت حال الإنسان وجدته بين ضعفٍ فقوة ، ثم بعد قوة ضعف ، ثم انتهاء ، ورحلة كل ذلك لأجل أن يستشعر المؤمن سرعة الرحيل والانتقال إلى الله تبارك وتعالى ، وليدرك بجلاء أن العمر ينقضي سريعاً ، كما هو حال اليوم تشرق شمسه ثم تغيب ، فهكذا عمر الإنسان مهما تعددت عليه الأعوام ومهما تواردت عليه الصروف والغِير في هذا الزمن ولهذا قال الله تبارك وتعالى : الله الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة ثم جعل من بعد قوةٍ ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [ سورة الروم آية ( 54 ) ] .
وفي هذه الأطوار والمراحل يعيش الإنسان فيها حالات متعددة من العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والحب والبغض ، والأمن والخوف ، ليدرك حقيقة وجوده ، وسِرَّ خلقه ، فيدفعه ذلك إلى التأمل والاعتبار ، ويدفعه ذلك إلى التفكر والتدبر في سرعة الرحيل ودنو الأجل ، بأن يوماً مضى وساعةً ذهبت ، لا يمكن إعادة شيء منه مهما بذل الإنسان جهده ووقته في ذلك ، كما أن هذا اليوم الذي يمضي على الإنسان محسوبٌ عليه من عمره ، وهاهي الأيام يتصل بعضها ببعض والتالي يطرد الأول منها ، وكلنا لا نستطيع أن نرد ذلك ، ولا أن نغير من هـذه الدورة التي أرادها الله تبارك وتعالى بل لا نملك لها توقيفاً وإبطاءاً .
أخي المبارك : لقد مضى عامٌ بأكمله ، ولَّى وانصرم ، انفرطت لياليه وتتابعت أيامه وانفرط عقد ساعاته ولحظاته ، هذا العام الذي مضى لا يمكن أن يعود مرةً أخرى ، ولا يمكن أن نسترد لحظةً من لحظاته ، هو عام مضى لكنه حافلٌ بالخير والشر ، بالصحة والمرض ، بالفقر والغنى ، بالحياة والموت ، بالسعادة والشقاوة ، إنه عامٌ مضى وفارقنا ، وطويت معه الأعمار والأعمال ، مضى لكنه شاهد ، مضى لكنه حاضر ، شاهدٌ علينا بما قدمنا من خيرٍ وشر ، فالله تبارك وتعالى جعل الأرض شاهدا قال تعالى : يومئذٍ تحدث أخبارها ، بأن ربك أوحى لها ، يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ، فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره [ سورة الزلزلة الآيات ( 4 – 8 ) ] .
إننا نسير في قافلةٍ واحدة ، وإلى مصيرٍ واحـد ، ونهاية محتومة ، وسنقف في ذلك اليوم العصيب الذي تشيب من هوله الولدان قال تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفسٌ شيئاً وإن كـان مثقال حبة من خردلٍ أتينا بها وكفا بنا حاسبين [ سورة الأنبياء آية ( 47 ) ] ، ويقول الله تبارك وتعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [ سورة الكهف آية ( 49 ) ] ، ويقول سبحانه وتعالى بعد أن أمد لنا في الأجـل : واعلموا أن الله يعلم مـا في أنفسكم فاحذروه [ سورة البقرة آية ( 235 ) ] ، وقال بعض أهل العلم : فاستدل بذلك أرباب البصائر أن الله لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون الحساب ، وستعرض عليهم زلاَّتهم وويلاتهم ، وما اقترفوه من الخطايا وتركوه من المأمورات ، فتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة ، وصدق المراقبة ، ومطالبة النفس بالعمل الصالح ، والوقوف عن الوقوع فيما يعوقها عن الفضائل ، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه ، وحضر عند ساعة السؤال جوابه ، وحسن منقلبه ومآبه ، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته ، وطالت في عرصات القيامة وقفاته ، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته ، ثم ينبغي أن تكون للمؤمن وقفات مع نفسه وحاله ، فإذا عمل صالحاً فليحمد الله تبارك وتعالى على هذا العمل وليرجع إلى نفسه وليعلم بأنه ليس له إلا هذا الوقت ، فالوقت هو ظرف المتاجرة مع الله عز وجل ، وليقلْ لنفسه : مالي إلاَّ العمر فهو المتجر الرابح ، وإذا فني فني رأس المال ، وهذا اليوم الذي يعيشه الإنسان قد أنعم الله به عليه ، فلو توفاه الله عز وجل لتمنى الرجوع ، ولتمنى أن يقوم بعمل من الأعمال الصالحة قال سبحانه وتعالى : قال رب ارجعون ، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كـلاَّ إنها كلمة هو قائلها ومـن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون [ سورة المؤمنون آية ( 99 – 100 ) ] ، فينبغي للمسلم أن يحض نفسه على العمل ، وأن يطرد الكسل وليقل لنفسه هبي أن الله عز وجل قد غفر لك ، فأنت قصرت وقد عفا الله تبارك وتعالى عنك ، فلقد فاتك ثواب المحسنين قال جل وعلا : يوم نجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ سورة التغابن آية ( 9 ) ] ، قال رجلٌ للجنيد : بم أستعين على غض البصر ؟ قال : بعلمك أن نظر الناظر أسبق من نظرك إلى المنظور .
لا تأمــن الموت في طــرف ولا نفس
ولــو تمنعت بالحجـــاب والحرس
واعلم بأن سهــام الموت قاصـــدة
لكــل مـدرع منـــها ومـترس
ترجو النجـــاة ولم تسلك مسـالكها
إن السفينة لا تجـــري علـى اليبس
أخي المبارك : إننا لو تأملنا في عامنا ، الذي مضى وانقضى ، لو نظرنا في أحداثه وفي أخباره وقصصه ، لوجدنا من ذلك عجباً ، فكم من الأرواح التي عاشت في ذلك العام ، كم من الأرواح التي باتت تنتظر العيد السعيد ، لتلبس الثياب الجديدة ، اخترمتها المنون ، وكم من الصغار اليافعين الذين تعلوهم براءة الطفولة لم يرع لهم الموت حرمة ، ولم يرحم صغرهم ، وإنما توفاهم الله تبارك وتعالى لدنو آجالهم ، كم ذهب من فلذات الأكباد ، وكم من زوجة صارت أرملة ، وطفلة صارت يتيمة ، بل كم من البيوت التي انطفأت مصابيحها ولم يبق إلا آثارها عبرة وعظة ، أمم مكلومة وشعوب منكوبة مغلوبة والموت غالب ، كم هي الشعوب المسلمة التي شردت من ديارها ونهبت ثرواتها وسامها العدو سوء العذاب ، وكم من البغاة الذين فجروا قلوب المؤمنين بانتهاك الأعراض ، واستباحة الدماء ، وسلب الأموال ، في الشيشان وفلسطين وكوسوفا وفي غيرها من بلاد الله عز وجل ، في كل أرض من أرض الله جرح ينزف ، ودم يسيل من دماء المسلمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ومع ذلك فقد انغمس الناس في دنياهم ، انشغلوا في متاجرهم ووظائفهم ، نسو أو تناسوا إخوانهم المسلمين في كل مكان ، أليس رحيل الأعوام يذكرنا بالأكباد الجائعة ، أليس رحيل الأعوام يذكرنا بإخواننا المسلمين في كل مكان ، أليس رحيل الأعوام يجعل المؤمن يرجع إلى خالقه ومولاه ، ويدرك سرعة الرحيل والانتقال إليه سبحانه ، أليس رحيل الأعوام يذكر بالموت وما بعد الموت ، فهل من عائد إلى الله ومتعظ بما حوله لعلنا لو زرنا القبور لأحيينا موات القلب ، لنرى حقارة الدنيا وسرعة الرحيل .
ها ذي منــازل أقوام عهدت همـوا
في ظــل عيش عجيب ماله خطـر
صـاحت بهم حادثات الدهر فانقلـبوا
إلى القـبور فـــلا عين ولا أثــر
لو قمنا بزيارة المستشفيات ورأينا حال المرضى الذين امتلأت بهم المصحات ، لنرى نعمة الله تعالى علينا بموفور الصحة ومدرار العافية ، نذهب حيث نشاء ، ونأكل ما نريد ، وإخواننا لا يأكلون إلا عن طريق الأجهزة ، وآخرون لا يتحكمون في أنفسهم ، بل تتحكم فيهم الأجهزة ، ولو فقدوها لعطبوا ، ولا نسمع منهم إلا صيحات وأنات مما يعانونه من الآلام والأوجاع ، أفلا تحيا القلوب ، وإلى الله ترجع وتئوب ، فأين استشعار النعم ، وبذل المزيد ، وشكر المنعم المتفضل سبحانه وتعالى ، أين الخوف والوجل من هذه الدنيا الغرارة ، المهلكة ، والله إن كثيراً من المسلمين في سكرة وغفلة ، هاهم أعداء الله عز وجل يكيدون لهم المكائد ، ويدبرون لهم المؤامرات ، ومع ذلك فأكثر المسلمين قد انشغلوا بأنفسهم عن إخوانهم المسلمين في كل مكان .
أخي المسلم إياك والاغترار بدنياك ، فكما تنعمت ستبتئس ، وكما ضحكت ستبكي ، غرارة خداعة ، لذاتها عابرة ، وأيامها قصيرة ، فانظر حالها مع أصحابها لا تدوم على حال ، ولا تستمر لأحد .
أخي المبارك : أين لذاتنا في العام الماضي ؟ ، أين ما جمعنا في العام الذي قد انصرم ؟ ، أين تكثرنا ؟ ، أين جمعنا ؟ ، أين لذاتنا ؟ ، أين رغباتنا ؟ ، والله لقد ذهب ولم يبق إلا الإثم ، أما الموفقون الذين شمّروا وجدُّوا ، وعملوا كثيراً من الصالحات ، فإن النصب والتعب قد ذهب ، وبقي لهم الرصيد العظيم من رصيد الحسنات ، وهذه نعمة من الله عظيمة ، يحدِّث الوضاح ابن حسان يقول : سمعت ابن السماك يحدث قال : بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك إذ رمى بشبكة في البحر فخرج منها جمجمة إنسان فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول : عزيز فلم تترك لعزك ، غني فلم تترك لغناك ، فقير فلم تترك لفقرك ، جواد فلم تترك لجودك ، شديد فلم تترك لشدتك ، عالم فلم تترك لعلمك ، يردد هذا الكلام ويبكي .
أمــوالنا لذوي المــيراث نجمعهـا
ودورنا لخــراب الدهــر نبنيهـا
والنفس تكلف بالدنيــا وقـد علمت
أن السلامة فيــها ترك ما فيـــها
فلا الإقامة تنجي النفس مـــن تلف
ولا الفرار مــن الأحـداث ينجيـها
وكــل نفس لـها زور يصبحهــا
مــن المنية يومـــاً أو يمسيهـا
أيها الأخ المبارك : حاسب نفسك في خلوتك ، وتفكر في سرعة رحيلك وانقضاء أجلك ، تذكر سرعة الرحيل ، وانقضاء الأجل ، فالنهار يمضي ، والليل يسري ، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، يهل الهلال صغيراً فيأخذ في الاكتمال ثم يعود سريعاً إلى النقصان والزوال .
إذا تم أمـــــر بــــدا نقصه
تـــرقب زوالاً إذا قيـــل تـم
فبعد الطفولة مرحلة الشباب ، وما بعد الشباب إلا المشيب وبعد ذلك انقضاء العمر وزواله ، وقف قوم على عالم فقالوا : إنا سائلوك ، أفمجيبنا أنت ؟ ، قال : سلوا ولا تكثروا فإن النهار لن يرجع ، والعمر لن يعود ، والطالب حثيث في طلبه ، قالوا : فأوصنا ، قال : تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية ، ثم قال : الأيام صحائف الأعمار ، فخلدوها أحسن الأعمال ، فإن الفرص تمر مر السحاب ، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف ، ومن استوطن مركب العجز عثر به .
وقال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها : يا نفس بادري بالأوقات قبل انصرامها ، واجتهدي في حراسة ليالِ الأعمال وأيامها ، فكأنك بالقبور قد تشققت ، وبالأمور قد تحققت ، وبوجوه المتقين وقد أشرقت ، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت ، قال تعالى وتقدس : ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون [ سورة السجدة آية ( 12 ) ] ، يا نفس أما الورعون فقد جدوا ، وأما الخائفون فقد استعدوا ، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا ، وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا ، فيا غافلاً قد طلب ، ويا مخاصماً قد غلب ، ويا واثقاً وقد سلب ، إياك والدنيا فما الدنيا بدائمة ، لقد أبانت للنواظر عيونها ، وكشفت للبصائر عيوبها ، وعددت على المسامع ذنوبها ، وما مرت حتى أمرت مشروبها ، فلذاتها مثل لمعان البرق ، ومصيبتها واسعة الخرق ، سوت عواقبها بين سلطان الغرب والشرق ، فما نجا منها ذو عَدَدْ ، ولا سلم فيها صاحب عُدَدْ ، فرقت الكل بكف البُدَدْ ، ثم ولت فما ألوت على أحد ، اسمع يا من أصاب دنيا عجوزاً هتماء عمياء صماء جرباء سوداء شوهاء ، مقعدة على مزبلة ولكن غلبت عليك محبتها ، عرضت على النبي بطحاء مكة ذهباً فأبى أن يقبلها ،
مـا دمت تقدر فأكثر ذكـــر خالقنا
وأد واجــبه نحــــو العبــادات
فســوف تندم إن فرطت فـــي زمنٍ
مــا فيه ذكــر لخلاّق السمــاوات
أخي الكريم : لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوضح لأصحابه سرعة الزوال ، وخفة الارتحال ، تصريحاً وتلميحا ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم ، يرشد إلى أعظم الفرص التي تستغل بها الأزمنة والساعات ، ولهذا جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قـال : قال النبي : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ، الصحة والفراغ ) [ أخرجه البخاري ] ، وينقل ابن حجر في فتح الباري كلاما جميلا عن ابن الجوزي يقول فيه : قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش ، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً فإذا اجتمع فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون ، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة ، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون ، لأن الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم ، ولو لـم يكن إلا الهرم ، كما قيل :
يســر الفتى طول السلامة والبقى
فكيف ترى طـــول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتـدال وصحـــة
ينــوء إذا رام القيــام ويحمـل (1)
والمؤمن يكون دائماً على تخوف ، ولنفسه في تلوم ، ولدنياه على حذر لأنها تنسي الناس عن مصارعهم ، وتلهيهم عن مكارمهم ، وتطغيهم على مواردهم .
ولما كانت هذه حال الدنيا فقــد بين الله عـــز وجل حقـارتها في
كتابه المبين : فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور [ سورة فاطر آية ( 5 ) ] ، لقد كــان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو المبشر بالجنة على خوف وحذر من الدنيا ، فكان يقول دائماً لنفسه ، يا دنيا غري غيري فرضي الله عنه وأرضاه .
ولما كانت هذه حالها ومآلها لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى خطورة ذلك ، فقال : ( ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) [ متفق عليه ] .
إن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة وهو الذي ينسي الإنسان ذهاب العمر ، وحب الدنيا هو الذي يجعل الإنسان يغفل عما يراد به ، وحب الدنيا هو الذي يجعل الإنسان يبتعد عن مواطن محبة الله تعالى ، ولهذا إذا تأملنا في كتاب الله عز وجل وجدنا آيات كثيرة في كتابه تبين خطورة الدنيا على أهلها ، فالله عز وجل بين أنها دار غرور وبين الله بأنها دار ممر فليست أهلاً لأن تكون غاية ، وليست أهلاً لأن تكون مطلباً ، وليست أهلاً لأن تكون محلاً للتنافس والزيادة إلا من الخير ، والنبي قــال : ( ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كـما تنافسوها ) (1) وهذه المنافسة مسلك خطير بنسيان الحق وضياع الأعمال وإغفال دورة العمر القصيرة التي سيحاسب الإنسان فيها علـى تفريطه وغفلته قال سبحانه وتعالى : فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور [ سورة فاطر آية ( 5 ) ] ، هكذا تجيء الآية وصية عظيمة في غرور الدنيا ولعبها في أهلها ، ولم يكن عليه الصلاة والسلام غافلاً عن خلل نسيان الآخرة ونسيان الذات بين تضاعيف الحياة وتشاغل النفس حيث وصى وصية رائدة منجية لابن عمر رضي الله عنهما كما يحدث بذلك ابن عمر قال : ( أخذ رسول الله بمنكبي ) وانظر إلى حرصه صلى الله عليه وسلم يضع يده الشريفة على منكب ابن عمر وهذا دلالة على المحبة والحرص فوضع النبي يده على منكب ابن عمر وقال له : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) وكلنا يعرف حال الغريب مع الغرباء وابن السبيل العابر مع البلد الممرور عليه مرور الكرام وتبلغ هذه الوصية بابن عمر مبلغاً حيث تبلغ مغاليق قلبه ويوصي هو الآخر من وحي الوصية الأولى فيقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ) [ رواه البخاري ] .
وبهذا يتبين أن اليوم صبح ومساء وكذلك العام إصباح وإمساء ثم القدوم على الكريم الأكرم سبحانه وبحمده ولهذا كتب الأوزاعي إلى أخ له أما بعد : فقد أحيط بك من كل جانب واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة مرحلة فحذر الله تعالى والمقام بين يديه وأن يكون آخر عهدك به والسلام ، انظر إلى هذه الوصية ألفاظ محدودة وعبارات قليلة ومع ذلك فإنها عبارات تحمل معاني عظيمة أرسلها الأوزاعي رحمه الله محباً مشفقاً لأخ له يحبه في الله تعالى يذكره بسرعة انتقال الدنيا ويذكره بالوقوف على الله عز وجل ويأمره بأن يكون عاملاً ومتذكراً باليوم الأكبر الذي يقدم فيه على الله عز وجل .
المقال للشيخ أحمـد بن حفير بن سليمان الحفير
القاضي في المحكمة الكبرى بتبوك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :
فأصل هذا الكتيب محاضرة كنت قد ألقيتها في مدينة تبوك بجامع الملك عبد العزيز ضمن سلسلة المحاضرات التربوية بعنوان ( رحيل الأعـوام ) .
فرغب إليّ بعض الأخوة بطباعتها والاستفادة منها فأجبت لذلك رجاء النفع بها وإن كنت أرى أنها ليست على المستوى المأمول ، ولكن حسبي أن أكون موقظا لنفسي وإخوتي بما ضمنته من تذكير المذكرين ووعظ الناصحين في وقت ما أحوجنا فيه إلى ترقيق القلوب ، وتحصين النفوس ، وخصوصا في مثل هذا الزمن الذي تلاطمت فيه أمواج الفتن ، وكثرت فيه المشغلات والملهيات ، وقل فيه النصير والعضد إلا ما رحم الله ، سائلا المولى أن يغفر لي ويثبتني على دينه إنه سميع مجيب .
إن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في حياته يتقلب أطواراً ويعيش أحوالاً ، لحكمةٍ أرادها خالقه سبحانه وتعالى ولعظةٍ يستشعرها المحظوظون من عباد الله عز وجل ، فها هو الإنسان يتقلب في مراحل نموه في بطن أمه ، فتضعه أمه صغيراً يكبر شيئاً فشيئاً ، طفولة فشباب ، فكهولة فشيخوخة ، وهكذا ينمو فيكتمل ثم يتقوى ويزداد قوة إلى قوة ، وبعد ذلك يبدأ بعدٍّ تنازلي من الضعف إلى الضعف ثم تنتهي رحلته في هذه الحياة حسبما قدر الله سبحانه وتعالى له من الأجل ، يقـول تعالى : الله الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة ثم جعل من بعد قوةٍ ضعفاً وشيباً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [ سورة الروم آية ( 54 ) ] .
وأنت إذا تأملت حال الإنسان وجدته بين ضعفٍ فقوة ، ثم بعد قوة ضعف ، ثم انتهاء ، ورحلة كل ذلك لأجل أن يستشعر المؤمن سرعة الرحيل والانتقال إلى الله تبارك وتعالى ، وليدرك بجلاء أن العمر ينقضي سريعاً ، كما هو حال اليوم تشرق شمسه ثم تغيب ، فهكذا عمر الإنسان مهما تعددت عليه الأعوام ومهما تواردت عليه الصروف والغِير في هذا الزمن ولهذا قال الله تبارك وتعالى : الله الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة ثم جعل من بعد قوةٍ ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [ سورة الروم آية ( 54 ) ] .
وفي هذه الأطوار والمراحل يعيش الإنسان فيها حالات متعددة من العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والحب والبغض ، والأمن والخوف ، ليدرك حقيقة وجوده ، وسِرَّ خلقه ، فيدفعه ذلك إلى التأمل والاعتبار ، ويدفعه ذلك إلى التفكر والتدبر في سرعة الرحيل ودنو الأجل ، بأن يوماً مضى وساعةً ذهبت ، لا يمكن إعادة شيء منه مهما بذل الإنسان جهده ووقته في ذلك ، كما أن هذا اليوم الذي يمضي على الإنسان محسوبٌ عليه من عمره ، وهاهي الأيام يتصل بعضها ببعض والتالي يطرد الأول منها ، وكلنا لا نستطيع أن نرد ذلك ، ولا أن نغير من هـذه الدورة التي أرادها الله تبارك وتعالى بل لا نملك لها توقيفاً وإبطاءاً .
أخي المبارك : لقد مضى عامٌ بأكمله ، ولَّى وانصرم ، انفرطت لياليه وتتابعت أيامه وانفرط عقد ساعاته ولحظاته ، هذا العام الذي مضى لا يمكن أن يعود مرةً أخرى ، ولا يمكن أن نسترد لحظةً من لحظاته ، هو عام مضى لكنه حافلٌ بالخير والشر ، بالصحة والمرض ، بالفقر والغنى ، بالحياة والموت ، بالسعادة والشقاوة ، إنه عامٌ مضى وفارقنا ، وطويت معه الأعمار والأعمال ، مضى لكنه شاهد ، مضى لكنه حاضر ، شاهدٌ علينا بما قدمنا من خيرٍ وشر ، فالله تبارك وتعالى جعل الأرض شاهدا قال تعالى : يومئذٍ تحدث أخبارها ، بأن ربك أوحى لها ، يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ، فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره [ سورة الزلزلة الآيات ( 4 – 8 ) ] .
إننا نسير في قافلةٍ واحدة ، وإلى مصيرٍ واحـد ، ونهاية محتومة ، وسنقف في ذلك اليوم العصيب الذي تشيب من هوله الولدان قال تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفسٌ شيئاً وإن كـان مثقال حبة من خردلٍ أتينا بها وكفا بنا حاسبين [ سورة الأنبياء آية ( 47 ) ] ، ويقول الله تبارك وتعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [ سورة الكهف آية ( 49 ) ] ، ويقول سبحانه وتعالى بعد أن أمد لنا في الأجـل : واعلموا أن الله يعلم مـا في أنفسكم فاحذروه [ سورة البقرة آية ( 235 ) ] ، وقال بعض أهل العلم : فاستدل بذلك أرباب البصائر أن الله لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون الحساب ، وستعرض عليهم زلاَّتهم وويلاتهم ، وما اقترفوه من الخطايا وتركوه من المأمورات ، فتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة ، وصدق المراقبة ، ومطالبة النفس بالعمل الصالح ، والوقوف عن الوقوع فيما يعوقها عن الفضائل ، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه ، وحضر عند ساعة السؤال جوابه ، وحسن منقلبه ومآبه ، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته ، وطالت في عرصات القيامة وقفاته ، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته ، ثم ينبغي أن تكون للمؤمن وقفات مع نفسه وحاله ، فإذا عمل صالحاً فليحمد الله تبارك وتعالى على هذا العمل وليرجع إلى نفسه وليعلم بأنه ليس له إلا هذا الوقت ، فالوقت هو ظرف المتاجرة مع الله عز وجل ، وليقلْ لنفسه : مالي إلاَّ العمر فهو المتجر الرابح ، وإذا فني فني رأس المال ، وهذا اليوم الذي يعيشه الإنسان قد أنعم الله به عليه ، فلو توفاه الله عز وجل لتمنى الرجوع ، ولتمنى أن يقوم بعمل من الأعمال الصالحة قال سبحانه وتعالى : قال رب ارجعون ، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كـلاَّ إنها كلمة هو قائلها ومـن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون [ سورة المؤمنون آية ( 99 – 100 ) ] ، فينبغي للمسلم أن يحض نفسه على العمل ، وأن يطرد الكسل وليقل لنفسه هبي أن الله عز وجل قد غفر لك ، فأنت قصرت وقد عفا الله تبارك وتعالى عنك ، فلقد فاتك ثواب المحسنين قال جل وعلا : يوم نجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ سورة التغابن آية ( 9 ) ] ، قال رجلٌ للجنيد : بم أستعين على غض البصر ؟ قال : بعلمك أن نظر الناظر أسبق من نظرك إلى المنظور .
لا تأمــن الموت في طــرف ولا نفس
ولــو تمنعت بالحجـــاب والحرس
واعلم بأن سهــام الموت قاصـــدة
لكــل مـدرع منـــها ومـترس
ترجو النجـــاة ولم تسلك مسـالكها
إن السفينة لا تجـــري علـى اليبس
أخي المبارك : إننا لو تأملنا في عامنا ، الذي مضى وانقضى ، لو نظرنا في أحداثه وفي أخباره وقصصه ، لوجدنا من ذلك عجباً ، فكم من الأرواح التي عاشت في ذلك العام ، كم من الأرواح التي باتت تنتظر العيد السعيد ، لتلبس الثياب الجديدة ، اخترمتها المنون ، وكم من الصغار اليافعين الذين تعلوهم براءة الطفولة لم يرع لهم الموت حرمة ، ولم يرحم صغرهم ، وإنما توفاهم الله تبارك وتعالى لدنو آجالهم ، كم ذهب من فلذات الأكباد ، وكم من زوجة صارت أرملة ، وطفلة صارت يتيمة ، بل كم من البيوت التي انطفأت مصابيحها ولم يبق إلا آثارها عبرة وعظة ، أمم مكلومة وشعوب منكوبة مغلوبة والموت غالب ، كم هي الشعوب المسلمة التي شردت من ديارها ونهبت ثرواتها وسامها العدو سوء العذاب ، وكم من البغاة الذين فجروا قلوب المؤمنين بانتهاك الأعراض ، واستباحة الدماء ، وسلب الأموال ، في الشيشان وفلسطين وكوسوفا وفي غيرها من بلاد الله عز وجل ، في كل أرض من أرض الله جرح ينزف ، ودم يسيل من دماء المسلمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ومع ذلك فقد انغمس الناس في دنياهم ، انشغلوا في متاجرهم ووظائفهم ، نسو أو تناسوا إخوانهم المسلمين في كل مكان ، أليس رحيل الأعوام يذكرنا بالأكباد الجائعة ، أليس رحيل الأعوام يذكرنا بإخواننا المسلمين في كل مكان ، أليس رحيل الأعوام يجعل المؤمن يرجع إلى خالقه ومولاه ، ويدرك سرعة الرحيل والانتقال إليه سبحانه ، أليس رحيل الأعوام يذكر بالموت وما بعد الموت ، فهل من عائد إلى الله ومتعظ بما حوله لعلنا لو زرنا القبور لأحيينا موات القلب ، لنرى حقارة الدنيا وسرعة الرحيل .
ها ذي منــازل أقوام عهدت همـوا
في ظــل عيش عجيب ماله خطـر
صـاحت بهم حادثات الدهر فانقلـبوا
إلى القـبور فـــلا عين ولا أثــر
لو قمنا بزيارة المستشفيات ورأينا حال المرضى الذين امتلأت بهم المصحات ، لنرى نعمة الله تعالى علينا بموفور الصحة ومدرار العافية ، نذهب حيث نشاء ، ونأكل ما نريد ، وإخواننا لا يأكلون إلا عن طريق الأجهزة ، وآخرون لا يتحكمون في أنفسهم ، بل تتحكم فيهم الأجهزة ، ولو فقدوها لعطبوا ، ولا نسمع منهم إلا صيحات وأنات مما يعانونه من الآلام والأوجاع ، أفلا تحيا القلوب ، وإلى الله ترجع وتئوب ، فأين استشعار النعم ، وبذل المزيد ، وشكر المنعم المتفضل سبحانه وتعالى ، أين الخوف والوجل من هذه الدنيا الغرارة ، المهلكة ، والله إن كثيراً من المسلمين في سكرة وغفلة ، هاهم أعداء الله عز وجل يكيدون لهم المكائد ، ويدبرون لهم المؤامرات ، ومع ذلك فأكثر المسلمين قد انشغلوا بأنفسهم عن إخوانهم المسلمين في كل مكان .
أخي المسلم إياك والاغترار بدنياك ، فكما تنعمت ستبتئس ، وكما ضحكت ستبكي ، غرارة خداعة ، لذاتها عابرة ، وأيامها قصيرة ، فانظر حالها مع أصحابها لا تدوم على حال ، ولا تستمر لأحد .
أخي المبارك : أين لذاتنا في العام الماضي ؟ ، أين ما جمعنا في العام الذي قد انصرم ؟ ، أين تكثرنا ؟ ، أين جمعنا ؟ ، أين لذاتنا ؟ ، أين رغباتنا ؟ ، والله لقد ذهب ولم يبق إلا الإثم ، أما الموفقون الذين شمّروا وجدُّوا ، وعملوا كثيراً من الصالحات ، فإن النصب والتعب قد ذهب ، وبقي لهم الرصيد العظيم من رصيد الحسنات ، وهذه نعمة من الله عظيمة ، يحدِّث الوضاح ابن حسان يقول : سمعت ابن السماك يحدث قال : بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك إذ رمى بشبكة في البحر فخرج منها جمجمة إنسان فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول : عزيز فلم تترك لعزك ، غني فلم تترك لغناك ، فقير فلم تترك لفقرك ، جواد فلم تترك لجودك ، شديد فلم تترك لشدتك ، عالم فلم تترك لعلمك ، يردد هذا الكلام ويبكي .
أمــوالنا لذوي المــيراث نجمعهـا
ودورنا لخــراب الدهــر نبنيهـا
والنفس تكلف بالدنيــا وقـد علمت
أن السلامة فيــها ترك ما فيـــها
فلا الإقامة تنجي النفس مـــن تلف
ولا الفرار مــن الأحـداث ينجيـها
وكــل نفس لـها زور يصبحهــا
مــن المنية يومـــاً أو يمسيهـا
أيها الأخ المبارك : حاسب نفسك في خلوتك ، وتفكر في سرعة رحيلك وانقضاء أجلك ، تذكر سرعة الرحيل ، وانقضاء الأجل ، فالنهار يمضي ، والليل يسري ، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، يهل الهلال صغيراً فيأخذ في الاكتمال ثم يعود سريعاً إلى النقصان والزوال .
إذا تم أمـــــر بــــدا نقصه
تـــرقب زوالاً إذا قيـــل تـم
فبعد الطفولة مرحلة الشباب ، وما بعد الشباب إلا المشيب وبعد ذلك انقضاء العمر وزواله ، وقف قوم على عالم فقالوا : إنا سائلوك ، أفمجيبنا أنت ؟ ، قال : سلوا ولا تكثروا فإن النهار لن يرجع ، والعمر لن يعود ، والطالب حثيث في طلبه ، قالوا : فأوصنا ، قال : تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية ، ثم قال : الأيام صحائف الأعمار ، فخلدوها أحسن الأعمال ، فإن الفرص تمر مر السحاب ، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف ، ومن استوطن مركب العجز عثر به .
وقال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها : يا نفس بادري بالأوقات قبل انصرامها ، واجتهدي في حراسة ليالِ الأعمال وأيامها ، فكأنك بالقبور قد تشققت ، وبالأمور قد تحققت ، وبوجوه المتقين وقد أشرقت ، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت ، قال تعالى وتقدس : ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون [ سورة السجدة آية ( 12 ) ] ، يا نفس أما الورعون فقد جدوا ، وأما الخائفون فقد استعدوا ، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا ، وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا ، فيا غافلاً قد طلب ، ويا مخاصماً قد غلب ، ويا واثقاً وقد سلب ، إياك والدنيا فما الدنيا بدائمة ، لقد أبانت للنواظر عيونها ، وكشفت للبصائر عيوبها ، وعددت على المسامع ذنوبها ، وما مرت حتى أمرت مشروبها ، فلذاتها مثل لمعان البرق ، ومصيبتها واسعة الخرق ، سوت عواقبها بين سلطان الغرب والشرق ، فما نجا منها ذو عَدَدْ ، ولا سلم فيها صاحب عُدَدْ ، فرقت الكل بكف البُدَدْ ، ثم ولت فما ألوت على أحد ، اسمع يا من أصاب دنيا عجوزاً هتماء عمياء صماء جرباء سوداء شوهاء ، مقعدة على مزبلة ولكن غلبت عليك محبتها ، عرضت على النبي بطحاء مكة ذهباً فأبى أن يقبلها ،
مـا دمت تقدر فأكثر ذكـــر خالقنا
وأد واجــبه نحــــو العبــادات
فســوف تندم إن فرطت فـــي زمنٍ
مــا فيه ذكــر لخلاّق السمــاوات
أخي الكريم : لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوضح لأصحابه سرعة الزوال ، وخفة الارتحال ، تصريحاً وتلميحا ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم ، يرشد إلى أعظم الفرص التي تستغل بها الأزمنة والساعات ، ولهذا جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قـال : قال النبي : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ، الصحة والفراغ ) [ أخرجه البخاري ] ، وينقل ابن حجر في فتح الباري كلاما جميلا عن ابن الجوزي يقول فيه : قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش ، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً فإذا اجتمع فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون ، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة ، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون ، لأن الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم ، ولو لـم يكن إلا الهرم ، كما قيل :
يســر الفتى طول السلامة والبقى
فكيف ترى طـــول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتـدال وصحـــة
ينــوء إذا رام القيــام ويحمـل (1)
والمؤمن يكون دائماً على تخوف ، ولنفسه في تلوم ، ولدنياه على حذر لأنها تنسي الناس عن مصارعهم ، وتلهيهم عن مكارمهم ، وتطغيهم على مواردهم .
ولما كانت هذه حال الدنيا فقــد بين الله عـــز وجل حقـارتها في
كتابه المبين : فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور [ سورة فاطر آية ( 5 ) ] ، لقد كــان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو المبشر بالجنة على خوف وحذر من الدنيا ، فكان يقول دائماً لنفسه ، يا دنيا غري غيري فرضي الله عنه وأرضاه .
ولما كانت هذه حالها ومآلها لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى خطورة ذلك ، فقال : ( ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) [ متفق عليه ] .
إن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة وهو الذي ينسي الإنسان ذهاب العمر ، وحب الدنيا هو الذي يجعل الإنسان يغفل عما يراد به ، وحب الدنيا هو الذي يجعل الإنسان يبتعد عن مواطن محبة الله تعالى ، ولهذا إذا تأملنا في كتاب الله عز وجل وجدنا آيات كثيرة في كتابه تبين خطورة الدنيا على أهلها ، فالله عز وجل بين أنها دار غرور وبين الله بأنها دار ممر فليست أهلاً لأن تكون غاية ، وليست أهلاً لأن تكون مطلباً ، وليست أهلاً لأن تكون محلاً للتنافس والزيادة إلا من الخير ، والنبي قــال : ( ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كـما تنافسوها ) (1) وهذه المنافسة مسلك خطير بنسيان الحق وضياع الأعمال وإغفال دورة العمر القصيرة التي سيحاسب الإنسان فيها علـى تفريطه وغفلته قال سبحانه وتعالى : فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور [ سورة فاطر آية ( 5 ) ] ، هكذا تجيء الآية وصية عظيمة في غرور الدنيا ولعبها في أهلها ، ولم يكن عليه الصلاة والسلام غافلاً عن خلل نسيان الآخرة ونسيان الذات بين تضاعيف الحياة وتشاغل النفس حيث وصى وصية رائدة منجية لابن عمر رضي الله عنهما كما يحدث بذلك ابن عمر قال : ( أخذ رسول الله بمنكبي ) وانظر إلى حرصه صلى الله عليه وسلم يضع يده الشريفة على منكب ابن عمر وهذا دلالة على المحبة والحرص فوضع النبي يده على منكب ابن عمر وقال له : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) وكلنا يعرف حال الغريب مع الغرباء وابن السبيل العابر مع البلد الممرور عليه مرور الكرام وتبلغ هذه الوصية بابن عمر مبلغاً حيث تبلغ مغاليق قلبه ويوصي هو الآخر من وحي الوصية الأولى فيقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ) [ رواه البخاري ] .
وبهذا يتبين أن اليوم صبح ومساء وكذلك العام إصباح وإمساء ثم القدوم على الكريم الأكرم سبحانه وبحمده ولهذا كتب الأوزاعي إلى أخ له أما بعد : فقد أحيط بك من كل جانب واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة مرحلة فحذر الله تعالى والمقام بين يديه وأن يكون آخر عهدك به والسلام ، انظر إلى هذه الوصية ألفاظ محدودة وعبارات قليلة ومع ذلك فإنها عبارات تحمل معاني عظيمة أرسلها الأوزاعي رحمه الله محباً مشفقاً لأخ له يحبه في الله تعالى يذكره بسرعة انتقال الدنيا ويذكره بالوقوف على الله عز وجل ويأمره بأن يكون عاملاً ومتذكراً باليوم الأكبر الذي يقدم فيه على الله عز وجل .
المقال للشيخ أحمـد بن حفير بن سليمان الحفير
القاضي في المحكمة الكبرى بتبوك